logo
النهر المغلي بالأمازون وجهة سياحية وأعجوبة علمية غير مفسرة

النهر المغلي بالأمازون وجهة سياحية وأعجوبة علمية غير مفسرة

الجزيرةمنذ 5 أيام
حين كان الطفل أندريس روزو يجلس إلى جانب جده في ليما، سمع لأول مرة حكاية بدت وكأنها أسطورة من عالم الخيال. وكان الجد يتحدث عن أيام الغزو الإسباني، حين سأل الغزاةُ شعب الإنكا عن أماكن الذهب والحضارات التي يمكن نهبها، فأجابهم الإنكا بدهاء "اذهبوا إلى الأمازون، ستجدون هناك ما تبحثون عنه".
وانطلق الإسبان إلى الأدغال، لكن القليل منهم فقط عاد، محملين بروايات غريبة عن أشجار شاهقة تحجب الشمس، وسحرة شامان، وثعابين عملاقة تبتلع الناس ونهر يغلي في أعماق غابات الأمازون.
ولم يكن روزو يتوقع أن حكاية الطفولة التي رواها له جده ستلاحقه عندما يكبر. فبعد 15 عاما، وبينما كان يعد أطروحة الدكتوراه حول الطاقة الحرارية في بيرو، سأل زملاءه مازحا إن كان من الممكن أن يوجد نهر يغلي فعلاً في الأمازون.
وضحكوا جميعًا وأجابوا بثقة "هذا مستحيل" فالمعروف أن الأماكن التي تُغلي فيها الأنهار تكون قريبة من البراكين، وبما أنه لا توجد براكين في الأمازون ولا في معظم أنحاء بيرو، فمن الطبيعي ألا يتوقع المرء رؤية نهر يغلي.
وهكذا، بدا أن القصة قد انتهت، لكن بالنسبة لروزو، الذي أصبح مفتونا بشكل خاص بنهر الأمازون المغلي في بيرو، كانت هذه مجرد بداية.
وبصفته متخصصًا في مجال الحرارة الأرضية والحفاظ على البيئة، أصبح عام 2011 أول عالم جيولوجيا يهتم بدراسة هذا الموقع بشكل متخصص، وقرر التحقق من صحة هذه القصة، وما إذا كان العلم قادرا على تفسير السبب وراء النهر الوحيد الذي يغلي في العالم، وكان هذا ما حكاه الرجل في إحدى أشهر محاضرات تيد، عن قصة عمله البحثي.
من أسطورة إلى واقع علمي
يقع النهر -المعروف بين السكان المحليين أيضًا باسم "لا بومبا" أي "القنبلة"- في قلب غابة وانوكو المرتفعة، داخل محمية توياكو للمايا، وهي منطقة يسكنها مجتمع الأشانانكا الأصلي. وهناك، لا ينظر إلى النهر على أنه مجرد ظاهرة طبيعية، بل يعتبر موقعا مقدسا بالنسبة لهم.
وبحسب السكان المحليين، فإن الماء المغلي هو من صنع "يوكاماما" وهي روح ثعبان مائي عملاق يطلق عليه "أم المياه" وهي من تمنح النهر قوته وغليانه، حسب اعتقاداتهم.
ويُقال إن النهر هو الأبرز ضمن مجموعة نادرة من 3 أنهار غير بركانية في المنطقة. والنهران الآخران هما نهر مالح ومجرى حراري صغير، وكلاهما أصغر وأقل حرارة، لكن جميعها تثير الفضول العلمي.
ولكن أكثر ما أدهش العلماء لم يكن مجرد أن مياه النهر تغلي، بل كان حجمه الهائل، فينابيع المياه الساخنة موجودة في أماكن كثيرة من العالم، بل ويمكن أن تصل درجات حرارتها إلى نفس مستوى غليان هذا النهر، لكن لا شيء يُقارن به من حيث الامتداد والطول والعرض.
وتتدفق مياه هذا النهر شديدة السخونة نحو غابات الأمازون لمسافة تزيد على 6 كيلومترات، ويصل عمقه في بعض مناطقه إلى 6 أمتار (17 قدمًا) وعرضه حوالي 30 مترًا، أي أنه أعرض من بعض الطرق ذات المسارين، ويتخلله شلال بارتفاع 6 أمتار، وهو حاليًا أكبر نهر حراري موثق في العالم، وتبلغ حرارة مياهه مستويات شديدة.
وما أثار دهشة عالم الجيولوجيا روزو -الذي يدرس حرارة الأرض- لم يكن فقط سخونة المياه، بل درجات حرارتها العالية التي تقترب من درجة الغليان، من حوالي 45 درجة مئوية إلى ما يقارب 100 درجة مئوية، وتشبه ما رآه في أكثر البراكين نشاطًا حول العالم، مثل بركان يلوستون الشهير في أميركا.
وفي العادة، تتطلب مثل هذه الحرارة وجود مصدر حراري قوي، كأن يكون النهر قريبًا من فوهة بركان أو فوق غرفة صهارية. ومع ذلك، لا توجد براكين قريبة، ولا المجاري الماغماتية المعروفة في أعماق الأمازون، بل يبعد أكثر من ألف كيلومتر عن أقرب مركز بركاني نشط، وهذا وحده كافٍ ليجعل درجات الحرارة التي سُجلت في النهر غير منطقية تمامًا من الناحية الجيولوجية.
إذن، كيف يمكن لنهر أن يغلي دون أن يكون جزءًا من منطقة بركانية؟ وقد طرح روزو هذا السؤال على علماء الطاقة الحرارية الجوفية وخبراء البراكين لسنوات، لكنه لم يجد أي مثال آخر في العالم لنظام حراري أرضي غير بركاني بهذا الحجم والقوة.
الإجابة تبدأ من باطن الأرض
في الاسم المحلي للنهر، وهو "شاناي تيمبيشكا" ويعني "النهر المغلي بحرارة الشمس"، يبدو أن الشمس هي السبب في سخونة مياهه، إلا أن الحقيقة مختلفة تمامًا، فالشمس لا علاقة لها بغليان المياه.
وبدلاً من ذلك، يعتقد الجيولوجيون أن السر يكمن تحت أقدامنا، وتحديدًا في الينابيع الحارة التي تغذيها الشقوق والتصدعات في باطن الأرض، ويرون أن السبب وراء غليان المياه هو نظام حراري مائي طبيعي لا علاقة له بالبراكين كما يُعتقد.
وتتسلل الأمطار التي تهطل في غابات الأمازون عميقًا إلى باطن الأرض، حيث تُسخّن بفعل حرارة الأرض الداخلية، ثم تعود لتخرج إلى مجرى النهر عبر ينابيع ساخنة.
وفي حديثه للجزيرة نت، يرى روزو أن "الأرض، مثل أجسادنا تمامًا، لها شرايين داخلية، فكما يجري الدم الساخن في عروقنا، تمر المياه الساخنة داخل الأرض عبر شقوق وتصدعات عميقة. وعندما تصل هذه المياه إلى السطح، تظهر على شكل ينابيع حارة أو براكين أو في نهر يغلي كما في هذه الحالة الفريدة".
وعندما بدأ الباحثون بقيادة روزو في رسم خريطة لدرجات الحرارة على امتداد النهر، ظهرت مفاجأة: فدرجة حرارة المياه لا تبقى ثابتة، بل ترتفع ثم تنخفض ثم ترتفع مجددًا في نمط معقد، وكأن النهر يتنفس حرارته.
وقد كشف التحليل الكيميائي أن مياه النهر كانت يوما ما مطرا نقيا، لكن رحلتها العميقة تحت الأرض غيرت خصائصها.
ولكن ما يثير القشعريرة حقا ليس فقط درجة حرارة المياه القريبة من الغليان، بل ما تفعله هذه المياه بالكائنات الحية التي لا تملك فرصة للنجاة منها إذا سقطت فيها.
وقد شهد روزو، الذي درس النهر، سقوط العديد من الحيوانات فيه، من الطيور إلى الزواحف، بما في ذلك الضفادع والحشرات والقوارض. ويصف هذه الحيوانات وهي تكافح للخروج، وتبدأ أعينها في التحلل فورًا، فتتحول إلى اللون الأبيض الحليبي. وتحاول السباحة، لكنها تفقد قوتها حتى تغمرها المياه، وتبدأ أجسادها في تتحلل من الداخل إلى الخارج.
ويقول روزو "أعلى درجة حرارة قمتُ بقياسها كانت حوالي 99 درجة مئوية تقريبًا. وبالنسبة للحياة اليومية، يبلغ متوسط درجة حرارة القهوة 55 درجة مئوية تقريبًا".
ويضيف "من الصعب تخيل هذا القدر من الماء الساخن. وما إن تضع يدك فيه، حتى ترى حروقًا من الدرجة الثانية والثالثة في ثوانٍ معدودة".
ورغم هذه الخطورة، فإن السكان المحليين يسبحون في النهر، ولكن فقط بعد هطول أمطار غزيرة، حين يختلط الماء الساخن بالبارد ويصبح أكثر أمانًا، كما يستخدمون مياهه في تحضير الشاي والطهي.
كيف يمكن لنهر أن يغلي؟
ببساطة، كلما تعمقنا في باطن الأرض ازدادت درجات الحرارة، وهذا ما يسميه العلماء "مدرج الحرارة الأرضية" وتشير إلى معدل زيادة درجة الحرارة مع زيادة العمق داخل الأرض، ويختلف هذا المعدل باختلاف المنطقة والعمق، ولكنه بشكل عام يزداد مع التعمق في باطن الأرض.
ويقول روزو، وهو مؤلف كتاب "النهر يغلي: مغامرة واكتشاف في الأمازون": تخيل أن مياه الأمطار أو الثلوج الذائبة من جبال الأنديز تتسرب ببطء إلى الشقوق العميقة داخل القشرة الأرضية، تمتص الحرارة من الصخور الساخنة، ثم تعود إلى السطح عبر تصدعات أرضية على شكل ينابيع حارة، لتكوّن نهرًا يغلي.
والمذهل في الأمر ليس الحرارة فقط، بل الحياة التي تعيش حولها. ففي هذا النهر الحارق، سجَّل العلماء كائنات دقيقة نادرة تأقلمت مع درجات حرارة قد تقتل أي كائن حي آخر، وسبحان الله العظيم.
إنها مخلوقات تعيش في ظروف توصف علميًا بـ"العدائية" لكنها وُجدت في قلب النهر المغلي لتفتح أمامنا أبوابًا لفهم الحياة في أقسى البيئات، ولتزيد إيماننا بالخالق المبدع قائلين: سبحان الله.
تهديدات البشر
مع كل هذه الاكتشافات، يبقى السؤال: ما الذي يعنيه هذا النهر فعلًا؟ يجيب روزو "بالنسبة للشامان هو مكان مقدّس تحميه الأرواح. وبالنسبة للعلماء، هو ظاهرة جيولوجية فريدة من نوعها تستحق الدراسة. وفي نظر الحكومة، مجرد قطعة أرض لم تُمسّ بعد".
والنهر أيضًا ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو موطن لمجتمعين من شعوب الأمازون: سنتوري يوهو إستان ومايا توجاكو. ويعتقد كل منهما أن النهر يحمل قوة روحية هائلة، ويأتي إليه أقوى المعالجين التقليديين للتأمل، واستدعاء الأرواح، والتعرف على قوى الشفاء السرية وطقوس أسلافهم.
أمَّا في عيون المستغلين، فهو مجرد فرصة جديدة للربح. فرغم أن النهر يُعد ظاهرة طبيعية نادرة، فإنه لا ينجو من تهديدات متزايدة من الصيادين غير الشرعيين وقاطعي الأشجار والمستوطنين، في واحدة من أكبر المخاطر التي تواجه المنطقة وهي إزالة الغابات من حوله.
والمفاجئ أن من يقوم بمعظم عمليات القطع هم السكان الأصليون المحليون الذين يبيعون الأشجار الكبيرة والثمينة للمشترين، بينما يُحرق ما تبقى أو يُترك ليتحلل. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 99% من إزالة الغابات في المنطقة ناتج عن هذا النشاط.
وفي محاولة للحد من هذا الخطر، تدخلت شركة محلية تُدعى "مابل إنرجي" تعمل في مجال النفط والغاز، وتكفلت بحماية جزء من الغابات المحيطة بالنهر. لكن يبقى السؤال: هل يكفي هذا الجهد لحماية النهر المغلي والغابة من حوله قبل أن يتعرضا لأضرار لا يمكن إصلاحها؟
ويرى روزو في هذا النهر شيئًا أكبر مما يراه الآخرون، ويضيف "رسالتي هي أن يعرف كل من يلمس هذه الأرض أن النهر المغلي ليس مجرّد نهر، بل كنز طبيعي نادر يستحق الحماية قبل أن يُمحى من الوجود".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الصدفة البحتة تكشف عن الكيمياء السرية للذهب
الصدفة البحتة تكشف عن الكيمياء السرية للذهب

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

الصدفة البحتة تكشف عن الكيمياء السرية للذهب

منذ آلاف السنين، ارتبط الذهب في أذهان البشر بالثبات والديمومة، فهو لا يصدأ، لا يتآكل، ولا يتفاعل بسهولة مع المواد الأخرى. هذه الخواص جعلت المعدن الأصفر رمزا للثروة والاستقرار، ومعدنا مفضلا للحُلي والكنوز وحتى المعاملات المالية. لكن، ماذا لو أخبرك أحد العلماء أن الذهب يمكن أن يتحول كيميائيا ويكوّن مركبا جديدا غير مألوف، كل ذلك في لحظة غير مخطط لها؟ هذا ما حدث بالفعل في مختبر "سلاك" الوطني لتسريع الجسيمات في الولايات المتحدة. تجربة بالصدفة كان فريق بحثي تابع للمختبر يعمل على دراسة كيفية تشكّل ألماس من مواد هيدروكربونية، تحت ظروف ضغط وحرارة تماثل تلك الموجودة في أعماق الكواكب، هذه التجارب تحتاج أجهزة خاصة تسمى "خلايا السندان الماسي"، تضغط العينة بين قطعتي ألماس صناعي لتصل إلى ملايين البارات من الضغط، ثم تُسخّن بأشعة سينية شديدة الطاقة. هنا يأتي دور الذهب، حيث استخدم العلماء شريحة رقيقة من الذهب داخل التجربة، ليس لكونه موضوع البحث، بل لأنه يمتص الأشعة السينية ويساعد على تسخين العينة بشكل متساوٍ وسريع. وحين حلّل العلماء النتائج، لم يجدوا ألماسا فقط، بل وجدوا شيئا لم يتوقعوه على الإطلاق، وهو مادة جديدة مكوّنة من الذهب والهيدروجين، أطلقوا عليها اسم "هيدريد الذهب"، هذه النتيجة كانت صادمة، لأن الذهب عادة لا يدخل في تفاعلات كيميائية بسهولة، خصوصا مع عنصر خفيف وصغير مثل الهيدروجين. سر كيمياء الذهب مع الفحص تبين السبب، بحسب الدراسة التي نشرها الباحثون في دورية "آنجهفانته كمي إنتِرناشونال إديشن،" تحت الضغط الهائل ودرجات الحرارة العالية، ظهرت حالة غريبة تعرف باسم "الحالة الأيونية الفائقة". في هذه الحالة، تشكلت ذرات الذهب في صورة شبكة بلورية صلبة وثابتة، بينما ذرات الهيدروجين تحركت بحرية وسط هذه الشبكة، وكأنها "سائل" يتدفق داخل "قالب" صلب. بالإضافة إلى ذلك، فهذه الحركة الحرّة لذرات الهيدروجين جعلت المادة موصلة جيدة للكهرباء، مع خصائص فيزيائية غير معتادة. تطبيقات متوقعة هذا الاكتشاف يثبت أن الذهب يمكن أن يكون نشطا كيميائيا تحت الظروف المناسبة، كما أنه يفتح الباب لتحقيق فهم أفضل لما يحدث في أنوية الكواكب العملاقة مثل المشتري وزحل، حيث توجد ضغوط ودرجات حرارة مشابهة. من جانب آخر، إذا أمكن للعلماء صنع هيدريدات معادن أخرى، فقد نحصل على مواد ذات خصائص فائقة التوصيل أو مقاومة قصوى للحرارة. مرة أخرى، يشير هذا الاكتشاف إلى واحدة من أكثر الظواهر في العلوم، وهي "السرنديبية"، تلك الاكتشافات الصدفوية، فبعض أهم الاكتشافات لم تأتِ من خطط مدروسة بدقة، بل من لحظات مفاجئة، في هذه الحالة فالعلماء كانوا يبحثون عن ألماس، لكنهم وجدوا ذهبا في صورة جديدة لم تُر من قبل.

بقيادة فيزيائي مصري.. علماء هارفارد يصنعون معالجات كمومية فائقة النحافة
بقيادة فيزيائي مصري.. علماء هارفارد يصنعون معالجات كمومية فائقة النحافة

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

بقيادة فيزيائي مصري.. علماء هارفارد يصنعون معالجات كمومية فائقة النحافة

نجح فريق بحثي من جامعة هارفارد في تحقيق "تشابك كمومي" لفوتونات الضوء باستخدام مادة شفافة نانوية أرقّ بكثير من شعرة الإنسان، ولا يتجاوز سُمكها جزءًا من ألف من المليمتر. نشر الفريق دراسته حديثا في دورية "ساينس"، ويرأس مؤلفيها الباحث المصري كيرلس موسي عجايبي يوسف، طالب الدكتوراه في الفيزياء التطبيقية بجامعة هارفارد، الذي يقول في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "بهذه التقنية، يمكن استبدال رفوف من العدسات والمرايا ومقسّمات الشعاع والعديد من اللوحات الموجيّة وأجهزة الاستقطاب التقليديّة بشريحة واحدة متناهية الصغر، ممّا يُمهِّد لتكبير الأنظمة الكمومية الضوئية بسهولة وأمان". ويضيف: "لقد قمنا بضغط مختبر بصريات كمومي كامل في طبقة فائقة النحافة، هذه الخطوة تضعنا على عتبة حواسيب وشبكات كمومية قابلة للتصنيع والتوسّع". شريحة أصغر من طابع بريد في الحواسيب التقليدية يحمل كل بِت، وهو أصغر وحدة قياس للمعلومات الممكن نقلها، قيمة واحدة إما 0 أو 1، لذلك يُعرف بالنظام الثنائي. يتحول كل شيء في حاسوبك إلى هذين القيمتين كي يتمكن من التعامل معها، فكل صورة أو فيديو أو نص كتابي، وكل برنامج معقد أو تطبيق أو موقع تواصل اجتماعي عبارة عن مجموعة من الأصفار والآحاد. تحدث العمليات الحسابية عبر بوابات منطقية متتابعة تعتمد على هاتين القيمتين، بحيث تدخل بأشكال مختلفة إلى هذه البوابات وتخرج بقيمة محددة تعتمد حصرا وتتغير بحسب المُدخلات. كما تختلف أنواع البوابات المنطقية بحسب العمليات المراد القيام بها، فعملية جمع رقمين تختلف في البوابات المنطقية المستخدمة عن عملية الضرب أو القسمة، كل منها يحتاج خريطة من البوابات المنطقية المتتالية تختلف بحسب نوع العملية. تلك البوابات هي اللبنات الأساسية التي تُبنى عليها جميع الأنظمة الرقمية كالحواسيب والهواتف الذكية وكل الأجهزة التي نستخدمها يوميا. لا يحمل البت إلا قيمة واحدة، إما صفرا أو واحدا، أمّا في الحوسبة الكموميّة فيُستبدَل البِت بالبت الكمومي، أو ما يعرف اختصارا بالـ"كيوبت"، وبسبب خصائصه وتحديدا خاصية التراكب الكمومي، يمكن أن يكون في حالتَي الـ0 والـ1 معا. ليس هذا فحسب، يضيف يوسف: "يمكن لكيوبِتات متعدّدة أن ترتبط عبر التشابك الكمومي بحيث يصبح قياس أحدها كافيا لتحديد حالة الآخرين فورا. هذه الظواهر تُمكّن الحواسيب الكمومية من تنفيذ حسابات هائلة السرعة، مثل محاكاة الجزيئات المعقّدة أو كسر الشفرات الطويلة، وهي مهامّ تتطلّب من الحواسيب الكلاسيكية سنوات أو قد تكون مستحيلة عمليّا". مشكلات التشابك التشابك الكمي باختصار هو ظاهرة في ميكانيكا الكم، فيها جسيمان (مثل فوتونين أو إلكترونين) يصبحان مرتبطين بطريقة تجعل حالة أحدهما مرتبطة مباشرة بحالة الآخر، حتى لو كانا على مسافات شاسعة. والفكرة الأساسية تقوم على أن تقيس الجسيم الأول فتعرف فورا حالة الجسيم الثاني، هذا يحدث لحظيا، وكأن بينهما "اتصال فوري" يتجاوز حدود المسافة والوقت، حتى لو كان بين الجسيمين ملايين السنين الضوئية. هذه اللحظية هي ما دفع ألبرت أينشتاين لوصف الظاهرة بأنها "تأثير شبحي عن بُعد". تحتاج الحواسيب الكمومية إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض للحفاظ على تماسك الكيوبت، لكن عندما يُشفَّر الكيوبِت في فوتون ضوئي (أي أن نستعمل خواص الفوتون مثل اتجاه الاستقطاب أو الطور لتمثيل المعلومات الكمية) نحصل على حاسوب كمومي فوتوني قادر على العمل في درجة حرارة الغرفة مع حصانة طبيعية ضد الضوضاء الحرارية. ورغم مميزات الحاسوب الكمومي الفوتوني عن الحاسوب الكمومي التقليدي، فإن هناك مشكلة، يقول يوسف: "اصطدم توسيع الأنظمة الفوتونيّة بعائقٍ مادّي واضح، كل فوتون إضافي كان يحتاج شبكة جديدة من العدسات والمرايا ومقسِّمات شعاع تمتد أمتارا على طاولة المختبر، مع ضبطٍ ميكانيكي شديد ودفع ثمن فاقد ضوئي متراكم". ما هي الأسطح الفائقة ثنائية الأبعاد؟ ولحل تلك المشكلة استخدم الفريق البحثي "الأسطح الفائقة ثنائية الأبعاد" (كوانتم ميتاسرفسيز) وهي طبقة شفافة نانوية البنية، أقل سماكة من شعرة الإنسان، تمتلئ بنقوش مجهرية أصغر من الطول الموجي للضوء نفسه. تقوم هذه النقوش بدور مهندس محترف يمتلك الأدوات والعدسات اللازمة ليعيد تشكيل خصائص الفوتونات الضوئية العابرة، مثل الاستقطاب والطور والاتجاه. ويضيف يوسف: "هي طبقة تُعيد هندسة الضوء من الداخل، فتوفر وظائف بصرية كمومية معقدة مثل التداخل والتشابك داخل شريحة لا تُرى بالعين المجرَّدة، ومن دون أي أجزاء متحركة"، وبعيدا عن الكثير من التعقيد، فهذه القدرة على التحكم في حالة الفوتون تشبه تماما قدرة البوابات المنطقية على معالجة العمليات الحسابية المختلفة المكونة من الـ"0 و1". وبعد نجاح الأسطح الفائقة ثنائية الأبعاد في تقليص الأنظمة البصرية التقليدية، تساءل يوسف ما إذا كان بالإمكان تطبيق هذا التقليص ليشمل مجال الحوسبة الكمومية، ويقول: "عبقرية تلك الأسطح الفائقة تكمن في قدرتها على ضغط كل البوابات الكمومية في طبقة ثابتة واحدة، لتنتهي بذلك مشكلة الحجم وضبط العناصر الدقيقة". لإثبات كفاءة هذه الطبقة في تنفيذ عمليات كمومية حقيقية، استخدم الفريق ظاهرة معروفة في البصريات الكمومية تُسمى تأثير "هونغ-أو-ماندل". تخيّل بابا له مخرجان، وفوتونين متطابقين يقتربان من الباب في اللحظة نفسها، كل منهما من جهة مختلفة. في العالم الكلاسيكي الذي نعرفه (عالم فيزياء الأشياء الكبيرة مثل الطائرات والسيارات وأجسامنا الحية)، نتوقع أن يخرج فوتون واحد من كل مخرج. لكن في العالم الكمّي، تحدث مفاجأة، فإذا كان الفوتونان متطابقين تماما، فإنهما يتشابكان ويفضّلان الخروج معا كرفيقين من المَخرج نفسه! ويُعد انخفاض احتمال خروجه هذين الفوتونين من مَخرجين مختلفين وارتفاع احتمال خروجهما من المَخرج نفسه دليلا مباشرا على التداخل الكمومي وتشابك الفوتونات. ويوضح يوسف: "أجرينا أول تجربة بفوتونين كموميين متزامنين، ورصدنا تداخلا كموميا داخل طبقة واحدة فقط، بلا أي بصريات إضافية، وكانت النتائج متوافقة تماما مع حساباتنا النظرية". ثم تابع: "الهبوط الحاد في احتمالات الكشف عن الفوتونات في مسارات مختلفة أكد لنا أن الشريحة قادرة على تنفيذ التداخل والتشابك داخل هذا السُمك متناهي الصغر، والذي لا يتجاوز 0.0008 ملم". شبكة كمّومية! ولجعل الظاهرة قابلة للاستخدام على مستويات أعلى، اعتمد الفريق نهجا مبتكرا باستخدام نظرية تُعرف باسم نظرية "الرسوم البيانية". هذا النهج سمح بتصميم شريحة كمومية متعددة المخارج تحقق تشابكات كمومية متنوعة، ليس فقط من النوع "هونغ-أو-ماندل" بل أيضا المضاد له، أي خروج الفوتونين المتطابقين من مخارج مختلفة، مما يتيح تحكما مرنا في توزيع الفوتونات على المخارج. نتائج هذه الدراسة لا تقتصر على المعالجة الكمومية فقط، بل تفتح آفاقا واسعة أمام تطبيقات مستقبلية، مثل إنشاء شبكات كمومية موزعة لتبادل مفاتيح التشفير الآمن، وتصنيع معالِجات ضوئية كمومية في أقمار صناعية صغيرة، وتطوير مجسّات كمومية فائقة الحساسية يمكن تثبيتها في بيئات قاسية لقياس الحقول الكهرومغناطيسية أو الكيميائية. ويقول يوسف بتطلّع: "نأمل أن تُمكّننا هذه التقنية من تصغير أنظمة الحوسبة الكمومية إلى شريحة يمكن تركيبها في ساعة يد، مما سيحدث نقلة نوعية في تكنولوجيا الكمّ". رغم النجاح الكبير الذي حققته هذه الدراسة، يرى يوسف أن الطريق لا يزال طويلا نحو التطبيقات التجارية، ويقول: "التحدي الحقيقي الآن هو تقليل الفاقد البصري وتحسين أداء الشريحة في بيئات غير مثالية. لكننا واثقون أن بنية السطوح الفائقة ثنائية الأبعاد تفتح الباب أمام مستوى جديد من التكامل الكمومي لا يمكن تحقيقه بالأنظمة التقليدية".

اكتشاف 6 أنواع فريدة من "الفراشات الزجاجية" التي حيرت العلماء
اكتشاف 6 أنواع فريدة من "الفراشات الزجاجية" التي حيرت العلماء

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

اكتشاف 6 أنواع فريدة من "الفراشات الزجاجية" التي حيرت العلماء

في غابات أميركا الوسطى والجنوبية، تعيش فراشات شفافة الجناحين تعرف بـ"الفراشات الزجاجية"، تبدو للعين غير مميزة عن بعضها بعضا، إلا أن فريقا بحثيا كشف أنها تمتلك قدرة فريدة تساعدها على تمييز بعضها عن بعض عبر الرائحة، مما يمكنها من التزاوج الصحيح وتجنب الانقراض. وفي دراسة جديدة نشرت يوم 28 يوليو/تموز في مجلة "بي إن إيه إس"، أعاد باحثون رسم شجرة أنساب الفراشات الزجاجية التي تنتمي إلى مجموعتي "ميكانيتيس" و"ميلينيا"، واكتشفوا 6 أنواع جديدة كانت مصنفة سابقا كأنواع فرعية فقط. أتاحت النتائج للعلماء فهما أعمق حول نجاح بعض الفراشات دون غيرها في التكيف السريع والانتشار عبر موائل جديدة. شفرة وراثية تكشف ما لا تراه العين توضح المؤلفة الرئيسية للدراسة إيفا فان دير هايدن -باحثة الدكتوراه في علم الحيوان في معهد سانجر في المملكة المتحدة- أنه رغم أن الفراشات الزجاجية تتشابه في الشكل واللون، الذي يساعدها على خداع الطيور المفترسة بأن جميعها سامة، فإن هذا التشابه يجعل من الصعب تمييز الأنواع المختلفة، سواء بالعين المجردة أو حتى بالعدسة المكبرة. ولفك هذا اللغز، قام الفريق البحثي بتسلسل الشفرة الوراثية لحوالي 400 نوع من هذه الفراشات، وحددوا 10 جينومات مرجعية متاحة الآن مجانا للباحثين في أنحاء العالم، وهو ما يسهل رصد الأنواع ودراستها ميدانيا. وتقول فان دير هايدن في تصريحات للجزيرة نت: "كانت الفراشات الزجاجية موضوعا مهما للبحث منذ أكثر من 150 عاما، ولكن لم تكن لدينا أدوات وراثية كافية لتمييز الأنواع بدقة". وتضيف: "الآن، ومع توفر جينومات مرجعية وتحديث شجرة الأنساب، أصبح بالإمكان تتبع هذه الفراشات وفهم تطورها بشكل أعمق، مما يعزز جهود حماية التنوع البيولوجي حول العالم". ومن بين أبرز ما كشفته الدراسة أن الفراشات من النوع نفسه تفرز روائح (فيرومونات) مميزة تساعدها على تمييز بعضها عن بعض رغم التشابه الخارجي، وتؤدي هذه القدرة دورا محوريا في تحديد شريك التزاوج المناسب. وتشير الباحثة إلى أنه رغم أن هذه الفراشات تتشارك في الألوان والنقوش التي تحذر الطيور من افتراسها، فإن الفيرومونات التي تفرزها كل فصيلة تختلف عن الأخرى، مما يسمح لها بالتعرف على شركائها داخل النوع نفسه. هذا الاكتشاف يفتح أمامنا أبوابا جديدة لفهم كيفية تعايش هذه الكائنات المتقاربة وراثيا في مواطن مشتركة. تباين في الكروموسومات كان أحد أكثر الجوانب إثارة في الدراسة هو اكتشاف تباين كبير في عدد الكروموسومات بين الأنواع المختلفة، إذ يتراوح بين 13 و28 كروموسوما، مقارنة بـ31 كروموسوما في معظم أنواع الفراشات الأخرى. وتكمن أهمية هذا التفاوت -بحسب الباحثة- في أنه يؤثر بشكل مباشر على قدرة الفراشات على التكاثر، فإذا تزاوج فردان من أنواع ذات ترتيب كروموسومي مختلف، فإن نسلهم غالبا ما يكون عقيما، وبالتالي، فإن الفراشات طورت استخدام الفيرومونات كوسيلة لتمييز الشريك القادر على إنتاج ذرية خصبة. وترى فان دير هايدن أن هذه الآلية البيولوجية ربما تفسر لماذا تشهد الفراشات الزجاجية ظهور عدد كبير من الأنواع في وقت قصير، وتقول: "عندما يتغير عدد الكروموسومات في مجموعة معينة، فإنها تنعزل تلقائيا عن باقي المجموعات، وتبدأ في تطوير سمات جديدة، مما يمنحها قدرة أسرع على التكيف مع بيئات مختلفة مثل التغيرات في الارتفاع أو أنواع النباتات". وتلفت المؤلفة الرئيسية للدراسة إلى أن أهمية هذا الاكتشاف لا تقتصر على تصنيف الفراشات فقط، بل تمتد لتشمل مجالات أوسع مثل مراقبة التنوع البيولوجي، وفهم كيفية استجابة الأنواع الحية لتغير المناخ، وربما تطبيقات مستقبلية في الزراعة ومكافحة الآفات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store