logo
مقالات البابا فرنسيس: آخر المُصلحين الفقراء.. في أبريل 23, 2025

مقالات البابا فرنسيس: آخر المُصلحين الفقراء.. في أبريل 23, 2025

«أساس ميديا»
اعتلى البابا فرنسيس السدّة البابوية راهباً 'جزويتيّاً' مترفّعاً عن متاع الدنيا. احتفظ بملابسه الكهنوتية المخصّصة للكارديناليّة، ورفض استخدام الملابس الخاصّة بالبابا. ورفض الإقامة في البيت المخصّص له، وأصرّ على الإقامة في الغرفة التي كان يقيم فيها في مبنى 'سانتا مرتا' داخل الفاتيكان. وهو المبنى المخصّص لإقامة الكرادلة لدى انعقاد مؤتمراتهم، أو لضيوف الفاتيكان الأجانب. وقد سبق لي أن أقمتُ فيه شخصيّاً أكثر من مرّة، والتقيتُ بالبابا فرنسيس في المطعم الخاصّ داخل هذا المبنى.
فوجئ البابا فرنسيس مرّة وهو يدخل مبنى 'سانتا مرتا' بوجود رجل أمن من الحرس السويسري أمام المدخل. فالبابا يعرف أنّه ليس من مهامّ الحرس السويسري، الذي يتولّى الأمن الداخلي في الفاتيكان، حراسة هذا المبنى تحديداً.
سأل البابا الجنديّ الحارس: ماذا تفعل هنا؟ أجابه: حماية البابا. قال له: لا أحتاج هنا إلى الحماية، تستطيع أن تعود إلى مقرّك. ردّ الجندي: أنا هنا أنفّذ تعليمات عسكرية، وألتزمها.
ابتسم البابا ودخل 'سانتا مرتا'، حيث طلب من العاملين في المطعم تزويده سندويشاً من الجبن واللحم وكوباً من عصير الليمون، ثمّ حملهما وعاد بهما إلى الجنديّ الحارس. وكان الوقت وقت غداء. لكنّ الجنديّ قال للبابا فرنسيس: أعتذر سيّدي، فأنا لا أتناول الطعام والشراب أثناء الخدمة.
إجراءات غير مسبوقة
بهذه الخلفيّة الأخلاقية السامية، تولّى البابا فرنسيس المسؤولية في دولة الفاتيكان. لم تكن إدارة الدولة في ذلك الوقت في حالة حسنة. كان الفساد يعصف في بعض أركانها، وخاصّة في الركن الماليّ.
بموجب التنظيم الإداري، تشرف 'سلطة المعلومات الماليّة' على بنك الفاتيكان، وعلى إدارة عقارات الفاتيكان في روما (خارج الأسوار)، وعلى بنك الفاتيكان وإدارته، وتشرف أيضاً على صيدليّة الفاتيكان.
كان يتولّى هذه السلطة خمسة أعضاء إيطاليّين، تنتهي مهمّتهم في عام 2026، لكنّ البابا طلب منهم الاستقالة الفوريّة، واستبدلهم بشخصيّات اختارها بنفسه، كان منهم يوفارا فيلاي، الذي أشرف على تطوير اقتصاد سنغافورة، وجوان زارات، الذي كان مستشاراً ماليّاً للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.
اتّخذ البابا هذه الإجراءات غير المسبوقة بعد صراع طويل بين هذه المجموعة من الحرس القديم والمراقب الماليّ العامّ السويسري رينيه برولارت، وهو خبير دوليّ في مكافحة التهريب وتبييض العملات. وكان بنك الفاتيكان، الذي يحتفظ بودائع تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار، تحت إشراف 'الحرس القديم'، الذي ارتسمت علامات استفهام كبيرة حول معظم أفراده.
إلى ذلك اعتُقل المونسنيور ناتيو سكاراتو الذي عمل لمدّة 22 عاماً في الإدارة الماليّة للفاتيكان (تسديد الرواتب والنفقات وجمع الإيجارات والتبرّعات)، ووُجّهت إليه تهمة الفساد وتبييض الأموال. وكان يُدعى 'مونسنيور الخمسمئة'، نظراً لأنّه كان يحمل دائماً أوراق الـ500 يورو لشراء الكماليّات من أسواق روما. وكان يملك ثروة من اللوحات الفنّية النادرة. وقد اتّهمته السلطات الإيطالية بتهريب الأموال إلى سويسرا، حيث أُوقف بالجرم المشهود.
كان البابا فرنسيس قد واجه مشكلة مماثلة عندما كان رئيس أساقفة الأرجنتين. فقد اكتشف أنّ خلَفه الكاردينال أنطونيو غراتسيو تورّط مع عائلة أرجنتينية تملك أحد أكبر البنوك المحلّية كانت تسدّد نفقات بطاقاته الائتمانية مقابل سكوته عن استثمارات ودائع الكنيسة لدى البنك.
هكذا خرج من الأرجنتين كاردينالاً نظيف الكفّ ليمارس دوره في السدّة البابويّة نظيف الكفّ أيضاً.
لم يكن التنظيف في الفاتيكان سهلاً. فقد تناول حتّى مرجعاً برتبة كاردينال مثل تارسيسيو بيرتون، الذي اتُّهم باستخدام 20 مليون دولار من خزينة بنك الفاتيكان لتمويل إنتاج فيلم لأحد أصدقائه.. وكان الفيلم فاشلاً.
قضايا حسّاسة
نجح البابا فرنسيس بما يتمتّع به من روحانيّة عالية ومن ترفّع عن المادّيّات في استعادة الدور الروحيّ للفاتيكان والبابا في الدرجة الأولى. ومن هنا كانت إطلالاته الانفتاحية على أهل الكنائس الأخرى (الإنجيليّة والأرثوذكسيّة)، وانفتاحه على الإسلام (زيارة الأزهر في القاهرة والنجف في بغداد)، وإعلان التضامن والتعاطف مع مسلمي الروهنغا وزيارتهم في بنغلادش، والتوقيع المشترك مع إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب على وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي.
ربّما أكثر القضايا حساسيّة التي واجهها البابا هي تلك التي تتعلّق بدور المرأة في الكنيسة، وبموقف الكنيسة من الشذوذ الجنسي.
الرئيس الأميركي السابق جو بايدن مثلاً (وهو كاثوليكي) جرؤ على الدفاع عن حقوق المثليّين، ولذلك عندما دخل الكنيسة يوم الأحد للصلاة، مُنع من تناول 'القربانة المقدّسة'، وهي قطعة صغيرة من الخبز تمثّل جسد المسيح بعد اكتمال الصلاة في الكنيسة. ولكنّ البابا فرنسيس قال في هذا الشأن عبارته المشهورة: 'من أنا حتّى أعرف ما في قلبه؟'.
كان البابا فرنسيس يردّد دائماً أنّه يريد كنيسة فقيرة لخدمة الفقراء. وقد عاش حياته الكهنوتية في 'بوينس أيريس' ثمّ حياته البابوية في روما فقيراً في خدمة الفقراء.
تسجّل الدراسات الإحصائيّة أنّ عدد المتردّدين من المسيحيين على الكنائس الكاثوليكية تضاعف بعد مرور وقف قصير من تبوُّئه السدّة البابوية، بما في ذلك في الولايات المتحدة.
لم يخدم البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية فقط، بل وخدم المسيحية ككلّ بشكل خاصّ، وخدم الإيمان بالله بشكل عامّ كما لم يستطع أن يفعل أيّ بابا آخر (سوى البابا يوحنّا بولس الثاني).
عاش البابا فرنسيس مؤمناً متبتّلاً حتّى اللحظة الأخيرة، ومارس حبريّته على رأس الكنيسة مصلحاً جريئاً حتّى اللحظة الأخيرة أيضاً.. فهل تبادر كنيسته إلى تكريسه قدّيساً؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أوجيرو وموظفوها على طريق التصفية
أوجيرو وموظفوها على طريق التصفية

القناة الثالثة والعشرون

timeمنذ 23 دقائق

  • القناة الثالثة والعشرون

أوجيرو وموظفوها على طريق التصفية

يخوض موظفو أوجيرو معركة شرسة مع وزارة الاتصالات للحفاظ على ديمومة عملهم وحفظ حقوق تعويضاتهم. وزير الاتصالات شارل الحاج، مثل كلّ أسلافه، يحاول تطبيق القانون 431، المعروف بقانون الاتصالات، والصادر منذ 23 سنة في عام 2002، والذي يضع قطاع الاتصالات برمته على طريق الخصخصة، ويحوّله من ملكيّة الدولة إلى القطاع الخاص. وفي لبّ القانون 431، المادة 49 التي تتيح تصفية عقود وتسريح موظفي أوجيرو مقابل تعويضات تُراوح بين 30 مليون ليرة و200 مليون ليرة. نعم هذه الأرقام ليست مزحة سمجة، بل حقيقة قانونية، فالقانون الذي ينشئ بموجبه الهيئة الناظمة للاتصالات، ينشئ أيضاً شركة «Liban Telecom»، والتي ستتولى مهمات هيئة أوجيرو وتكون في البداية بملكية الدولة قبل خصخصتها، وفقاً للمادة 44 منه. وخلال المدة الانتقالية الأولى بعد صدور المراسيم التنظيمية للقانون 431، ينقل من تتوافر فيه شروط معيّنة من موظفي أوجيرو ووزارة الاتصالات إلى الملاكات الوظيفية الجديدة. ولا يمكن أن تتم عملية النقل هذه إلا بموافقة الشركة الخاصة المديرة للقطاع. أما من يريد إنهاء خدماته من الموظفين، أو لا تريده الشركة الجديدة، فيقدم استقالة التي لا يمكن العودة عنها، وفقاً للمادة 49، ويتقاضى تعويضاً إضافياً «يوازي مجموع رواتبه وتعويضاته عن 30 شهراً، على أن لا تقل قيمة التعويض عن 30 مليوناً إن مضى على خدمته أكثر من 5 سنوات. وفي حال لم تمضِ 5 سنوات، فيُعطى الموظف المصروف تعويضاً توازي قيمته راتب شهرين عن كلّ سنة خدمة على أن لا يقل أيضاً عن 30 مليون ليرة، ولا يزيد عن 50 مليون ليرة. ورغم مرور 23 سنة على صدور القانون 431 لم تعدّل مواده. والآن «يريد وزير الاتصالات تنفيذه كما هو»، وفقاً لما ينقل عنه موظفو أوجيرو الذين اجتمعوا معه. ومع تشكيل حكومة نواف سلام، بدأت قصة إعادة تفعيل قانون الاتصالات. فاستبق موظفو أوجيرو الأمر وطلبوا الاجتماع بالحاج. في البداية، رفض وزير الاتصالات الاجتماع بالموظفين، وطلب تأجيل كلّ الكلام إلى ما بعد نيل الحكومة الثقة. وبعد مرور شهر ونصف شهر تمكّن الموظفون من الاجتماع بالوزير، فقابل الحاج الموظفين بالسلبية وسألهم: «صدر القانون عام 2002، لماذا تذكرتم الآن المادة 49، وما الداعي لانتظاركم شهرين من عمر الحكومة قبل طرح المشكلة؟». ذكّر الموظفون الحاج بتهرّبه من عقد الاجتماع معهم، وأصرّوا على حقهم بتعديل مادة في قانون مضى عقدين على صدوره، وفيه مبالغ مالية تضاءلت قيمتها إلى أن أصبحت تساوي قروشاً. وأكّدوا أنّ نقابة موظفي أوجيرو التقت مع وزراء الاتصالات في كلّ الحكومات المتعاقبة، منذ عام 2002، للوصول إلى تعديل للمادة 49، وفي كلّ مرّة كان يُقال لها إنّ «القانون متروك في الأدراج». وفقاً لرؤية موظفي أوجيرو، المادة 49 كانت قابلة للتنفيذ عام 2002. حينها كان معدّل أعمار الموظفين صغيراً، وقيمة مبالغ التعويضات مجزية، فالثلاثون مليون ليرة كانت تساوي 20 ألف دولار. أما اليوم، فمعدّل أعمار الموظفين في أوجيرو بلغ 54 عاماً، وقضى هؤلاء 27 سنة عمل في أوجيرو، وتضاءلت قيمة مبالغ التعويضات، ووصلت إلى 223 دولاراً. لذا، من غير المقبول نهائياً السّير بالقانون بشكله الحالي. وبعد سماع حجج الموظفين، حاول الحاج المناورة للتهرّب من الاعتراف بخطئه، فأكّد أنّه مصر على تطبيق القانون بشكله الحالي أولاً، ثمّ العمل على تعديله. رفض الموظفون، وبدأت مسيرة الأخذ والردّ في الطروحات. قدّم الموظفون مقترحهم الذي يُفضي بشكل أساسي إلى نقل كلّ موظفي أوجيرو إلى «Liban Telecom». وفي حال أرادت الشركة الوليدة الاستغناء عن عدد من الموظفين، فعليها التعويض عليهم بدفع 10 أشهر عن كلّ سنة عمل متبقية للموظف قبل بلوغه سن التقاعد، أي 64 سنة. بالنسبة إلى الموظفين، هذا المقترح موازٍ لما قُدّم لهم عام 2002. يومها حصلوا على عرض يقضي بدفع تعويض شهرين عن كلّ سنة عمل لمن لم يمضِ على عملهم 5 سنوات، واليوم بعد مرور 27 سنة عمل، «نستحق تعويضاً أفضل». بعد مرور شهر و20 يوماً على تقديم المقترح، ردّ الحاج بمقترح آخر، ويقضي بمضاعفة مبالغ التعويضات 60 مرّة بحسب نسبة تدهور قيمة الليرة، وبمعنى آخر، سيحصل الموظف على 3 مليارات ليرة بدلاً من 50 مليون ليرة، أي 33 ألفاً و500 دولار. ولزيادة الضغط على الموظفين، طلب الحاج منهم الرّد خلال أسبوع واحد. ردّ الموظفون قبل نهاية المهلة، وأصرّوا على تعديل المادة 49. وفي الاجتماع الأخير مع الفريق القانوني لوزارة الاتصالات اكتشفوا جهل الفريق المتابع في وزارة الاتصالات بالمقترحات المقدّمة أو تفاصيل عقود الموظفين، ما دفع الحاج إلى حضور الاجتماع مع فريقه. وخلاله، وعد بالعمل على تعديل المادة 49، وأخذ جميع الموظفين إلى «Liban Telecom»، وفي المقابل طلب عدم اعتراض الموظفين على أصل تطبيق قانون الاتصالات. رفض الموظفون مجدداً، وطالبوا الحاج بكتابة مشروع قانون تعديل المادة 49، وإرسالها إلى مجلس الوزراء قبل الشروع في كتابة المراسيم التطبيقية للقانون. بالنسبة إليهم، «الوعود لا تُترجم قانونياً». وأكّدوا أنّهم يكتبون محاضر الاجتماعات مع الوزير وفريقه، إذ يعتبر الموظفون أنّ نوايا وزارة الاتصالات بالنسبة إليهم مجهولة، كما نوايا الوزير، وهدفهم النهائي هو الوصول إلى نقل جميع الموظفين في أوجيرو إلى «Liban Telecom»، أو الأخذ بمقترحهم للتعويض عليهم. «نحن نريد أن نعمل ونقبض»، يقول الموظفون. القطاع العام على طريق التصفية يؤكّد الموظفون سماعهم همساً في أروقة وزارة الاتصالات ومجلس الوزراء يفيد بأنّ «تصفية أوجيرو ستكون الخطوة الأولى، وستلحق بها مؤسسة كهرباء لبنان، ثمّ مؤسسات المياه». لذا يعتبرون أنّ قتالهم اليوم ليس دفاعاً عن مؤسسة ناجحة مثل أوجيرو، بل للدفاع عن القطاع العام بإداراته ومؤسساته كلّها. فالتجربة ستعمّم، يؤكّدون، ويعيدون التذكير بكلام وزير المالية السابق فؤاد السنيورة، والذي سمعوه في مفاوضات سابقة، حول إعادة تطبيق قوانين مشابهة للقانون 431 على بقية مؤسسات القطاع العام. فؤاد بزي - الاخبار انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

الأخبار: جنرال في زواريب الطريق الجديدة يُسقِط النخب المستوردة: بيروت صوّتت لسعد الحريري
الأخبار: جنرال في زواريب الطريق الجديدة يُسقِط النخب المستوردة: بيروت صوّتت لسعد الحريري

وزارة الإعلام

timeمنذ 40 دقائق

  • وزارة الإعلام

الأخبار: جنرال في زواريب الطريق الجديدة يُسقِط النخب المستوردة: بيروت صوّتت لسعد الحريري

كتبت صحيفة 'الأخبار': أطاحت الانتخابات البلدية الأخيرة في بيروت بمفاهيم رُسّخت على مدى ثلاثة عقود، قوامها ترشيح شخصيات نخبويّة آتية من خارج النسيج الاجتماعي المحلي، لا يعرف «البيارتة» عنها شيئاً. هذا النمط تغيّر مع دخول محمود الجمل إلى المشهد. منذ أن كان يرتدي بزّته العسكرية، اعتاد الجمل التجوّل في أحياء الطريق الجديدة وتلبية حاجات سكانها. منصبه كمستشار أمني للرئيس سعد الحريري أتاح له الاحتكاك بـ«فتوات» الشوارع و«شباب المنطقة»، فيما مكّنه موقعه كمنسّق عام لبيروت في تيار المستقبل من مدّ الجسور مع مختلف طبقات المدينة، من «التحتا» إلى «الفوقا». ومعركته النيابية عام 2022 لم تكن إلا تتويجاً لحضوره الشعبي المتنامي. إلى جانب الجمل، برز نبيل بدر. رجل أعمال ناجح جمع ثروة مالية، وترأّس نادي الأنصار، ودخل الندوة البرلمانية. لم تغيّره الثروة ولا العمل السياسي؛ لا يزال يرتاد المقاهي الشعبية، يجلس بثيابه الـ«casual» حول «الأرغيلة»، ويتحدّث بلغة الناس البسيطة. لا يُفلسف السياسة، بل يراها كما يراها جمهوره: «ماتش فوتبول» فيه فائز وخاسر. شكّل الاثنان «ديو» جسّد أهواء الشارع البيروتي السنّي. لذلك، لم يكن الجمل بحاجة إلى مقدّمات عندما قرّر الترشّح لرئاسة البلديّة؛ فصوره رُفعت بمبادرات فردية من أبناء الأزقّة الفقيرة الذين رأوا فيه امتداداً للحريرية السياسية الغائبة. تحالف هجين بلا روح حريرية رأى المزاج البيروتي في لائحة «بيروت بتجمعنا» مزيجاً من الأضداد اجتمعوا في «تحالف هجين». صحيح أنّ هذا النموذج من التحالفات بدأ في عهد الرئيس رفيق الحريري، وتمسّك به لاحقاً نجله سعد، إلا أنّ غياب التمثيل الحقيقي لـ«الحريريين» ومن يدور في فلكهم، جعل من الصعب على الكثيرين من أبناء العاصمة هضم مثل هذا التحالف. وما عزّز هذا الرفض الشعبي، الدور المحوري الذي يلعبه فؤاد مخزومي داخل اللائحة، وهو شخصية مثيرة للجدل لم تحظَ يوماً بقبول واسع لدى الشارع السنّي البيروتي. في المقابل، كان البديل الذي يمثّل وجدانهم حاضراً أمامهم: لائحة «بيروت بتحبّك». أدرك بدر والجمل حساسية المزاج العام، وعرفا كيف يظهّران خطاب المظلوميّة، وانضويا تحت راية «تيّار المستقبل» من دون السقوط في فخ الطموحات المكشوفة لوراثة سياسية. والأهمّ، أنّهما استخدما «الأدوات الحريريّة» في الحركة على الأرض، إذ طرقا الأبواب ودخلا أزقّة لم تطأها قدم زعيم منذ أيام رفيق الحريري. وليس تفصيلاً أن تُقاد الحملات الانتخابيّة من زاروب الطمليس والبرجاوي وأبو الخدود… وغيرها من الأزقّة الضيّقة التي يقطنها أبناء بيروت المنسيون. كلّ ذلك جعل من الجمل اسماً مقبولاً لدى الشارع السنّي من دون الحاجة إلى حملات تسويق مصطنعة. اندفع الناخب السنّي البيروتي إلى صناديق الاقتراع مدفوعاً بالإحساس بالتمثيل، لا بقوة ماكينة انتخابية منظّمة، إذ بدت لائحة «بيروت بتحبّك» شبه مجرّدة من البنية اللوجستية المطلوبة: حضور خجول للمندوبين داخل مراكز الاقتراع، وضعف لافت في عمليات النقل من خارج بيروت إلى داخلها. وما زاد الطين بلّة، الضربات المتتالية التي تلقّتها الماكينة: بدءاً من ضيق الوقت بعد تشكيل اللائحة قبل أسبوعين فقط، إثر فشل المفاوضات بين بدر واللائحة الائتلافية، وصولاً إلى غياب الخبرات وضعف الإمكانات، وانتهاءً بما تردّد عن انسحاب جماعي لأكثر من 175 مندوباً فجر يوم الأحد، تبيّن لاحقاً أنّ كثيرين منهم كانوا «مدسوسين»! وبالتالي، اعتمدت لائحة «بيروت بتحبّك» على «حواضر البيت»، على عكس ما أشيع عن إنفاق بدر 4 ملايين دولار قبل أيام من فتح صناديق الاقتراع. ما برز فعلياً على الأرض كان صورة مغايرة تماماً: مجموعات شبابية من أبناء بيروت تطوّعت عفوياً للعمل ضمن الماكينة، وساهمت في نقل الناخبين دون أن يُطلب منها رسمياً أو تُمنح مقابلاً مادياً، كما فعل على سبيل المثال «اتحاد أهالي عائشة بكّار». تدقيقٌ في الأرقام هذه العوامل أدّت إلى استناد لائحة «بيروت بتحبّك» إلى الدعم السنّي بشكل شبه كامل، إذ شكّل الصوت السنّي ما يقارب 99% من رصيدها الانتخابي. لكنّ الخلل الجوهري الذي واجهها تمثّل في عجزها عن تسمية مرشّحين مسيحيين وشيعة ودروز يتمتّعون بحضور شعبي وازن، بعدما أُقفلت الأبواب بوجهها من قِبل الأحزاب المتحالفة. ويُظهر تحليل أولي للأرقام بحسب التوزيع الطائفي أن اللائحة المدعومة من بدر والجماعة حصدت نحو 30 ألف صوت، من بينها حوالى 27 ألف صوت سنّي، ونحو 2000 صوت مسيحي، و500 صوت شيعي، و100 صوت درزي، تفاوتت بين المرشحين. وهذا يعكس بوضوح أن نحو 65% من الأصوات السنّية صبّت لـ«بيروت بتحبّك»، مقابل القاعدة السنّية التي أمّنتها «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» وحدها للائحة «بيروت بتجمعنا». وقد تمكّن الجمل من حصد أكثر من 40 ألف صوت سنّي، بعدما نجح في اختراق عدد من البلوكات الحزبيّة، من بينها بلوك «المشاريع» لما يتمتع به من حيثيّة شعبيّة ولامتلاكه شبكة من العلاقات العائلية والاجتماعية داخل الجمعية. كما كان خياراً مشتركاً لعدد كبير من البيارتة، حتى من خارج الاصطفافات الحزبية، إذ وضع كثيرون اسمه منفرداً على اللوائح، لكونه المرشّح الوحيد الذي يعرفونه. «الهوى مستقبلي» تحليل الأرقام يُظهر بوضوح أنّ «الهوى السنّي» مالَ إلى لائحة «بيروت بتحبّك». مع ذلك، من المجحف اختزال هذا الفوز بجهود بدر والجماعة والجمل. فالأرقام تعكس في الواقع حضور تيار «المستقبل» المستمر على الأرض السنّية، رغم غياب قيادته عن المشهد السياسي. ويتجلى ذلك بوضوح في النتائج الاختيارية، حيث اكتسح المرشحون المحسوبون على «الأزرق» المقاعد في أكثر من دائرة بيروتية، بما يعكس مزاجاً شعبياً لا يزال وفيّاً لرفيق الحريري ونهجه. صحيح أنّ تيار «المستقبل» لم يُصدر أي تعميم رسمي يطلب من مناصريه التصويت للائحة «بيروت بتحبّك»، إلّا أن النبض كان واضحاً في اتجاهات التصويت. «القلب الأزرق» كان عند الجمل، ما أتاح له حرية التحرّك داخل الشارع السنّي واستقطاب مفاتيح انتخابية أساسية تُعدّ من صلب التيار. فالجمل، بصفته منسّق بيروت السابق، يتمتع بشبكة علاقات أخطبوطية متجذّرة في مفاصل «سبيرز»، ما عزّز حضوره وجعل منه الخيار التلقائي لفئة واسعة من السنّة الباحثين عن امتداد «مستقبلي» ولو بصيغة جديدة. وعليه، لم يكن التصويت السنّي سوى تعبيرٍ عن «نوستالجيا» لرفيق الحريري وابنه سعد، ورسالة واضحة مفادها: «ما زلنا على العهد». لا الغياب القسري، ولا الشحّ المالي والخدماتي، ولا حتى إخراج المقرّبين من التيار الأزرق من مفاصل القرار السياسي والأمني، لم ينجح كل ذلك في زعزعة مكانة الحريري في وجدان السنّة الذين ذهب صوتهم، عملياً، إلى «الحريري الغائب» ممثّلاً بالجمل، لا إلى أي مشروع بديل. ما يشي بأن أحداً من اللاعبين السياسيين الحاليين في الشارع السنّي لا يملك حتى الآن القدرة على وراثة المرجعية الحريرية، أو الحلول مكانها. ولعل النتيجة الأبرز لانتخابات بيروت أنّ الغالبية السنّية التي امتلكها «المستقبل» في حضوره، ما زالت «في جيبه» حتى في غيابه. وكما يترك ابتعاد الحريري عن الساحة السنّية فراغاً في شارعه، فإنّ لهذا الغياب تداعيات سياسية عميقة أيضاً، ظهرت جلياً في الانتخابات البلدية الأخيرة. فقد أربك غيابه القوى السياسية التقليدية التي وجدت صعوبة في تأمين المناصفة داخل المجلس البلدي في بيروت، وهو ما كان يُعتبر في السابق تحصيلَ حاصلٍ بفضل حضور «تيار المستقبل». القلق الذي اعترى الأحزاب في تشكيل اللوائح المتوازنة كشف حجم الدور الذي كان يلعبه الحريري في الحفاظ على التوازنات الهشّة، والتي باتت مهدّدة اليوم في ظل غيابه الطويل.

سوريا: عقد اقتصادي جديد بعد رفع العقوبات
سوريا: عقد اقتصادي جديد بعد رفع العقوبات

المدن

timeمنذ ساعة واحدة

  • المدن

سوريا: عقد اقتصادي جديد بعد رفع العقوبات

رفع العقوبات الأوروبية عن سوريا جاء كخطوة لاحقة وحتمية، بعد إعلان واشنطن فك قيودها الاقتصادية، في لحظة شكلت التحول الفعلي باتجاه إعادة دمج سوريا في السوق الدولية لعبورها إلى العالم وعبوره إليها. ورغم أن وزن الاستثمارات الأوروبية على المدى الطويل قد يفوق ما قد تحققه المشاريع الأميركية من أثر بنيوي في الاقتصاد السوري، فإنها لم تحظَ بالاحتفاء ذاته؛ إذ جرى التعامل مع رفع العقوبات الأوروبية كتحصيل حاصل، تالية للقرار الأميركي الذي غيّر قواعد اللعبة ومنح سوريا هوية جيوسياسية غربية. هذا التحول السياسي رافقه إعلان من الرئيس السوري أحمد الشرع في خطابه الأخير، حدد فيه ملامح التوجه الاقتصادي المقبل، موجهاً دعوة علنية وصريحة لرؤوس الأموال الإقليمية والدولية للدخول إلى السوق السورية والاستثمار في القطاعات المتاحة، في مؤشر واضح إلى أن المرحلة المقبلة تتجه نحو نموذج اقتصادي حر الطابع، قائم على المبادئ النيوليبرالية والانفتاح الواسع. وفي سياق اقتصاد الحرب الذي ما زالت ترزح تحته سوريا، حيث أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وما يزيد عن 30% تحت خط الفقر المدقع، وفقا لمعيار 2.15 دولار يومياً الذي تعتمده المؤسسات الدولية، فإن الانفتاح على رؤوس الأموال الخارجية كمصدر لإعادة الإعمار، ضرورة حتمية لا مناص منها لانتشال سوريا من هوة الانهيار الذي أطبق على أنفاسها. فبعد سنوات من التآكل البنيوي العميق، الناجم عن مزيجٍ مركب من السياسات الخانقة التي انتهجها نظام الأسد، والعقوبات الغربية، والعزلة الإقليمية، بات من الملح تبني نموذج اقتصادي متسارع الخطى، لعل أبرزه كان إعلان سوريا عن خططها لطباعة عملتها الوطنية في الإمارات وألمانيا، بدلاً من روسيا التي كانت تتولى هذه المهمة خلال السنوات الماضية. وهذا بحد ذاته انعكاس لإعادة التموضع الجيوسياسي في التحالفات الاقتصادية ونهاية النفوذ الروسي داخل المؤسسات المالية السورية، في مقابل انفتاح على شراكات جديدة خليجية وأوروبية تحديداً، يُراد لها أن تكون شركاء حصريين في المرحلة المقبلة بلا الصين وروسيا، والاتفاقات وصلت إلى الموانئ أكثر القطاعات المرغوبة للأخيرين حيث وقعت سوريا اتفاقية بقيمة 800 مليون دولار مع شركة " DP World" الإماراتية لتطوير ميناء طرطوس. وعلى الرغم أن هذا النموذج الاقتصادي الذي تتبناه الإدارة الجديدة يبدو الطريق الوحيدة، لكنه أيضاً محفوف بالمخاطر. فإن لم يُضبط الانفتاح بأطر تنظيمية وتشريعية واعتبارات اقتصادية تحمي أولويات التنمية، قد يتحول إلى مسار ارتدادي يخلق التبعية لرؤوس الأموال الكبرى. وهنا، لا يمكن تجاوز التجربة اللبنانية التي تعد من أكثر النماذج المجاورة دلالة على هذا النوع من الانهيارات المقنعة. فبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، روج حينها لمشهد بيروت العائد، والأبراج الزجاجية و"وسط المدينة" بوصفها مؤشرات نهضة، لكنها كانت مجرد واجهة براقة لأزمة اقتصادية هيكلية، حيث تمثل الانفتاح الاقتصادي هناك في شكل مشروع إعادة إعمار ضخم، قاده رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، قام على الاقتراض الخارجي الكثيف، وجذب رؤوس الأموال الخليجية، واعتماد مفرط على قطاعي العقارات والخدمات والمصارف، مع تهميش كامل للقطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة، وتضخم دور المصارف كأداة تمويل للدولة بفوائد خيالية، إلى أن انفجرت الفقاعة عام 2019، وانهار النظام المالي، وانكشفت هشاشة النموذج. في المقابل، في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، اعتمدت الدولة على إعادة بناء الاقتصاد من خلال الزراعة والموارد المحلية، وتم توجيه الاستثمارات إلى التعليم والصحة والتكنولوجيا، لا إلى بناء مراكز تسوق أو واجهات نفعية. في الحالة السورية، لا يمكن إنكار وجود فرص موضوعية حقيقية. فإلى جانب ما تملكه البلاد من موارد طبيعية، وموقع جيوسياسي بالغ الأهمية، وإرادة سياسية، تمتلك سوريا قاعدة من الكفاءات والخبراء، وشبكة واسعة من المغتربين القادرين على المساهمة في بناء نموذج اقتصادي متفرد. إلا أن ترجمة هذه الفرص إلى واقع فعلي يتطلب أكثر من مجرد تفاؤل أو رفع عقوبات، بقدر ما يحتاج إلى خطة اقتصادية واضحة ومتكاملة، تقوم على الإنتاج لا الريع، وعلى المساءلة لا الحماية، وعلى الشراكة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص. فعند الحديث عن محاولة للانتقال إلى نموذج اقتصادي متقدم مثل النموذج السنغافوري، الذي يُطرح أحياناً كإطار طموح لسوريا المستقبل، لا يمكن أن تتحقق ما لم تحدد الأولويات بدقة، وعلى رأسها إعادة بناء القطاعين الزراعي والصناعي كأولوية استراتيجية، لخلق فرص العمل، وتحقيق الاستقلال الغذائي والاقتصادي. كذلك الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد الدولة يتطلب أيضاً تفكيك شبكات التهريب والاقتصاد الموازي التي ترسخت في سنوات الصراع وابتلعت الموارد خارج أي رقابة مؤسساتية. وفي سياق الانفتاح الاقتصادي على رؤوس الأموال الإقليمية والعالمية، يجدر التذكير هنا بما جرى في دول الاتحاد السوفياتي السابق، التي عاشت في التسعينيات موجة الخصخصة الصادمة، حين بيعت أصول الدولة من مصانع وشركات وقطاعات حيوية بأسعار زهيدة لمستثمرين خارجيين ولأفراد من نخبة محدودة، تحولت لاحقاً إلى طبقة الأوليغارشيا. تلك التجربة أدت إلى تفكيك القاعدة الإنتاجية وانتقال القرار الاقتصادي إلى أيد يصعب محاسبتها، وفقاً لحق ملكيتها واحتكارها. من هذا المنطلق، على سوريا أن تتفادى الوقوع في هذه الأفخاخ، لا سيّما وأن ملامح المرحلة الحالية تحمل ظروفاً أولية لكل الحالات المشابهة الناجحة والمتعثرة. وكما يعاد رسم العقد السياسي في هذه المرحلة، فإن الفرصة متاحة بل مستحقة لكتابة العقد الاقتصادي الذي يحفظ للبلاد سيادتها الاقتصادية ويحقق للسوريين العدالة الاجتماعية تلك التي منتهى حلم الثورات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store