
الاستثمار بدل العقوبات.. هل يمكن أن يشكل برنامج إيران النووي فرصة لأميركا؟
ظهرت فكرة جريئة أثناء المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية الجارية: ماذا لو لم تحاول الولايات المتحدة احتواء البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل ساعدت في بنائه أيضا؟
وقالت الكاتبة فينا علي خان -في تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية- إن هذه الفكرة تستهدف مباشرة غريزة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عقد الصفقات، والتي تجلت بوضوح خلال زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط.
وفي مقال رأي كتبه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بصحيفة واشنطن بوست في أبريل/نيسان الماضي قال إن اتفاقا نوويا جديدا قد يفتح الباب أمام الشركات الأميركية للاستفادة مما وصفها بفرصة اقتصادية بقيمة "تريليون دولار" في بلد يضم أحد أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم.
كما نشر عراقجي نص خطاب كان قد أعده لإلقائه في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (قبل أن تلغى الفعالية) استعرض فيه خطط إيران لبناء ما لا يقل عن 19 مفاعلا نوويا جديدا، وطرح فكرة الاستثمار الأميركي، مشيرا إلى أن السوق المحلية الإيرانية قد تسهم في "إنعاش الصناعة النووية المتعثرة في الولايات المتحدة".
هذا العرض لم يكن مجرد غصن زيتون دبلوماسي، بل كان نداء محسوبا يتماشى مع أسلوب ترامب التفاوضي المفضل القائم على المعاملات والمخاطرة العالية والعناوين اللافتة.
وقد قدّم العرض فرصة لواشنطن لخلق وظائف وآليات تحقق صارمة مقابل تخفيف العقوبات ومنح طهران حق الوصول إلى التكنولوجيا، في محاولة من إيران لتحويل المواجهة الممتدة منذ عقود إلى تعاون اقتصادي متبادل.
أصل اقتصادي
وأشارت الكاتبة إلى أن الرسالة الأساسية التي وجهها عراقجي إلى ترامب كانت إستراتيجية، حيث أعاد تأطير البرنامج النووي الإيراني ليس كتهديد أمني، بل كأصل اقتصادي، فترامب يستجيب للأرقام الكبيرة والصفقات الكبرى، والفكرة هي أنه إذا وُعِد بوظائف للأميركيين واتفاق يترك إرثا تاريخيا فقد يكون أكثر قبولا لتنفيذ هذه الصفقة.
لكن هذا الاقتراح -حسب الكاتبة- ليس حديث العهد تماما، إذ سبق أن أجريت مناقشات مماثلة خلال مفاوضات الاتفاق النووي في عام 2015 (المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة) الذي انسحب منه ترامب عام 2018.
ومن خلال التلويح مجددا بفرصة اقتصادية مرتبطة بالاستثمار في قطاعها النووي تختبر طهران مدى قدرة الإدارة الأميركية على تحمّل المخاطر السياسية في وقت يعيد فيه ترامب صياغة قواعد الدبلوماسية، على أمل أن ينظر بخلاف أسلافه إلى المحادثات النووية من زاوية المكاسب المتبادلة.
ومن منظور تاريخي، ليست هذه الفكرة مستبعدة تماما، ذلك أن الصناعة النووية الإيرانية نشأت بدعم أميركي، ففي عام 1957 وتحت مظلة برنامج الرئيس دوايت آيزنهاور"الذرة من أجل السلام" -وهي مبادرة ضمن سياق الحرب الباردة تهدف إلى تعزيز الاستخدام السلمي للطاقة النووية في الدول الحليفة- ساعدت الولايات المتحدة طهران على إطلاق أول برنامج نووي لها.
وبعد عقد من الزمن أنشأت واشنطن مفاعلا بحثيا بقدرة 5 ميغاواطات داخل حرم جامعة طهران لا يزال يعمل حتى اليوم، وقد زودت إيران بيورانيوم عالي التخصيب لتشغيله.
تخوف روسيا والصين
جزئيا، يرجع الدافع الحالي لإيران نحو التعاون الاقتصادي مع الغرب إلى إحباطها من محدودية المكاسب التي حققتها عبر "التوجه شرقا"، فقد علقت طهران آمالا كبيرة على تعزيز علاقاتها المتعمقة مع الصين وروسيا لدعم قدرتها على مواجهة العقوبات الأميركية، وتطوير ما تسميه "اقتصاد المقاومة" المبني على الاعتماد الذاتي.
لكن هذه الرؤية لم تتحقق كما كان مأمولا، إذ لا تزال العقوبات تخنق التجارة وتثني المستثمرين وتعرقل مشاريع الشراكة.
وتعتبر روسيا الشريك النووي الأكثر استقرارا لإيران، حيث توفر شركة "روس آتوم" الوقود والدعم الفني لمحطة بوشهر، وتعمل على بناء وحدتين إضافيتين تحت إشراف دولي، لكن الشركة الروسية تتوخى الحذر في توسيع التعاون النووي لتفادي العقوبات الأميركية الثانوية التي قد تهدد مشاريعها العالمية.
وأشارت الكاتبة إلى أن الصين قلصت تعاونها النووي مع إيران -خصوصا في مجالات التخصيب وإعادة المعالجة- نتيجة الضغوط الأميركية، مما دفع شركات مثل المؤسسة الوطنية النووية الصينية إلى التردد في التوسع.
وحسب ما يوضحه عباس عراقجي، فإن هدف إيران لا يقتصر على جذب استثمارات ضخمة فورا، بل يشمل رفع العقوبات واكتساب المعرفة والاندماج مجددا في الاقتصاد العالمي.
ويعتقد صانعو القرار الإيرانيون أن دخول الشركات الأميركية السوق النووية الإيرانية سيحفز الأوروبيين والآسيويين على اللحاق بها.
انتقادات أميركية
لكن هذه الرؤية تواجه انتقادات داخلية من المتشددين وبعض الوسطية الذين يرون في الانفتاح على الغرب خيارا ساذجا في ظل العقوبات المستمرة والفساد وغياب بيئة تنظيمية مستقرة.
ويرى بعض المسؤولين الإيرانيين أن عهد ترامب يوفر فرصة نادرة يجب استغلالها، ولا سيما مع وجود كبير مفاوضيه ستيف ويتكوف الذي يفتقر إلى خبرة سابقيه.
ويعتقد عباس عراقجي أن عروضا بعقود بمليارات الدولارات قد تغري الفريق الأميركي.
وقالت الكاتبة إن طهران تعتبر برنامجها النووي اليوم أداة ردع حيوية في ظل تراجع " محور المقاومة"، في حين يعارض الجمهوريون -بمن فيهم ترامب- استمرار تخصيب اليورانيوم.
لكن محللين مثل ريتشارد نيفيو يرون أن إيران تستغل قلة خبرة الفريق الأميركي وتغريه بصفقة "براقة" قد تجذب ترامب رغم المخاطر التي تنطوي عليها.
من جهتها، لم تحدد إيران التنازلات المحتملة بشأن أجهزة الطرد المركزي في أي اتفاق نووي، ومن غير المرجح أن تسمح بدخول خبراء أميركيين إلى منشآت حساسة مثل منشأة نطنز النووية بسبب مخاوف التجسس، وترفض تفكيك بنيتها التحتية للتخصيب، حيث تحتفظ بعدد كافٍ من أجهزة الطرد المركزي لإنتاج مواد انشطارية عسكرية.
وتعتمد طهران في طرحها على خلق زخم سياسي عبر التعاون التجاري لمنع انسحاب واشنطن من الاتفاق.
إعلان
ووفقا لنيفيو، فإن إيران مستعدة لشراكة مالية، لكنها ترفض شراكة تقنية تتيح دخول الأميركيين إلى منشآتها النووية.
وأضافت الكاتبة أن الجانب الأميركي يواجه عقبات ضخمة أمام أي محاولة تعاون اقتصادي، أبرزها عزل النظام المصرفي الإيراني بسبب إدراجه في القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي، إضافة إلى سوء الإدارة والفساد والعقوبات المتراكمة، مما يجعل الشركات الأجنبية تواجه مخاطر قانونية ومخاطر سمعة وعقوبات أميركية مستمرة.
كما يواجه البيت الأبيض معارضة قوية من الكونغرس الجمهوري الذي يرفض شرعية التخصيب النووي الإيراني ويدين فكرة دعم منشآت مثل نطنز بأموال أميركية، مما قد يقضي على أي مقترح في مهده.
في المقابل، هناك مقترح أكثر توازنا قدمه دبلوماسيون إيرانيون لإنشاء تحالف إقليمي لتخصيب اليورانيوم يشمل السعودية ودولا خليجية أخرى، لكن الرياض تفضل تطوير برنامجها النووي بدعم أميركي مباشر.
ويشير الخبير الاقتصادي إسفنديار باتمانغليج إلى أن البنية التحتية الإيرانية قد تؤهلها للمساهمة في سلسلة إمداد نووية خليجية مستقبلية تغذي مفاعلات المنطقة، بما فيها السعودية، لكن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية مشتركة.
وتعي طهران ضعف فرص دخول الشركات الأميركية إلى برنامجها النووي، لكنها تأمل أن يعيد مجرد طرح الفكرة تحريك الحوار ويجذب اهتمام ترامب عبر المصالح الاقتصادية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 13 دقائق
- الجزيرة
الجزيرة نت تحصل على رسالة لشقيق شهيد بالقسام يطلب الانضمام لقوات النخبة
كشف مصدر في كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) للجزيرة نت عن رسالة خطية من شقيق أحد شهداء الكتائب. ووفقا للرسالة المؤرخة في 16 مايو/أيار الجاري فقد طلب شقيق الشهيد من أحد كتائب النخبة الالتحاق بها لمواصلة مشوار أخية الشهيد محمد. وتمنى شقيق الشهيد على قيادة سرية النخبة أن يتم إعطائه سلاح أخيه الذي تم تسليمه للكتيبة بعد استشهاده ليستكمل درب شقيقه الشهيد. وتدلل الرسالة أن كتائب القسام لا زالت تجند مقاتلين خلال العدوان الإسرائيلي، وهو ما أشار له الناطق باسم الكتائب أبو عبيدة في خطاب له في شهر يوليو/ حزيران 2024، فقد أكد حينها "تجنيد آلاف من المقاتلين الجدد خلال الحرب". يشار إلى أن صحيفة هآرتس الإسرائيلية نقلت عن مصادر في جيش الاحتلال الإسرائيلي قولها إن التقديرات لديهم تشير إلى أن حركة حماس لديها 40 ألف مقاتل في قطاع غزة.


الجزيرة
منذ 25 دقائق
- الجزيرة
خبير عسكري: المقاومة حولت "نقطة ضعفها" إلى قوة بـ750 كيلومترا من الأنفاق
أكد الخبير العسكري والإستراتيجي، العميد إلياس حنا، أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تحويل افتقادها للعمق الجغرافي الأفقي إلى قوة حقيقية من خلال إبداع الأنفاق بـ"العمق الجغرافي العمودي" تحت الأرض. وأوضح الخبير العسكري -في تحليله للمشهد العسكري- أن هذا التطوير الإستراتيجي يفسر عدم قدرة إسرائيل على حسم المعركة رغم مرور أشهر كثيرة على بدء العدوان. ولفت حنا إلى أن المقاومة في بداياتها كانت تفتقد إلى العمق الجغرافي الأفقي، ومن هنا بدلت هندسة القطاع وخلقت ما يسمى بالعمق الجغرافي العمودي تحت الأرض. وبحسب رؤيته، فإن هناك حوالي 750 كيلومترا من الأنفاق حتى الآن، حسب المعلومات من المصادر العامة، لافتًا إلى أن إسرائيل لم تتمكن من تدمير إلا 30% منها. وأشار الخبير العسكري إلى أن هذا الواقع يفسر بجلاء عدم قدرة الاحتلال على إنهاء الحرب بسرعة، رغم تفوقه التكنولوجي والعددي. في السياق ذاته، أكد حنا على أن المقاومة قادرة على التأقلم أسرع من قدرة جيش الاحتلال على التطوير، موضحًا أنه في كل مرحلة من مراحل الحرب، وبسبب تبدل الهندسة المدنية وتبدل ساحة الحرب، تُظهر المقاومة دائمًا قدرتها على التأقلم. وقدم الخبير مثالًا عمليًا على هذا التأقلم قائلا "بملاحظة الكمين الهندسي في الشجاعية، تم استعمال قذيفة غير منفجرة، ثم قذيفة ثاقبة، وبالتالي تفجير كبير جدا، وهذا ما يؤكد على الإبداع التكتيكي للمقاومة في استغلال الظروف المتاحة". وكانت سرايا القدس -الجناح العسكري ل حركة الجهاد الإسلامي – بثت اليوم الأحد مشاهد فيديو توثق كمينا هندسيا استهدف آليات الاحتلال المتوغلة في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة بتفجير متزامن لقنبلة من مخلفات الاحتلال وعبوة ناسفة من نوع "ثاقب". حرب استنزاف ومن ناحية أخرى، لفت حنا إلى أن إسرائيل دخلت فعليًا في حرب استنزاف، موضحًا أن الاستنزاف يحدث عندما يبدو العدو عير قادر على القتال أو لديه مشاكل في تعويض جنوده. وأضاف أن هذا الأمر بات ملاحظًا داخل المجتمع الإسرائيلي، خاصة في عدم القدرة على تجنيد الحريديم ، والتذمر وتوقيع العرائض من قبل الاحتياط. وأوضح أن رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير كان قد تحدث عندما تسلّم منصبه وقال إنه يحتاج 3 أشهر للعملية العسكرية برًّا و9 أشهر لتنظيف المنطقة بالمفهوم الإسرائيلي والانتهاء من المقاومة، لكن حنا يؤكد أن الواقع أثبت عكس هذه التوقعات. وعلى صعيد آخر، انتقد حنا الإستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع المدنيين، موضحًا أن الهدف دائمًا هو منع المقاومة من المساحة، و"لكن في الوقت نفسه هي عملية تهجير للغزيين إلى مناطق معينة تم الحديث عنها على أنها فقاعات إنسانية". وأضاف أن إسرائيل "عسكرت" المياه والغذاء والدواء، وحتى أمن المواطن الغزي، مشيرًا إلى أن الهدف هو تهجير الغزيين من مكان إلى آخر وربطهم بمكان معين لمنع عودتهم إلى مناطقهم الأصلية إن كان في بيت لاهيا ، أو الشجاعية ، أو جباليا. وأكد الخبير على أن الطريق الآخر كي تكون الحرب قصيرة هو عبر السياسة، وهذا هو البعد الذي ينقص فعلًا الطرح الإسرائيلي، منتقدًا رهان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على النصر العسكري دون أفق سياسي واضح.


الجزيرة
منذ 25 دقائق
- الجزيرة
نزاع الكونغو يتطلب نموذج سلام جديد
أدّى تجدّد النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى جذب اهتمام دولي متزايد، وذلك عقب استيلاء حركة M23 السريع على مدينتي غوما وبوكافو في أواخر يناير/ كانون الثاني 2025. وردًا على ذلك، دعا فاعلون دوليون إلى وقف فوري لإطلاق النار وإجراء مفاوضات مباشرة. ومن اللافت أن كلًا من قطر والولايات المتحدة برزتا كوسيطين ناشئين. ويوفّر هذا الزخم الجديد فرصة نادرة لإعادة النظر في أوجه القصور التي شابت جهود الوساطة السابقة – لا سيما الإخفاقات المتعلقة ببرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR)، وتقاسم الثروات، وبناء التوافق الإقليمي. يجب أن تُعطى هذه العناصر الأولوية في أي مبادرة دبلوماسية جديدة من أجل التوصل إلى تسوية دائمة وتحقيق استقرار إقليمي طويل الأمد. ولتحقيق سلام مستدام ودائم في شرق الكونغو الديمقراطية، لا بدّ من معالجة الأسباب الجذرية للصراع. فالثروات الطبيعية الهائلة في المنطقة – ولا سيما المعادن الأرضية النادرة – جذبت فاعلين دوليين وإقليميين ومحليين يتنافسون على السيطرة، مما أسهم في زعزعة الاستقرار. ويُضاف إلى ذلك ضعف قدرة الحكومة المركزية الكونغولية على إدارة المقاطعات الشرقية، ما أتاح انتشار جماعات مسلحة ذات ولاءات متباينة. كما تؤجج التوترات العرقية الأزمة، خصوصًا منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، التي أعقبتها موجة من اللاجئين الهوتو وتشكيل مليشيات معادية، مما زاد من انعدام الأمن والنزاعات العابرة للحدود. ورغم أهمية الديناميات الإقليمية، بما في ذلك تورّط رواندا، فإن حصر أسباب الصراع في رواندا وحدها يُعد تبسيطًا مخلًا. إذ تخفي هذه الروايات التحديات الهيكلية المتجذرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لا سيما تهميش مجتمعات التوتسي الكونغولية. ولتحقيق سلام دائم، ينبغي معالجة هذه الديناميات الداخلية من خلال ضمان إدماج حقيقي للتوتسي الكونغوليين ضمن الإطار السياسي الوطني، ومعالجة مظالمهم بآليات عادلة ومنصفة. ورغم الانخراط الدولي المتكرر، فإن جهود الوساطة السابقة في شرق الكونغو – من اتفاق بريتوريا إلى اتفاقيات السلام عام 2009 – فشلت باستمرار في تحقيق سلام دائم. فقد أَوهَنت نقاط الضعف البنيوية مصداقية تلك المبادرات وفاعليتها. ومن أبرز أوجه القصور غياب آليات تنفيذ فعّالة وموثوقة. فقد اعتمدت معظم الاتفاقيات على الامتثال الطوعي، وافتقرت إلى أطر مراقبة مستقلة ونزيهة قادرة على التحقق من التنفيذ وردع الانتهاكات. وفي الحالات التي وُجدت فيها آليات للمراقبة، كانت تعاني من نقص الموارد، وسوء التنسيق، أو الشكوك حول انحيازها. وقد زاد من تعقيد الأمور التباين في اهتمام المجتمع الدولي ومحدودية الإرادة السياسية لممارسة ضغط مستدام. ونتيجة لغياب المساءلة الفعلية، انتهكت الجماعات المسلحة والنخب السياسية تلك الاتفاقيات، مرارًا دون عقاب، مما أدى إلى استمرار دورة الإفلات من العقاب وتجدد العنف. من الإخفاقات الأخرى، الطابع الإقصائي لعمليات السلام. إذ سيطر على المفاوضات غالبًا النخب السياسية والعسكرية، بينما تم تهميش المجتمع المدني والمجتمعات المحلية والنساء، رغم كونهم أطرافًا أساسية لبناء سلام مستدام. ونتيجة لذلك، لم تعكس الاتفاقيات الواقع الميداني، ولم تنلْ ثقة السكان المحليين. إضافة إلى ذلك، تجاهلت تلك الجهود إلى حد كبير الأسباب الجذرية للنزاع، مثل النزاعات على الأراضي، والتهميش العرقي، وفشل الحوكمة، والصراع على الموارد الطبيعية. فقد ركز الوسطاء على وقف إطلاق النار المؤقت وترتيبات تقاسم السلطة بين النخب، وتجاهلوا القضايا الهيكلية العميقة التي تغذي عدم الاستقرار. كما أُعدّت برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) بشكل غير كافٍ ونُفذت بصورة سيئة. وقد تُرك العديد من المقاتلين السابقين دون سبل عيش مستدامة، مما هيأ بيئة خصبة لإعادة تجنيدهم في الجماعات المسلحة وعودة العنف. وكانت هذه الإخفاقات أكثر تعقيدًا؛ بسبب غياب الإرادة السياسية داخل الحكومة الكونغولية. إذ استخدمت إدارات متعاقبة محادثات السلام أحيانًا كوسيلة لترسيخ سلطتها، بدلًا من الدفع نحو إصلاح حقيقي، مما قوّض التنفيذ وأضعف ثقة الجمهور. وقد سعت جهود أحدث، مثل عمليتَي لواندا ونيروبي، إلى إحياء الحوار السياسي وتخفيف التوترات. لكنها بدورها عانت من ضعف في الشرعية. إذ يرى منتقدون أن هاتين المبادرتين اتسمتا بالطابع الفوقي وركزتا على الجانب السياسي، مع تجاهل أصوات المتضرّرين من النزاع. وقد اعتبر المجتمع المدني والمجتمعات المهمشة هذه الحوارات سطحية ومنفصلة عن واقع الناس. كما فشلت هذه العمليات في معالجة المحركات الأساسية للعنف، مثل: النزوح، والنزاعات على ملكية الأراضي، وسوء الحوكمة، وإعادة دمج المقاتلين السابقين. وفي غياب آليات مشاركة محلية موثوقة أو إصلاح هيكلي حقيقي، بدا أن عمليتي لواندا ونيروبي مجرد عروض دبلوماسية أكثر من كونها مسارات جادة نحو السلام. وعند النظر إلى هذه الإخفاقات المتكررة مجتمعة، يمكن فهم سبب فشل الوساطات الدولية في الكونغو الديمقراطية إلى حد كبير. ولكي تنجح أي مبادرة جديدة – بما في ذلك تلك التي تقودها قطر والولايات المتحدة – فلا بد أن تتجاوز هذه القيود، وأن تتبنى نهجًا أكثر شمولًا وخضوعًا للمساءلة ومرتبطًا بالسياق المحلي. وتمثل الجولة الأخيرة من الوساطة الدولية – بقيادة الولايات المتحدة وقطر، وبمشاركة جهود أفريقية بقيادة مجموعة شرق أفريقيا (EAC) ومجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية (SADC) برعاية الرئيس التوغولي فور غناسينغبي – فرصة متجددة لتحقيق تقدم حقيقي. بيدَ أن النجاح يتوقف على قدرة هذه الجهود على تجاوز الإخفاقات الهيكلية التي أفسدت محاولات الوساطة السابقة. ولرسم مسار أكثر فاعلية واستدامة نحو السلام، ينبغي أن تسترشد الجهود القطرية والأميركية بثلاثة مبادئ أساسية مستخلصة من تجارب الماضي: فقد كانت عمليات السلام السابقة إلى حد بعيد نخبوية، شاركت فيها الحكومات والجماعات المسلحة، بينما أُقصي المجتمع المدني والنساء والمجتمعات المتأثرة مباشرة بالعنف. وأدّى هذا الإقصاء إلى ضعف الشرعية وعدم معالجة مظالم المتضررين. يجب أن تشمل الوساطة الفاعلين المحليين لبناء تحالف عريض من أجل السلام، ولضمان أن تعكس نتائج التفاوض واقع المجتمعات في شرق الكونغو. ثانيًا: معالجة جذور النزاع لا أعراضه فقط انصبّت الجهود السابقة على وقف إطلاق النار وتقاسم السلطة، من دون التصدي للعوامل البنيوية المسببة لعدم الاستقرار. ويتوجب على الوساطة الفاعلة أن تتعامل مع النزاعات المتعلقة بالأراضي، والتهميش العرقي، وفشل الحوكمة، وضرورة إدماج المقاتلين السابقين اقتصاديًا واجتماعيًا. ومن دون معالجة هذه القضايا الجوهرية، ستظل أي اتفاقات هشّة وقصيرة الأجل. أحد أضعف أوجه الاتفاقات السابقة كان غياب أدوات تنفيذ قوية. فقد افتقرت إلى هيئات رقابية مستقلة، ومعايير واضحة، وعقوبات صريحة في حال وقوع انتهاكات. ويتعين على المجتمع الدولي، بما في ذلك قطر والولايات المتحدة، أن يلتزم بممارسة ضغوط دبلوماسية مستمرة، ودعم آليات تضمن الامتثال، وتتصدى بحزم لأي خروقات. ومن دون ذلك، يظل خطر عودة العنف قائمًا. ومن خلال اعتماد هذه المبادئ، تزداد فرص كسر حلقة فشل مبادرات السلام، وبناء أساس لحل أكثر عدلًا واستدامة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. لقد وصلت الأزمة مرة أخرى إلى لحظة مفصلية. ويُعد انخراط فاعلين جدد مثل قطر والولايات المتحدة، بالتعاون مع آليات إقليمية أفريقية، فرصة نادرة لإعادة صياغة نهج بناء السلام. ومن خلال التعلم من إخفاقات الماضي، والالتزام بإطار وساطة شامل، يعالج الأسباب الجذرية، ويضمن التنفيذ، يمكن لتلك الجهود أن تتجاوز الحلول المؤقتة، وتضع الأساس لسلام حقيقي: سلام يعبّر أخيرًا عن تطلعات ومطالب الشعب الكونغولي.