logo
الخيانة في زمن الحرب

الخيانة في زمن الحرب

العربي الجديد١٨-٠٧-٢٠٢٥
فجأة، أصبح اسم ياسر أبو شباب يتردّد ضمن الأخبار الواردة من قطاع غزّة المحتلّ. لا يتعلّق الأمر بشخصية مُقاوِمة أو أحد أبطال العمل المدني الإغاثي في القطاع، أو أحد شهداء العدوان، وما أكثرهم، وإنما انتشر هذا الاسم مُشيراً إلى أحد المتعاونين مع الاحتلال، في ظلّ أشدّ الظروف وأقساها التي تمرّ بالشعب الفلسطيني في تاريخه الطويل المُعمّد بالنضال.
وظاهرة التعاون مع العدو (التعبير المخفّف لمعنى التواطؤ مع العدو وخيانة الوطن، ولكن استخدم لتوصيف ظاهرة مماثلة أثناء الحرب العالمية الثانية، لمن تعاونوا مع النازيين ضدّ شعوبهم) ليست أمراً طارئاًُ، ولا بدعة فلسطينية، بقدر ما لازمت كلّ أشكال الاحتلال، فقد استخدمت فرنسا هذه الطريقة في جميع مشاريعها الاستعمارية الخارجية، فأنشأت ما يُسمى بمجموعات "الحركيّين" ووظفتهم ضدّ جبهة التحرير الوطني في الجزائر إبّان حرب الاستقلال (1954 - 1962)، وطبّقت هذه الطريقة على نطاق واسع في حرب الهند الصينية (1945 - 1954) حيث نظّمت مجموعات من المتعاونين خلف خطوط "فيت مينه" (المقاومة الفيتنامية)، مُستغلّين العداء بين الأقليات العرقية وسائر السكّان. وكذلك فعلت ألمانيا النازية أثناء احتلالها فرنسا وصولاً إلى عملاء الاحتلال الأميركي، الذين نقل الإعلام أخبارهم، وهم يحاولون الفرار سواء عند تحرير سايغون الفيتنامية أو كابل الأفغانية، مروراً بالتجربة الصهيونية ذاتها، عند اصطناعها جيش لبنان الجنوبي، وإلى الآن، ما زالت أسماء سعد حداد وأنطون لحد تتردّد وتلفظها ذاكرة الأحرار.
إن الإعجاب المحموم بالقوة الغاشمة جزء من الانبهار السياسي بدولة الاحتلال، ولكنّه لا يقتصر على هذا، لأنه يقوم أيضاً على مصالح متنوّعة (مال وسلاح ونفوذ)
يشمل التعاون القائم بين المُحتل والمُحتلِّين مستويات مختلفة من المشاركة، مثل الشخصيات والأفراد المجهولين، والجماعات المنظمة أو غير الرسمية، وأحياناً الالتزامات التي تتبناها سلطة معينة جاء بها الاحتلال، وهي تشكّل جزءاً من سياسة دولة في الوقت نفسه. وبينما يمكن للدوافع الفردية أن تشمل نطاقاً واسعاً من الحساسيات، ودرجة إلى حدّ ما من الوعي أو الإرادة، فإن التعاون لا ينبع بالضرورة من التزام أيديولوجي واضح، وبمخالطته أشكالاً من الانتهازية، يكون التعاون الفردي متعدّداً، ويحدث ضمن أزمنة تتجاوز الحرب بكثير. إن الإعجاب المحموم بالقوة الغاشمة جزء من الانبهار السياسي بدولة الاحتلال، ولكنّه لا يقتصر على هذا، لأنه يقوم أيضاً على مصالح متنوّعة (مال وسلاح ونفوذ).
يجب التمييز هنا بين التعاون الأمني، الذي تقوم به السلطة الفلسطينية بالتنسيق مع الاحتلال، والذي لولاه لما تطوّرت جميع أشكال التعاون الأخرى بهذه السهولة، وحالة ياسر أبو شباب، الذي لم يُخفِ في أحد تصريحاته تلقيه الدعم من بعض الأطراف داخل السلطة، بالإضافة إلى الاحتلال، وجهات إقليمية عربية لا تخفي عداءها للمقاومة الفلسطينية، والتمييز هنا يتعلّق بطبيعة التبرير الذي تقدّمه السلطة، وتغلفه بالدفاع عن المصالح الوطنية. غير أن المُستحدَث في ظاهرة ياسر أبو شباب أنه مجرّد قاطع طريق ولصّ معونات، لا يملك تصوراً سياسياً، ولا رؤية واضحة لما يترتب على أفعاله. أما ترديد شعارات جوفاء عن تحرير الشعب من "حماس"، والهجوم اللفظي على رموز المقاومة، فهو لا يزيد عن خطاب أجوف لا يقنع أحداً، حتى الذين يُشغّلون أبو شباب (وعناصره) يدركون أنه مجرّد متعاون أقرب إلى المجرم المتمرد منه إلى متعاون قادر على تغيير المعادلة السياسية في غزّة.
تخلّت كلّ أجهزة الاحتلال عن عملائها في اللحظة الحاسمة، وتجربة "الحَركيّين" في الجزائر وجيش لبنان الجنوبي، خير دليل على ذلك
يدرك الاحتلال أنه عاجز تماماً أمام تماسك البنية المجتمعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وأن محاولة تخليق كيانات تابعة له، وتأتمر بأمره، ليس أمراً ميسوراً في ظلّ الرفض العشائري والعائلي لكلّ عمل يمكن أن يوصم بالخيانة والتواطؤ مع العدو، ولهذا كان طبيعياً تماماً تبرّؤ العائلات الفلسطينية من أبو شباب وعصابته.
في ظلّ الإبادة الممنهجة، والحصار الخانق، ومنع المساعدات، وحالة الضيق الاقتصادي، وانهيار كلّ أسباب المعيشة، انتظر الكيان أن يحصل تمرّد اجتماعي في القطاع، أو اندلاع ثورة جياع ضدّ المقاومة، غير أن هذا لم يحصل، ولهذا بدأت إعادة الحسابات في التعامل مع المجتمع الفلسطيني في القطاع، وتحرّكت أجهزة الاستخبارات لبناء شبكات المتعاونين والعملاء. رغم أن الاستهداف الصهيوني يشمل الجميع، وفكرة التهجير الجماعي لن تستثني عميلاً، فإنّ هؤلاء المتعاونين يتجاهلون وقائع التاريخ والسياسة.
تاريخياً، تخلّت كلّ أجهزة الاحتلال عن عملائها في اللحظة الحاسمة، وتجربة "الحَركيّين" في الجزائر وجيش لبنان الجنوبي، بل ومصائر متعاونين فلسطينيين كثيرين، خير شاهد على المصير المتوقّع لكلّ هؤلاء، ومن الناحية السياسية ليس أيسر على قوات الاحتلال من أن تتخلّى عن بعض اللصوص الذين جنّدتهم لصالحها، ويكفي أن تتوصّل إلى اتفاق هدنة مع المقاومة، حتى يكون مصير هؤلاء قد كُتب بأحرف من دم، إذ لا تتسامح الشعوب مع من يخون قضاياها في السلم، فما بالك بأولئك الذين يستمرئون الخيانة زمن الحرب.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رؤية دنماركية: لحظة هيروشيما في غزة
رؤية دنماركية: لحظة هيروشيما في غزة

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

رؤية دنماركية: لحظة هيروشيما في غزة

في مقال تحليلي نُشر أمس الجمعة على موقع ( قدّم الكاتب والمؤلف الدنماركي جون غراوسغورد مقارنة لافتة بين قصف غزة اليوم وتفجير القنبلة الذرية في هيروشيما عام 1945، محذراً من أن الحروب الحديثة ، التي تدار عبر الذكاء الاصطناعي وأنظمة الأقمار الصناعية، ألغت كلياً التمييز بين الجندي والمدني. يرى غراوسغورد أن القنابل التقليدية التي تزود بها الولايات المتحدة حلفاءها، ومنها قنابل ضخمة تزن حوالي ألفي رطل زُوّدت بها إسرائيل ، تقترب في قدرتها التدميرية من "القنابل الذرية الصغيرة". ويؤكد أن غزة تحولت إلى ما يشبه "لحظة هيروشيما"، إذ أصبح اللامعقول أمراً اعتيادياً، و"قتل المدنيين باسم الضرورة العسكرية" امتدادٌ لإرث قديم يعيد إلى الأذهان مشاهد الإبادة من ناغازاكي وهيروشيما، مشدداً على أن من لا تروقه المقارنة يمكنه النظر إلى تدمير دريسدن وهامبورغ. الصورة دخان يتصاعد بعد قصف إسرائيلي على غزة، 24 يوليو 2025 (رويترز) وذكر الكاتب أن القنبلة التي ألقيت على هيروشيما قتلت 70 ألف شخص على الفور، و70 ألفاً آخرين لاحقاً. حينها، احتُفي بها بوصفها وسيلة "ضرورية" لإنهاء الحرب، رغم أنها أصبحت رمزاً للشر البشري. واليوم، بحسب غراوسغورد، تُستخدم الحجة ذاتها في تبرير المجازر في غزة: "لأننا نستطيع، سنفعل"، منبهاً إلى أن التكنولوجيا لم تجعل الحروب أقل دموية، بل زادت من فعاليتها التدميرية. أسلحة ذكية، طائرات مسيّرة، وبرمجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، جميعها تُستخدم اليوم في غزة من دون اعتبار لتكلفة بشرية باهظة. ويتابع الكاتب: "اليوم، تواصل إسرائيل هذا النوع من الحرب الشاملة في غزة، حيث تحاول حركة مقاومة مسلحة الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد الاحتلال"، مؤكداً: "يكفي الاشتباه بوجود مقاوم في مبنى لتحويله إلى أنقاض... وجميع السكان ضحايا". ويضيف أن عمليات قصف قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي تُنفذ ضمن منطق "هيروشيما الجديد" الذي يدمر بشكل ممنهج من دون اعتبار المجتمع المدني "مقتنعين بأن القصف ضروري لأنّ الإمكانية التقنية موجودة"، وهذا ما يسميه "تعصباً تقنياً" يتم فيه اختبار أسلحة جديدة على بشر حقيقيين من دون شعور تجاه منفذيها أو بمن يدعمهم سياسياً. رصد التحديثات الحية شهادات جنود إسرائيليين لصحيفة دنماركية: أوامر بالقتل العشوائي يشير غراوسغورد إلى تحول الحرب إلى "مختبر" فعلي لاختبار أسلحة ذكية، تدمّر مناطق كاملة بسرعة مذهلة، فيما يتم تغييب العامل البشري عن اتخاذ القرار. ويستشهد بمقال للباحث الأميركي ويليام هارتونغ على موقع (TomDispatch)، يحذّر فيه من أن الأسلحة الموجهة بالذكاء الاصطناعي تتيح تدمير أهداف مدنية بسرعة غير مسبوقة، وتُسند قرارات القتل إلى خوارزميات مبرمجة مسبقاً. ويُسلط الكاتب الضوء على دور الشركات الأميركية الخاصة في هذا المسار، خصوصاً شركة "بالانتير" (Palantir)، المملوكة للملياردير بيتر ثيل، ورئيسها التنفيذي أليكس كارب. هذه الشركة، بحسب غراوسغورد، على علاقة وثيقة بالبنتاغون والحكومة الإسرائيلية، وتقدم تقنيات تُستخدم حالياً في استهداف الأحياء المدنية في غزة. ويستشهد بتصريح نُسب إلى كارب، مفاده أن الولايات المتحدة في حاجة إلى "مشروع مانهاتن جديد" لتطوير الذكاء الاصطناعي العسكري، يضمن سيطرة الغرب على "أسلحة القرن"، مثل أسراب الطائرات المسيّرة وأنظمة الاستهداف الآلي. يعتبر غراوسغورد أن هذه المقاربة تُعيد إنتاج عقلية عنصرية، ترى في شعوب العالم "الأدنى" مادة قابلة للإبادة. فكما لم يُبدِ الغرب في الحرب العالمية الثانية تعاطفاً كبيراً مع المدنيين اليابانيين كما فعل مع ضحايا جرائم النازية في أوروبا، يتجاهل اليوم ما يجري في غزة، متذرعاً باعتبارات أمنية أو تحالفات استراتيجية. ويضيف ساخراً: "حتى رائحة اللحم البشري المحترق لم تعد تزعج منفذي الضربات أو داعميهم السياسيين". إعلام وحريات التحديثات الحية صحيفة دنماركية تنشر صور أطفال غزة: "كي لا يقال لم نكن نعلم" في هذا السياق، يشير الكاتب إلى أن إسرائيل، وفق تقارير عدة، تستخدم أنظمة مثل "Habsora" لتحليل المعلومات وتسريع اتخاذ القرار في قصف الأهداف، ما يجعل العمليات أكثر "فعالية"، ولكن أقل مراعاة لأي بُعد إنساني. وأمام هذه الأتمتة المتوحشة للحرب، يحذر غراوسغورد من تلاشي الضمير الإنساني، ومن تحوّل الضحية إلى رقم في قاعدة بيانات حربية. ويختتم الكاتب باقتباس من المفكر الأميركي هنري جيرو، نشره في مجلة (Monthly Review)، قال فيه: "امتلاك المعرفة والنقد والاستعداد للنضال من أجل عالم أفضل يتطلب شجاعة هائلة... في مثل هذه الأوقات، وكما أشارت حنة أرندت، أصبح التفكير بحد ذاته مخاطرة". ثم يعلق غراوسغورد بأن غزة اليوم ليست فقط ميدان معركة، بل مرآة لعصر يختفي فيه الإنسان خلف لوغاريتمات القتل، وتصبح التكنولوجيا سلاح إبادة ممنهجاً.

من المسؤول عن مأساة غزة وحرب إبادتها؟
من المسؤول عن مأساة غزة وحرب إبادتها؟

القدس العربي

timeمنذ 2 أيام

  • القدس العربي

من المسؤول عن مأساة غزة وحرب إبادتها؟

من المفترض أو المطلوب لأي تحليلٍ يريد أن يكون عقلانياً أو موضوعياً أن يتجرد قدر الإمكان من العواطف، خاصةً الجياشة الهادرة منها، وما أكثرها هذه الأيام. نطالب، ممن ينتظرون كلاماً عاقلاً، أو من أنفسنا إذا كنا جادين، ببرودة الثلج لدى التحليل، لكي نصل إلى تصوراتٍ واقتراحاتٍ تطرح حلولاً لما يحيق بنا، خاصةً إزاء مجزرةٍ ودمارٍ لا مثيل لهما، ولكي نتجنب الانسياق بدورنا في المزيد من الإثارة والتهييج، اللذين قد يؤديان إلى إشعال الأمور أكثر مما هي عليه (وإن كان يصعب تصور إمكانية هذا)، ومن ثم إلى الانزلاق إلى المزيد من التهور والدمار في دائرةٍ مفرغة. للإنصاف، يصعب تصور هذا أيضاً في ضوء العجز العربي الشامل والتام، إلا أنني أرى فائدة محاولة التفكير بهدوء، في خضم حمّامات الدم، وفي قلب الصراع المحتدم، للتمكن من طرح الأسئلة الحقيقية، الأهم، ومن ثم محاولة الخروج من تلك الهوة أو الجُرف الذي لم نزل نتردى فيه دون أي مؤشرٍ على قاعٍ قد نصل له، فنأمل بمعاودة الصعود. أسئلةٌ مثل: كيف وصلنا إلى هذه الحال من الضعف والضعة والهوان؟ كيف نخرج من هذا الوضع؟ ما الذي نتوقعه من إسرائيل وأمريكا؟ والأهم من كل هذا هل هما المسؤولان عن هذه المجزرة؟ فإن لم يكونا فمن المسؤول؟ بدايةً لا بد من الإشارة إلى كون جيلي وما تلاه لم يعش (بل لم يشهد مثيلاً ولا شبيهاً ولو من بعيد)، جولةً من الحرب بهذا الطول بيننا وبين كيان الاحتلال مذ زف إلينا الرئيس المؤمن السادات أن أكتوبر آخر الحروب، وهو الأمر الذي لم يلبث أن كذبه الرصاص والنيران، كما حدث في اجتياح كيان الاحتلال للبنان في عملية الليطاني في 1978، على سبيل المثال، والشاهد أن المعارك لم تتوقف من حينها؛ غير أن الأكيد أنه منذ وضعت حرب 73 وتوابعها أوزارها، لم يعرف الصراع العربي الإسرائيلي جولةً بهذا الطول، أما إذا قيس الأمر بحجم الدمار والنية المعقودة على التهجير، فنحن بصدد الكارثة الثالثة بعد نكبة 48 وهزيمة 67. الأنظمة العربية التي لم توقف ولم تهدد بوقف استثماراتها، مهدت الطريق للمأساة والاستخفاف بالدم الفلسطيني، والخروج من هذا المأزق يبدأ بحل استعصائنا العربي، لا الرهان على رحمة الغرب الفارق الرئيسي أن العالم العربي لم يكن يوماً بهذا الموات والتشرذم؛ حتى حين كانت جل دوله لم تزل واقعةً تحت الاحتلال بشتى صيغه، بين انتدابٍ واستيطانٍ كالجزائر مثلاً، لم يكن العرب مسكونين بالهزيمة إلى هذا الحد. كانت هناك آمالٌ عريضة بالتحرر والغد الأفضل (في سياق تيارٍ عالميٍ عارم للتحرر ما بين موجة الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية، وتفكيك الاستعمار القديم وموجة مظاهرات الطلبة والحرب الفيتنامية)، كما كان هناك تحدٍ وإرادة وتيارات سياسية لديها رؤى وتصورات للنهوض بهذه المجتمعات وتقديم البدائل والحلول. نظرياً، أو رسمياً على الأقل، كل الدول العربية باستثناء فلسطين، مستقلة وفي المجمل تملك الدول العربية ثرواتٍ طائلة (خاصة في مصادر الطاقة)، ولم يتغير موقعها الجغرافي، فما زالت على مفترقات الطرق الأهم في حركة التجارة العالمية، وزاد عدد سكانها وصاروا أكثر تعليماً وزاد توافر الكوادر، فما الذي حدث؟ أزعم أننا جميعاً نعلم الإجابة الحقيقية وإن لم يصرح البعض بها. على الرغم من حيطتي وتحفظي على ما يكتبه الصحافي الراحل هيكل، إلا أنني أجدني لا أتفق معه في شيء بالقدر نفسه حين كان يذكر (نقلاً عن لسان كيسنجر، إذا لم تخني الذاكرة) بأن السادات لم يكن يجيد استخدام أوراقه. وكان هو أيضاً (السادات) من أشاد بالشاه قبل سقوطه في إحدى محاوراته مع أحمد بهاء الدين، حين قال، إن الشاه هو الأفطن والأحكم، إذ أدرك أن كل الأوراق مع أمريكا (فجلس على حجرها وتعلق بجلبابها) في استعارةٍ بتشبث الطفل بأمه. لقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه نتيجة خيار استراتيجيٍ واعٍ بالتسليم لأمريكا، بالاصطفاف معها وفي محورها، «بالجلوس على حجرها» والتسليم أو التنازل طوعاً عن كل الأوراق المهمة لها؛ حتى فزاعة الإسلام السياسي، التي كان أمثال مبارك يلعبون بها، لم تكن أكثر من تحسين شروط القران المقرر سلفاً. لقد سقطت كل المشاريع الكبرى كالتنمية والنهوض إلخ (بفرض أنها وجدت أصلاً) وصار المشروع الأساسي (إن لم يكن الوحيد) للأنظمة هو بقاء النظام نفسه والطبقة المتحلقة حوله والمستفيدة منه؛ نحن لم نزل نعيش في ظل، وندفع ثمن، رثاثة ورداءة البورجوازية العربية المسكونة بالغرب والمهووسة حد الانسحاق به؛ ربما كان من الأدق أو على الأقل الجائز أن ننظر لعبد الناصر بشخصه (وأحياناً بتوابعه وإن بصورةٍ أقل) كجملةٍ اعتراضية ومحاولة للإفلات من هذا الوضع البائس والتبعية التي كانت البورجوازية المصرية والعربية بوجهٍ عام مستسلمةً مستمتعةً به تجاه رأس المال الغربي، إلا أنها ما لبثت أن تسللت ثم سيطرت مرةً أخرى. لقد كان التسليم والهزيمة خياراً واعياً للأنظمة العربية، معادلة مفادها: نسلم في القضايا المصيرية كلها مقابل أن تصبح أمريكا/إسرائيل، الضامن لبقاء النظام، أو على الأقل ألا تتآمرا على إسقاطه (أحسب النتيجة واحدة على اختلاف الصياغة والآلية)؛ هذا بالطبع في الخطوط العريضة بما يتحمل ويتيح مساحة للخلاف في صغائر الأمور هنا وهناك. ما أن نتقبل هذا الطرح أو الفرضية، فإن كل تصرفات وتوجهات الأنظمة تصبح مفهومةً ومنطقية، إذ تصير السيطرة على الشعوب ومنعها من الانجراف الصادق والمفهوم والنبيل في دعم الحق والنضال الفلسطينيين، هي الهم والشغل الشاغل للأنظمة، كما يصبح التناقض الرئيسي بين الأنظمة والشعوب لا مع إسرائيل، فبحساب المكسب والخسارة (من وجهة نظر الأنظمة كالمصري وبعض الأسر الحاكمة في الخليج) فإن تصفية القضية الفلسطينية والكتلة البشرية الفلسطينية، يصبح الخيار الأسهل والأرخص بالنسبة لها، وكما كان رابين يود أن يستيقظ فيجد غزة قد غرقت في البحر فإن هؤلاء «القادة» العرب (مع التجاوز في استخدام الكلمة والإقرار بأن كلمة أخرى قريبة هي الأدق والأليق) ربما يتمنون أن يستيقظوا فيجدوا الفلسطينيين نسلاً وسلالةً قد تبخروا كـ»فلسطينيين» وذابت هويتهم وتلاشت تماماً. أن تكون هذه منحة من السماء لهم ونهايةً للصداع بزوال صاحب الحق، ومن ثم نهاية المطالبة به وزوال جهة الادعاء؟ ربما يكون هذا الكلام قاسياً، إلا أننا في وقتٍ ومنعطفٍ لم نعد نملك فيه رفاهية تخفيف نبرة الكلام. كما أننا لا نجد تفسيراً آخر لكيف أن هذه الأنظمة والدول تقف عاجزةً تماماً عن وقف هذه المجزرة وإيصال رغيفٍ، أو مجرد كسرة خبز، دون موافقة كيان الاحتلال الإجرامي (الأمر الكفيل بإثارة الجنون) إلا بأنها سلمت كل أوراقها وإرادتها تماماً. هذه هي الإجابة على السؤال عنوان المقال: إن المسؤول هو تواطؤ الأنظمة العربية التي سحقت شعوبها، وبددت كل القوى السياسية ورؤاها، هو التفكك العربي وعجز الشعوب التي لم تعد تنتظر سوى تغير المزاج الغربي، حين يصل جيل الشباب الذي رأي وفهم وتألم إلى سدة الحكم بعد عقدٍ أو اثنين من الزمان، بعد أن يباد الشعب الفلسطيني لعلهم ينقذون من يتبقى منه. المسؤول هو الهزيمة الشاملة العربية المتمثلة في فقدان أوراق الضغط التي سلمت كاملةً لأمريكا، ربما تكون إسرائيل هي التي تطلق الرصاص بالسلاح الذي توفره لها أمريكا، إلا أن الأنظمة العربية التي لم توقف ولا حتى تهدد بوقف استثماراتها أو توريدات نفطها، أو أي وسيلةٍ أخرى للضغط هي التي مهدت الطريق لهذه المأساة والاستخفاف بالدم الفلسطيني، بطبيعة الحال فإن الخروج من هذا المأزق يبدأ من حل استعصائنا العربي، لا من الرهان على رحمة الغرب وقلبه الحنون. كاتب مصري

إسرائيل: «وقفت الزنقة» للهارب الكاذب!
إسرائيل: «وقفت الزنقة» للهارب الكاذب!

القدس العربي

timeمنذ 2 أيام

  • القدس العربي

إسرائيل: «وقفت الزنقة» للهارب الكاذب!

الصحافة الميدانية أخطر أجناس الصحافة. بمعنييْ الخطر: بما هو أهمية وقيمة (فرادة الشهادة التي يشهدها الصحافي) وبما هو تعرّض للمخاطر و«طريق الأذى» (مهالك العمل التي تُحْدق بالصحافي). وأخطر ما يكون هذا الخطر الملازم للصحافة الميدانية ليس عندما تسود الميدان وقائع انتخابات أو ثورات أو كوارث طبيعية، وإنما عندما يكون ساحة حرب. إذ يظهر التاريخ العسكري، علما أن الصحافيين مدنيون، أن انقلابا حدث منذ الحرب العالمية الثانية: قبلها كان معظم ضحايا الحروب من الجنود، أما بعدها فقد صار المدنيون هم معظم الضحايا بأضعاف. إلا أن ما يتعرض له الصحافيون الفلسطينيون في غزة من تنكيل وتقتيل، منذ حوالي عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية، لا سابق له في التاريخ منذ بداية بروز دور المراسل الحربي، أي منذ أن نقل الصحافي الإيرلندي وليام هاورد راسل وقائع حرب القرم لجريدة التايمز البريطانية، من عام 1854 إلى 1856، ومنذ أن قال بشأن هذا الجنس الصحافي الخطِر، الذي دشنه بنزاهة في النقل أغضبت قادة الجيش البريطاني، إنه يشعر أنه «الأب البئيس لقبيلة من المنكوبين بانعدام الحظ (يقصد المراسلين الحربيين)». وإذا كانت معظم جيوش الغزو أو الاحتلال قد نالت من الصحافيين، مثلهم مثل بقية المدنيين، بالأسر أو الجرح أو القتل، فإن جيش الإبادة الإسرائيلي قد استحدث نوعا من التنكيل لم يأته جيش قبله. لهذا قالت جمعية صحافيي وكالة الأنباء الفرنسية: «منذ أن أنشئت وكالة فرانس برس في أغسطس عام 1944 فقدْنا صحافيين في الحروب، كما كان بين صحافيينا من أصيب ومن أُسِر، ولكن ليس بيننا من يذكر أنه رأى أحد زملائنا يموت جوعا. إننا نرفض تركهم يموتون». وكان عدد من الصحافيين الفرنسيين والأجانب قد نظموا يوم 28 مايو مظاهرة أمام مقر وكالة فرانس برس لإعلان التضامن مع زملائهم والمطالبة بوقف المجازر ضد الصحافيين. وقالت جمعية الصحافيين يوم 22 يوليو: إذا لم يقع التدخل الفوري فإن آخر الصحافيين في غزة سوف يموتون. كما قالت منظمة مرسلون بلا حدود: بهذه الوتيرة التي يُقتل بها الصحافيون (إما بالرصاص أو الجوع) في غزة، لن يوجد بعدُ أحد لإخبار العالم بما يحدث هناك. ذلك أن سياسة التجويع الممنهج التي تطبقها إسرائيل بكل دأب وتصميم قد شملت جميع المدنيين الفلسطينيين ذلك أن سياسة التجويع الممنهج التي تطبقها إسرائيل بكل دأب وتصميم (بينما تعلن بكل صفاقة: «لا مجاعة في غزة، وحماس تفتعل أزمة غذاء»!!!) قد شملت جميع المدنيين الفلسطينيين. لقد تعمد «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» قتل أكثر من مائتي صحافي فلسطيني، ومنهم من قتل معه جميع أفراد عائلته. ولكن رغم ذلك بقي الصحافيون الفلسطينيون في غزة صامدين صمود الصناديد (بالمعنى الحرفي المشهود والملموس) وبقي مراسلو وكالات الأنباء العالمية والقنوات التلفزية العربية منهم يُبْلون أحسن البلاء الإخباري، وبقوا ينقلون للبشرية قاطبة، ولكل إنسان لديه شجاعة البصر والتبصّر ونزاهة الاحتكام إلى الوقائع الموثقة المصورة، حقائق حرب إبادة وتجويع همجية لا مثيل لها في التاريخ الحديث أو المعاصر. لقد صمد الصحافيون الفلسطينيون وثبتوا. ولكن أنَّى لهم الآن مجرد الوقوف أو الكلام وقد صاروا جياعا؟! إنه لموقف مخز لكل البشرية أن يبلغ الأمر بالمراسل أنس الشريف، مثلا، أن يقول: لم أتوقف عن التغطية لحظة واحدة منذ 21 شهرا. واليوم أقولها بصراحة وبوجع لا يوصف: أنا أترنح من الجوع، أرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة (..) غزة تموت… ونحن نموت معها». والواقع أنه رغم وهن مواقف الحكومات الغربية من حرب الإبادة الإسرائيلية، فإن عددا منها ظل يطالب بوجوب السماح بدخول الصحافيين لقطاع غزة، حيث قالت المفوضة الأوروبية لإدارة الأزمات حاجة الحبيب: ينبغي على إسرائيل أن تترك للصحافة العالمية حرية العمل وتضمن دخولها لغزة. وجدد وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو مطالبة إسرائيل بالسماح «للصحافة الحرة والمستقلة بالدخول إلى القطاع حتى تُظهر ما الذي يقع هناك». كما ثبتت منظمة مراسلون بلا حدود على تجديد المطالبة بإنهاء الحصار الذي تضربه إسرائيل على القطاع وبالفتح الفوري للحدود أمام الصحافيين. أما اليوم فقد «وقفت الزنقة للهارب»، كما يقول المثل التونسي: هربت إسرائيل وأوغلت بعيدا في زقاق الكذب؛ ولكنها تقف الآن في آخر الزنقة بلا حيلة ولا مهرب. إذ يكفي لأي عاقل أن يعلم أنها تقتل الصحافيين الفلسطينيين وتمنع الصحافيين الأمريكيين والأوروبيين من دخول غزة ليفهم أنها تتوهم القدرة على ستر عورة هولوكوستها التلمودي. كاتب تونسي

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store