
أزمة سكن متصاعدة في إسبانيا ومطالب بتدخل حكومي
مدريد-"الوضع تدهور كثيرا" جملة تختصر تجربة ليون فاسكيز الذي يسكن العاصمة الإسبانية مدريد منذ 10 سنوات، تنقل خلالها للعيش بين 5 مناطق مختلفة، والسبب الرئيسي كان ارتفاع أسعار الإيجار، أو كما يقال بالتعبير الإسباني "الأسعار تلامس الغيوم".
أول شقة سكنها ليون (27 عاما) كانت في منطقة لافابيس المتواضعة وسط العاصمة، بمساحة 32 مترا مربعا، بنافذة واحدة، وغرفتين بدون نوافذ.
"لم يكن هناك ضوء طبيعي، وكانت الرطوبة مرتفعة جدًا، كنت أدفع حينها 800 يورو شهريًا، وفي آخر مرة تحققتُ فيها، وجدتُ أن سعر تلك الشقة نفسها يقارب ألفي يورو"، يقول للجزيرة نت.
انتقل ليون لضواحي المدينة، واستأجر بدل الشقة غرفة ضمن سكن مع أصدقائه، وهو نظام معيشة بات مألوفا جدا هنا، "فمتوسط دخل الشباب لا يكفي لتغطية تكاليف المعيشة بشكل مستقل، لذا نرضى بظروفٍ سيئة. في البداية كان سعر الغرفة 250 يورو، ثم أصبح 350، ثم 450، والآن يتجاوز 600 يورو شهريا"، يضيف ليون.
وضمن حديثه للجزيرة نت، ذكر ليون قصة زميلته في الجامعة إيزيس، التي طردت من منزلها هي وجدها، بسبب أنها لم تتمكن من دفع إيجار السكن، لكنها في المقابل لم تجد بديلا في مدريد، فاضطرت لمغادرة المدينة.
مضاربات عقارية
يؤكد ليون الذي يعمل صحفيا، وتعمق في البحث في مشكلة الإيجار، أن الظروف المعيشة في مدريد قد لا تختلف بالضرورة عن بعض العواصم الأوروبية الأخرى، لكن إسبانيا تمتلك عوامل إضافية أسهمت بتعزيز مشكلة عدم توفر بيوت كافية تلبي حاجة الطلب المتزايدة، وهو ما يؤدي لارتفاع الأسعار بصورة مستمرة.
وتمثل قضية المضاربات العقارية -بحسب ليون- أحد أبرز الأسباب التي فاقمت مشكلة السكن، حيث تسيطر صناديق استثمارية على بعض العقارات القديمة أو المتعثرة التي تواجه صعوبة بالبيع أو التأجير، لتقوم بدورها برفع الأسعار، مما يضطر بعض سكانها لإخلاء العقار.
وتحت عنوان "الجزارون الذين يكسبون المال من بيع المباني" نشر موقع "لافابيس"، الذي ينشر أخبارا متعلقة بالحي نفسه الذي سكنه ليون من قبل، أن إحدى الشركات العقارية اشترت عقارا في الحي في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مقابل 1.8 مليون يورو، وبعد 3 أيام فقط تم بيعه بـ2.65 مليون يورو.
ويؤكد ليون أن الحكومة الإسبانية قدمت بعض الحلول، كصناديق دعم الفئات الشابة، لكن الشروط التي تفرضها هذه الصناديق لا يتمكن الشباب من تحقيقها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة حاليا.
كذلك يؤكد "اتحاد المستأجرين" في مدريد، أن جميع القوانين الحالية تصب في صالح أصحاب العقارات فقط.
التأجير بالأرقام
وفقًا لبيانات وزارة الإسكان الإسبانية، بلغ متوسط سعر استئجار المتر المربع في إسبانيا في نهاية عام 2024 نحو 12.18 يورو، مقارنة بـ 11.20 يورو في العام السابق، وهو ما يمثل زيادة سنوية بنسبة 9.53%، مع بقاء مستويات الأجور شبه مستقرة.
وبالنظر إلى أسعار الإيجارات، بلغ متوسط الإيجار الشهري في إسبانيا في الربع الأول من 2025 ما مقداره 1080 يورو، بحسب مؤشر Fotocasa، بينما لا يتعدى متوسط الدخل الشهري للفرد (بعد خصم قيمة الضرائب) 1750 يورو، وهذا يعني أن المواطن الإسباني يُضطر لإنفاق أكثر من 60% من دخله فقط على السكن.
ففي مدريد ارتفعت الإيجارات لتبلغ 23.4 يورو لكل متر مربع.
وفي برشلونة بلغت 20.7 يورو لكل متر مربع، متفوقتان بذلك على عواصم أوروبية كبرى.
أما في فالنسيا شرق إسبانيا، فقد تجاوز متوسط الإيجار الشهري ما قيمته 1600 يورو للمنزل في نهاية العام الماضي، بينما لم تتجاوز قيمة الإيجار 938 يورو قبل 5 سنوات، بحسب ما وضحت حركة "الاتحاد السكني في فالنسيا" للجزيرة نت.
ويؤكد تقرير موقع 'إيدياليستا'، وهو أحد المنصات المعتمدة للبحث عن أماكن للسكن في إسبانيا، أن الطلب المرتفع ونقص المعروض يفاقمان الأزمة، حيث يتم تأجير 14% من الوحدات خلال أقل من 24 ساعة من عرضها.
وما يزيد الأزمة تعقيدا، التوسع المستمر في الإيجارات السياحية التي تستنزف السوق السكني، إذ تشير تقديرات إلى أن أكثر من 400 ألف وحدة سكنية خُصصت لهذا الغرض، مما رفع الأسعار في مدن مثل ملقة جنوب البلاد بنسبة تصل إلى 31%.
حركات احتجاجية
دفعت الحالات المتشابهة بين العديد من المواطنين الإسبان إلى الخروج في مظاهرات احتجاجية في كبرى المدن الإسبانية، كان آخرها خلال أبريل/نيسان الماضي في أكثر من 40 مدينة، طالبوا فيها السلطات الإسبانية بالتدخل وإيجاد حل للمشكلة، بينما يستعد سكان بعض المدن -ومنها مدريد- للخروج في مظاهرات أخرى في مايو/أيار الحالي.
وينقل بابلو باربيرو الناطق باسم حركة "الاتحاد السكني في فالنسيا" الشعبية ذات التوجه اليساري، أن ظروف السكن الحالية في إسبانيا، تؤثر على استقلالية الشباب، وتدفع الطبقة العاملة للعيش في مناطق محددة خارج المدينة، كما تضطر بعض العائلات للعيش بنظام مشاركة الغرف لعدم قدرتها على استئجار منزل مستقل.
وتؤكد الحركة في حديثها للجزيرة نت أن القضية تبرز بشكل واضح في المدن ذات الجذب السياحي، حيث تخضع المساكن لأهداف استثمارية ويسعى ملاكها لجني أرباح طائلة، فيقومون بتحويل المنازل التي كانت مخصصة للإيجار العائلي إلى الإيجار السياحي.
ورغم أن الحكومة الإسبانية أقرت قانون "الحق في السكن" عام 2023 ووصفته حينها بـ"التاريخي"، بهدف تنظيم الإيجارات وحظر عمليات الإخلاء، فإن الحركة تؤكد أنه لم يتم تطبيق القانون بشكل كاف منذ ذلك الحين، حيث لا تزال عمليات الإخلاء بالقوة مستمرة وفي مستويات مرتفعة.
وترى الحركة أن الحل يكمن بتأسيس نقابات إسكان مستقلة، وتشكيل مجموعات تسعى للضغط على أصحاب العقارات والمشرعين، للحد من تنفيذ عمليات الإخلاء بالقوة، وتوفير سكن كريم لمن لا يستطيع ذلك.
وهو ما يؤكده أيضا "اتحاد المستأجرين" في مدريد، الذي تأسس كرد فعل على "الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها المستأجرون" حسب وصف القائمين عليه، حيث يرون أن السبيل الوحيد المتوفر حاليا هو إجراء مفاوضات ودية مع أصحاب العقارات الذين يضغطون على المستأجرين للإخلاء، لكنهم في الوقت نفسه يعملون على تفعيل وسائل أخرى كرفع الدعاوى أو تنفيذ إضرابات.
وفي حديثهم للجزيرة نت أكد المتحدثون باسم الاتحاد أنهم لم يتلقوا أي دعم من أي جهة سياسية، وأنهم فقدوا الأمل بالحصول على حل من خلال الحكومات، لكنهم يسعون بجهود أهلية جماعية لتحقيق هدفهم بالقضاء على ظاهرة التجارة بالإسكان، حسب قولهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
تجربة رونالدو المخيبة مع بلد الوليد.. هبط 3 مرات للدرجة الثانية وباع حصته بـ50 مليون يورو
تخلّى البرازيلي رونالدو نازاريو عن حصته في ملكية نادي بلد الوليد الذي هبط نهاية هذا الموسم إلى دوري الدرجة الثانية في إسبانيا. ونشر النادي بيانا عبر موقعه الإلكتروني الرسمي قال فيه إن أسهم رونالدو انتقلت إلى مجموعة استثمار جديدة. وقال البيان "يُعلن رئيس مجلس الإدارة والمساهم الأكبر في نادي ريال بلد الوليد لكرة القدم رونالدو لويس نازاريو دي ليما عن توقيع اتفاق لنقل الحصة الأكبر من أسهم النادي إلى مجموعة استثمار أميركية مدعومة ماليا من صندوق أوروبي". وأضاف "تخضع العملية حاليا لموافقة المجلس الأعلى للرياضة وفقا للأنظمة المعمول بها، وسيتم خلال الأيام المقبلة تقديم مزيد من التفاصيل حول المشروع الجديد الذي سيُشكّل ملامح المرحلة القادمة". وختم البيان "نتقدّم بجزيل الشكر للجماهير ووسائل الإعلام وجميع الأطراف المعنية على تفهّمهم ودعمهم خلال هذا المسار". في الأثناء كشفت صحيفة "ماركا" الإسبانية عن بعض التفاصيل المالية المتعلقة بصفقة انتقال ملكية الأسهم إلى صندوق استثماري أميركي يملكه رجل الأعمال المكسيكي غابرييل سولاريس. إعلان وأشارت إلى أن رونالدو باع أسهمه في النادي مقابل 50 مليون يورو لصندوق الاستثمار (Ignite) الذي يعمل في عدة مجالات أبرزها الرياضة، والترفيه، والابتكار والتكنولوجيا. ويضم الصندوق أكثر من 10 مستثمرين من أصحاب السمعة المالية الكبيرة ينتمون لدول المكسيك والولايات المتحدة وإسبانيا. ونقلت الصحيفة عن إحدى الشخصيات البارزة في الصندوق المذكور قوله "نحن مقتنعون أن بلد الوليد ناد تاريخي ويمثل مدينة رائعة ويملك واحدة من أفضل الجماهير في إسبانيا. التزامنا تجاهه كبير". ويُعد سولاريس شخصية معروفة في الأوساط الكروية في المكسيك، حيث سبق له رئاسة نادي كيريتارو كما أنه مقرّب من مجموعة باتشوكا. لكن "ماركا" أكدت أن مجموعة باتشوكا التي تملك عددا من الأندية محليا وخارجيا من بينها أوفييدو الإسباني، ليس لها أي علاقة ببلد الوليد. ولدى سولاريس 3 أولويات في المرحلة الجديدة لبلد الوليد هي: تحقيق الاستقرار المالي للنادي بعد الهبوط إلى الدرجة الثانية. إعادة هيكلة الإدارة وتحديث آليات اتخاذ القرار. إعادة النادي إلى دوري الدرجة الأولى والحفاظ على مكانته هناك. وسبق لرونالدو أن استحوذ على 51% من أسهم بلد الوليد عام 2018 مقابل أكثر من 30 مليون يورو، وخلال هذه الفترة صعد النادي إلى الدوري الإسباني مرتين، وهبط 3 مرات كما تعاقب عليه 5 مدربين. ويُعد موسم 2024-2025 هو الأسوأ في تاريخ النادي إذ هبط الفريق إلى الدرجة الثانية بعد احتلاله المركز الأخير بجدول الترتيب برصيد 16 نقطة فقط من 38 مباراة جمعها من 4 انتصارات و4 تعادلات مقابل 30 هزيمة.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
إحباط أميركي من موقف أوروبا التجاري مع الصين
صعّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب توتراته التجارية مع الاتحاد الأوروبي، مهددًا بفرض تعرفة جمركية بنسبة 50% على الواردات الأوروبية ابتداء من 1 يونيو/حزيران المقبل، وفق ما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال. جاء هذا التصعيد وسط إحباط متزايد داخل الفريق الاقتصادي للرئيس الأميركي من نهج التكتل الأوروبي، المكون من 27 دولة، بشأن الضرائب والتنظيمات والسياسات تجاه الصين، تقول الصحيفة. وأعرب مستشارو ترامب ، في محادثات خاصة إلى مسؤولين أوروبيين، عن استيائهم مما وصفوه بـ"بطء التقدم" في المحادثات التجارية، وفق مصادر مطلعة على تفاصيل النقاشات. انتقادات حادة من واشنطن لبروكسل وتشير الصحيفة إلى أن مستشاري ترامب اتهموا الاتحاد الأوروبي بالتردد في تقديم عروض ملموسة تلبي المطالب الأميركية، ومنها الرسوم على خدمات البث، ضرائب القيمة المضافة، قوانين تنظيم صناعة السيارات، والغرامات المفروضة على الشركات الأميركية في قضايا مكافحة الاحتكار. وبينما لم ينجح البيت الأبيض، حتى الآن، في دفع الاتحاد الأوروبي نحو فرض تعريفات على الصناعات الصينية، فإن بريطانيا وافقت أخيرًا على التحرك في هذا الاتجاه في صناعة الصلب، وهي خطوة ساعدت في إنجاز اتفاق التجارة بين واشنطن ولندن، كما أفاد التقرير. وفي الوقت الذي أبدت فيه المفوضية الأوروبية استعدادًا لمعالجة مسألة "اقتصادات السوق" مثل الصين، لم تُترجم هذه النوايا إلى التزامات ملموسة، بحسب المطلعين على سير المفاوضات. تصريحات غاضبة وفي تصريح علني من المكتب البيضاوي، قال ترامب يوم الجمعة: "أنا لا أبحث عن صفقة" مع أوروبا، مؤكدًا عزمه السير في خطة فرض الرسوم الجمركية. وكان قد نشر تهديده صباح الجمعة عبر منصة "تروث سوشيال"، في وقت أبدى فيه مسؤولون أوروبيون تفاؤلًا نسبيًا بتحسن وتيرة المفاوضات أخيرًا. وقال المفوض التجاري الأوروبي ماروش شيفتشوفيتش، عقب مكالمة هاتفية مع الممثل التجاري الأميركي جيميسون غرير ووزير التجارة هوارد لوتنيك، إن الاتحاد الأوروبي منخرط بجدية في المحادثات، لكنه مستعد للدفاع عن مصالحه، مضيفًا أن العلاقة التجارية بين الطرفين "يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل، لا على التهديدات". أوروبا توازن بين الصين وأميركا أوضحت الصحيفة أن المسؤولين الأوروبيين يحاولون اعتماد نهج وسط بين الحزم الأميركي حيال الصين وبين الرغبة في الحفاظ على علاقات اقتصادية مستقرة مع بكين، لا سيما أن الصين تُعد من أكبر أسواق التصدير الأوروبية. وكانت بروكسل قد أرسلت مقترحات لتخفيض الرسوم الصناعية المتبادلة وزيادة واردات الطاقة وفول الصويا الأميركي، لكنها غادرت واشنطن في أبريل/نيسان دون نتيجة ملموسة. وقال ناطق باسم المفوضية آنذاك: "الاتحاد الأوروبي قام بدوره، وحان الآن الوقت لأن تحدد الولايات المتحدة موقفها". وفي حين تطالب واشنطن شركاءها التجاريين بفرض تعريفات على المنتجات الصينية للحد من سياسات الدعم الصناعي من بكين، فإن الرد الأوروبي كان بطيئًا، رغم أن الاتحاد وافق سابقًا على تعريفات بقيمة 21 مليار يورو (24 مليار دولار) على واردات أميركية، لكنه جمّد تنفيذها بعد إعلان واشنطن عن هدنة تفاوضية مدتها 90 يومًا. كما كشفت الصحيفة، أن الاتحاد الأوروبي وضع قائمة ثانية محتملة لفرض رسوم تصل قيمتها إلى 95 مليار يورو (نحو 102 مليار دولار)، في حال فشلت المحادثات مع الولايات المتحدة. تباين في أسلوب التفاوض أحد أبرز أسباب الخلاف، بحسب الصحيفة، هو التباين الكبير بين النهج الأميركي المباشر والنهج الأوروبي المتدرج. فبينما يسعى ترامب لإعلان اتفاقات سريعة، تتبع المفوضية الأوروبية عملية تفاوضية بطيئة تشمل مشاورات موسعة مع جميع الدول الأعضاء، ما يطيل أمد التوافق. وفي تعليقه على التهديد الجمركي الأميركي، قال دبلوماسي أوروبي: "من الصعب بناء سياسة على منشور على تروث سوشيال"، بينما صرح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسينت لشبكة فوكس نيوز، أن الهدف من التهديد هو "دفع الأوروبيين إلى التحرك".


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
البلقان على صفيح ساخن.. عودة ترامب وصراع التوازنات الإقليمية
تشهد منطقة جنوب غرب البلقان تصعيدا مستمرا في التوترات الجيوسياسية وسط التحولات الكبرى التي يعيشها النظام الدولي، والتنافس الجاري بين الولايات المتحدة و روسيا و الصين و تركيا و الاتحاد الأوروبي. وتعود منطقة جنوب البلقان إلى واجهة الصراع على النفوذ مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وطرحه رؤية جديدة "لضبط التوازنات"، تركز على البراغماتية والصفقات الاقتصادية والأمنية. في خضم هذا التنافس، تشكل صربيا قلب الصراع، نظرا لحجمها وموقعها وتأثيرها الإقليمي فضلا عن ثرواتها الطبيعية المهمة بما في ذلك احتياطياتها من المعادن النادرة التي تهم الغرب والصين على حد سواء، وعلى رأسها الليثيوم. وحول أهمية جنوب البلقان وموقعه في ساحة التنافس الدولية، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان " جنوب غرب البلقان بين التنافس الدولي وتعددية المحاور إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في ظل عودة ترامب وأهمية مشاريع الطاقة والمعادن" حلل فيها الدكتور كريم الماجري المشهد المركب جنوبي غرب البلقان وسياقاته ورصد أدوار الفاعلين الدوليين فيه. البلقان.. عقدة تنافس مفتوحة لم تكن منطقة البلقان يوما ما بعيدة عن الحروب والصراعات، غير أن التحولات الأخيرة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022 كشفت عن أهمية إستراتيجية مضاعفة. فالاتحاد الأوروبي، المنهك داخليا على المستويين السياسي والاقتصادي، بات أقل قدرة على فرض إرادته الموحدة، في حين وجدت روسيا في البلقان منفذا ضروريا للضغط على خاصرة الغرب الرخوة. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في عهدة رئاسية ثانية، أعيد الاعتبار إلى مبدأ "إعادة التموضع الجغرافي السياسي"، إذ ترى واشنطن أن السيطرة على الممر البلقاني ضرورية لضبط مشروع " الحزام والطريق" الصيني في أوروبا، ومواجهة التمدد الروسي المتنامي في مناطق النفوذ الأرثوذكسي. صفقات ترامب خلال ولاية ترامب الرئاسية الأولى (2017-2021)، برزت محاولات واضحة للولايات المتحدة لإعادة التمركز في البلقان، كان أبرزها اتفاق التطبيع الاقتصادي بين صربيا و كوسوفو في سبتمبر/أيلول 2020. مع عودة ترامب إلى الحكم عادت هذه المقاربة مجددا، لكن ضمن حزمة أكبر تتضمن تعاونا عسكريا واقتصاديا وتطويقا إستراتيجيا للنفوذ الروسي، فإدارة ترامب الجديدة تركز على بناء تحالفات مباشرة مع حكومات مثل ألبانيا وكوسوفو، وتدفع نحو إدماج مقدونيا الشمالية و البوسنة في مشاريع دفاع مشتركة عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو). كما تستغل واشنطن أيضا انكشاف البنية الاقتصادية البلقانية، وتوجه استثماراتها نحو البنية التحتية الرقمية والمعادن النادرة، حيث تشير تقارير وزارة الطاقة الأميركية إلى اهتمام خاص بمشروع "يادار" الصربي، الذي يحتوي على أحد أكبر احتياطيات الليثيوم في أوروبا. صربيا وإستراتيجية الحياد النشط تجسد صربيا بقيادة الرئيس ألكسندر فوتشيتش المفارقة الصارخة في البلقان، فهي من جهة دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ 2012 وتجري تدريبات عسكرية مع الناتو وتستقبل استثمارات غربية مهمة، لكنها من جهة أخرى تحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا وترفض العقوبات عليها وتشترك معها في مشروع غاز " السيل التركي". جدير بالذكر في هذا السياق، أن بلغراد تقدم هذه الازدواجية رسميا كـ"سياسة حياد عسكري" لكنها في العمق تخفي رهانات الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش للحفاظ على قناة تواصل مع الجميع، فهو يستثمر في تنويع الشركاء لضمان مرونة داخلية وخارجية. ومن المفارقات أن واشنطن، رغم ضغوطها العلنية، تتجنب دفع فوتشيتش نحو الحائط، إدراكا منها أن سقوطه قد يفتح الباب لاضطراب خطير في صربيا والبوسنة وكوسوفو. في المقابل، لا تتردد روسيا في توظيف أوراقها الصربية لدق إسفين في الجبهة الغربية، فقد استخدمت موسكو صربيا منصة إعلامية ودعائية طوال حرب أوكرانيا ، مما أسهم في تعزيز الخطاب القومي المتشدد في جمهورية صرب البوسنة، التي تسعى للاستقلال عن البوسنة والارتباط بصربيا. أما الصين، فترى في صربيا رأس جسر لولوج السوق الأوروبية دون المرور عبر رقابة الاتحاد الأوروبي، فقد أنشأت بكين عدة مشاريع إستراتيجية في صربيا، منها مصنع للبطاريات والسيارات الكهربائية ومحطة طاقة تعمل بالفحم واستثمرت في سكك الحديد بين بلغراد وبودابست، في إطار مشروع "الحزام والطريق". وقد جعلت هذه السياسات من صربيا نموذجا فريدا لما يسمى بـ"التعددية الموجهة"، أي الانفتاح على الجميع مع حفظ الحد الأدنى من التوازن، وهو أيضا ما يجعلها محط تنافس دائم، لكن ذلك يمثل أيضا حقل ألغام دبلوماسيا. التنافس الدولي في البلقان وعلى الرغم من هيمنة الاتحاد الأوروبي كمصدر رئيسي للمساعدات المالية والمشاريع التنموية في البلقان، فإن جاذبيته السياسية تراجعت في السنوات الأخيرة نتيجة للبيروقراطية المفرطة وتردد الدول الأعضاء في توسعة الاتحاد. وكان من نتيجة هذا التراجع أن أفسح المجال أمام الولايات المتحدة وروسيا والصين وتركيا لتعزيز حضورهم، كل بطريقته الخاصة. ويمكن تلخيص أدوار القوى الدولية والإقليمية في البلقان وأهدافها على النحو التالي: 1. الولايات المتحدة تركز على الشراكات الثنائية، ولا سيما مع ألبانيا وكوسوفو. استثماراتها موجهة نحو الطاقة والمعادن والبنية الرقمية. تعمل على إدماج دول البلقان في نظام دفاع موحد تحت سقف الناتو. تقيم قواعد تدريب عسكرية في المنطقة. 2. روسيا تراهن على البعد الثقافي الأرثوذكسي والتاريخي مع صربيا وصرب البوسنة. تقدم الدعم السياسي في مجلس الأمن. 3. الصين تفضل التمويل طويل الأجل والمشاريع الكبرى، مثل الطرق وسكك الحديد والمصانع. لا تتدخل سياسيا، وهو ما يروق لحكومات توصف بأنها سلطوية مثل صربيا والجبل الأسود. تعتمد على سياسة "الدبلوماسية الصامتة" مقابل الاستثمار طويل الأمد. 4. الاتحاد الأوروبي لا يزال المانح الأكبر من حيث حجم المساعدات. يعاني من تراجع جاذبيته السياسية بسبب التعقيدات البيروقراطية والانقسام الداخلي. يفرض شروطا صارمة في ملفات الحوكمة وحقوق الإنسان مما يثير استياء الأنظمة المحافظة. في الوقت ذاته تسعى تركيا إلى توطيد علاقاتها عبر بوابة الجاليات المسلمة في البوسنة وكوسوفو، وتستخدم رمزية التاريخ العثماني لتعزيز النفوذ الثقافي والاقتصادي. ومع أن حضورها العسكري محدود، فإن قوتها الناعمة تتزايد من خلال دعم مشاريع عمرانية وتعليمية وثقافية ترعاها مؤسسات حكومية وغير حكومية. وتجعل هذه الشبكة المتداخلة من الفاعلين من البلقان ساحة تجاذب مركبة، حيث تعقد التحالفات بناء على مصالح موضعية متغيرة، وليس بالضرورة ضمن معسكرات ثابتة، وهو ما يفسر قدرة صربيا على المناورة في أكثر من اتجاه دون أن تتعرض لعقوبات حقيقية من أي طرف. المجر وصربيا.. تحالف خارج الضوابط في ظل قيادة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تعززت علاقات بودابست ببلغراد على مختلف المستويات، من المشاريع الاقتصادية الكبرى إلى التنسيق في ملف الهجرة والطاقة إلى دعم الرئيس فوتشيتش في المحافل الأوروبية. ويرى أوربان في فوتشيتش حليفا إستراتيجيا ضد بيروقراطية بروكسل ، ويستثمر في تعزيز "محور محافظ" يمتد من بودابست إلى بلغراد وربما سراييفو. وقد أرغم الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش على مواجهة وضع هش للغاية في الأشهر الأخيرة، فقد أدت الاحتجاجات الطلابية الحاشدة المطالبة بمكافحة الفساد إلى استقالة رئيس الوزراء ميلوس فوتشيتش وعدد من أعضاء حكومته. لكن الغضب الشعبي وانهيار حكومة ليستا مشكلة الرئيس فوتشيتش الوحيدة، فحتى قبل الاحتجاجات بدا أن نهج الرئيس "الانتقائي" في السياسة الخارجية يواجه مأزقا حقيقيا وضغطا متزايدا، من كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا على بلغراد لاختيار طرف واحد، مما ضيق عليه مساحة المناورة. مثل هذه التطورات قد تشعل صراعا مسلحا يعيد إشعال النعرات القومية القديمة ويستدعي تدخلات دولية مباشرة، خاصة إذا استغلت روسيا الفرصة لتفجير البلقان وسيلة لصرف الأنظار عن جبهات أخرى مثل أوكرانيا. لكن يبقى سيناريو "صفقة أميركية كبرى" قائما مع وجود ترامب في البيت الأبيض، بحيث تقايض واشنطن اعتراف صربيا بكوسوفو مقابل اندماج اقتصادي أوسع، وضمانات سياسية لفوتشيتش بالبقاء في الحكم. ويمكن تلخيص السيناريوهات المحتملة في النقاط التالية: يمكن للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش إذا حافظ على توازنه الداخلي والخارجي أن يستمر على رأس السلطة سنوات قادمة بدعم ضمني من الغرب والصين وروسيا، مقابل تقديم تنازلات شكلية في ملف كوسوفو وتمرير صفقات اقتصادية كبرى مثل إعادة فتح ملف الليثيوم. قد يؤدي اندلاع شرارة في شمال كوسوفو أو إعلان استقلال جمهورية صرب البوسنة إلى إشعال مواجهة إقليمية تدفع الأطراف الدولية إلى الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذلك، ما لم تفعل آليات الردع الدبلوماسي والاقتصادي. يطرح سيناريو عقد واشنطن صفقة إقليمية تشمل تنازلات متبادلة، مثل اعتراف صربي رمزي بكوسوفو، مقابل تطبيع اقتصادي واسع وإعادة تدوير النخب السياسية تحت رعاية أمنية أميركية موسعة.