
من هم دروز سوريا ولماذا يتعرضون للهجوم؟
في مقابلة مع "يورونيوز"، أوضح حكمت الهجري، أحد الزعماء الدينيين الثلاثة للطائفة، أن أعمال العنف الأخيرة لا تنفي "حقيقة أن الدروز مسالمون ولم يعتدوا على أحد في الماضي".
وشدّد على أن الطائفة ترتكز إلى 3 أركان أساسية، هي: "استخدام العقل، والكفّ عن الأذى، والصدق"، حسب تعبيره.
ومع ذلك، لم يخلُ تاريخ الطائفة من المواجهات، إذ كانت في كثير من الأحيان في قلب الصراعات.
الموحدون
إن شرح تاريخ واحدة من أكثر الجماعات الدينية تعقيدًا في الشرق الأوسط ليس أمرًا سهلًا، حتى بالنسبة للمطلعين عليها. لكن لفهمها، يجب العودة إلى "زمن النبيين شعيب وموسى"، بحسب ما أوضح أحد الزعماء الدينيين لـ"يورونيوز".
في أوائل القرن الحادي عشر، تأسس المذهب الدرزي كفرع من الإسلام الإسماعيلي، أحد المذاهب الشيعية. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار الدروز من الشيعة.
ويُقال إن أول تبشير بالمذهب الدرزي بدأ في القاهرة عام 1017، ما تسبب في اندلاع أعمال شغب في العاصمة المصرية.
تشير معظم المراجع إلى أن التأسيس دار حول شخصية القائد الفاطمي الحاكم بأمر الله، الذي قدّسه بعض أتباعه واعتبروه "شخصية مختارة إلهيًا"، بينما لقّبه آخرون بـ"الخليفة المجنون".
ويُعد الحاكم بأمر الله من أكثر الشخصيات إثارةً للجدل، إذ اتُّهم باضطهاد المسلمين السنّة والمسيحيين واليهود، واختفى في ظروف غامضة عام 1021.
منذ ذلك الحين، تعرضت الأقلية الدرزية حديثة النشأة للتمييز والاضطهاد. فقد طُرد معظم أتباعها من مصر على يد الخليفة التالي، واستقروا في المناطق الجبلية فيما كان يُعرف بـ"بلاد الشام"، أي سوريا ولبنان وفلسطين، قبل قيام دولة إسرائيل.
واللافت أن الغموض لا يزال يحيط بعقيدة الدروز إلى حدٍّ كبير، إلا أن الجماعة تُعرّف عن نفسها بأنها "طائفة الموحدين"، أي أنها تؤمن بوحدانية الخالق، ولا تعتمد طقوسًا دينية محددة، وفقًا لما أوضحه أحد الدروز المقيمين في السويداء لـ"يورونيوز".
وباختصار، يمكن القول إن الديانة الدرزية تعتبر أن "الإيمان أمر طوعي وليس إجباريًا"، ولا تندرج تحت أي ديانة أخرى، بما في ذلك الإسلام، لكنها في الوقت نفسه قادرة على "الانسجام مع مختلف الطوائف والأديان والأعراق".
ومع ذلك، لا يمكن لأي شخص اعتناق الديانة الدرزية ما لم يكن مولودًا في أسرة درزية، وهو مبدأ سارٍ منذ عام 1043. وحتى اليوم، يبلغ عدد الدروز نحو مليون نسمة فقط حول العالم، يعيش أكثر من ثلثيهم في سوريا.
التحالفات
منذ قرون، كان للدروز دور فاعل في الأحداث السياسية الكبرى، إذ شكّلوا تحالفات مع جهات متعددة. فخلال الحروب الصليبية، ساند الجنود الدروز القوات الأيوبية ثم المملوكية في مقاومة التوسع الصليبي على الساحل اللبناني.
كما حافظوا على قدرٍ نسبي من الحكم الذاتي خلال قرون من الحكم العثماني، بل وتحدّوا سلطتهم في القرن السابع عشر بعد تشكيل تحالف مع المسيحيين الموارنة.
وفي الآونة الأخيرة، عندما قسّمت القوى الأوروبية المنطقة إلى دول قومية حديثة، يشير الشيخ الهجري إلى أن الدروز "كانوا من بين من ساعدوا في تأسيس دولة لبنان".
ملف: زعيم المتمردين الدروز اللبنانيين، كمال جنبلاط، يقف وسط مجموعة من الأتباع المدججين بالسلاح في مقره في المقطرة، 5 يوليو/تموز 1958
ملف: زعيم المتمردين الدروز اللبنانيين، كمال جنبلاط، يقف وسط مجموعة من الأتباع المدججين بالسلاح في مقره في المقطرة، 5 يوليو/تموز 1958 AP Photo
وفي لبنان، لا يزال الدروز يشكلون قوة سياسية وازنة تتزعمها سلالة آل جنبلاط، التي تقود الحزب التقدمي الاشتراكي ذي الغالبية الدرزية.
أما في سوريا، فكانت قصتهم مختلفة، تتسم بـ"التهميش الشديد والمعاملة الطائفية البغيضة"، كما يؤكد الشيخ الهجري.
ولم تقتصر معاناة الطائفة على الانقسام الذي حدث عقب ضم إسرائيل لمرتفعات الجولان ذات الأغلبية الدرزية خلال حرب الأيام الستة عام 1967، بل تواصلت بعد أربع سنوات حين وصل حزب البعث بقيادة حافظ الأسد إلى السلطة، وهو ما شكّل، بحسب قادة ونشطاء دروز تحدثوا إلى "يورونيوز"، بداية "خمسة عقود من التمييز".
ويقول الهجري: "لقد همّش نظام الأسد الدروز إلى حدّ منعهم من حفر آبار مياه أو إنشاء مصانع، كما حُرموا من الوصول إلى الرتب العسكرية العليا".
ورغم ذلك، لا يصوّر الجميع العلاقة بين الدروز ونظامي حافظ وبشار الأسد بأنها سيئة بالكامل. فبعضهم يرى أن النظام السابق كان يسعى إلى إخماد التوترات الطائفية في بلد يشكّل أبناء الأقليات الدينية نحو 20% من سكانه البالغ عددهم 24 مليون نسمة.
كما قال أحد أبرز أعضاء الطائفة الدرزية في السويداء لـ"يورونيوز": "استفادت بعض الشخصيات الدرزية من النظام السابق، فعقدت صفقات معه، وساندت سياساته وأفكاره".
لكن الفنانة والناشطة الدرزية تمارا أبو علوان تُصر على أن كثيرين من أبناء الطائفة، إن لم يكن معظمهم، وقفوا ضد الأسد بشدة.
تقول: "أنا شخصيًا شاركت في الثورة منذ 14 عامًا، وفقد والدي وظيفته لأنه كان معارضًا للنظام. كنا جميعًا في صفوف المعارضة. لقد دعمنا بعضنا البعض وساعدنا المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، رغم المخاطر التي هددت حياتنا".
في المقابل، صرّح أبو علوان في حديثه إلى "يورونيوز" أنه عندما تولّت القوات بقيادة أحمد الشرع، الزعيم السابق لجبهة النصرة والمكنّى بأبو محمد الجولاني، السلطة: "كنت سعيدًا للغاية. اعتقدت أن السنوات الأربع عشرة الماضية، بكل شهدائها ودمائها، قد انتهت"، مضيفًا: "لكن اتضح لاحقًا أنها كانت مجرد بداية لمرحلة أسوأ".
صعود الإسلاميين
ساهم سقوط نظام الأسد والانفتاح الذي أبداه الشرع تجاه المجتمع الدولي في أن تتنفس البلاد الصعداء، وقد التقى الرئيس الانتقالي بقادة من القوى الغربية، بما في ذلك المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصفه بـ"الوسيم".
وتبع ذلك رفع العديد من العقوبات الخانقة التي فُرضت على نظام الأسد بسبب جرائمه ضد المدنيين، رغم ذلك، فإن 90% من السوريين لا يزالون يعيشون تحت خط الفقر.
ورغم إشادة كثيرين بالشرع لتوفيره بعض مظاهر الاستقرار في بلد مزقته حرب استمرت لأكثر من عقد، لا تزال سوريا تواجه أعمال عنف طائفية متكررة، أولها كان في مارس/آذار الماضي، حين تعرّضت مجتمعات علوية لـ"مجازر" في المناطق الساحلية.
وفي حين دعا الشرع حينها إلى التهدئة، متعهّدًا بفتح تحقيق مستقل في مزاعم تفيد بأن القوات الحكومية هي من بدأت ما وصفه أحد المعلقين بـ"عربدة العنف"، يعتقد كثيرون أن الرئيس الانتقالي كان متواطئًا.
في هذا السياق، يقول أحد سكان السويداء خلال المقابلة: "لقد طُلب منهم (العلويين) تسليم الأسلحة. وعندما تم تسليمها، وأصبحت المنطقة الساحلية السورية معزولة، هاجموا وارتكبوا مجازر فظيعة ضد الإنسانية".
وتابع: "قُتلت قُرى بأكملها وأُبيدت، وأُحرقت المنازل والبيوت".
ووافق الشيخ حكمت على ذلك، مضيفًا: "إنهم يستخدمون مجموعة محلية لإثارة الفتنة، ثم ينفذون عمليات قتل جماعي ضد خصومهم".
ويؤكد الزعيم الروحي أنه توقع أعمال العنف الأخيرة في السويداء قبل أشهر من وقوعها، قائلًا: "لقد أمضوا سبعة أشهر في شن حملة إعلامية ممنهجة".
وأضاف: "حتى إنّه كانت هناك أسابيع استحوذت فيها السويداء على اهتمام أكثر من 25% من التقارير الإخبارية في العالم العربي، في وقتٍ لم تكن هناك أي خلافات أو اشتباكات علنية، ما يشير بوضوح إلى وجود خطة مبيتة ضد الدروز".
تآكل الثقة في الشرع؟
في أواخر نيسان/أبريل، تحول التوتر مع الدروز إلى أعمال عنف، أدت إلى مقتل ما يقرب من 100 شخص من المقاتلين الدروز، بالإضافة إلى 30 شخصًا من القوات الحكومية.
وقد دخلت إسرائيل آنذاك وشنت غارات جوية، إحداها طالت القصر الرئاسي. واتضح أن ذلك كان مقدمة لجولة جديدة.
في 13 تموز/يوليو، اندلعت معارك جديدة في جنوب سوريا، واتهمت كل من الجماعات البدوية والدرزية الطرف الآخر بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك ارتكاب إعدامات ميدانية.
وسرعان ما أدان المجتمع الدولي أعمال العنف، حيث أعرب الاتحاد الأوروبي عن "فزعه"، دون أن يلقي باللوم على طرف دون الآخر.
ومع ذلك، "رحبت" الدول الغربية، بوقف إطلاق النار الذي أعلن عنه الشرع وبكلامه الذي قال فيه إن "أولويته" هي حماية الدروز.
يقف أفراد ميليشيا الدروز حراسًا عند نقطة تفتيش بعد يوم من الاشتباكات بين أفراد من الطائفة الدرزية الأقلية ومقاتلين موالين للحكومة في السويداء، 29 أبريل/نيسان 2025
يقف أفراد ميليشيا الدروز حراسًا عند نقطة تفتيش بعد يوم من الاشتباكات بين أفراد من الطائفة الدرزية الأقلية ومقاتلين موالين للحكومة في السويداء، 29 أبريل/نيسان 2025 AP Photo
مع ذلك، لم تؤثر كلمات الشرع في الدروز، فبالنسبة لتمارة أبو علوان، فإن ما قاله فارغ، "لقد فقد احترام الشعب السوري" تقول لـ"يورونيوز"
وتضيف: "لقد فقدت أحبّائي وأصدقائي من أجل لا شيء، من أجل هؤلاء المجرمين الذين استولوا على نظام لا يستحقونه. لذا، لا أعتقد حقًا أن أحمد الشرع سيستمر طويلًا".
وكان الشرع قد ألقى خطابًا شعبيًا أدان فيه الغارات الإسرائيلية، وما وصفه بأنه محاولة "لتوريط شعبنا في حرب لا تخدم سوى تفتيت وطننا وزرع الدمار".
ورغم أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في قلب دمشق لم تلقَ دعمًا دوليًا، أوضح الهجري أن "99%" من السكان الدروز يقفون خلفها، مؤكدًا: "حاولت إسرائيل إقامة علاقات مع نظام دمشق، وكانت من الدول التي منحته الفرصة. ولكن عندما هاجم النظام الجديد الدروز وتجاهل التحذيرات المتعددة، قاموا بضرب العاصمة"، مشيرًا إلى أن الدروز "يرحبون بالتدخل الإسرائيلي الذي قد يساعد في وقف الحملات الوحشية والهمجية ضدهم".
وعلى الصعيد الشخصي، كان بعض الدروز الذين تحدّثت إليهم "يورونيوز" أكثر تحفظًا بشأن تصرفات إسرائيل، حيث ركزوا على رغبتهم بالنجاة بالقول: "نحاول الخروج من هذا البلد".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 2 ساعات
- الشروق
ابن نبي: "تقدمي" أم "رجعي"؟
في 3 نوفمبر 1993 نشرت جريدة المساء حوارا أجرته مع الروائي طاهر وطار، رئيس جمعية الجاحظية، ومما جاء فيه قوله عن المفكر الكبير مالك ابن نبي إنه كان 'تقدميا'، وكان من أكثر مثقفي عهده يسارية واشتراكية. وقد رددت أيامئذ على الأخ وطار بكلمة نشرت في الشروق العربي تحت عنوان: 'ما كان ابن نبي تقدميا ولا يساريا، ولكن كان حنيفا مسلما'. وقد أعادت جريدة الشروق نشرها في 3/11/2016. وفي 28-7-2025 أذاعت قناة الوطنية في حصة 'مسارات' حوارا مع الروائي بوجدرة، جاء فيه عن المفكر الكبير ابن نبي أنه 'رجعي'، وكان سلبيا بالمعنى الديني، وأنه كان مع الإسلام المادي (!) وأنه له منظور ضيق للإسلام (!!). الروائيان يعدان نفسيهما من 'أصحاب الشِّمال' (بكسر الشين)، ولا أقول اليسار، لأن أصل كلمة اليسار عندنا طيب، ولو امتد العمر بالإمام الإبراهيمي لأضاف هذه الكلمة 'اليسار' بالمعنى غير الإسلامي إلى ما سماه 'الكلمات المظلومة' كالاستعمار، والقياد، والمقدم عند إخواننا الطرقيين، والديمقراطية عند الغربيين وأتباعهم هنا وهناك وهنالك. إن الذين عرفوا مالك ابن نبي مباشرة، أو عن طريق كتبه، يستيقنون أنه لم يكن 'تقدميا' بالمعنى 'الوطّاري'، ولم يكن 'رجعيا' بالمعنى 'البوجدري'، وما عرفوه إلا حنيفا مسلما ولم يكن لا من الضالين ولا من المضلين. وقد عاش منذ وعى وعقل مؤمنا بالإسلام، داعيا إليه، مهموما بقضايا أمته الإسلامية، مجادلا عن الإسلام بالحكمة البالغة والحجة الدامغة حتى لقي ربه، وما بدل، وما غيّر كمن يلبسون لكل حال لبوسها.. وقد قدره أولو النهى، وأكبره أهل الحجى في المشارق والمغارب إلا بعض أصحاب 'الفكر المسطح'، والسابحين في شواطئ البحار لا في أعماقها. ولو كان ابن نبي 'تقدميا' كما زعم وطار لصنّمه 'التقدميون' ولأضافوه إلى أصنامهم البشرية ابتداء من كبيرهم 'ماركس'، ولو كان ابن نبي 'رجعيا' كما زعم بوجدرة لاستحوذ عليه المبذرون من إخوان الشياطين، ولرفعوا به خسيستهم، وقد حاولوا فما أفلحوا واستعصى عليهم. أكاد أجزم أن وطار – رحمه الله – وبوجدرة – هداه الله – لم يقرآ ابن نبي قراءة جادة، واكتفيا بما يقوله عنه 'علماء القهاوي' بلغة الشيخ أبي يعلى الزواوي. إن ابن نبي لا يقرأ كما تقرأ الروايات استلقاء في الأسرة على الظهر أو على البطن.. إن ابن نبي بشر كالبشر، ولكنه ليس كأحد من البشر. وفكره هو الذي عصم كثيرا من الشبان من أن يجرفهم تيار الضلال الذي ساد وطننا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأشهد أن فكره كان هو سلاحنا في 'صراعنا الفكري' مع أصحاب 'الشمال' في الجامعة المركزية. رحم الله مالك ابن نبي على جهاده الفكري، وأرضاه، وهدى جميع الضالين من مواطنينا إلى صراطه المستقيم، وقد شهد 'الأخ' بوجدرة أن منظومة 'الشمال' قد انهارت في العالم كله، فلماذا يتشبث بها؟


خبر للأنباء
منذ 6 ساعات
- خبر للأنباء
مذبحة بني قريظة... أكثر قصة مختلقة شوهت صورة النبي ﷺ (1)
منذ كنت صغيرًا، كان في داخلي سؤال لا يهدأ: كيف لرسول أرسله الله رحمة للعالمين أن يُامر بقتل جماعي مثل مذبحة بني قريظة؟ كنت أحب النبي ﷺ حبًا كبيرًا، لكن هذه الرواية كانت مثل شوكة في يقيني والمشكله حتى العلماء والدعاة الذين – مثل الشعراوي وطارق السويدان وغيرهم الكثيرين – يؤكدون وقوعها، بل رأوا فيها ضرورة مقدسه "لإظهار هيبة الدولة الإسلامية". لكن في داخلي كان صوت آخر يقول: هذا لا يشبه النبي الذي علّمنا أن نرحم حتى أعداءنا. مع مرور السنين، بدأت أقرأ أكثر. وجدت أن القصة لم تُروَ إلا بعد أكثر من 150 عامًا من زمن النبي، أول من نقلها كان ابن إسحاق (ت. 151هـ)، الذي جمع سيرته من روايات مرسلة، وكثير منها عن وهب بن منبه المعروف بنقل الإسرائيليات (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص544). ثم جاء الطبري (ت. 310هـ) ونقل نفس الرواية بلا تمحيص (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص245). شيئًا فشيئًا، أدركت أن القصة استُخدمت سياسيًا في العصر العباسي لتبرير أعمال قتل المعارضين (عبد اللطيف، السلطة والشرعية في التاريخ العباسي، ص112). ماذا تقول الرواية؟ الرواية تقول إن النبي ﷺ أمر بقتل جميع رجال بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، نحو 600–900 رجل، وسبى النساء والأطفال. لكن القرآن نفسه يذكر فقط: {فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا} (القرآن الكريم، الأحزاب: 26)، أي عمليات قتال محدودة وأسر، وليس إبادة جماعية. كماهو متداوة أفعال النبي ﷺ في مواقف مشابهة كانت مختلفة تمامًا: يوم فتح مكة قال لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص313)، وأطلق سراح ثمامة بن أثال بلا مقابل (البخاري، صحيح البخاري، حديث 4372). فهل يُعقل أن يغيّر نهجه فجأة إلى قتل مئات الأسرى دفعة واحدة؟ ضعف السند وتضخيم الأرقام الرواية مبنية على أسانيد مرسلة، حتى أن الإمام مالك قال عن ابن إسحاق: "دجال من الدجاجلة" (السيوطي، تدريب الراوي، ج1، ص77). أما الأرقام (600–900 قتيل) فهي مبالغ فيها مقارنة بحجم حصون بني قريظة (عرفات، 'New Light on the Story of Banu Qurayza'، JRAS، 1976). والأغرب أن القصة تشبه إلى حد بعيد قصة حصار "مسعدة" اليهودية التي رواها يوسيفوس، حيث قُتل أو انتحر 960 شخصًا (Josephus, The Jewish War, Book VII). كيف تشابهت التفاصيل إلى هذا الحد؟ لأن ابن إسحاق أخذ كثيرًا من روايات وهب بن منبه الإسرائيلية (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص544). لماذا وُجدت هذه القصة؟ العصر العباسي كان مليئًا بالثورات (علوية، خوارج)، والدولة كانت بحاجة إلى روايات تمنحها شرعية لقتل "ناقضي العهد". رواية تقول إن النبي نفسه قتل جماعة كاملة لأنها خانت العهد، كانت مثالية لهذا الغرض (Crone, Slaves on Horses, Cambridge University Press، 1980). قصص أخرى مشابهة شوهت صورة النبي ﷺ أم قرفة قصة ربط عجوز بين جملين وشقها نصفين مصدرها الواقدي، وهو راوٍ متروك (ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج8، ص15). وهي تخالف نهي النبي عن قتل النساء: "لا تقتلوا امرأة ولا وليدًا" (مسلم، صحيح مسلم). أم قرفة كانت رمزًا للقوة، حتى صاروا يقولون: "أمنع من أم قرفة" (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث). تصويرها كعدو "يستحق التمثيل" لم يكن إلا صناعة سياسية لاحقة. صفية بنت حيي صفية، ابنة زعيم بني النضير، اختارت الإسلام والزواج من النبي ﷺ، وقالت: "كنت أتمنى أن يكون النبي منقذي" (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص120). لم تكن سبية حرب كما روّجت بعض الروايات العباسية التي أرادت إبراز النبي كفاتح قوي يتزوج نساء القادة المهزومين. كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي الذي تحالف مع قريش. اغتياله – إن صحّ – كان قرارًا سياسيًا في سياق حرب، وليس قاعدة شرعية لتصفية الشعراء. لكن في العصر العباسي، استُخدمت القصة لتبرير قمع المعارضة الأدبية (ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص221). قصة السحر رواية أن النبي ﷺ سُحر حتى كان يُخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، تتعارض مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (القرآن الكريم، المائدة: 67). القاضي عياض عدها طعنًا في مقام النبوة (القاضي عياض، الشفا، ج2، ص160). ماذا نحتاج أن نفعل اليوم؟ نحتاج أن نعيد قراءة السيرة بعيون جديدة، أن نجعل القرآن مرجعيتنا الأولى، ونقدّم النبي ﷺ كما عرفه أصحابه: إنسانًا رحيمًا، لا أداة في يد السلطة. السيرة النبوية ليست حكايات دم وقتل، بل قصة رحمة وعدل وتسامح. ختاما رواية مذبحة بني قريظة وغيرها من القصص العنيفة ظهرت في سياقات سياسية لاحقة، ولا تعكس جوهر النبوة. إعادة النظر فيها ليست "ترفًا فكريًا"، بل واجبًا أخلاقيًا، حتى لا نورث أبناءنا صورة مشوهة عن نبي جاء رحمة للعالمين. *صفحته على الفيسبوك


إيطاليا تلغراف
منذ 3 أيام
- إيطاليا تلغراف
أبعاد النصر والتمكين في حروب أبي بكر الصديق ضد المرتدين
إيطاليا تلغراف بقلم الدكتور علي محمد الصلابي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين: القسم الأول: ارتدوا عن الدين ونابذوا الملّة، وهذه الفرقة طائفتان: 1- الطائفة الأولى: فمنهم التارك للدين بالمرّة، وهم بنو طيئ، وأسد، ومن تبعهم من غطفان وعبس وذبيان وفزارة اتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي مدعي النبوة في بنى أسد، وبنو حنيفة الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين اتبعوا الأسود العنسى، وكثير غيرهم، وهؤلاء ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملّة، واتبعوا مُدّعى النبوة في الجزيرة، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وعاد إلى ما كان عليه من الجاهلية. 2- الطائفة الثانية: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها، وهم بعض بنى تميم، الذين يرأسهم مالك بن نويرة، وبنو هوازن وغيرهم. وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر رضي الله عنه ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة (1). وخاض الصديق معارك طاحنة في الجزيرة العربية، وهزم جيوش المرتدين ونتج عن تلك المعارك نتائج مهمة من أهمها: 1- ظهرت أهمية القاعدة الصلبة في المجتمع الإسلامي، وأثبتت حروب الردة أن هناك معادن أصيلة قوية، تشكلت منها القاعدة الصلبة في المدينة والتي لم تكن رخوة أو هشة، أو ساذجة، بل كانت قوية واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عودها، وتستوعب أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، ولهذا أزاحت كل العراقيل والصعاب التي وضعت أمامها، لقد التفت هذه القاعدة حول الصديق رضي الله عنه، فقادهم لحفظ الدولة، وتقوية دعائمها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهذه القاعدة أثر في الحشد الذي تم لمواجهة أحداث الردة، وكان لهذه القاعدة دور في لَمَّ شمل الناس من حولهم … وعلى عاتقهم تم حفظ كيان الأمة وحرصوا على بقائها وتنميتها، وضحوا بالمهج والأموال، ولعل موقفهم في حروب الردة وخصوصًا في حرب ردة اليمامة وهي أعظمها بيَّن أهميتها في بقاء الدولة واستمرارها حيث تميز المهاجرون والأنصار بإيمانهم وثباتهم وصبرهم، وكان القتل في المهاجرين والأنصار قد استحرّ، وأكرمهم الله بالنصر على عدوهم بسبب صدقهم وإخلاصهم وثباتهم. 2- لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلابة التوحيد وحقيقة التصور السليم، والقيادة الحكيمة، وتركت لنا تلك الأحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم، ومعاملة الخارجين عن دولة الإسلام العظيمة. 3- استطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق رضي الله عنه أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض بواسطة رجال عرّكتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بنى الإنسان حيثما كان. 4- أصبحت الجزيرة العربية تحت نظام واحد وقيادة واحدة بعد تاريخ طويل من التمزق والفرقة والشتات بسبب الصراع القبلي والأطماع الفردية، والنزعات العشائرية وتحقق مفهوم الأمة على أسس عقدية وفكرية ومنهجية ربانية، وانصهرت القبائل في كيان الأمة ذات الفكرة الواحدة، والقيادة الواحدة، وأصبحت جزءًا من كيانها المتماسك. 5- كانت حروب الردة إعدادًا ربانيًا للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية، وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقًا والتفاني عظيمًا (2). 6- وضع الصَّديق التقسيم الإداري بعد انتصاره في حروب الردة لدولة الإسلام على نظام الولايات وهي: مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد، والطائف أميرها عثمان بن أبي العاص، وصنعاء أميرها المهاجر بن أبي أمية، وحضر موت ووليها زياد بن لبيد، وخولان ووليها يعلى بن أمية، وزبيد ورقع ووليهما أبو موسى الأشعري، أما جند اليمن، فأميرها معاذ بن جبل، ونجران ووليها جرير بن عبد الله، وجرش ووليها عبد الله بن نور، والبحرين ووليها العلاء بن الحضرمي, وعمان ووليها حذيفة القلعانى، واليمامة ووليها سليط بن قيس (3). المصادر والمراجع: ( ) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص (220). (2) انظر: تاريخ صدر الإسلام، عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع، ص141-145. (3) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، محمد الخضري، ص59، 60. (4) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 85-93. إيطاليا تلغراف