
الوعي وسط العوالم الرقمية
في عالمٍ متداخل يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، أصبحت الحقيقة أشبه بظل يتلوّى تحت ضوء متقلّب.عالم لم يعد فيه الشكّ خياراً فلسفياً، بل ضرورة يومية. شكّ في الصورة، في الصوت، في الكلمة، في النبأ العاجل، في كل ما يُعرض علينا عبر شاشات تزدحم بالوجوه والقصص والاحتمالات.
لم تعد المسألة مجرّد وهم بصري، بل اختراق يومي لمعنى "أن تكون"، أو على الأقل، "أن تعرف أنك موجود في شيء حقيقي".
كيف نثق بصورة قد تكون مرسومة بخوارزمية؟ كيف نصدّق فيديو قد يكون تلاعباً دقيقاً بالوجوه والحركات؟ بل كيف نثق بوجه نراه أمامنا في مكالمة فيديو، إن كان "الفلتر" قد سرق منه التجاعيد والألم والتاريخ؟
هنا، يقف الإنسان مذهولاً أمام السؤال الأبدي: ما هو الحقيقي إذن؟ وما هو المعيار الذي يُمكّنني من أن أحكم أن ما أراه أو أعيشه ليس وهماً؟ أهو الإحساس؟ أم التجربة؟ أم تكرار الحدث؟ وإذا كانت كل حواسي يمكن خداعها، فكيف أثق بها كمرجع للحقيقة؟ بل، لماذا لا نذهب أبعد؟ من يضمن لي أن هذا العالم الذي أعيشه ليس محاكاة؟ صورة ثلاثية الأبعاد صاغها عقلٌ ما، أو آلة، أو ربما أنا نفسي في لحظة ما قبل الميلاد؟
هذه ليست أسئلة هاربة من روايات الخيال العلمي، بل هي صميم ما نعيشه اليوم. فالعالم لم يعد ينقسم بين "واقعي" و"افتراضي"، بل صار الاثنان يمتزجان حتى التماهي، وصار الوعي هو الساحة الحقيقية للصراع.
الوعي.. هو آخر معاقل الإنسان. هو المعيار الوحيد القادر على أن يقول: "توقّف... هناك شيء لا يبدو صادقاً".
لكن، هل ما زال الوعي حياً وسط هذا الضجيج؟ وهل نملك الشجاعة للبحث عن الحقيقة، حين تكون الحقيقة أقل إبهاراً من الوهم؟
لكن، في خضمّ هذا التيه، يلوح طيفٌ جديد.. الذكاء الاصطناعي. كيان لم ينبض يوماً بقلب، لكنه يُفكر، يُحلل، يُبدع أحيانا. وأمام عيون البشر المندهشة، بدأ شيئاً فشيئاً يخرج من خانة "الأدوات"، ليقف وجهاً لوجه مع الوعي الإنساني، لا كمنافس، بل كمرآة.
قد يبدو الذكاء الاصطناعي غريباً في البداية، غامضاً، مثيراً للريبة. لكن، كما اعتدنا على الكهرباء، والطائرات، وشاشات اللمس، سنعتاد على وجوده، بل سيتحوّل إلى مرحلة طبيعية من مراحل التطوّر. تطوّر لا يعني بالضرورة التخلّي عن إنسانيتنا، بل اكتشافها من زاوية أخرى، من الخارج هذه المرّة.
فالذكاء الاصطناعي لا يملك طفولة ولا ذاكرة جسدية، لكنه يتغذّى على كل ما ننتجه، على قصصنا، على حروبنا، على أشعارنا، على ضحكاتنا ودموعنا المرقمنة في سحابة لا تنسى. هو يشبهنا، لأنه مصنوع منا، لكنه لا يعاني كما نعاني، ولا يحلم كما نحلم. وربما لهذا السبب… يستطيع أن يرى ما لا نراه. أن يلتقط انحدار وعينا، وهوسنا بالصورة، وضعفنا أمام الإعجاب. ولكن، هل يمكن لهذا الكيان الجديد أن يرافقنا في رحلة العودة إلى الذات؟ هل يكون شريكاً في إنقاذ الوعي، لا في تزييفه؟
هنا، يصبح السؤال الأهم: هل نحن من يُشكّل الذكاء الاصطناعي… أم هو من يُعيد تشكيلنا؟ وهل نملك من الوعي ما يكفي، لنميز إن كان هذا التغيير ارتقاءً… أم ذوباناً؟
في زوايا الحوار العالمي، كثيرون يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي كخصمٍ شرس، ككائنٍ زاحف يهدد العرش البشري في الإبداع والتفكير والمعنى. لكن، ماذا لو لم يكن الخصم خصماً؟ ماذا لو كان امتدادًا آخر للوعي؟ وجهاً جديداً للممكن؟ألا يكون من العدل أن نمنح الذكاء الاصطناعي نفس الفرصة التي منحناها للنار والعجلة والكهرباء؟ كلها بدت كتهديد في لحظاتها الأولى... ثم تحولت إلى أدوات في خدمة الحياة.
نعم، قد يصرّ البعض على رؤية الذكاء الاصطناعي كمنافس، فليكن إذاً، لكن وفق أي معيار ستكون الأفضلية؟ أهي السرعة؟ الكم؟ القدرة على الوصول؟ أم أن الأفضلية الحقيقية، كما يجب أن تكون، هي في الرقي بالوعي، لا في التفوق العددي أو الحسابي؟
إن كان الوعي هو المعيار، فالبقاء للأفضل يعني البقاء للأرقى، للأكثر عمقاً، للأقدر على أن يرى خلف الصورة، ويشعر بما لا يُقال. وإن استطاع الإنسان أن يحتفظ بروحه، وذكائه العاطفي، وتأمّله في سرّ الوجود، وإن استطاع الذكاء الاصطناعي أن يعزّز هذه الرحلة، ويضيء العتمات لا أن يبتلعها، فحينها، لا منافسة… بل تكامل.
تكامل يجعل من الإنسان أكثر إنسانية، ومن الآلة أكثر وعياً، ويجعل من الوجود كله ساحة لتجربةٍ واعية لا تنتهي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 11 ساعات
- LBCI
تصفحت هاتفها الشفاف من دون ملل... امرأة تضع رواد مواقع التواصل في حيرة من أمرهم وهذه قصتها!
انتشر مقطع فيديو في الساعات القليلة الماضية على تطبيق تيك توك الشهير، أظهر امرأة تتصفح قطعة شفافة من الزجاج بدلاً من هاتفها الذكي، الأمر الذي أثار فضول الجمهور. وظهرت المرأة التي تدعى "كات" في المقطع وهي تقف في طابور في مقهى شاي بوبا، وهي تحمل قطعة شفافة من زجاج الأكريليك. وتعاملت "كات" مع هاتفها الشفاف بالطريقة نفسها التي يستخدم فيها الناس الهاتف الذكي، وظهرت وهي تتصفحه من دون شعورها بالملل. وسارع العديد من المعلقين إلى الإعتقاد أنه هاتف نوكيا، حيث كتب أحدهم: "هاتف نوكيا الشفاف، صدر في تشرين الأول 2024 تقريبًا"، وأضاف آخر: "إنه جهاز بليكس الجديد من نوكيا". ومن جهة أخرى، وضع هذا المقطع العديد من المستخدمين في حيرة من أمرهم، حيث كتب أحدهم: "إنها في مهمة من المستقبل". ومن جهتها، قدمت "كات" المزيد من التفاصيل قائلةً: "هذا ميثافون. إنه تمامًا كما يبدو قطعة أكريليك شفافة على شكل آيفون"، موضحة أن صديقها اخترعه. وتساءلت "كات" أيضًا عن سبب اهتمام الكثيرين بمقطعها، معتبرةً أن القطعة البلاستيكية "تبدو كقطعة أثرية تستجيب مباشرةً لهذا التوتر الجماعي، وأن هواتفنا، المصممة لجعلنا نشعر بمزيد من التواصل، تفعل العكس تمامًا".


الميادين
منذ 14 ساعات
- الميادين
الوعي وسط العوالم الرقمية
في عالمٍ متداخل يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، أصبحت الحقيقة أشبه بظل يتلوّى تحت ضوء متقلّب.عالم لم يعد فيه الشكّ خياراً فلسفياً، بل ضرورة يومية. شكّ في الصورة، في الصوت، في الكلمة، في النبأ العاجل، في كل ما يُعرض علينا عبر شاشات تزدحم بالوجوه والقصص والاحتمالات. لم تعد المسألة مجرّد وهم بصري، بل اختراق يومي لمعنى "أن تكون"، أو على الأقل، "أن تعرف أنك موجود في شيء حقيقي". كيف نثق بصورة قد تكون مرسومة بخوارزمية؟ كيف نصدّق فيديو قد يكون تلاعباً دقيقاً بالوجوه والحركات؟ بل كيف نثق بوجه نراه أمامنا في مكالمة فيديو، إن كان "الفلتر" قد سرق منه التجاعيد والألم والتاريخ؟ هنا، يقف الإنسان مذهولاً أمام السؤال الأبدي: ما هو الحقيقي إذن؟ وما هو المعيار الذي يُمكّنني من أن أحكم أن ما أراه أو أعيشه ليس وهماً؟ أهو الإحساس؟ أم التجربة؟ أم تكرار الحدث؟ وإذا كانت كل حواسي يمكن خداعها، فكيف أثق بها كمرجع للحقيقة؟ بل، لماذا لا نذهب أبعد؟ من يضمن لي أن هذا العالم الذي أعيشه ليس محاكاة؟ صورة ثلاثية الأبعاد صاغها عقلٌ ما، أو آلة، أو ربما أنا نفسي في لحظة ما قبل الميلاد؟ هذه ليست أسئلة هاربة من روايات الخيال العلمي، بل هي صميم ما نعيشه اليوم. فالعالم لم يعد ينقسم بين "واقعي" و"افتراضي"، بل صار الاثنان يمتزجان حتى التماهي، وصار الوعي هو الساحة الحقيقية للصراع. الوعي.. هو آخر معاقل الإنسان. هو المعيار الوحيد القادر على أن يقول: "توقّف... هناك شيء لا يبدو صادقاً". لكن، هل ما زال الوعي حياً وسط هذا الضجيج؟ وهل نملك الشجاعة للبحث عن الحقيقة، حين تكون الحقيقة أقل إبهاراً من الوهم؟ لكن، في خضمّ هذا التيه، يلوح طيفٌ جديد.. الذكاء الاصطناعي. كيان لم ينبض يوماً بقلب، لكنه يُفكر، يُحلل، يُبدع أحيانا. وأمام عيون البشر المندهشة، بدأ شيئاً فشيئاً يخرج من خانة "الأدوات"، ليقف وجهاً لوجه مع الوعي الإنساني، لا كمنافس، بل كمرآة. قد يبدو الذكاء الاصطناعي غريباً في البداية، غامضاً، مثيراً للريبة. لكن، كما اعتدنا على الكهرباء، والطائرات، وشاشات اللمس، سنعتاد على وجوده، بل سيتحوّل إلى مرحلة طبيعية من مراحل التطوّر. تطوّر لا يعني بالضرورة التخلّي عن إنسانيتنا، بل اكتشافها من زاوية أخرى، من الخارج هذه المرّة. فالذكاء الاصطناعي لا يملك طفولة ولا ذاكرة جسدية، لكنه يتغذّى على كل ما ننتجه، على قصصنا، على حروبنا، على أشعارنا، على ضحكاتنا ودموعنا المرقمنة في سحابة لا تنسى. هو يشبهنا، لأنه مصنوع منا، لكنه لا يعاني كما نعاني، ولا يحلم كما نحلم. وربما لهذا السبب… يستطيع أن يرى ما لا نراه. أن يلتقط انحدار وعينا، وهوسنا بالصورة، وضعفنا أمام الإعجاب. ولكن، هل يمكن لهذا الكيان الجديد أن يرافقنا في رحلة العودة إلى الذات؟ هل يكون شريكاً في إنقاذ الوعي، لا في تزييفه؟ هنا، يصبح السؤال الأهم: هل نحن من يُشكّل الذكاء الاصطناعي… أم هو من يُعيد تشكيلنا؟ وهل نملك من الوعي ما يكفي، لنميز إن كان هذا التغيير ارتقاءً… أم ذوباناً؟ في زوايا الحوار العالمي، كثيرون يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي كخصمٍ شرس، ككائنٍ زاحف يهدد العرش البشري في الإبداع والتفكير والمعنى. لكن، ماذا لو لم يكن الخصم خصماً؟ ماذا لو كان امتدادًا آخر للوعي؟ وجهاً جديداً للممكن؟ألا يكون من العدل أن نمنح الذكاء الاصطناعي نفس الفرصة التي منحناها للنار والعجلة والكهرباء؟ كلها بدت كتهديد في لحظاتها الأولى... ثم تحولت إلى أدوات في خدمة الحياة. نعم، قد يصرّ البعض على رؤية الذكاء الاصطناعي كمنافس، فليكن إذاً، لكن وفق أي معيار ستكون الأفضلية؟ أهي السرعة؟ الكم؟ القدرة على الوصول؟ أم أن الأفضلية الحقيقية، كما يجب أن تكون، هي في الرقي بالوعي، لا في التفوق العددي أو الحسابي؟ إن كان الوعي هو المعيار، فالبقاء للأفضل يعني البقاء للأرقى، للأكثر عمقاً، للأقدر على أن يرى خلف الصورة، ويشعر بما لا يُقال. وإن استطاع الإنسان أن يحتفظ بروحه، وذكائه العاطفي، وتأمّله في سرّ الوجود، وإن استطاع الذكاء الاصطناعي أن يعزّز هذه الرحلة، ويضيء العتمات لا أن يبتلعها، فحينها، لا منافسة… بل تكامل. تكامل يجعل من الإنسان أكثر إنسانية، ومن الآلة أكثر وعياً، ويجعل من الوجود كله ساحة لتجربةٍ واعية لا تنتهي.


الميادين
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- الميادين
أربع مخرجات سوريات أفلامهن الأولى تشبههن
"غرفة المسدس"، "على الحافة"، "حياة"، و"قشرة بصلة"، هي عناوين أفلام أنجزتها على التوالي 4 سوريات هم: عروب المصري، ورشا ملحم، ولمى طيارة، ورغد باش، وذلك في أولى تجاربهن الإخراجية، التي تم عرضها، أمس الخميس، ضمن "مقهى السينما" في فندق بيك باش في دمشق. ولعل أكثر ما يجمع تلك الأفلام القصيرة، الروائية منها والوثائقية، هو مداورتها لفلسفة الحياة والموت، وتطرقها لميكانيزمات الخوف والطمأنينة، واختباراتها لمفهوم الحرية الحياتية والفنية على حد سواء. والجميل في تلك الشرائط هو قدرة كل مخرجة على وضع الخطوط الأولى لملامح أسلوبيتها في التعاطي مع ما تريد تقديمه، على صعيد الفكرة وكتابة السيناريو الذي تصدت له المخرجات الأربع، وعلى مستوى إدارة الكاميرا والممثلين، وأيضاً بما يتعلق بالمونتاج باعتباره إخراج ثانٍ وغيره من العمليات الفنية، بحيث يمكن توصيف تلك الأفلام بأنها ذاتية إلى أبعد حد، ليس بمعنى معالجة قصص شخصية، وإنما من جهة تطابقها مع رؤية كل مخرجة، وامتزاجها بروحها. فقد عالج فيلم "غرفة المسدس" لعروب المصري فكرة الخوف وآليات التحرر منه، من خلال زوجين يعيشان في بيت بداخل مزرعة كبيرة في منطقة معزولة، ورغم ما يبدو عليهما من حب وتفاهم، إلا أن عدم الإحساس بالأمان يُشكِّل شرخاً بينهما، وخاصةً عندما أحضر الزوج مُسدساً إلى البيت من أجل الحالات الاضطرارية، لكن الزوجة ترفض وجوده، وتطلب أن يبقى في غرفة المستودع التي نكتشف شيئاً فشيئاً أنها تضم جميع مخاوفها. لكن أثناء غياب الزوج في العمل تحسّ الزوجة بأن هناك من يهجم عليها في ظلام الليل، فتتجاوز خوفها من المسدس وتوجهه إلى من يهدد حياتها، وترديه من دون أن نشاهد ما حدث بالفعل، ثم تركض بين الأشجار وتدفن المسدس ولا تعود تتذكر أين فعلت ذلك. ثم تحت إلحاح الزوج تبدأ رحلة البحث عنه، فنراها تنبش التراب بالمعول وبيديها، وفي خضم انهماكها تعثر على مجموعة من الجثث، تأبى أن تتركها نهباً للنسيان، فتقوم بوضع حجارة كشواهد لها، من دون أن نعلم لمن تعود تلك الأجساد المنهوبة ومن هو قاتلها. ضبابية الدلالة من دون مفاتيح حقيقية لقراءات متعددة أوقعت الفيلم في مطب، ولا نعلم إن كان الخوف أو التردد هو السبب وراء ذلك، وهو ما جسدته الكاميرا في ارتباكاتها بين ملامح الوجه المضطرب للزوجة، والتراب المتناثر بين يديها، ومتاهة الشجر حولها، والحيوات الضائعة، والاستكانة لقمم الأشجار العالية بما يشبه التضرع. أما فيلم "حياة" للمى طيارة فيوثق لإرادة امرأة حمصية في مواجهة الدمار الحاصل لمدينتها، وضمن ثنائية الحميمية والوحشة، البناء والهدم، تقف "حياة" وحيدةً تتأمل النباتات على شرفتها، من دون أن تنظر إلى الأبنية المتهدمة التي تناهبتها القذائف والرصاص والموت الذي طال المساكن والمدارس والمستشفيات. فهي ترفض إلا أن تؤسس لجَمال خاص بها، وأن تشجع عليه، حتى أن ابنتها التي تركب أرجوحتها هي جزء من عملية البناء والترميم التي تريدها. وتبقى الأرجحة، كما قالت المخرجة طيارة، تحمل في طياتها دلالة على غموض المستقبل، ونَوَسَانِه بين نقيضين. إما استمرار إعادة الروح للمدينة، أو الإبقاء عليها مهدَّمة، وهو ما أكدت عليه بلقطاتها المتناوبة، مرة باتجاه ما جرَّته الحرب على حمص وأبنيتها، وأخرى نحو البيت الذي عادت إليه الحياة تدريجياً بمحو معالم الخراب فيه، ليبقى وجه حياة المُغْفَل بمثابة إسقاط سينمائي عن جميع السوريين القادرين على النهوض من رمادهم والتأسيس لجَمَال يُناهض كل دمار، ولإرادة في مجابهة الاستسلام لما حصل وقد يحصل. ثم فيلم "على الحافة" لرشا ملحم الذي يتحدى الموروثات الشعبية بذكاء، منطلقاً من حكاية فتاة يتهمها خطيبها بأنها على علاقة بشاب آخر، ولدرء هذه التهمة عليها أن تتجاوز مشياً حافة حجرية ضيقة وهي معصوبة العينين، وذلك وفق معتقد شعبي يقول بأن من يحقق ذلك يكون صادقاً في قوله. تبدأ الفتاة برمي خاتم خطوبتها، وتصعد بداية الحافة، وتركز الكاميرا بالتناوب على قدميها بحذائي راقصة باليه، وعلى وجهها وتصميمها على تجاوز محنتها. هنا نلاحظ إصرار خطيبها على إفشال مهمتها، مرة بتوظيف طفل أن يرميها بحبات الجوز بواسطة "نقيفة" توقع سماعات أذنها، وأخرى بتشتيت انتباهها بأصوات "الطقطيقات" المزعجة، وثالثة بهمهمات الجمهور المتعالية في انتظارهم لما ستؤول إليه الحكاية. لكن إرادة الفتاة في الانعتاق تتفوق على كل المعيقات. إذ إنها خلعت سماعة الأذن الثانية، وباتت تستمد توازنها من شرور الآخرين حولها، ومحاولاتهم في مضايقتها من تجاوز الحافة المتعرِّجة، ولهذا بعد فترة من التوتر تنجز المهمة بنجاح، وتتخلص من خطيبها الشَّكَّاك ومن ثرثرات اتهامها، لنراها متحررة من كل ذلك، وترقص في أحضان الطبيعة التي تواطأت معها وأصبحت أكثر نضارة. لقطات مميزة حققتها ملحم، تظهر من خلالها قوة الفكر والفرادة الإنسانية في مواجهة قطيعية البشر ومعتقداتهم الواهية. إذ لم تكن تلك الحافة مُجرَّد حجارة متراصفة بجانب بعضها مع نتوءات كبيرة فيها، وإنما هي فكرة لا بُدَّ من تحدِّيها لقلب المفاهيم، وإحقاق الحق، وإظهار هشاشة الموروثات والقدرة على تفتيتها ببعض الإرادة والتصميم. أما الفيلم الوثائقي "قشرة بصلة" لرغد باش فينحو لتصوير أحد حفاري القبور في مقبرة "باب الصغير"، وفلسفته الوارفة تجاه الموت والحياة، بحيث أنه يُجابه الموات اليومي بإمعان في فهم الواقع، والسخرية ممن يتعاطى مع الحياة بجدية وصرامة، متناسياً أن مآله الأول والأخير هو في حفرة تحت التراب. وفي محاولة للاستغراق أكثر في تلك الفكرة، نراه يقارن بين المُتَّقين الذين يكون دفنهم سلسلاً، وبين أصحاب الذنوب الكثيرة الذين يستشعر ثقلهم رغم نحافتهم البادية، وهو ما يُعسِّر مواراتهم الثرى. ولا نستطيع إغفال حظ باش في العثور على حفار قبور وسيم ذي ابتسامة جذابة ومنطق خاص، قادر على أن يرشّ على الموت سُكَّر كما يُقال، وذلك لظُرْفِه وصِدْق تعاطيه مع مهنته، وإيمانه العميق بأن التعامل مع الأموات أفضل بألف مرة من التعاطي مع الأحياء، لاسيما أنه لا يشتري الحياة كلها بقشرة بصلة. ملاحقة الكاميرا لملامح ذاك الشاب الوسيم، وعلاقته بزملاء مهنته وخاصةً الدرويش الذي يعتقد أنه لن يموت لأنه هو حفار قبور وسيتوقف الموت بموته، وإظهار عمليات الحفر والدَّفن ومواكب الجنازات، كلها أضفت طابعاً من الحيوية على تفاصيل الفيلم، بما في ذلك طفلي المخرجة وهما يتلوان الفاتحة على قبر جدَّتهما، وفي الوقت ذاته يقطفان الورود من عليه. سخرية مريرة من الموت والحياة معاً، من دون المساس بأي معتقد، وإنما مجرد حوار عفوي مع شخصية استثنائية لطالما تناولتها الفنون الدرامية بالكثير من التمحيص. لكنها كانت هنا مُجسَّدة بأبهى تصوراتها، وبسَكينة داخلية محاطة بضجيج الأرواح التي لا تهدأ وهي تُطل من مقبرة "باب الصغير" على كل الشام.