
الوعي المطابق من الجمود إلى الحركة!عدنان عويّد
الوعي المطابق من الجمود إلى الحركة!
د. عدنان عويّد*
عندما قرأت كتاب المفكر الراحل ياسين الحافظ : (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة) منذ عشرين عاماً ونيف, أدهشني عمقه الفكري, واستشرافه للمستقبل, وأسلوب طرحه ورقي مفردات الكتاب وتراكيبه التي تناولها, بيد أن ما لفت انتباهي في هذا الكتاب من الناحية الفكريّة, هو بحثة في ما سماه بـ (الوعي المطابق), وهو الوعي الذي يرفض الأيديولوجيا الجموديّة التي تعمل على ليّ عنق الواقع للتوافق معها حتى ولو استخدم حاملها الاجتماعي العنف من أجل ذلك. الأمر الذي حرضني حقيقة أن أشتغل على موضوع 'الوعي المطابق', ليصدر لي كتاب عام (2006), بعنوان' (الأيديولوجيا والوعي المطابق). (1). توسعت فيه كثيرا في هذا الاتجاه مبيناً معنى الأيديولوجيا وسياقها التاريخي وأهدافها وحواملها الاجتماعيين, والفرق ما بينها وبين الوعي المطابق.
ونظراً لأهمية الوعي المطابق من الناحية المنهجيّة والفكريّة من جهة, على اعتباره وعيّاً جدليّاً يربط ما بين الواقع والفكر, هذا الرابط الذي يقر بأن هناك تأثيراً متبادلا بينهما, فكل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به ويغنيه, وبأن الواقع في كل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة هو من يحدّد بداية طبيعة الفكر وأنساقه, بيد أن هذا التحديد ليس ميكانيكيّاً, أي إن الواقع لا يعكس الفكر كما تعكس المرآة الأشياء, وإنما يقوم بتحديد ملامحه العامة ليترك الفكر عبر (حوامله الاجتماعيّة) التي أنتجته أن ينمو نمواً مستقلاً نسبياً, ليتشكل منه بعد وصوله إلى مرحلة النضج والتبلور أنساقاً معرفيّةً عديدة سياسيّة وفنيّة وأدبيّة وغير ذلك من أنساق تطغى عليها الصفة العلمية, يتعامل معها الإنسان ويوظفها أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة. ومن جهة ثانية تأتي أهميّة الوعي المطابق وضرورة تمسكنا به اليوم لما يعانيه الواقع من تخلف في كل مستوياته الماديّة,حيث غلبت عليه صفة التشرذم والتخبط والتناقضات والصراع, حيث انعكس كل ذلك التخلف على المستوى الفكري أيضاً الذي لم يعد قادراً اليوم عبر حوامله الاجتماعيّة على تحليل الواقع المعيوش وكيفيّة التعامل معه والنهوض به. وبناءً على هذه المعطيات, سأعرض في هذه العجالة بعض سمات وخائص الوعي المطابق كما رأها 'ياسين الحافظ' وكما أراها أنا في كتابي (الأيديولوجيا والوعي المطابق) وهي:
1- التمسك بمنهج فكري واضح الأهداف أو مطابق للأهداف المراد تحقيقها في تنمية المجتمع وتقدمه. فاليوم نحن أمام مناهج فكريّة عديدة تنوس ما بين الماديّة والمثاليّة, بل رحنا نلمس أو نعيش في الحقيقة فكراً مثاليّاً مفارقاً للواقع, وإن حاولنا مقاربته فهو يتعامل كثيراً مع الشكل دون المضمون, الأمر الذي ترك المواطن يعيش حالة من الانفصام والغربة في الفكر والممارسة معاً, ففي الوقت الذي يطلب منه التمسك بالفضيلة في صيغتها المثاليّة على سبيل المثال, نجد أن دعاتها يغفلون في تفكيرهم التفكير والممارسة فضيلة ' القانون' الوضعي, ومتمسكين بفضيلة ماضويّة, خيم عليها الالتزام بممارسة طقوس شكليّة في اللباس والمظهر الشخصي على حساب الجوهر وخاصة عند أصحاب التيارات السلفيّة, في الوقت الذي نجد فيه قسوة تخلف الواقع على هذا الإنسان في لقمة عيشه وحرية تفكيره وشعوره بإنسانيته.
2- التمسك بمنهج فكري يتعارض مع النظرة الأيديولوجيّة الدوغمائيّة التي تنظر إلى الواقع على أنه من لونين أسود وأبيض. بينما الوعي المطابق يرى الواقع من الوان متعددة. فالحياة لا تسير على لون رمادي فحسب, فمن اللون الرمادي نستطيع أن نشتق ألوان كثيرة.
3- الوعي الأيديولوجي يرى الحقيقة (الأشياء) مطلقة وثابتة وعلى الواقع أن يرتقي إليها, أما الوعي المطابق فيراها نسبية ومتغيرة وهي في حالة حركة وتبدل وتطور مستمر.
4- الوعي الأيديولوجي يوجد حالة من الانفصال بين شكل الظواهر ومضمونها. أما الوعي المطابق فيرى هناك علاقة جدليّة تأثيريّة بينهما, فالشكل يدل على المضمون كما يقال في المثل الشعبي, ويحدد طبيعة هذا المضمون ومساراته. كما أن الأيديولوجيا تفصل الجزء عن الكل, والداخل عن الخارج, بينما الوعي المطابق يربط بين الأجزاء وبين الدخل والخارج ربطاً جدليا, فعلى مستوى ربط الجزء (فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص…). وعلى مستوى علاقة الداخل بالخراج, فالأفراد والمجتمعات لا تعيش وجوداً ' روبنسيا', بل هي تتفاعل مع بعضها سلباً او إيجاباً بالضرورة.
5- الوعي الأيديولوجي يعتمد على الحدْس والتقريب والعموميات والشعارات والأفكار المسبقة والذاتيّة والغيبيات. أما الوعي المطابق فيعتمد على الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب وعلى التفاعل, وبالتالي يقدم البرهان.
6- الوعي الأيديولوجي ينطلق من الرغبة والشعور المتعمد لدى حوامله الاجتماعيّة. أما الوعي المطابق فيعتمد على الواقع والمعطيات القائمة.
7- الوعي الأيديولوجي تقريري, والواقع عنده معطى مطلق نهائي ثابت. أما الوعي المطابق فالواقع عنده يقوم على منهج تحليلي, وهو نسبي في معطياته, والواقع يكتشف تدريجيّاً مع تقدم المعرفة البشرية والعلم.
وأخيراً الوعي المطابق: هو سيرورة معقدة وشاقة وجهد مستمر ومتواصل من الاستقراء التحليل والتركيب والاستنتاج والنقد والشك وصولاً إلى المطابقة, مطابقة الوعي مع الواقع المتغير باستمرار. أي هو عملية اقتراب دائم من الواقع والتفاعل معه. ونفي أي صفة للقداسة عن الأشخاص والأفكار, وضرورة الارتباط بالقوى الاجتماعيّة الفعالة المؤمنة بقضية الوطن والمواطن, هذه القوى التي غيبت تاريخيّاً عن دورها الفاعل ومكانتها في هذه الحياة, على اعتبارها هي من يصنع التاريخ البشري, وبالتالي لن يتحقق تحريك هذه القوى وإعطائها دورها التاريخي إلا عن طريق تطبيق الديمقراطيّة والعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والتشاركيّة, واحترام الرأي والرأي الآخر, والنهوض بالمرأة, وتعميق لدور الفكر المطابق للواقع الرافض لأي فكر جمودي متحجر لا يقر بدور الإنسان ومكانته في صنع تاريخه.
كاتب وباحث من سورية.
d.owaid333d@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكتاب: الأيديولوجيا والوعي المطابق – إصدار دار التكوين دمسق. 2006- ط1.
2025-04-18

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ساحة التحرير
١٨-٠٤-٢٠٢٥
- ساحة التحرير
الوعي المطابق من الجمود إلى الحركة!عدنان عويّد
الوعي المطابق من الجمود إلى الحركة! د. عدنان عويّد* عندما قرأت كتاب المفكر الراحل ياسين الحافظ : (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة) منذ عشرين عاماً ونيف, أدهشني عمقه الفكري, واستشرافه للمستقبل, وأسلوب طرحه ورقي مفردات الكتاب وتراكيبه التي تناولها, بيد أن ما لفت انتباهي في هذا الكتاب من الناحية الفكريّة, هو بحثة في ما سماه بـ (الوعي المطابق), وهو الوعي الذي يرفض الأيديولوجيا الجموديّة التي تعمل على ليّ عنق الواقع للتوافق معها حتى ولو استخدم حاملها الاجتماعي العنف من أجل ذلك. الأمر الذي حرضني حقيقة أن أشتغل على موضوع 'الوعي المطابق', ليصدر لي كتاب عام (2006), بعنوان' (الأيديولوجيا والوعي المطابق). (1). توسعت فيه كثيرا في هذا الاتجاه مبيناً معنى الأيديولوجيا وسياقها التاريخي وأهدافها وحواملها الاجتماعيين, والفرق ما بينها وبين الوعي المطابق. ونظراً لأهمية الوعي المطابق من الناحية المنهجيّة والفكريّة من جهة, على اعتباره وعيّاً جدليّاً يربط ما بين الواقع والفكر, هذا الرابط الذي يقر بأن هناك تأثيراً متبادلا بينهما, فكل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به ويغنيه, وبأن الواقع في كل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة هو من يحدّد بداية طبيعة الفكر وأنساقه, بيد أن هذا التحديد ليس ميكانيكيّاً, أي إن الواقع لا يعكس الفكر كما تعكس المرآة الأشياء, وإنما يقوم بتحديد ملامحه العامة ليترك الفكر عبر (حوامله الاجتماعيّة) التي أنتجته أن ينمو نمواً مستقلاً نسبياً, ليتشكل منه بعد وصوله إلى مرحلة النضج والتبلور أنساقاً معرفيّةً عديدة سياسيّة وفنيّة وأدبيّة وغير ذلك من أنساق تطغى عليها الصفة العلمية, يتعامل معها الإنسان ويوظفها أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة. ومن جهة ثانية تأتي أهميّة الوعي المطابق وضرورة تمسكنا به اليوم لما يعانيه الواقع من تخلف في كل مستوياته الماديّة,حيث غلبت عليه صفة التشرذم والتخبط والتناقضات والصراع, حيث انعكس كل ذلك التخلف على المستوى الفكري أيضاً الذي لم يعد قادراً اليوم عبر حوامله الاجتماعيّة على تحليل الواقع المعيوش وكيفيّة التعامل معه والنهوض به. وبناءً على هذه المعطيات, سأعرض في هذه العجالة بعض سمات وخائص الوعي المطابق كما رأها 'ياسين الحافظ' وكما أراها أنا في كتابي (الأيديولوجيا والوعي المطابق) وهي: 1- التمسك بمنهج فكري واضح الأهداف أو مطابق للأهداف المراد تحقيقها في تنمية المجتمع وتقدمه. فاليوم نحن أمام مناهج فكريّة عديدة تنوس ما بين الماديّة والمثاليّة, بل رحنا نلمس أو نعيش في الحقيقة فكراً مثاليّاً مفارقاً للواقع, وإن حاولنا مقاربته فهو يتعامل كثيراً مع الشكل دون المضمون, الأمر الذي ترك المواطن يعيش حالة من الانفصام والغربة في الفكر والممارسة معاً, ففي الوقت الذي يطلب منه التمسك بالفضيلة في صيغتها المثاليّة على سبيل المثال, نجد أن دعاتها يغفلون في تفكيرهم التفكير والممارسة فضيلة ' القانون' الوضعي, ومتمسكين بفضيلة ماضويّة, خيم عليها الالتزام بممارسة طقوس شكليّة في اللباس والمظهر الشخصي على حساب الجوهر وخاصة عند أصحاب التيارات السلفيّة, في الوقت الذي نجد فيه قسوة تخلف الواقع على هذا الإنسان في لقمة عيشه وحرية تفكيره وشعوره بإنسانيته. 2- التمسك بمنهج فكري يتعارض مع النظرة الأيديولوجيّة الدوغمائيّة التي تنظر إلى الواقع على أنه من لونين أسود وأبيض. بينما الوعي المطابق يرى الواقع من الوان متعددة. فالحياة لا تسير على لون رمادي فحسب, فمن اللون الرمادي نستطيع أن نشتق ألوان كثيرة. 3- الوعي الأيديولوجي يرى الحقيقة (الأشياء) مطلقة وثابتة وعلى الواقع أن يرتقي إليها, أما الوعي المطابق فيراها نسبية ومتغيرة وهي في حالة حركة وتبدل وتطور مستمر. 4- الوعي الأيديولوجي يوجد حالة من الانفصال بين شكل الظواهر ومضمونها. أما الوعي المطابق فيرى هناك علاقة جدليّة تأثيريّة بينهما, فالشكل يدل على المضمون كما يقال في المثل الشعبي, ويحدد طبيعة هذا المضمون ومساراته. كما أن الأيديولوجيا تفصل الجزء عن الكل, والداخل عن الخارج, بينما الوعي المطابق يربط بين الأجزاء وبين الدخل والخارج ربطاً جدليا, فعلى مستوى ربط الجزء (فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص…). وعلى مستوى علاقة الداخل بالخراج, فالأفراد والمجتمعات لا تعيش وجوداً ' روبنسيا', بل هي تتفاعل مع بعضها سلباً او إيجاباً بالضرورة. 5- الوعي الأيديولوجي يعتمد على الحدْس والتقريب والعموميات والشعارات والأفكار المسبقة والذاتيّة والغيبيات. أما الوعي المطابق فيعتمد على الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب وعلى التفاعل, وبالتالي يقدم البرهان. 6- الوعي الأيديولوجي ينطلق من الرغبة والشعور المتعمد لدى حوامله الاجتماعيّة. أما الوعي المطابق فيعتمد على الواقع والمعطيات القائمة. 7- الوعي الأيديولوجي تقريري, والواقع عنده معطى مطلق نهائي ثابت. أما الوعي المطابق فالواقع عنده يقوم على منهج تحليلي, وهو نسبي في معطياته, والواقع يكتشف تدريجيّاً مع تقدم المعرفة البشرية والعلم. وأخيراً الوعي المطابق: هو سيرورة معقدة وشاقة وجهد مستمر ومتواصل من الاستقراء التحليل والتركيب والاستنتاج والنقد والشك وصولاً إلى المطابقة, مطابقة الوعي مع الواقع المتغير باستمرار. أي هو عملية اقتراب دائم من الواقع والتفاعل معه. ونفي أي صفة للقداسة عن الأشخاص والأفكار, وضرورة الارتباط بالقوى الاجتماعيّة الفعالة المؤمنة بقضية الوطن والمواطن, هذه القوى التي غيبت تاريخيّاً عن دورها الفاعل ومكانتها في هذه الحياة, على اعتبارها هي من يصنع التاريخ البشري, وبالتالي لن يتحقق تحريك هذه القوى وإعطائها دورها التاريخي إلا عن طريق تطبيق الديمقراطيّة والعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والتشاركيّة, واحترام الرأي والرأي الآخر, والنهوض بالمرأة, وتعميق لدور الفكر المطابق للواقع الرافض لأي فكر جمودي متحجر لا يقر بدور الإنسان ومكانته في صنع تاريخه. كاتب وباحث من سورية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الكتاب: الأيديولوجيا والوعي المطابق – إصدار دار التكوين دمسق. 2006- ط1. 2025-04-18


ساحة التحرير
٠٤-٠٤-٢٠٢٥
- ساحة التحرير
السلطات المستبدة في الدولة الشموليّة وتغييب دور الانتلجنيسيا!عدنان عويّد
السلطات المستبدة في الدولة الشموليّة وتغييب دور الانتلجنيسيا! (علاقة النخب الثقافية مع السلطات الحاكمة المستبدة.) د. عدنان عويّد أقصد بمفهوم ( النخبة) هنا, ليس مثقفي السلطة, وتجار الكلمة, ومهاتري وأدعياء الثقافة. وإنما المقصود بها هنا هي كل تلك القوى الاجتماعية الممثلة للثقافة العالمة ممثلة بالانتلجنيسيا المختصة بأنساق واسعة من المعرفة الايجابيّة. أي المهتمون بشؤون المعرفة العلميّة من أطباء ومحامين ورجال قانون ومهندسين وإداريون وكل من يقع نشاطه المعرفي في مضمار البحث المتخصص والمتعلق في تنمية الدولة والمجتمع. ويأتي في مقدمة هذه النخب الإيجابيّة أيضاً, من يشتغل على قضايا الأدب والفن والفكر بأنساقها السياسيّة والسيسيولوجية, (الاجتماعية) والابستمولوجيّة, (المعرفيّة) والفلسفيّة, وغير ذلك من قضايا الثقافة الإبداعيّة التي تختص في تنمية الوعي الفردي والمجتمعي والارتقاء بهذا الوعي بما يخدم الفرد والمجتمع, ومحاربة الظلم والاستبداد والتخلف والفساد بكل أشكاله, وعلى رأس كل هؤلاء يأتي المثقف (الطليعي) أو ما يسمى بالمثقف (العضوي) على حد تعبير 'غرامشي' علاقة النخب الثقافية الشموليّة, أو السلطات الحاكمة المستبدة: لقد ظل تعاضد السيف والسلطة في عالمنا العربي, قائماً في الدولة العربيّة منذ بداية الخلافة الإسلاميّة حتى اليوم. هذا التعاضد الذي عبر عنه الخليفة عبد الملك بن مروان بعد توليه الخلافة خير تعبير, عندما مسك القرآن بيده وراح يخاطبه بعد أن قبله قائلاً: ( هذا فراق بيني وبينك), ثم ذهب ليخطب بالناس في الكعبة بعد استيلاء عامله الحجاج على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير قائلاً عبارته المشهورة: (إنكم تكلفونا أعمال الأوائل ولا تسيرون سيرتهم, والله لا أسمع رجلاً يقول لي بعد اليوم 'اتقي الله' لقطعت رأسه بحد السيف). (1). أما الحجاج فيقول عن المعارضة ومنها حتماً أصحاب الرأي, أي المثقفين السياسيين ممن عارض السلطة أو الخلافة الأمويّة في سياستها آنذاك قائلاً: ( من تكلم قتلناه, ومن سكت مات بدائه غماً.). هذه المقولة التاريخيّة المعبرة عن استبداد السلطات الحاكمة الشموليّة وقهرها لمعارضيها أو منتقديها بشكل عام وللمثقفين العقلانيين التنويريين بشكل خاص, لم تزل سارية المفعول حتى تاريخه في عالمنا العربي. وفي تاريخنا الحديث : يقول الكاتب السوري النهضوي شبلي شميل: (ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكتاب في المشرق هو وقوف حكوماتهم ضدهم, فقد تعودت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها, وذلك لعدم معرفة الكثير من الحكام مالها من الأهميّة وما لكبارها من النفع في رفع شأن هذه الأمّة, إذ لا يعرف قدر الشيء إلا أهله, فمهما أجاد الكتاب في حكومة هذا شأنها, ومهما أظهروا الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ فلا يصادفون إلا إعراضاً منها يحملهم على أحد أمور ثلاث هي: إما كسر القلم, وإما تحييدها وعدم الوقوف ضدها, وإما إذلاله لها. وأبلغ من ذلك هو الإساءة إلى تخريب ذمم الكتاب وشرائهم بالمال ليكتبوا غير ما يفكروا به, أو يصمتوا عما يعتقدون, حتى ينحط مقام الكتابة بهم والنتيجة من ذلك في كلا الأمرين قتل الأفكار, وإفساد الأخلاق, وموت الْكُتَابِ الذين يُفتخر بهم, وما وجِدَتْ الحكومات لمثل هذا.). من طرائف السلطات المستبدة في وطننا العربي في بداية القرن التاسع عشر, أن 'محمد علي باشا' والي مصر أرسل الطهطاوي والعديد من النخب المصريّة إلى فرنسا للتخصص بالعلوم الحديثة أو ما سمي بـ (العلوم البرانية) كعلوم السباكة والحدادة والعسكريّة والأيلجة – أي الدبلومسية – وكانت يومها خمسة عشر علماً على حد تعبير ذلك الزمان, وعند عودتهم سأل الباشا كلاً منهم عن تخصصه العلمي الذي درسه في فرنسا, ووضع كلاً منهم في مجال تخصصه, إلا رجلاً واحداً عندما سأله عن اختصاصه قال له (علوم إداريّة). فاستفسر منه الباشا عن طبيعة هذا الاختصاص, فقال له: هو علم إدارة البلاد ومؤسساتها. فنظر إليه الباشا بشذر وقال له: أما أنت فاذهب إلى الاسكندريّة وترجم الكتب العسكريّة للجنود هنا. فأنا الحاكم هنا.(2). هكذا يفكر الحاكم المستبد في الدولة الشموليّة, فهو يتوجس شراً من كل مثقف أو متعلم يمكن أن ينافسه في الحكم أو يساهم في كشف المستبد وسياساته أما الشعب. كاتب وباحث من سوريّة ــــــــــــــــــ الهوامش: 1- (الدكتور عبد الوهاب أحمد أفندي – الإسلام والدولة الحديثة – دار الحكمة لندن – ص 70. ). 2- (د. عدنان عويّد – بحث 'النهضة وأزمة الطبقة' – من كتابنا: اشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط – إصدار دار المدى – دمشق – 1997- ص202). 2025-04-04


ساحة التحرير
٠٨-٠٢-٢٠٢٥
- ساحة التحرير
لماذا فشل الخطاب السياسي الإسلامي في تاريخنا المعاصر؟عدنان عويّد
عدنان عويّد: لماذا فشل الخطاب السياسي الإسلامي في تاريخنا المعاصر؟د. عدنان عويّد التطلعات الفكريّة والسياسيّة للإسلام المعاصر إن من يتابع التوجهات السياسيّة والعقديّة للمشروع السياسي الإسلامي المتحزب منه بشكل خاص، سيجد أنها تحمل – التوجهات – في مضامينها تطلعات أيديولوجيّة غالباً ما تنطوي على عدّة اعتبارات أهمها، محاولة إقحام أو ربط كل شيء في حياة الإنسان بمفردات الدين، وأقصد هنا القرآن والحديث وأقوال الفقهاء ومشايخه وتفاسيرهم وتأويلاتهم منذ بداية عصر حياة الرسول والصحابة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى حتى اليوم، واعتبارها إطاراً مرجعيّاً نهائيّاً لسلوكيات الناس في الشكل والمضمون، وأنها جميعاً قد امتلكت الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، كما ترفض التعديل والنقد والمراجعة، ممثلة في نصوصها المقدسة أصلاً وخاصة الحديث، أو ما نالته القداسة من أقول الأئمة والفقهاء وعلماء الكلام ومشايخ الطرق الصوفيّة والفرق الدينيّة فيما بعد. أي اعتبار الدين وحده المكلف بأمر إلهي أن يُسًيِر كل حياة البشر وفق معطيات حددها هذا الدين نفسه في عقيدته وتشريعاته وعباداته. وبالتالي هو من حكم الماضي ويحكم الحاضر وسيحكم المستقبل بمعظم تفاصيله أو مفرداته الحياتيّة، ووفق رؤية سلفيّة ما ضويّة ترفض الرأي الآخر المختلف، ولا تقبل التجديد والتعديل في معطياتها الفكريّة والسلوكيّة والقيميّة. وهذا ما يشكل عندها نظرة شموليّة تفرض الكثير من القيود على العقل الحر المنفتح، وتحدد بنية انطلاقاته الفكريّة بسنن الأولين التي يكتنف الكثير منها الغموض والالتباس والتناقض في أحيان كثيرة (1).أما جوهر الحكومة الإسلاميّة كما يراها (حسن الهضيبي) في كتابة المشهور (دعاة لا قضاة)، الذي حدّد فيه المنطلقات الأساسيّة لإقامة الدولة الإسلاميّة بالنقاط التالية:أولا: وجود الإمام الحق. أي الإمام الذي يجب أن يكون مسلماً بناءً على نص الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً). النساء – 141. وأن يكون الإمام قد بلغ سن التكليف وذلك بناءً على قول الحديث: (رفع القلم عن ثلاث) منهم الصبي الذي لم يبلغ الحكم. وأن يكون الإمام رجلاً ولا تقبل إمامة الأنثى). (لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة).(2).ثانياً: حكومة تعتنق الإسلام ديناً، وتقوم على تنفيذ أحكام الشريعة.ثالثاً: العمل بمقاصد الشريعة وهي:آ- حراسة الدين والدفاع عنه.ب- الدفاع عن المسلمين.ج- العمل على نشر دعوة الإسلام. (دعوة الله).د- القتال في سبيل نشر الدعوة لتكون كلمة الله هي العليا. (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.). الأنفال – 39هـ – الشريعة هي من ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. كتعيين شكل الحكم في الدولة، وتنظيم الحريات التي يكفلها الإسلام للفرد والجماعة.و- الشريعة هي التي تأمرنا باتباع وتنفيذ ما حددته من شرائع تحكم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعلاقة الأمّة الإسلاميّة بغيرها من بقية الأمم. إلى غير ذلك من قضايا تربط حياة الأمّة في مختلف نواحيها، وخاصة تلك القضايا التي تربط حياة الأمّة بمصيرها في الآخرة.ز- كل ذلك يتم وفق إيمان مطلق بطاعة الله وامتثالاً لأمره وخشوعاً له.ح- كل عمل لا يرتبط أو لا ينسجم في منافعه الدنيويّة مع أحكام دين الله وابتغاء وجهه لا يرضى عنه.ك- إن كل أحكام الشريعة كما يقول 'الهضيبي' تقوم على تطبيق نص الآية: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.).الحج 41. (3).أمام هذه المعطيات التي حددها 'الهضيبي' في كتابه 'دعاة لا قضاة'، والتي يتبين لنا من خلالها كيف يفكر دعاة الخطاب الإسلاميّ السياسي، في الدولة التي يسعون إلى تطبيقها في الواقع حسب نص الآية 41 من صورة الحج، فهنا يغيب دور العلوم الطبيعيّة والفلسفيّة وكل ما يعطي للعقل الإنساني من مساحة لتحقيق التنمية والتطور. لذلك لا نستغرب كيف راحت تتصرف بعض القوى الجهاديّة التي وصلت إلى الحكم وكيف اهتمت في الشكل أكثر من المضمون، أهتمت بلباس المرأة وحصارها، كما اهتمت بحف الشارب وإطلاق الدقن، وأمرت الناس على الاقتداء بالسلف الصالح فكراً وممارسة، وركزت على العبادات والشعائر أكثر من تركيزها على تطوير البحوث العلميّة وتشجيع البحث العلمي لدى الشباب. ففي الممارسة تبينت تلك الهوة الواسعة بين الفكر الذي طرحته بعض هذه القوى السياسيّة للتطبيق في الواقع المعاصر، وبين روح أو جوهر الدين الذي يحض على المعرفة (.. إقرأ باسم ربك الذي علم بالقلم..). الأمر الذي أدى إلى فشل تطبيق الدين عمليّا مع 'ثورات الربيع العربي' في تونس، ثم تلتها مصر، ثم فشل الدولة الإسلاميّة (داعش)، في سوريا والعراق. وعلى أساس هذه المعطيات التي جئنا عليها أعلاه، نعود لنطرح السؤال المشروع هنا وهو: كيف يستطيع حملة المشروع السياسي الإسلامي تحقيق 'دولة مدنيّة معاصرة' تجاري معطيات العصر الحديثة، دولة تتجاوز كثيراً المعطيات التاريخيّة التي كانت موجودة عندما جاء هذا الدين، وعبر مراحل تطبيقها اللاحق.إذاً بناءً على معطيات الواقع المعيوش، لا بد لدعاة الخطاب الإسلامي السياسي من إعادة النظر بمعطيات الواقع المعاصر، والعمل على إعادة تفسير النص وتأويله وفق مقاصد الدين المشبعة بالقيم الإنسانيّة كالدعوة إلى العلم والمعرفة واستخدام العقل وحرية الإرادة الإنسانيّة، وليس وفقاً لمواقف ماضوية جمودية استسلاميّة، أو مواقف إرادويّة ورغبويّة لا تراعي خصوصيات الواقع وما حدث فيه من تطور وتبدل، ولا تراعي مناهج البحث العلمي وتطويرها. أي عليها أن تتجاوز العمل على خدمة مشروع أيديولوجي سكونيّ جامد لا يؤمن بالحركة والتطور والتبدل.إن الموقف العقلاني النقدي من ربط الدين في الواقع يتطلب التفكير والممارسة وفق التالي:1- التخلي عن مفهوم الدولة أو الخلافة بصيغتها الراشديّة أو الأمويّة أو العباسيّة وما تلاها من صيغ خلافيّة حتى سقوط الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، واعتبار كل صيغ الحكم تلك هي الفردوس المفقود الذي يجب إعادته لواقعنا الحالي. وبالتالي هذا يتطلب منا بالضرورة الإقرار بأن الدولة الإسلاميّة المنشودة ليست دولة جاهزة نزلت من علٍ، وإنما هي دولة تنتج عن إرادة حرّة للأمّة وبالتراضي بين مكوناتها الاجتماعيّة بكل تجلياتها الدينيّة والعرقيّة والمذهبيّة.2- نبذ أوهام المهدويّة التي تعلق الآمال على إمام قد يأتي، أو يحيى بمعجزة لإقامة أنموذج الدولة الإسلاميّة العادلة المثاليّة ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وإن غاب يمثله مرشد عام أو ولاية فقيه تُختزل السلطة في شخصه، أو تمثله حركات إسلاميّة حديثة تعتقد بأن وصولها إلى السلطة سيخرج الزير من البير، وستحقق المعجزة أيضاً.3- ضرورة التركيز على الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والتشريعات المرتبطة بالواقع المعيوش، دون إنكار أو إقصاء للشريعة الإسلاميّة، وهذا يتطلب الإقرار باعتبار الشريعة الإسلاميّة مصدراً من مصادر التشريع، والتعامل معها وفق خصوصيات العصر.4- ربط التغيير بمعاينة الواقع والنظر بمصالح الناس بدلاً من الوعظ المجرد والاهتمام بالشكليات وتأدية الطقوس. فوعظ الناس بالدين لم يحرك ولن يحرك أصغر نبتة في الأرض إذا لم يرتبط بمصالح الناس ويدخل صلب معاناتهم وطموحاتهم معاً.5- اعتبار الفقه الذي وجد في العصور الوسطى هو فقه تلك المرحلة، ولا يجوز ان يتحول بمجموعه إلى نص مقدس صالح لكل زمان ومكان، مع التأكيد على صلاحية بعضه لمصالح تاريخنا المعاصر، ومع ضرورة إسناد مهمة التشريع للدولة ومؤسساتها من خلال علماء مختصون بالقانون ومصالح الناس وخصوصيات العصر.6- التخلي عن مفهوم الدولة المثاليّة والحاكم المثالي، فللناس مصالحها، والمواطنة والقانون هما أساس العدل. لذلك فإن الدعوة إلى الدولة المثاليّة أو الدولة الأنموذج، تجعل الطغاة يتمسكون بالسلطة تحت ذريعة الدفاع عن الدولة أمام القوى تقر ا بدستور متفق عليه شعبياً، هي من يحقق مصالح المواطنين بغض النظر عن دينهم وعرقهم وموقفهم السياسي.7- إن جوهر الأمّة هو مكوناتها العرقيّة والدينيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة والثقافيّة، وليس المسلمون وعقيديتهم الإسلاميّة فقط، وبالتالي الفرقة الناجية هي المرجع الوحيد. فالتعايش السلمي بين هذه المكونات هو جوهر الدولة الإسلاميّة. وهنا يأتي احترام الأمّة بمكوناتها، واحترام القانون الدوليّ وبقيّة الأمم الأخرى. إن أخطر المفاهيم التي يطرحها دعاة الخطاب الدينيّ السياسيّ المعاصر هي تفشي الاعتقاد بأن الدولة الإسلاميّة هي تلك المؤسسة التي تجبر الناس على العيش وفقاً لقيم الإسلام فقط. والصحيح هو جعل الناس تبحث عن دولة تؤمن لهم رعايتهم ومصالهم وحمايتهم من الفقر والظلم والاستبداد، إضافة للنظر في القضايا المعاصرة كالتنمية بكل ابعادها والحرية ووضع المرأة والديمقراطية والدولة المدنية بكل مفرداتها ويأتي في مقدمتها المواطنة والقانون والمؤسسات والتشاركيّة والتعدديّة.8- عدم التعامل مع آيات القتال على أنها آيات أذنت بقتال من يقاتل الدين والمسلمين إلى يوم الدين، وهذا ما يجري عند دعاة الإسلام السياسي حتى اليوم حقيقة كالدواعش مثلاً. إن اتخاذ آيات وأحاديث الجهاد لنشر الإسلام بحد السيف واجبار الناس بالقوة على دخول الإسلام حتى تاريخه، لم يحقق دولة إسلاميّة مستقرة وعادلة سابقاً، ولن يحقق دولة إسلاميّة لا حاضراً ولا في المستقبل، ولن يسمح حتى بإعطائها صفة الإسلام. (قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. الحج – 39-40. والقتال في جوهره يأتي لدثر الفتنة ومن يوقظها. وقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). المائدة 32.9- إن الحديث عن فرض قوانين الشريعة في الدولة الإسلاميّة المنشودة بالقوة، هو فهم أيديولوجي، فالشريعة لا تحكم حقاً إلا إذا كان المجتمع الذي تطبق فيه يراها عمليّة تحرير واشباع لتطلعات الفرد والمجتمع والأمّة، وعمليّة تحقيق الذات والنمو الأخلاقي وتحقيق الرفاهيّة والسعادة والاستقرار. وإن هذه القوانين لا تفرض بالقوة وإنما بالإرادة المشتركة لهذه الأمّة التي تقرها وتطبقها، وسندها في النهاية هم من تنطبق عليهم، وإلا تحولت إلى ظلم ونفاق للدين وفق رؤية من يريد فرضها بالقوة.10- من واجب الدولة الإسلاميّة حماية مواطنيها من الظلم وليس التماشي معه تحت دريئة درء الفتنة وتبرير ظلم الحاكم.11- التأكد من دور الفرد في إطار الجماعة، ومسؤوليته هي الوقوف ضد مصالح الفرد الأنانيّة التي تخالف مصالح الجماعة. فلا تأليه للحاكم، ولا خلود له في السلطة، فالسلطة للشعب في جوهرها ولا وصاية عليه ومن يكلف بإدارة السلطة يجب أن يكلفه الشعب، وإلا يعتبر متسلطاً وناهبا للسلطة بالقوة.إن الإسلام أهمل دور الفرد باسم العقيدة، وباسم أهل الحل والعقد، وفرض الكفاية، وهذه التعابير أو المقولات اختزلت الإسلام في تطبيقاتها على فئة في أمور السياسة وتطبيق للشريعة. وعلى هذا الأساس نقول: إن الفرد لا يحتاج للدولة حتى يكون مسلماً، وإنما الفرد المسلم هو من يخلق الدولة كمسلم.12- الدولة ليست غاية بذاتها كما نادى بها بعض قيادات الإسلام السياسيّ في شقيه السنيّ والشيعيّ، فهذا الادعاء يعطي مشايخها الكلمة الفصل في تحديد سماتها وخصائصها، وبالتالي في انحرافها عن مهامها الأساسيّة، بهذا الشكل أو ذاك. لأن الدول ممثلة بقادتها ومشايخها هنا، وهذا ما يجعلها تنكفئ على نفسها، وتقدس نفسها أيضاً وهياكلها ووجودها والبعد التشريعي الذي تحكم به. وبهذا، فساسة الدولة في مثل هذه الصيغة الشموليّة سيعملون جاهدين من أجل استمرار هذه الدولة، والحفاظ على كيانها بعيداً عن مصالح الشعب كما يجري الآن في الدول التي حكمت باسم الدين في صيغته المتأتى عليها أعلاه، ولا تعتبر الشعب هو الحاكم الفعلي في اختيار من يحكمه ويحقق العدالة والاستقرار والأمن ولقمة العيش له.13- إن الدولة الشموليّة مهما تكن مرجعيتها دينيّة أو وضعيّة، هي دولة ستدور عبر قيادتها حول نفسها، أي الدوران حول المبادئ والأخلاق والسلوكيّة الوثوقيّة، لتحقيق أهدافها، فباسم المثاليّة العظيمة ارتكبت مجازر بحق المختلف أو صاحب الرأي الناقد لسياسة الدولة الشموليّة .14- إن دولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة، لا تؤمن بفرض الوصاية الدستوريّة والتشريعيّة على طريقة الأحزاب 'الديمقراطيّة الثورية'، أي جعل (مجلس الثورة)، أو من يريده قادة هذا المجلس من النخب بوضع الدستور، وفرضه على الناس بالقوة تحت ذريعة تحقيق مصالح الشعب، وبالتالي تسويق الحق المطلق الذي يمثله الدين برأيهم عبرفهمهم هم للدين .15- إن مشروع المعاهدة بين مكونات المجتمع في قيادة الدولة، هو ما نسميه اليوم العقد الاجتماعي، وهو الحل لتجاوز دولة الاستبداد والوصاية والشموليّة باسم العقيدة وفهم النخبة أو ولاية الفقيه أو المرشد العام، أو مشايخ السلطان. (4). د. عدنان عويّدكاتب وباحث من سوريّة………………….الهوامش:1- علي الخيون – الإسلام السياسي في العراق – اصدار مركز الدراسات – 2011 – ص9.2- (المحلي ابن حزم 9- 360).3- للاستزادة في هذا الموضوع راج كتاب حسن الهضيبي – دعاة لا قضاة – دون تاريخ نشر. وكتاب سيد قطب ' معالم في الطريق.4- للاستزادة في ذلك يراجع كتاب: 'الإسلام والدولة الحديثة' – الدكتور أحمد عبد الوهاب أحمد الأفندي – دار الحكمة – لندن – دون تاريخ نشر – ص178 إلى 194)2025-02-08 The post لماذا فشل الخطاب السياسي الإسلامي في تاريخنا المعاصر؟عدنان عويّد first appeared on ساحة التحرير.