خفض الرسوم مقابل التزامات دفاعية .. معادلة جديدة للتجارة في عهد ترمب
واشنطن تربط بشكل علني الأمن الوطني بنجاح الصفقات
أبرم البيت الأبيض اتفاقات مع إندونيسيا والفلبين واليابان تمنحها رسوماً جمركية أقل مقابل تعهدات بشأن الدفاع والأمن الوطني
يُعدّ التصدي للصين وإعادة تشكيل القواعد العالمية بما يخدم الولايات المتحدة جزءاً من هذه المعادلة
لقد دخلنا عصراً مظلماً لاتفاقات التجارة، حيث باتت واشنطن تربط بشكل علني الأمن الوطني بنجاح الصفقات، وإذا أرادت الدول الحصول على
.
تؤتي هذه الإستراتيجية ثمارها، فقد أبرم البيت الأبيض الأسبوع الماضي اتفاقات مع إندونيسيا والفلبين واليابان، مانحاً إياها رسوماً أقل من تلك التي هدّد بها ترمب، وفي المقابل، اضطرت هذه الدول إلى توقيع التزامات بصياغات غامضة تتعلق بالدفاع والأمن الوطني
.
قائمة الدول التي انخرطت في مفاوضات مع واشنطن قبل الموعد النهائي في 1 أغسطس
يشير بوب سافيتش، رئيس قسم استشارات التجارة الدولية والعقوبات في "معهد السياسات العالمية
" (Global Policy Institute)
في لندن، إلى أنّ هذا يمثّل تحولاً حاداً عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية. وقال لي: "أعادت إدارة ترمب تعريف السياسة الأمريكية من خلال ربط الاتفاقات الاقتصادية بشكل صريح بالأمن الوطني".
معادلة جديدة لخدمة مصالح أمريكا
وأضاف أنّ "الهدف الأساسي للبيت الأبيض هو استغلال القوة الاقتصادية الأمريكية لحماية مصالحها الإستراتيجية وتعزيزها". ويُعدّ التصدي للصين وإعادة تشكيل القواعد العالمية بما يخدم الولايات المتحدة جزءاً من هذه المعادلة
.
تحقق هذه الإستراتيجية مكاسب على المدى القصير، خصوصاً في مواجهة الصين، لكنها تأتي بتكلفة على المدى الطويل، فقد أضعفت الثقة بالقيادة الأمريكية، ونفّرت الحلفاء، وسرّعت وتيرة إنشاء تكتلات اقتصادية منافسة. ويُعدّ توسيع مجموعة "بريكس" للدول الناشئة المثال الأحدث على ذلك. فالمجموعة، التي أُنشئت أصلاً كبديل للنظام الدولي الذي تقوده
.
ويُبدي القادة الآسيويون استياءً خفياً من أساليب البيت الأبيض القسرية، وفي اجتماع وزراء الخارجية الأخير في كوالالمبور، ومن دون الإشارة صراحة إلى الولايات المتحدة، قال رئيس وزراء ماليزيا، أنور إبراهيم، "إنّ العالم يشهد الآن عصراً تزعزع فيه القوة المبادئ، وإنّ "الأدوات التي كانت تُستخدم سابقاً لتحقيق النمو باتت تُستغل الآن للضغط والعزل والاحتواء".
عملية تفاوض فوضوية
كما فعل مع الهند وباكستان، تدخّل ترمب أيضاً في الصراع بين تايلاندا وكمبوديا، الذي أودى بحياة العشرات وشرّد عشرات الآلاف، محذّراً من أنه لن يُبرم اتفاقاً تجارياً مع أي من البلدين في حال استمر النزاع. ويوم الإثنين، اتفق الطرفان على وقف الأعمال العدائية والعمل على التوصّل إلى حل دبلوماسي
.
وتتّسم عملية التفاوض الحالية بالفوضى وتُقابَل كثيراً بالاعتراضات، كما يتضح في المحادثات بين الولايات المتحدة واليابان. فقد تباهى الرئيس الأمريكي على وسائل التواصل الاجتماعي بأنّ طوكيو وافقت على شراء "معدات عسكرية وغيرها بقيمة مليارات الدولارات"، إلا أنّ كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني يوشيماسا هاياشي قال "إنّ مشتريات معدات الدفاع الأمريكية الإضافية ليست طلبيات جديدة، بل تستند إلى سياسة المشتريات الحالية"
.
وظهر نمط مُربك مماثل مع الفلبين. فقد قال ترمب "إنّ البلدين سيعملان معاً عسكرياً". ولاحقاً، أوضح السفير الفلبيني لدى الولايات المتحدة، خوسيه مانويل روموالديز، أنّ المناقشات تدور حول إنشاء مصنع للذخيرة في خليج سوبيك، الذي كان في وقت من الأوقات ثاني أكبر منشأة عسكرية أمريكية خارج البلاد. ويقول الزعيم الأمريكي "إنّ المشروع سينتج ذخيرة أكثر من إنتاج أي دولة على الإطلاق".
فوائد الاتفاقات مائلة لصالح واشنطن
مرة أخرى، تبدو الفوائد في الغالب مائلة لصالح كفة واشنطن. أما بالنسبة إلى مانيلا، فإنّ هذا يُمثّل تراجعاً حاداً عن قرارها إخراج القوات الأمريكية من سوبيك 1992. ومن غير المرجّح أن يتفهم الرأي العام المحلي الرئيس فرديناند ماركوس الابن، الذي تحاول حكومته الترويج للأمر كإنجاز، رغم المخاوف بشأن استفزاز
.
أيضاً، تطرّق اتفاق إندونيسيا إلى قضايا الأمن الوطني، حيث وافق الجانبان على تعزيز سلاسل الإمداد ومواجهة "الممارسات التجارية غير العادلة" - وهي عبارة مشفّرة تُشير إلى الصين. وبينما لم تؤكد فيتنام رسمياً بعد شروط اتفاقها (رغم أنّ ترمب قد أعلن بالفعل نسخته الخاصة)، تُبرز وثيقة اطّلعت عليها "بلومبرغ نيوز" مدى تركيز السياسة الجمركية الأمريكية على كبح نفوذ بكين
.
يبدو أنّ النموذج المتّبع في ذلك هو الاتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، المُوقّع في مايو، والذي يُعدّ أولى الصفقات التي تعهد بها ترمب. وقد تضمّن متطلبات أمنية صارمة لصناعات الصلب والأدوية البريطانية، بذريعة إبعاد الصين. وفي المقابل، جاء الاتفاق التجاري بين
.
الولايات المتحدة المصدر الأكبر للاستثمار الأجنبي المباشر في دول رابطة آسيان في 2023
قد تبدو الدول الآسيوية منسجمة مع هذا النهج في الوقت الحالي، لكنها تدرس خيارات أخرى. فالولايات المتحدة تُعدّ مصدراً رئيسياً للاستثمار الأجنبي المباشر في منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي تضمّ 10 أعضاء، حيث تنشط أكثر من 6 آلاف شركة أمريكية في المنطقة
.
ليست عاصفة عابرة
مع ذلك، فقد نمت التدفقات التجارية بين الصين وآسيان خلال السنوات الـ15 الماضية، وأصبح كل طرف الشريك التجاري الأكبر للطرف الآخر. كما تنمو الروابط التجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية والهند بوتيرة قوية أيضاً
.
يصعب استبدال المستهلك الأمريكي، لكن الدول تتأقلم. فهي تُراعي الأولويات الأمريكية في الأمن الوطني بشكل انتقائي في مجالات مثل أشباه الموصلات والمعادن الحيوية، بينما تسعى للحفاظ على مصالحها الذاتية حيثما أمكن. وكما قال لي أحد رجال الأعمال الإندونيسيين: "هذا يُشبه الاستعمار. نحن نفعل ما تريده الولايات المتحدة - كارهين"
.
من غير المرجّح أن يعود العالم إلى النموذج القديم للتجارة المنفصلة عن الجغرافيا السياسية. فقد قال أنور، رئيس وزراء ماليزيا: "هذه ليست عاصفة عابرة، بل هي المناخ الجديد لعصرنا، وعلينا جميعاً أن نتأقلم مع هذا المناخ المتغير، والعواصف المقبلة التي سترافقه"
.
كاتبة عمود في "بلومبرغ" تغطي السياسة الآسيوية مع التركيز بشكل خاص على الصين. كانت مذيعة "بي بي سي" الرائدة في آسيا وعملت لدى "بي بي سي" في جميع أنحاء آسيا وجنوب آسيا لمدة عقدين من الزمن سابقا.
خاص بـ "بلومبرغ"
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاقتصادية
منذ 40 دقائق
- الاقتصادية
اتفاق أوروبا وأمريكا.. الاستقرار التجاري أولاً
لا شك أن الاتفاق التجاري الذي توصلت إليه الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، هو الأكبر. هذا الأخير يظل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حتى بعد خروج بريطانيا منه. الشك الذي ظل باقياً، يرتبط في الواقع بمدى استدامة الاتفاق المشار إليه. ورغم وصفه من قبل رئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون ديرلاين بالجيد، إلا أن الحذر ظهر على الفور من جانب المنتجين الأوروبيين، الذي أقدم بعضهم على تأخير التصدير للولايات المتحدة، لدراسة أكثر عمقاً حول الخسائر التي ستصيبهم، من الفاتورة الجمركية التي تعد الأعلى على الإطلاق. الطرفان الأوروبي والأمريكي، يريدان حقاً تجنب مواجهة تجارية قد تستمر لسنوات، وترمي بالخسائر عليهما. لكن بدا واضحاً أن الرئيس دونالد ترمب المعروف بتشدده في مواقفه، معروف أيضاً بسهولة تراجعه عنها، ما أسهم في إنجاز الاتفاق. لا شيء بالمجان. الأوروبيون تعهدوا بشراء طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار، إلى جانب شراء معدات عسكرية أمريكية. لا شيء يرضي ترمب، سوى ذلك. أي تدفق الأموال من الخارج، عبر شراء السلع والاستثمارات في مجالات مختلفة. فخطته لا تشمل فقط إصلاح ما يعده خلل في الميزان التجاري الأمريكي دام عقود، بل استقطاب الشركات الأمريكية (التي فضلت الهجرة بحثاً عن تكاليف إنتاج أقل) والأجنبية أيضاً، لضخ ما أمكن من فرص وظيفية للأمريكيين، وتعزيز النمو الذي تربطه إدارة الرئيس الأمريكي بإرثها بعد خروجها من البيت الأبيض. لكن في النهاية، سواء كان الاتفاق الأمريكي الأوروبي جيداً أو سيئاً، إلا أنه سيجلب الاستقرار الذي تحتاجه الساحة العالمية وليس ساحتي الطرفين فقط. سيجني الاتحاد الأوروبي ما قيمته 600 مليار دولار من هذا الاتفاق الكبير، لكن حتى هذه النقطة ليست مؤكدة تماماً، قبل أن تمر فترة "التجربة". فالمسألة تتعلق أيضاً بمدى تأثير الرسوم الجمركية المرتفعة في المستهلك الأمريكي نفسه، الذي بدأ يلحظ بالفعل ارتفاعات لأسعار بعض السلع. فمن الطبيعي أن ترفع شركات الإنتاج أسعار منتجاتها لسد تكاليف الرسوم الجديدة، وهذا ما ستقوم به بالفعل. فهذه الأخيرة تبلغ 15%، وهي نسبة مرتفعة، ينبغي التعاطي معها بسرعة، فور دخولها حيز التنفيذ. لكن بالمحصلة، لولا الاتفاق الأمريكي الأوروبي، ستتعرض اقتصادات الاتحاد إلى ضربات قاسية، باعتراف المستشار الألماني فريدريك ميرتس، خصوصاً في قطاع السيارات. الخوف كل الخوف الآن، لو تغيرت نسبة 15 % للأعلى في المرحلة المقبلة. إنها النقطة الأكثر حساسية على الجانب الأوروبي، خصوصاً إذا اهتزت استدامة أكبر اتفاق تجاري على الإطلاق بين طرفين. المهمة المقبلة تنحصر فعلاً، بالحفاظ على ما تم الاتفاق عليه، بعيداً عن التوتر وتشنج المواقف. كاتب اقتصادي


الشرق الأوسط
منذ 40 دقائق
- الشرق الأوسط
المفوض التجاري الأوروبي يؤكد تواصله المستمر مع أميركا لتفعيل «اتفاقية التجارة»
قال ماروس سيفكوفيتش، المفوض التجاري في «المفوضية الأوروبية»، إنه على تواصل مستمر مع المسؤولَين الأميركيين هيوارد لوتنيك وجيميسون غرير لتنفيذ «اتفاقية التجارة» الإطارية التي وُقّعت في يوليو (تموز) الماضي. وأضاف: «العمل مستمر بروح بناءة وإيجابية». وأشار إلى أن «الاتحاد الأوروبي» يتوقع استمرار بعض الاضطرابات في علاقاته التجارية بالولايات المتحدة، لكنه يؤمن بأن الاتفاق، الذي جرى التوصل إليه في 27 يوليو الماضي، يوفر ضماناً قوياً بتغطية معظم السلع المصدرة إلى الولايات المتحدة برسوم جمركية قصوى تبلغ 15 في المائة. وأضاف: «نتوقع مزيداً من الاضطرابات، لكن لدينا ضمانة واضحة تتمثل في رسوم جمركية شاملة بنسبة 15 في المائة. وإذا لم تلتزم الإدارة الأميركية بذلك، فنحن مجهزون بالوسائل اللازمة للرد». وتابع: «الوضع يتطلب إدارة حذرة؛ لم نحل جميع القضايا دفعة واحدة، لكننا وضعنا أساساً متيناً وأجرينا تغييرات جذرية في نهجنا مع الولايات المتحدة، في حين أن أطرافاً أخرى تواجه أوضاعاً أسوأ بكثير»، وفق «رويترز». ولفت إلى أن الرسوم الجمركية الأميركية البالغة 15 في المائة على واردات سلع «الاتحاد الأوروبي» تُعد تعريفة شاملة، تشمل «معدل الدولة الأكبر رعاية»، خلافاً لبعض الدول الأخرى التي تربطها اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة. وأوضح أن هذه النسبة تُطبق على جميع السلع، باستثناء الصلب والألمنيوم، مشيراً إلى أن الرسوم على الأدوية وأشباه الموصلات لا تزال عند المستوى «صفر»، لكنها، حتى في حال ارتفاعها نتيجة تحقيقات بموجب «الأمر التنفيذي الأميركي رقم 232»، فلن تتجاوز سقف الـ15 المائة. كما أكد أن هذا الحد الأعلى ينطبق أيضاً على السيارات وقطع الغيار، مع عدم وجود أي حصص أو قيود كمية على هذه الفئة من الواردات. وفي سياق متصل، أفاد بأن البيان المشترك النهائي بشأن الإطار التجاري بين «الاتحاد الأوروبي» والولايات المتحدة بات شبه مكتمل، مضيفاً: «نحن في انتظار عودة الزملاء الأميركيين لإنهاء تأكيد بعض التفاصيل الأخيرة، لكن الوثيقة باتت شبه جاهزة». وأشار إلى أن البديل لـ«اتفاقية التجارة» الإطارية الأميركية يعني تصعيداً وفرض رسوم جمركية مرتفعة من الجانبين، محذراً بأن غياب اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة قد يؤدي إلى انقسامات داخل «الاتحاد الأوروبي». وأضاف: «لا تزال هناك حاجة لتوضيح تفاصيل مهمة تتعلق بقواعد المنشأ والصين». وأكد: «نسعى جاهدين لإدراج أكبر عدد ممكن من المنتجات ضمن قائمة الإعفاءات من الرسوم الجمركية الأميركية بمبدأ (صفر مقابل صفر). ونعتقد أن المنتجات الطبية يجب أن تخضع لرسوم جمركية صفرية، أو على الأكثر لـ(رسوم الدولة المفضلة)، إلى جانب بعض المواد الكيميائية».


الاقتصادية
منذ 40 دقائق
- الاقتصادية
كيف استخدمت أمريكا باكستان ورقة ضغط ضد الهند؟
نيودلهي تتلقى صدمة تعصف بيقينها تجاه إدارة ترمب وتضع العلاقات مع واشنطن على المحك رسوم ترمب على الهند تتجاوز ما فرض على حلفاء مثل الاتحاد الأوروبي وكوريا واليابان تصريحات ترمب حول وقف إطلاق النار مع باكستان تُثير غضب الشارع الهندي رحب كثيرون في نيودلهي بعودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى السلطة، آملين أن يرتقي بالعلاقات الهندية الأمريكية إلى آفاق جديدة. لكن لا شك أنهم يتساءلون: في أي لحظة انقلبت الأمور، خاصة بعدما شن ترمب الأسبوع الماضي هجوماً حاداً ضد الهند، ملوحاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 25%، ومحذراً من رسوم إضافية ما لم تتوقف عن شراء النفط والأسلحة الروسية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عبر ترمب أيضاً عن امتعاضه من مشاركة الهند في مجموعة "بريكس"، التي وصفها بأنها "تحالف مناهض للولايات المتحدة". عادةً ما كان بإمكان رئيس الوزراء ناريندرا مودي التغاضي عن بعض منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكون مهيناً أن تجد الهند نفسها تواجه رسوماً جمركية أعلى من نظيراتها بعد جهودها في التودد إلى ترمب، إلا أن ذلك كان بالإمكان تحمّله. مع ذلك، لم يكتفِ الرئيس الأمريكي بالتصعيد التجاري، بل تجاوز ذلك بإعلانه عن صفقة تجارية مع باكستان في اليوم نفسه، مشيراً إلى أن شركات أمريكية ستساعد الجار المأزوم للهند في استخراج النفط من احتياطيات مكتشفة حديثاً، وأنهم "ربما يبيعون النفط للهند ذات يوم". لا أعتقد أن ترمب يدرك تبعات ما يقوم به. صحيح أن الحكومة الهندية كانت تتطلع إلى حقبة تتسم بالصفقات المتبادلة، إذ ترى نيودلهي أن كل شيء تقريباً قابلاً للتفاوض، لكنها لا ترى في علاقتها مع باكستان مادة للنقاش. فقد شعر مواطنو الهند بالاستياء من نسب ترمب الفضل لنفسه في وقف إطلاق النار بين الدولتين المسلحتين نووياً في وقت سابق من هذا العام. وليس هناك ما قد يدفع أي قائد هندي إلى التمسك بموقفه ووقف الحديث عن التقارب الاقتصادي أكثر من إقحام اسم باكستان في المعادلة. نيودلهي تكتشف حدود نفوذها الجيوسياسي في المقابل، يستوعب صناع السياسات الآن بعض الحقائق غير المستساغة. وبات السؤال المطروح اليوم: هل بالغت الهند في تقدير أهميتها الجيوسياسية؟ فقد جاء فرض ترمب رسوم جمركية بنسبة 25% كصفعة قوية، خصوصاً أن هذه النسبة تفوق تلك المتفق عليها مع الفلبين وإندونيسيا والتي تبلغ 19%، وتتجاوز بكثير نسبة الـ15% التي حصل عليها حلفاء تقليديون للولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان. رسوم ترمب الجمركية تثير صدمة بأوساط الأعمال والسياسة في الهند. ولسبب ما، كانت الهند تعتقد بأنها شريك لا يمكن الاستغناء عنه في حسابات الولايات المتحدة، متوقعة الحصول على صفقة أفضل من حلفائها على المدى الطويل، حتى لو احتفظت بالقيود التي تفرضها على قطاعي الصناعة والزراعة. لكن الحقيقة مختلفة، فدون تقديم تنازلات تفوق ما كان مخططاً له، قد تجد نيودلهي نفسها من بين قلّة من الدول التي خرجت من "هدنة" الرسوم الجمركية التي أعلنها ترمب بمعدلات أعلى، وليس أقل، مما كانت مهددة به في الأصل. الهند تصطدم بواقع نفوذها المحدود أدركت نيودلهي، بعد فوات الأوان، أن قدرتها على التأثير في واشنطن ضئيلة جداً. فبينما قد يحصل الصينيون على تمديد آخر بفضل امتلاكهم أوراق ضغط تؤثر مباشرة في الاقتصاد الأمريكي، ويتمكن الأوروبيون ودول شرق آسيا من تقديم وعود بشراء الأسلحة الأمريكية أو الاستثمار في الولايات المتحدة، لا تملك الهند وسيلة للضغط ولا أدوات للإغراء السياسي. مع ذلك، فقد تمكنت الهند لسنوات من تجاوز وزنها الاقتصادي الحقيقي من خلال تقديم وعد ضمني بالمشاركة في محاولات واشنطن لاحتواء تصاعد نفوذ الصين. وهو وعد لم يُعلن صراحة، إذ إن نيودلهي لا ترى أن قربها من الولايات المتحدة يتعارض مع انخراطها في تكتلات تهيمن عليها الصين، أو حتى مع دعمها لحلفاء بكين في موسكو. غير أن ردة فعل ترمب الغاضبة تشير إلى أن هذا التوازن ربما شارف على نهايته. فحتى إن لم تكن روسيا تمثّل أولوية قصوى في أجندة ترمب، فإن امتناع ثاني أكبر عملائها عن الاصطفاف خلفه سيظل يثير امتعاضه. خصوصاً أنه حظي بإشادة واسعة من قادة باكستان عقب إعلانه وقف إطلاق النار، في وقت قابلته فيه الهند بالتجاهل التام. الإدارة الأمريكية الحالية لا تريد التحدي، بل تطلب الولاء. وقد بدت نبرة العداء واضحة في تصريح ترمب، حين قال بلا اكتراث إن الهند وروسيا "يمكنهما أن تُسقِطا اقتصاديهما المتعثرين معاً". توتر اقتصادي يعصف بالعلاقات الهندية الأمريكية لو أن ترمب اكتفى فقط بالمطالبة بمسافة أكبر بين نيودلهي وموسكو، وفعل ذلك، إن أمكن، دون المساس بآفاق الهند الاقتصادية، لكان من المحتمل أن يستجيب القادة بهدوء. فالتخفيض في سعر النفط الروسي لا يتجاوز 6 إلى 10 دولارات للبرميل، ووفقاً لبحث أجراه بنك "ستاندرد تشارترد"، فإن التحول إلى النفط الأمريكي لن يكون له تأثير يُذكر على معدل التضخم في الهند. وبالطبع، سيتعين على الحكومة إقناع قاعدتها القومية بأن هذا التحول يصب في مصلحة البلاد، بعد أن أمضت عامين تزعم عكسه، لكن الثقة الكبيرة في رئيس الوزراء كفيلة بجعل هذا التحوّل ممكناً. لكن ما لن يقبله الناخبون بأي حال هو التراجع عن الموقف الصارم للحكومة تجاه باكستان. فالانصياع لترمب بعد أن أبدى انحيازاً لجيراننا سيكون أمراً صعباً حتى بالنسبة إلى مودي. في أقل من 24 ساعة، انهارت الركائز الأساسية التي بنت عليها نيودلهي سياستها في عهد ترمب، وغموضها الإستراتيجي الذي استخدمته بمهارة وسط التوترات بين أمريكا والصين. وأتوقع أن يتمكن مودي من تمرير نوع من الاتفاق، وإن كان ذلك سيتطلب منه تقديم تنازلات أكبر وتحمّل خسائر سياسية داخلية أكبر مما كان يأمل. لكن من الواضح أن ترمب يسأل نفسه ما الذي تقدمه الهند كشريك للولايات المتحدة. بالمثل، سيتساءل المواطنون عما إذا كانت الولايات المتحدة ترتكب مجدداً الخطأ نفسه، كما فعلت في كثير من الأحيان من قبل، بالوثوق في المؤسسة الباكستانية وتجاهل الهند. لقد تلقت نيودلهي صدمة هزت يقينها بقدرتها على اجتياز عهد ترمب بسلام، وسيحتاج الأمر وقتاً طويلاً لترميم العلاقة بعد هذا الأسبوع المضطرب. كاتب عمود في بلومبرغ أوبينيون. وزميل أول في مؤسسة أوبزرفر للأبحاث في نيودلهي، ورئيس برنامج الاقتصاد والنمو فيها. خاص بـ"بلومبرغ"