
المنصب الحكومي طار والثروة تبخرت .. ماسك يخسر 113 مليار دولار في 100 يوم
توجه إيلون ماسك إلى واشنطن بصفته موظف حكومي خاص في وقت سابق من العام الجاري، مكتسبا وصولا غير مسبوق إلى دوائر النفوذ والبيانات. ومن وقتها، بث الملياردير حالة من الفوضى في مختلف مؤسسات الحكومة الأمريكية.
كما شارك في اجتماعات الرئيس دونالد ترمب مع قادة أجانب ووزراء، وأبدى رأيه في السياسات الدفاعية والجمركية، لكنه برز بشكل خاص كالوجه العام لوزارة كفاءة الحكومة حيث فكك عشرات الوكالات.
بينما كان ماسك يثور ويجول في الحكومة، استفادت شركاته الخاصة - مثل "سبيس إكس"، ومشروع زرع الرقائق بالدماغ "نيورالينك"، وشركة الذكاء الاصطناعي الناشئة "xAI" - من تمويلات جديدة، في حين ارتفعت قيمة الديون التي تحملها عند تحويل "تويتر" إلى شركة خاصة تُعرف الآن باسم "X".
تكلفة كبيرة لتحالف ماسك مع ترمب
لكن "تسلا"، شركة ماسك الوحيدة المدرجة في البورصة والمصدر الكبير لثروته، كانت الأكثر تضرراً من الغضب الشعبي تجاهه وتجاه سياساته، حيث تراجع سهم "تسلا" بنسبة 33% منذ التنصيب، كما انهارت مبيعات الشركة المصنعة للسيارات الكهربائية.
أما على صعيد الثروة الشخصية، فقد كلفه تحالفه مع ترمب حتى الآن 113 مليار دولار إذ هبطت ثروته بنسبة 25% منذ 17 يناير، وفقاً لمؤشر "بلومبرغ" للمليارديرات.
قالت إلين كامارك، مديرة مركز الإدارة العامة الفعالة في معهد "بروكينغز" بواشنطن: "إنها 100 يوم من التدمير.. وزارة كفاءة الحكومة تستهدف وكالات أساسية وليست ثانوية، ويتحمل إيلون ماسك قدراً كبيراً من الغضب نتيجة قرارات ترمب، وقرر الناس أن يكرهوا ماسك أكثر من ترمب".
منذ اليوم الأول، بدأ ماسك بزرع حلفاء من وادي السيليكون داخل الوكالات الأميركية. ومنحته وزارة كفاءة الحكومة وصولاً غير مسبوق إلى قواعد بيانات الحكومة، مما أتاح له الاطلاع على آليات عمل الوكالات التي تنظم عديد من شركاته وتساعد في تمويلها.
ماسك لم يف بوعود خفض الإنفاق
في حين وعد ماسك في البداية بخفض تريليوني دولار من الإنفاق الحكومي المهدر، تشير بيانات وزارة كفاءة الحكومة نفسها إلى أن المبادرة وفرت حتى الآن 160 مليار دولار فقط.
المعنويات العامة تجاه مشروع الوزارة سلبية، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته "واشنطن بوست" و"إيه بي سي نيوز" و"إبسوس" ونُشر يوم الإثنين أن 57% من الأميركيين لا يوافقون على أداء ماسك في واشنطن، ارتفاعاً من أقل من النصف في فبراير.
في هذه الأثناء، أثار ماسك ما يكفي من الجدل داخل إدارة ترمب وفي أروقة الكونغرس لدرجة أنه بات يعقد عدة اجتماعات أسبوعياً مع رئيسة موظفي البيت الأبيض، سوزي وايلز، لإطلاعها على تحركاته، وفقاً لشخص مطلع على تلك النقاشات.
قال مسؤول في البيت الأبيض إنه لم يطرأ أي تغيير على صفة ماسك كموظف حكومي خاص. ولم يرد كل من ماسك و"تسلا" و"سبيس إكس" على طلبات التعليق.
"تسلا" معاقبة
لم تتعرض أي شركة من شركات ماسك للضرر بقدر "تسلا"، ما دفع المستثمرين والمحللين إلى استجداء ماسك علناً للعودة. خسرت الشركة 448.3 مليار دولار من قيمتها السوقية منذ 17 يناير، وهو أكثر من ضعف المبلغ الذي زعمت وزارة كفاءة الحكومة أنها وفرته حتى الآن.
تعرضت سيارات "تسلا" ومعارضها ومحطات الشحن الفائق لموجة من الاحتجاجات وأعمال حرق وتخريب متفرقة. وكانت "سايبر ترك" — السيارة المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بماسك نفسه — هدفاً خاصاً لهذه الأعمال.
بعد أسوأ ربع مالي لشركة "تسلا" في سنوات، أقر ماسك أخيراً بالألم الذي تعيشه الشركة في بداية مكالمة أرباح الأسبوع الماضي.
قال ماسك: "كان هناك بعض ردود الأفعال السلبية على الوقت الذي أقضيه في الحكومة"، مضيفاً أنه ابتداءً من مايو، سيقلل "الوقت الذي يخصصه لوزارة كفاءة الحكومة بقدر كبير".
نجاحات "سبيس إكس"
على عكس "تسلا"، استفادت "سبيس إكس" إلى حد كبير من وقت ماسك في واشنطن، ورغم أن أناس كثيرة تفكر في ماسك باعتباره الرئيس التنفيذي لـ "تسلا"، فإن الطريقة الأفضل لفهمه هي باعتباره متعاقداً حكومياً طويل الأمد. وكان التأثير واضحاً على الفور من خطاب تنصيب الرئيس حينما عبر ترمب عن نفس حماسة ماسك للذهاب إلى المريخ.
اختار ترمب جاريد إيزاكمان لقيادة "ناسا"، وهو ملياردير دفع مرتين مقابل السفر على متن كبسولات "سبيس إكس". ثم في فبراير، أسقطت وزارة العدل دعوى قضائية ضد "سبيس إكس" كانت تتهمها بالتمييز في التوظيف.
خلال الأشهر القليلة الماضية، استفادت "سبيس إكس" من دعم حكومي أكبر إذ منحتها وزارة الدفاع 5.9 مليار دولار لإطلاق أقمار صناعية للاستخبارات إلى المدار، وهو مبلغ أعلى مما حصل عليه منافسوها.
كما حصلت على دعم من الجمهوريين لدور أكبر في مشروع فيدرالي بقيمة 42 مليار دولار لجلب الإنترنت عالي السرعة إلى المناطق الريفية في أميركا، ما أثار شكاوى من الديمقراطيين.
في إدارة الطيران الفيدرالية، عيّن ماسك مهندسي "سبيس إكس" لنشر محطات "ستارلينك" عبر نظام المجال الجوي الأميركي، وتلقى الموظفون هناك تحذيرات بأنه إذا عرقلوا التقدم، سيتم الإبلاغ عنهم إلى ماسك، وسيواجهون خطر فقدان وظائفهم، حسبما نقلت "بلومبرغ نيوز".
قضى ماسك أيضاً وقتاً في البنتاغون، الذي يعد عميلاً كبيراً لـ"سبيس إكس". ماسك، الذي كان يمتلك تصريح أمني أميركي لفترة طويلة، زار حتى منشأة الطائرات العسكرية التابعة لمنافسته "بوينغ" في تكساس لتفقد الجيل القادم من طائرات الرئاسة "إير فورس وان" - وهي أولوية لترمب تأخرت سنوات عن الجدول الزمني. زيارته في ديسمبر، قبل التنصيب، جسدت الضغط الفريد الذي تعرضت له "بوينغ" وغيرها من عودة ترمب إلى السلطة بوجود ماسك إلى جانبه.
الميزة الخفية
ساعد نفوذ إيلون ماسك داخل البيت الأبيض في تسوية دعوى قضائية مع ترمب بسرعة بشأن قرار شركة "إكس" الذي حظر حساب الرئيس الأميركي في عام 2021 عقب أحداث اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير.
كما أسهم هذا النفوذ في إعادة المعلنين إلى منصة "إكس" بعد سنوات من نفورهم منها، حيث تسعى الشركات لتفادي استياء اثنين من أقوى الرجال على الكوكب.
قال لو باسكاليس، الخبير المحنك في صناعة الإعلانات والرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات "إيه جي إل أدفايزري" (AJL Advisory )، في تصريح لـ"بلومبرغ" عن عودة المعلنين إلى "إكس": "أنت لا تشتري إعلانات، بل تشتري حماية".
توشك شركة "إكس" على تحقيق أول نمو في إيراداتها منذ 2021. وفي الوقت نفسه، بدأت البنوك التي كانت تحتفظ بديون بمليارات الدولارات نتيجة صفقة استحواذ ماسك -التي وصفت سابقا بأنها من أسوأ صفقات الاستحواذ منذ أزمة 2008 - في بيع تلك الديون أخيراً دون أن تتكبد أي خسائر.
كما عاد مستثمرون آخرون لشراء حصص في "إكس" عند تقييم قريب من السعر الذي دفعه ماسك مقابل الشركة في أواخر عام 2022. وحققوا عوائد كبيرة مكافأة لهم بعد بضعة أسابيع، عندما استحوذ ماسك على "إكس" من خلال شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة التابعة له "إكس إيه آي" بالقيمة نفسها تقريباً. ويملك مستثمرو "إكس" حالياً حصصاً في مشروع ذكاء اصطناعي يُقال إنه يجمع تمويلاً عند تقييم يبلغ 120 مليار دولار.
عبء سياسي على عاتق ماسك
في الأسابيع الأخيرة، بدأت الهيمنة الظاهرة لإيلون ماسك في واشنطن تصبح أكثر تعقيداً. فقد تحولت انتخابات قضاة المحكمة العليا في ولاية ويسكونسن إلى ما يشبه استفتاء على وزارة كفاءة الحكومة وماسك نفسه، بعد أن أنفق 20 مليون دولار لدعم مرشح جمهوري خسر بفارق 10 نقاط مئوية.
قال ستيف بانون، الخبير الاستراتيجي السابق في حملة ترمب: "كانت نتائج الانتخابات في ويسكونسن بمثابة جرس إنذار. من الواضح أنها باتت نقطة تجمع للمعارضة".
لاحقاً، دخل ماسك في خلاف مع المستشار التجاري للرئاسة الأميركية، بيتر نافارو، حول سياسة الرسوم الجمركية التي تُعد من الركائز الأساسية لإدارة ترمب، إذ وصف ماسك نافارو بأنه "أغبى من كيس طوب". كما أشار ماسك إلى التأثير السلبي لتلك الرسوم على أرباح شركة "تسلا" خلال مؤتمر الإعلان عن النتائج المالية عبر الهاتف مع المستثمرين، وأضاف أنه، رغم محاولاته إقناع ترمب بوجهة نظره، فإن "الرئيس يملك الحق في أن يفعل ما يشاء".
تحالف ماسك وترمب
مع إعلان ماسك عن انسحابه التدريجي من المشهد الحكومي، أبقى الملياردير الباب مفتوحاً أمام إمكانية تقديم المشورة لدونالد ترمب حتى نهاية فترة الإدارة. قال خلال مؤتمر الأرباح الخاص بـ"تسلا": "سأضطر للاستمرار في ذلك، على الأرجح حتى نهاية فترة ولاية الرئيس، فقط لضمان أن الهدر والاحتيال اللذان أوقفناهما لن يعودا مرة أخرى بقوة".
أما بالنسبة لترمب، فقد بدا أن دور ماسك في الإدارة انتهى، على الأقل ظهر ذلك من خلال تصريحاته للصحفيين الأسبوع الماضي.
ووصف ترمب ماسك بأنه "كان عوناً كبيراً، سواء ما يتعلق بدوره في الحملة الانتخابية أو ما اضطلع به من جهود في وزارة كفاءة الحكومة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رواتب السعودية
منذ 33 دقائق
- رواتب السعودية
ترامب يهدد شركة
نشر في: 23 مايو، 2025 - بواسطة: خالد العلي ترامب يهدد شركة ..آبل 📱: يجب على آبل دفع رسوم بـ 25% على هواتف آيفون المصنعة خارج أميركا. يقول: تحدثت مع تيم كوك حول ذلك, إما تصنعون الايفون داخل أمريكا بدلاً من الهند أو أي مكان اخر أو تدفعو رسوم جمركية إضافية 25%. سهم ..آبل يتراجع بعد تصريح ترامب, قد يؤدي إنتاج هواتف آيفون في الولايات المتحدة إلى ارتفاع سعره إلى 3500 دولار وفق محللين! المصدر :عبد الله الخميس | منصة x


Independent عربية
منذ ساعة واحدة
- Independent عربية
مفارقات عالم محوره التكنولوجيا
في فبراير (شباط) 2022، ومع تقدم القوات الروسية نحو كييف، واجهت الحكومة الأوكرانية نقطة ضعف حرجة، حيث كانت شبكات الإنترنت والاتصالات تتعرض للهجوم وكان من المتوقع أن يُعزل الجنود والقادة عن الاتصال قريباً، وحينئذ تقدم نحوهم إيلون ماسك، الرئيس الفعلي لشركات "تيسلا" و"سبايس إكس" و"إكس"، و"إكس إيه آي" XAI، و"بورينغ كومباني" Boring Company [المتخصصة بالإنشاءات] و"نيورالينك" Neuralink [تعمل في ربط الجهاز العصبي بالأدوات الذكية]. وخلال أيام نشرت "سبايس إكس" في أوكرانيا آلاف أجهزة ربط الاتصالات المخصصة لشبكة "ستارلينك" Starlink؛ وشغلت خدمات الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية من دون مقابل. واُمتدح ماسك كبطل استطاع إبقاء ذلك البلد على اتصال مع خطوط الإنترنت، لكن هذا التدخل الشخصي من الملياردير واعتماد كييف عليه لم يكن بلا تبعات، فبعد أشهر طلبت أوكرانيا من "سبايس إكس" توسيع تغطيتها كي تشمل شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا لتنفيذ هجوم بالطائرات المسيرة بحرية ضد أهداف بحرية روسية، غير أن ماسك رفض ذلك متذرعاً بأن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد كبير في الحرب، وحتى مناشدات الـ "بنتاغون" باسم أوكرانيا لم تنجح في تغيير موقفه، وهكذا فإن مواطناً غير منتخب ولا يخضع لأية مساءلة تمكن منفرداً من إحباط عملية عسكرية في منطقة حرب نشطة، كاشفاً في الوقت نفسه عن مدى محدودية سيطرة الحكومات على قرارات مصيرية تؤثر في أمن شعوبها ودولها. لقد قدم ذلك مثالاً حياً عن عالم باتت "التكنولوجيا قطبه الفعلي"، فالقيادي التكنولوجي لم يقتصر دوره هنا على التأثير في أسواق الأسهم بل يسيطر أيضاً على جوانب من المجتمع المدني والسياسة والشؤون الدولية، وهي مجالات كانت تقليدياً حكراً على الدول، وخلال العقد الماضي أدى صعود مثل هؤلاء الأفراد والشركات التي يتحكمون بها إلى تغيير النظام العالمي الذي ظل طوال ما يقارب 400 عام منذ "صلح وستفاليا" يُبنى على الدول بوصفها اللبنات الأساس للجغرافيا السياسية، وقد وصفت بنية هذا النظام، في معظم تلك المدة، بأنها أحادية القطب أو ثنائية أو متعددة الأقطاب تبعاً لتوزيع القوة بين الدول، غير أن العالم دخل منذ ذلك الحين ما يمكن تسميته بـ "اللحظة التكنولوجية القطبية"، وهو مصطلح استخدمته في مجلة "فورين أفيرز" عام 2021 لوصف نظام ناشئ "تنافس فيه حفنة من شركات التكنولوجيا الكبرى الدول من حيث التأثير الجيوسياسي"، فقد أصبحت هذه الشركات جهات فاعلة قوية على الساحة الجيوسياسية، تمارس شكلاً من أشكال السيادة في الفضاء الرقمي، وفي العالم المادي على نحو متزايد، مما يجعلها نداً محتملاً للدول. في عام 2021 بدا أن نفوذ تلك الشركات يتجه نحو مزيد من التوسع، وقد ازداد بالفعل خلال الأعوام الثلاث الماضية، وكان رأيي آنذاك بأن الحكومات لن تتخلى عن مواقعها من دون مقاومة، ومنذ ذلك الحين احتدم الصراع من أجل السيطرة على الفضاء الرقمي، لكن ميزان القوى بين شركات التكنولوجيا والدول شهد تغيرات مفاجئة، وما يتبلور الآن نتيجة لهذا الصراع لا يشبه أياً من السيناريوهات التي توقعتها في البداية، فهو ليس نظاماً رقمياً معولماً تنتزع فيه شركات التكنولوجيا السيطرة من الدولة، ولا حرباً باردة رقمية بين الولايات المتحدة والصين تعيد فيها الحكومات بسط سلطتها على الفضاء الرقمي، ولا عالماً تكنولوجياً قطبياً بالكامل تنهار فيه هيمنة الدول على يد شركات التكنولوجيا. وإذ لم يتحقق انتصار حاسم للدول على الشركات أو العكس، يتجه المستقبل نحو شكل هجين أكثر تعقيداً، نظام مزدوج تتقابل فيه الولايات المتحدة ذات القطب التكنولوجي، حيث يزداد تأثير الشركات التكنولوجية الخاصة في رسم السياسات الوطنية، مع الصين ذات النزعة الدولتية، حيث فرضت الحكومة سيطرة كاملة على فضائها الرقمي، أما معظم دول العالم الأخرى فستتعرض لضغوط تدفعها إلى الانحياز على مضض لأحد القطبين، لكن مع افتقار النموذجين إلى المساءلة الديمقراطية وضمان الحريات الفردية، تبدو المفاضلة أقل وضوحاً مما قد يبدو عليه الأمر، وبينما تندمج السلطة التكنولوجية مع سلطة الدولة في كل مكان، لم يعد السؤال ما إذا كانت شركات التكنولوجيا ستنافس الدول على النفوذ الجيوسياسي، بل ما إذا كانت المجتمعات المنفتحة قادرة على الصمود أمام هذا التحدي. ترسيخ القطبية التكنولوجية في أواخر عام 2021 كانت صناعة التكنولوجيا في أوج صعودها، فالشركات التي تسيطر على المنصات التكنولوجية الكبرى بلغت ذروة نفوذها، وتعهد مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ بإنشاء "ميتافيرس" متكامل يتيح عالماً موازياً غامراً بالكامل وخالياً من القيود التي تفرضها الحكومات أو العالم الواقعي، وفي الوقت نفسه بدأت العملات المشفرة مثل "بيتكوين" و"إيثيريوم" في الانتشار واعدة ببديل لا مركزي فعال لسلطة الحكومات على الأنظمة المالية وأنظمة الدفع، وقد دفع تفشي جائحة كورونا الناس إلى قضاء وقت أطول على الإنترنت أكثر من أي وقت مضى مما كرس تأثير التكنولوجيا، إذ أصبحت المنصات الرقمية أساساً للعمل والتعليم والترفيه والتواصل الإنساني. وشهدت الفترة نفسها تسارعاً في ترسيخ الاعتماد على الأدوات الرقمية، وجعلت من شركات التكنولوجيا محوراً لا غنى عنه في الحياة الخاصة والاجتماعية والاقتصادية والمدنية، ومع تنامي حاجة العالم إلى الاتصال الرقمي باتت القرارات التي تتخذ داخل مجالس إدارات تلك الشركات، من إطلاق المنتجات إلى آليات عمل الخوارزميات وصولاً إلى قواعد النشر والرقابة، هي التي تحدد ما يراه ويسمعه مليارات البشر، وتؤثر في مساراتهم المهنية والاجتماعية، بل وتعيد تشكيل أنماط تفكيرهم. غير أن شركات التكنولوجيا الكبرى لم تكتف بتوسيع نفوذها داخل حدود العالم الافتراضي بل امتدت سيطرتها إلى الواقع المادي، إذ تحولت منتجاتها وخدماتها إلى بنى تحتية أساس لا غنى عنها، فمراكز البيانات والحوسبة السحابية والأقمار الاصطناعية وأشباه الموصلات وأدوات الأمن السيبراني أصبحت العمود الفقري لاقتصادات الدول وجيوشها وحكوماتها، وقد تجلت هذه التحولات بوضوح منذ اللحظات الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، فلولا تدخل شركات أميركية مثل "سبايس إكس" و"مايكروسوفت" و"بالانتير" بتمكين الاتصالات والتصدي للهجمات الإلكترونية وتحليل المعلومات الاستخباراتية وتشغيل الطائرات المسيرة، لكانت روسيا قادرة على فصل أوكرانيا عن العالم وشل بنيتها القيادية، وربما السيطرة على العاصمة خلال أيام، ولو حدث ذلك فلربما خسرت أوكرانيا الحرب منذ أسبوعها الأول. لم يعد الطموح التكنولوجي مقتصراً على تجاوز الدولة بل بات يسعى اليوم إلى السيطرة عليها غير أن الحكومات سرعان ما أدركت هشاشة الوضع، فقد كشفت حادثة "ستارلينك" في القرم، كما أظهرت أزمة سلاسل التوريد خلال الجائحة، مدى خطورة الاعتماد على عدد محدود من الشركات العملاقة في توفير خدمات وإمدادات حيوية، فقرار فردي من مدير تنفيذي واحد، أو خلل في نقطة مفصلية، قد يفضي إلى نتائج كارثية، ولمواجهة هذا الواقع شنت الدول هجوماً مضاداً، ففي عام 2022 أُطلقت موجة من التشريعات والإجراءات التنظيمية استهدفت شركات التكنولوجيا الكبرى وتناولت قضايا مثل الهيمنة السوقية وضبط المحتوى وحماية الخصوصية وحقوق المستخدمين، وأقر الاتحاد الأوروبي قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية، وهما من أكثر المبادرات طموحاً للحد من تغول شركات التكنولوجيا، أما الولايات المتحدة فشهدت دعاوى بارزة لمكافحة الاحتكار وتشريعات على مستوى الولايات وتحقيقات رقابية من الكونغرس، كما لحقت بها دول مثل الهند وجنوب أفريقيا، فيما صعدت المملكة المتحدة والبرازيل ودول أخرى إجراءاتها الرقابية ضد المنصات الكبرى، ومع ذلك بقيت هذه الجهود محدودة الأثر، إذ ظلت السيطرة الحقيقية على الفضاء الرقمي في يد الشركات لا الحكومات، فهي التي تضع القواعد وتنفذها وتتحكم بمسار العملية. وفي أواخر عام 2022 تعمق نفوذ شركات التكنولوجيا أكثر مع إطلاق نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية الضخمة وما تبع ذلك من طفرة واسعة في هذا المجال الحيوي، وكانت هذه القفزة التكنولوجية كفيلة بتكريس تفوق القطاع الخاص على الدول، إذ يتطلب تطوير وتشغيل هذه الأنظمة موارد هائلة من الطاقة الحاسوبية وكميات ضخمة من البيانات وخبرات هندسية متخصصة، وهي موارد متركزة لدى عدد محدود جداً من الشركات، ووحدها هذه الجهات تعرف حدود إمكانات نماذجها وتتحكم في كيفية استخدامها وأين؟ ولصالح من؟ وحتى لو وُضعت أنظمة حوكمة مناسبة لضبط ما هو قائم من تكنولوجيا فإن وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي المتسارعة كفيلة بتجاوز تلك الأطر بسرعة فائقة. ومع تزايد قوة الذكاء الاصطناعي وإمساكه بدور أكثر محورية بالنسبة إلى الاقتصاد والجيش والتنافس الجيوسياسي، ستتنامى سيطرة الشركات التكنولوجية الكبرى لتصبح أقوى الفاعلين على المسرح الدولي. انتقام الدولة الوطنية في مقابل توسع نفوذ الشركات عادت الجغرافيا السياسية التقليدية للواجهة بقوة، فقد تضافرت عوامل عدة ومنها تصاعد النزعة الحمائية بدفع من رد الفعل الشعبوي ضد العولمة، والدفع بعد الجائحة لتحقيق أمن اقتصادي، والصدمة التي أحدثها الغزو الروسي لأوكرانيا، وقبل كل شيء تصاعد التنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين لتقوض وهم وجود منظومة تكنولوجية عالمية متكاملة. وفي واشنطن بدأت محاولات كبح جماح التطور التكنولوجي الصيني من خلال فرض قيود دقيقة وموجهة على الصادرات والاستثمارات في عدد محدود من التقنيات المتقدمة الحساسة إستراتيجياً، فيما سمته إدارة بايدن "فناء صغيراً بسياج عال"، غير أن هذه الحملة توسعت سريعاً لتشمل طيفاً متسعاً من القيود على عدد هائل من السلع ذات الاستخدام المزدوج، وحتى البيانات اليومية البسيطة باتت تُعد مسألة أمن قومي، شأنها شأن التطبيقات والأجهزة التي تولدها، ومنصات التواصل الاجتماعي والسيارات الكهربائية وأجهزة تتبع اللياقة البدنية كلها جُرت إلى دوامة ما يُعرف بـ "خفض الأخطار"، مع سعي صانعي السياسات الأميركيين إلى الحد من وصول الصين إلى أي تكنولوجيا قد تمنحها تفوقاً في المنافسة التقنية، وهكذا اندمجت المصالح الاقتصادية والأمنية، وأصبح التشظي التكنولوجي، إن لم يكن فك الارتباط الكامل مع الصين، هو الوضع الطبيعي الجديد. وفي الوقت ذاته عاد دور الدولة الصناعية للواجهة، إذ ضخت الحكومات الغربية مليارات الدولارات في برامج دعم لبناء قدرات إستراتيجية محلية، لكن هذه الحوافز كانت مشروطة "ابن في الداخل وتخل عن الصين وإلا فستخسر الدعم الأميركي"، ومع فرض واشنطن قيوداً على أشباه الموصلات وأدوات الذكاء الاصطناعي وتشديد بكين قبضتها على المعادن الحيوية، بدأت سلاسل الإمداد في الانقسام وتباطأت حركة البيانات عبر الحدود. وقد قوض هذا التراجع في العولمة الرقمية والمادية نموذج الأعمال العالمي الذي تبنته شركات مثل "أبل" و"تيسلا" والذي كان يقوم على الأسواق المفتوحة وسلاسل الإمداد المتكاملة لتعظيم الأرباح العالمية، وحتى قبل عودة ترمب للسلطة كانت كثير من هذه الشركات قد بدأت بالفعل بنقل بعض عملياتها إلى دول مثل الهند والمكسيك وفيتنام، فيما عُرف بـ "التوطين في دول صديقة" تحسباً للأخطار الجيوسياسية المتزايدة، إلا أن إعلان ترمب في الشهر الماضي عن رسوم جمركية ضخمة تطاول الحلفاء والخصوم على حد سواء، شكّل ضربة قوية لنموذج العولمة، ومؤشراً إلى انسحاب واشنطن من هذا النموذج العالمي، وفي المقابل وجدت ما يعرف بـ "الشركات الوطنية الرائدة" مثل "مايكروسوفت" و"بالانتير"، نفسها في لحظة ذهبية جديدة قادرة على استثمار تحالفها الطويل الأمد مع الحكومة الأميركية لتحقيق مكاسب في بيئة ما بعد العولمة. أما تحول واشنطن نحو دور الدولة التدخلي، فعلى رغم أنه كان مفاجئاً نسبياً، فإنه لا يزال أقل شمولاً بكثير مما فعلته بكين، فمنذ عام 2020 حين شن الحزب الشيوعي الصيني حملة قمع على مؤسس شركة "علي بابا" جاك ما الذي اعتبره المسؤولون قد أصبح مفرط النفوذ والاستقلال، أعادت بكين إحكام سيطرتها الكاملة على قطاع التكنولوجيا، واليوم تخضع كبرى الشركات الصينية، بصرف النظر عن ملكيتها الرسمية، لإرادة الرئيس شي جينبينغ، وقد حُسم الجواب في شأن من يملك السيطرة على مستقبل الصين الرقمي، إنها الدولة دون منازع. من الليبرالية إلى الدولة المتغولة في الغرب يستمر الصراع حول الإجابة على السؤال الوارد آنفاً، ويتزايد تعقيد الأمر مع عدم الوضوح في شأن من يمسك بالدولة الذي يضاف إلى عدم يقين مماثل حول السيطرة على المستقبل الرقمي. كان بعض من رواد وادي السيليكون مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وبيتر ثيل ومارك أندريسن، يرون في التكنولوجيا فرصة تتجاوز حدود الأعمال التجارية لتكون قوة ثورية قادرة على تحرير المجتمع من قيود الحكومة، وجعل الدولة نفسها مفهوماً بالياً، وقد وصفت هؤلاء في عام 2021 بأنهم "طوباويون تقنيون" يشككون في السياسة وينظرون إلى مستقبل يستبدل فيه النموذج القومي الذي هيمن على الجغرافيا السياسية منذ القرن الـ 17 بشيء مختلف تماماً. لكن خلال الأعوام الأخيرة تبنى بعض هؤلاء توجهاً تقنياً استبدادياً، فبعد أن كانوا يسعون إلى تجاوز الدولة باتوا اليوم يسعون إلى الاستيلاء عليها مستخدمين السلطة العامة لتحقيق طموحاتهم الخاصة، وقد جاء هذا التحول جزئياً بدوافع مصلحية سعياً وراء تنظيمات مواتية وخفوض ضريبية وعقود حكومية على غرار ما يحاول الأثرياء الأميركيون من أصحاب المصالح الخاصة فعله في الغالب، وفي المقابل تعبر تلك الانعطافة عن التبدل في ميزان القوة التكنولوجية وتعاظم الرهانات عليها خلال حقبة تتسم بالتنازع على الجغرافيا السياسية. وعلى عكس المنصات الرقمية الأولى التي ازدهرت في ظل الحد الأدنى من التدخل الحكومي، تتطلب معظم تقنيات اليوم المتقدمة، مثل الفضاء والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية والطاقة والحوسبة الكمية، دعماً حكومياً مباشراً أو ضمنياً لتوسيع نطاقها، ومع تحول هذه المجالات إلى ساحات محورية في المنافسة الأميركية - الصينية، وتزايد هيمنة الأمن القومي على المجال الرقمي نفسه، لم يعد الاصطفاف إضافة إلى واشنطن أمراً مزعجاً بل أصبح ضرورة إستراتيجية، وهكذا تراجعت جاذبية الرؤية الطوباوية في مقابل تصاعد نموذج "البطل الوطني"، وارتفعت الحوافز للسيطرة على الدولة مع ازدياد الغنائم الناتجة منها. وبالنسبة إلى بعض أولئك الطوبايين لم تكن السيطرة على الدولة خياراً براغماتياً فقط بل أيديولوجياً أيضاً، فقد اعتنق عدد من الشخصيات البارزة في قطاع التكنولوجيا، وعلى رأسهم ماسك وثيل، رؤية مناهضة للديمقراطية، فهم يرون أن نظام الحكم الأميركي، بل الحكم الجمهوري عموماً، منهار تماماً، ويعتبرون التعددية وفصل السلطات والخدمة المدنية المحترفة عوائق لا مزايا، ويطمح هؤلاء لأن تدار الحكومة الأميركية كما تدار الشركات الناشئة على يد "رئيس تنفيذي وطني" غير منتخب يتمتع بصلاحيات مركزة باسم التقدم التكنولوجي، ومن وجهة نظرهم ينبغي أن تنتقل السيطرة على الدولة، وعلى المستقبل، إلى نخب تكنولوجية نصبت نفسها وقادرة على قيادة البلاد في عصر التغير المتسارع، وقد صرح ثيل منذ عام 2009 بأنه لم يعد يؤمن بأن "الحرية والديمقراطية يمكن أن يتعايشا"، فيما دعا ماسك عام 2023 إلى "سولا حديث"، في إشارة إلى الديكتاتور الروماني الذي شهد عهده تهاوي النظام الجمهوري. وعلى رغم احتمال أنه كان يمزح آنذاك، فقد أمضى ماسك فعلياً الأشهر الأربعة الماضية محاولاً السيطرة على مفاصل الحكومة الأميركية، لكن ما حدث لم يكن استيلاءً عدائياً، كما وصفه بعضهم، بل أشبه بصفقة كبرى مولها بنفسه للحصول على النفوذ، فقد أنفق ماسك ما يقارب 300 مليون دولار لدعم ترمب وحصول الجمهوريين على الغالبية في الكونغرس خلال انتخابات عام 2024، وهذا المبلغ دون احتساب كُلف تحويل منصة "إكس" إلى أداة دعائية مؤيدة لترمب، وفي المقابل كافأه الرئيس الأميركي الأكثر براغماتية في التاريخ الحديث بمنحه نفوذاً غير مسبوق داخل أقوى دولة في العالم، فقد كان ترمب منذ البداية ميالاً إلى خدمة رجال الأعمال الذين تجمعه بهم مصالح شخصية، لكن في ولايته الثانية لم يقتصر تمكين أباطرة التكنولوجيا على التأثير في السياسات بل جرى منحهم صلاحية تعيين (أو إقالة) من يضعون التشريعات لهم، وكتابة (أو محو) القوانين التي تحكمهم، فمنذ أن تولى ماسك رئاسة ما يسمى بـ "وزارة كفاءة الحكومة" DOGE، ومُنح إمكان الولوج الكامل إلى أنظمة الإدارة الفيدرالية، أقال عشرات آلاف الموظفين الحكوميين وعيّن أنصاره في عشرات الإدارات، وقلص الإنفاق الذي أقره الكونغرس وحصل على كميات هائلة من البيانات السرية المتعلقة بملايين الأميركيين. وقد واصل ماسك وعدد من شركائه من كبار التقنيين الذين تولوا مناصب حكومية الاحتفاظ بوظائفهم في شركاتهم الخاصة على رغم تضارب المصالح، وهؤلاء اليوم يتحكمون في شؤون التوظيف والسياسات العامة على مستوى الحكومة، ويؤثرون في صياغة القوانين وتنفيذها والمشتريات والضرائب والدعم بما يخدم مصالح شركاتهم ويضر بمنافسيهم في الوقت نفسه، وقدّر تقرير صدر أخيراً عن مجلس الشيوخ أن الأرباح التي حققها ماسك من هذا الوضع بلغت نحو 2.37 مليار دولار، من دون احتساب العقود المحتملة مع القطاع العام والمزايا التنافسية التي حصل عليها بفضل هذا النفوذ. تحالف اليمين التكنولوجي مع ترمب تعلق دوماً بالصفقات والتبادلات التجارية وليس بالأيديولوجيا وبالفعل تتحدث تقارير متزايدة عن أن "وزارة الكفاءة الحكومية" تجمع كميات هائلة من البيانات الحكومية الحساسة وتدمجها في قاعدة واحدة، ومنها بيانات الضرائب وقواعد الهجرة وسجلات الضمان الاجتماعي والمعلومات الصحية وغيرها، بهدف معلن وهو كشف مظاهر "الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام" في الإنفاق الفيدرالي، والعمل على تحسين الكفاءة الحكومية، بخاصة مع دمج هذه البيانات بأدوات الذكاء الاصطناعي، لكن مع غياب أي حدود قانونية تفصل بين دور ماسك في الحكومة ومصالحه الخاصة فلا يمكن معرفة ما إذا كان قد بدأ فعلاً باستخدام هذه البيانات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التابعة لشركته "إكس إيه آي"، وإذا كان الأمر كذلك فلا أحد يعلم إن كانت النتائج ستستخدم لخدمة المصلحة العامة أم لخدمة مصالحه هو. وقد تنتج هذه القاعدة الموحدة من البيانات مكاسب كبيرة في الإنتاجية للاقتصاد الأميركي، مما قد يدفع دولاً أخرى إلى محاولة تقليد التجربة، لكنها قد تمنح ماسك أيضاً تفوقاً حاسماً في السباق نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي خارقة لا يمكن لأي منافس مجاراتها، وتفتح الباب أمام أشكال جديدة من تتبع سلوك المستهلكين واستهدافهم، وتمنحه سيطرة أكبر على الأسواق والمنصات الرقمية. لكن الآثار المحتملة تتجاوز مجرد تحقيق مكاسب شخصية، فالبنية الرقمية نفسها، التي يمكن أن تحقق فوائد اقتصادية، قد تتحول إلى أداة للسيطرة السياسية، وبحسب بلاغات مسربة فإن "وزارة الكفاءة الحكومية" تستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد المشاعر المعادية لماسك وترمب بين موظفي الدولة، فيما استقال عدد من مسؤولي مصلحة الضرائب الأميركية احتجاجاً على خطط إدارة ترمب لاستخدام بيانات الضرائب في تعقب المهاجرين، والخطر هنا ليس نسخة أميركية من نظام المراقبة الصيني الذي يهدف إلى حماية سلطة الحزب، بل شيء أكثر انتشاراً وهو شبكة مراقبة لا مركزية تستند إلى قوة الخوارزميات تسخّر سلطة دولة مسيطر عليها، لكنها موجهة بحسب منطق السوق وتخدم المصالح التجارية والسياسية لأصحاب شركات التكنولوجيا الكبرى. وللتوضيح فإن هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على واشنطن قد لا تدوم، فقد صرح ماسك أن مشروع "وزارة الكفاءة الحكومية" موقت، وقد ألمح إلى رغبته في الانسحاب من الحكومة، بخاصة مع تراجع شعبيته وتصاعد غضب المستهلكين من شركاته، كما هاجم عدد من الشخصيات البارزة في الجناح الشعبوي لتحالف ترمب، مثل ستيف بانون، ماسك ومن على شاكلته، ووصفوهم بأنهم "أمراء إقطاع رقمي" يسعون إلى تحويل الأميركيين إلى "أرقاء في العصر الرقمي"، فالتحالف بين اليمين التكنولوجي وترمب كان دائماً تحالف مصالح لا تحالف أفكار، وقد جاءت سياسات الإدارة حتى الآن في مجالات التجارة والهجرة وتمويل العلوم متعارضة في كثير من الأحيان مع عقلية التسريع التي يتبناها هؤلاء التكنولوجيون، وقد تتفكك هذه الشراكة قريباً. لكن السيطرة في الوقت الحالي حقيقية، فقد انقلب النموذج الذي كانت الدولة فيه توجه شركات التكنولوجيا لخدمة الصالح العام، وأصبحت السياسات اليوم تخضع لأهداف أصحاب التكنولوجيا الخاصة، وحتى لو لم تستمر هذه الحال طويلاً فإن آثارها ستبقى، فقد أضعفت "وزارة الكفاءة الحكومية" في غضون أشهر قليلة قدرة الدولة الأميركية على أداء وظائفها الأساس إلى درجة أن شركات التكنولوجيا الخاصة قد تصبح ضرورية لسد هذا الفراغ لاحقاً. المستقبل الهجين في عام 2021 طرحتُ ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبلنا الرقمي، وهي "هل سنعيش في عالم تتزايد فيه الانقسامات الرقمية وتخضع فيه شركات التكنولوجيا لأهداف الدول التي تنشط فيها؟ أم ستنجح هذه الشركات الكبرى في انتزاع السيطرة على الفضاء الرقمي من الحكومات، متحررة من الحدود الوطنية لتصبح قوة عالمية مستقلة؟ أم أن عصر هيمنة الدول سيتلاشى لمصلحة نخبة تكنولوجية تتولى توفير الخدمات العامة التي كانت تقدمها الحكومات؟" واليوم يبدو أن العالم الرقمي يتجه نحو مستقبل هجين بصورة كبيرة مع عالم منقسم إلى مجالين رقميين متوازيين، يقود أحد هذين القطبين الولايات المتحدة التي باتت ملامح هيمنتها التكنولوجية أوضح من أي وقت مضى، حيث تسيطر مجموعة محدودة من الشركات وقادتها على الفضاء الرقمي، وتشرف على البنى التحتية الحيوية وتؤثر مباشرة في سياسات البلاد الداخلية والخارجية. لقد أصبح في وسع هذه الشركات ومن يديرونها أن يوجهوا بيئة المعلومات العالمية ويزعزعوا استقرار حكومات أجنبية ويؤثروا في النتائج السياسية على مستوى العالم، وما يزيد خطورة هذا النفوذ هو أن هؤلاء الفاعلين يحظون بدعم أميركي، سواء بصورة ضمنية أو معلنة، وقد أصبحت الحكومات الأجنبية أكثر تردداً في مواجهة شركات التكنولوجيا الأميركية، ليس فقط بسبب قوتها الرقمية والاقتصادية، بل أيضاً لأن أي تحرك ضدها قد يؤدي إلى رد فعل رسمي من واشنطن. وهكذا باتت مكونات كبرى من قطاع التكنولوجيا، المدعومة سياسياً، تتمتع بحصانة جيوسياسية وتحظى بالحماية من الدولة لكنها لا تخضع لمحاسبتها، وهذا التداخل بين القوة العامة والخاصة يمنح الشركات الأميركية القدرة على دفع دول أخرى إلى تبني منتجاتها ومنصاتها ومعاييرها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) أما القطب المقابل فيقوده النموذج الصيني القائم على رأسمالية الدولة، إذ تخضع شركات التكنولوجيا بالكامل لسيطرة الحزب الشيوعي الحاكم، وصحيح أن هذا النموذج قد يحد من إمكانات الابتكار على المدى الطويل ويقلل الحيوية الاقتصادية في بعض الجوانب، لكنه يضمن أن تبقى التقنيات الإستراتيجية منسجمة مع الأولويات الوطنية، والاختراقات الأخيرة من نماذج التفكير بالذكاء الاصطناعي لدى شركة "ديب سيك" إلى مجموعة شرائح "هواوي كلاود ماتريكس 384"، تُظهر أن النموذج الصيني على رغم القيود السياسية المفروضة عليه وسياسات الحظر التجاري الأميركية، لا يزال قادراً على المنافسة بقوة. وفي المنتصف تقف أوروبا التي كانت تعتبر يوماً ما قوة موازنة محتملة أمام هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، لكن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى شركات تقنية محلية عملاقة ويعاني مشكلات هيكلية في النمو والإنتاجية، ونتيجة لذلك فإن قدرته على تحويل طموحاته التنظيمية إلى سيادة رقمية حقيقية تظل محدودة، كما تواجه بروكسل ضغوطاً متزايدة لتخفيف قيود الذكاء الاصطناعي على الشركات الأميركية، وقد تتردد حتى في فرض ضرائب على خدماتها الرقمية رداً على الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب. السلطة التكنولوجية المركزة تهدد الديمقراطية والحريات الفردية وفي المقابل تواجه المحاولات الباقية، سواء على مستوى الدول أو المؤسسات الدولية لتنظيم قطاع التكنولوجيا، هجمات متواصلة تقوّض من الداخل على يد شخصيات نافذة في شركات التكنولوجيا الأميركية مثل ماسك، وتُشل بفعل الفراغ الحاصل في القيادة العالمية، ومع تعمق الانقسامات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية تنهار سريعاً الحواجز التي كانت تحد من تغول النفوذ التكنولوجي، مما يتيح له التمدد بلا قيود. والنتيجة المرجحة ليست عالماً تهيمن عليه التكنولوجيا بالكامل بل نموذجاً تنفرد فيه الولايات المتحدة بصورة متزايدة بقوة تكنولوجية ضخمة، في مقابل كتلة رقمية صينية تخضع لرقابة حكومية صارمة، ومن المرجح أن معظم الاقتصادات الصناعية المتقدمة لن تجد خياراً سوى الانضمام إلى النموذج الأميركي، في حين قد ترى غالبية دول الجنوب العالمي أن العرض الصيني أكثر جاذبية. لكن تحت هذا الانقسام الأيديولوجي يلوح تقارب فعلي في الوظيفة بين النموذجين الأميركي والصيني، الأول تحركه آليات السوق والثاني تمليه دوافع سياسية، لكن كليهما يقدم الكفاءة على المحاسبة والسيطرة على القبول والتوسع على حساب الحقوق الفردية، وفي عالم تمنح فيه السلطة لمن يسيطر على الفضاء الرقمي قد يصبح السؤال الأهم ليس أين تتركز السلطة، في يد الدولة أم الشركات؟ بل كيف تدار هذه السلطة ومدى قدرتها على التمركز دون مساءلة، وهنا تكمن مفارقة عصر الهيمنة التكنولوجية، فبدلاً من تمكين الأفراد وتعزيز الديمقراطية، كما حلم رواد الإنترنت الأوائل، قد تصبح التكنولوجيا وسيلة أكثر فاعلية لفرض أشكال جديدة من السيطرة المركزية المطلقة وغير الخاضعة للمساءلة، وقد تمكّن تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي الأنظمة السياسية المغلقة من تحقيق قدر أكبر من الاستقرار مقارنة بالأنظمة المفتوحة، إذ تصبح الشفافية والتعددية والفصل بين السلطات وغيرها من مقومات الديمقراطية عبئاً في زمن التغيير المتسارع، وسواء كانت هذه القوة المركزة في يد الحكومات أو الشركات فإنها تمثل خطراً فعلياً على الديمقراطية والحريات الفردية، وكنت كتبتُ عام 2021 أن "تفوق الشركات الكبرى على الدول ليس حتمياً"، لكن يبدو أن تفوقها على الديمقراطية قد بدأ بالفعل. إيان بريمر، رئيس ومؤسس "مجموعة أوراسيا" Eurasia Group. مترجم عن "فورين أفيرز" 13 مايو (أيار) 2025


الشرق السعودية
منذ ساعة واحدة
- الشرق السعودية
وزارة الخزانة الأميركية تصدر إعفاءً فورياً من العقوبات على سوريا
أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، الجمعة، إصدار الرخصة العامة رقم 25 بشأن سوريا (GL 25)، لتوفير إعفاء فوري من العقوبات على دمشق. وذكرت الوزارة الأميركية في بيان، أن "مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع للوزارة أصدر الرخصة العامة رقم 25 بشأن سوريا (GL 25)، لتوفير إعفاء فوري من العقوبات، تماشياً مع إعلان الرئيس دونالد ترمب بشأن وقف جميع العقوبات المفروضة على دمشق". ووفق البيان، تجيز الرخصة العامة 25 المعاملات التي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات السورية، ما يعني عملياً رفع العقوبات المفروضة على دمشق. كما تتيح إطلاق استثمارات جديدة ونشاطاً للقطاع الخاص بما يتماشى مع استراتيجية "أميركا أولاً" التي ينتهجها ترمب. وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت: "كما وعد ترمب، تقوم وزارتا الخزانة والخارجية بتنفيذ تفويضات لتشجيع الاستثمارات الجديدة في سوريا.. ويجب على سوريا أيضاً أن تواصل العمل نحو أن تصبح دولة مستقرة تنعم بالسلام، ونأمل أن تضعها خطوات اليوم على طريق مستقبل مشرق ومزدهر ومستقر". وتشكل الرخصة العامة 25 خطوة أولى رئيسية لتنفيذ إعلان ترمب في 13 مايو بشأن وقف العقوبات على سوريا. وستسهل هذه الرخصة النشاط في جميع قطاعات الاقتصاد السوري، من دون تقديم أي إعفاء للمنظمات الإرهابية، أو مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، أو مهربي المخدرات، أو النظام السابق بقيادة بشار الأسد، وفق البيان الأميركي. إعادة بناء الاقتصاد السوري ويهدف هذا التفويض إلى المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، والقطاع المالي، والبنية التحتية، بما يتماشى مع مصالح السياسة الخارجية الأميركية. ومن أجل تحقيق ذلك، من الضروري جذب استثمارات جديدة إلى سوريا ودعم الحكومة السورية الجديدة. وتجيز الرخصة العامة 25 المعاملات التي كانت محظورة بموجب العقوبات الاقتصادية الأميركية على سوريا.