logo
العدل الذي يتسع لكل إنسان

العدل الذي يتسع لكل إنسان

الجزيرةمنذ يوم واحد

حدثتني صديقتي اليونانية كثيرًا عن رُوح اليونان حتى وجدتُ ملامح الفلسفة في أكاديمية أفلاطون؛ حيث يرى سقراط أن الظلم يولّد الفوضى، والعدل يولّد الانسجام.
من "الجمهورية" لأفلاطون، التي تخيل فيها مدينة مثالية يحكمها الفلاسفة، إلى "الأخلاق النيقوماخية" لأرسطو، التي حللت معنى الفضيلة والعدالة، رُبما كان اليونانيون أول من سأل: ما هو العدل؟
الماضي ليس مضرًا بحد ذاته، ولا عائقًا أمام التطور.. المسألة ترتبط بك أنت! كيف تبني على الماضي، وتأخذ منه الجيد، وتتعلم من السيئ، وتكون أنت؟
عندما سافرت إلى تيرامو مرورًا بروما، عادت بي الذاكرة إلى لوحات ليوناردو دافنشي، وتذكرت اقتباسًا له.. "البساطة هي أقصى درجات الرقي". وعلى صدى أوبرا فيردي في أوبراه الشهيرة "نابوكو"، التي تحولت إلى نشيد للحرية ضد الظلم، سمعت كلماته: "البساطة أقصى درجات الرُقي!"
تقاطعت كل تلك الصور مع مقطوعات باخ الألماني، حيث تتشابك الألحان بنظام رياضي دقيق في "فاوست" لـ"غوته"، حيث يبيع البطل روحه بحثًا عن المعرفة المطلقة، وهو صراع أبدي بين المعرفة والجهل، أكده شيلر: "أقسى سجون العالم هي تلك التي نبنيها لأنفسنا".
تُفزعني هذه الجملة.. كيف نبني نحن سجوننا؟ ربما عندما نرفض سماع إنسانيتنا مثلًا؟
ورغم أن اليابان تبدو غير مألوفة بالنسبة لي، تلفتني مراسم الشاي اليابانية، حيث تعكس كل حركة تقديرًا للجمال والصبر، في أدب هاروكي موراكامي، في كتابه: "كافكا على الشاطئ" قرأت له: عندما تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها.. فكيف لو خرج مجتمع كامل من كوارث؟!
تتحول الشوارع إلى لوحة من الألوان والرقص في البرازيل تعبيرًا عن الحرية في وجه الظلم؛ يؤكدها الكاتب البرازيلي باولو كويلو في "الخيميائي".. عندما ترغب في شيء بشدة، فإن العالم كله يتآمر لمساعدتك على تحقيقه!. ورُبما يحدث العكس أو كلاهما أو ما بينهما.. لماذا نعود دائمًا للأبيض والأسود، ونتجاهل كل الألوان؟
وكيف تندمج التقاليد مع الحداثة، كما يظهر في آيا صوفيا؟ هناك حيثُ ينتفض الحنين من غسق ليله، هناك تتعلم كيف أن الماضي ليس مضرًا بحد ذاته، ولا عائقًا أمام التطور.. المسألة ترتبط بك أنت! كيف تبني على الماضي؟ كيف تأخذ منه الجيد، وتتعلم من السيئ، وتكون أنت؟
الإصرار على العدل يتجلى في عادات وثقافات مختلفة، كلها تطرح نفس السؤال: العدل الذي يتسع لكل إنسان، لماذا يتم تطبيقه بشكل ضيق بقالب واحد؟
"حتى أحلك الليالي ستنتهي بطلوع الفجر".. يقول فيكتور هوغو في "البؤساء"!. وهو تجسيد للصراع الأبدي بين العدل والظلم، كما هو في "العقد الاجتماعي" لروسو، الذي طرح فكرة أن العدالة تتحقق حين يحكم الشعب نفسه بنفسه!
هل سنحكمها كما يحكم البريطانيون نقاشاتهم بحنكة سياسية بليغة؟. شكسبير في "هاملت" يرى أن "الشيء ذاته ليس خيرًا أو شرًا، لكن تفكيرنا هو الذي يجعله كذلك"!. ما أعمقها من فلسفة! وما أبسطه من أسلوب حياة! وما أرقاها من فكرة!
تتشابك حروفها مع كلمات في رواية "أن تقتل عصفورًا بريئًا" لهاربر، التي صورت الظلم العرقي في أميركا، وفي كلمات مالكوم إكس: "لا يمكنك فصل السلام عن الحرية، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون مسالمًا ما لم يكن حرًا".
حقيقة، لا أفهم الكثير تحت كلمة "حرية".. أوْمن بالعدل، بالحقوق والواجبات، ذاك أن الحرية كلمة هوائية جدًا بالنسبة لي، تشبه جنون الجوزاء، ولكنها تُشبع حاسة السَمع.. حرية! ولكن الحرية لها شريك.. المسؤولية!
حتى في أدب دوستويفسكي في "الجريمة والعقاب": "إن أسوأ ما في السجن أنه يجعل الإنسان يفكر"، وهو تأمل في الصراع النفسي والعدل والظلم والمسؤولية، لأن المعرفة مسؤولية أيضًا.. في "أنا كارنينا" لتولستوي، حيث تتحطم بطلة الرواية بسبب قوانين المجتمع الظالمة، تُدرك أن الظلم ليس بيد السلطة فقط!
إعلان
مثلًا، الحكم على الآخر واتهامه وتخوينه وتكفيره -بحسب مزاج الجوزاء- عدل؟ لماذا لا نؤمن بأن العدل حتى بالكلمة بين صديقين لا يقلّ أهميةً عن العدل بين المواطن والسلطة؟
حين تنظر إلى العالم بعيونهم، لن ترى طوائف ولا انقسامات، بل سترى الإصرار على العدل يتجلى في عادات وثقافات مختلفة، كلها تطرح نفس السؤال: العدل الذي يتسع لكل إنسان، لماذا يتم تطبيقه بشكل ضيق بقالب واحد؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الفقر والغضب والثورة.. وقود مدرسة 'نوفو' التي غيرت السينما في البرازيل
الفقر والغضب والثورة.. وقود مدرسة 'نوفو' التي غيرت السينما في البرازيل

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

الفقر والغضب والثورة.. وقود مدرسة 'نوفو' التي غيرت السينما في البرازيل

في خمسينيات القرن الماضي في البرازيل، كانت سينما 'التشانشادا' (Chanchada) قد بسطت هيمنتها عقدين، وانتشرت مواضيع تاريخية قومية مبالغ في عاطفتها. فكان لا بد من ظهور حركة سينمائية مضادة، ترصد واقع المجتمع البرازيلي من فقر ومجاعات واستبداد، وتنفي صورة الواقع المجمل، الذي تصدره السينما للخارج. حينها بزغ نجم مدرسة سينمائية قوية، ترجلت عن خيول النخبوية إلى قاع المجتمع، وتجاهلت قواعد التجارة السينمائية في سبيل الواقعية، لتنتج غضبا وثورة تقرب فجر التغيير، في بلاد تتناهش شعبها قوى الاستبداد والاستعمار الخفي. كانت تلك الحقبة حقبة الواقعية السينمائية في إيطاليا وفرنسا ومناطق أخرى من العالم، وظهرت فيها مدارس لا تسعى لصناعة البهجة والكوميديا السطحية، بل تضع الأيدي على مواقع الجراح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. التشانشادا وأخواتها.. سطحية تخدم المستعمر والمستبد 'التشانشادا' مصطلح مشتق من البرتغالية، ومعناه 'الشيء المبتذل والفوضوي'، وقد أطلق على أفلام تلك المرحلة، لغلبة الكوميديا السطحية والمبتذلة عليها، ولم يكن ذلك جديدا على السينما. فلقد كانت التشانشادا في البرازيل كمثيلتها في إيطاليا، التي أنتجت ما عُرف بأفلام 'الهواتف البيضاء' أيام الفاشية في الثلاثينيات، وقدمت يومئذ صورة مغلوطة عن المجتمع الإيطالي، وكذلك السينما المصرية في الثلاثينيات والأربعينيات، فقد هيمنت عليها الأفلام الغنائية والاستعراضية، في ما سُمي 'سينما الكباريه'. يقول الكاتب 'سيرغيو أوغوستو' في كتاب 'هذا هو الدف'، إن التشانشادا قد مرت بمرحلتين؛ الأولى انطلاقا من الثلاثينيات وحتى بداية الأربعينيات، وكانت عبارة عن محاكاة ساخرة وهزلية لسينما هوليود التجارية، وكانت أفلاما ذات جودة بدائية ورديئة، غلب عليها الارتجال. المرحلة الثانية بدأت من بداية الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات، وهي مرحلة يشاد بها على أنها مثال على تطور التقنية والموضوعات في السينما البرازيلية. ومع أنها احتفظت بالقوالب الكوميدية والاستعراضات، فلقد حاول روادها يومئذ تقديم نقد سياسي واجتماعي، والابتعاد عن الارتجال، مع تطوير تقنياتهم وأدواتهم، ولكن لم يكن ذلك كافيا للتعبير عن هموم غالبية الشعب البرازيلي، في نظر رواد سينما 'نوفو'. هذه المدارس السينمائية الثلاث في البرازيل وإيطاليا ومصر، كانت نتاجا إما لسيطرة الاستعمار الأجنبي بهدف محو الهوية، وإما بقصد من سلطة مستبدة أرادت إلهاء العامة. لذلك نلحظ وجود سمات مشتركة جمعت بين تلك الأفلام، مع اختلاف الثقافات والجغرافيا، فنجدها ترتكز غالبا على تناول مواضيع سطحية، مع غلبة الكوميديا والاستعراض، وتركز على رصد طبقات بعينها، متجاهلة السواد الأعظم من الشعب، وهي الفئات الغالبة التي كانت تعاني. لذا كان انتشار هذه المواضيع يومئذ في البرازيل -بدل المواضيع الجادة والحقيقية- أمرا مفهوما، لا سيما أن الإنتاج كان خاضعا لهيمنة أستديوهات بعينها، منها أستديو 'أتلانتيدا سينماتوغرافيكا'، وهو أشهرها يومئذ في البرازيل، وكان باكورة إنتاجاته فيلم 'كارنافال أتلانتيدا' (Carnaval Atlântida) عام 1952، وهو فيلم معبر عن الاتجاه السائد حينئذ. سينما 'نوفو'.. إرهاصات التمرد والتحول إلى الواقعية بعد الانقلاب على حكومة 'جيتوليو فارغاس' الديكتاتورية منتصف الأربعينيات، مرت البرازيل بتقلبات سياسية كثيرة، أنتجت تخبطا وخلافات سياسية ودينية واقتصادية، مما أدى إلى إعادة التفكير في الأفكار والقيم الكبرى، الروحية والمادية. تزامن ذلك مع تطور صناعة السينما، سواء على مستوى المواضيع مثلما حدث في أفلام الواقعية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، أو التطور التقني والجمالي في فرنسا بالخمسينيات والستينيات، مع حركة السينما الفرنسية الجديدة. ترتب على ذلك كله تبلور حركة سينما 'نوفو' في البرازيل، وقد تأثرت بما قبلها، فنرى تأثرا بالواقعية الإيطالية في اختيار المواضيع، واللقطات الطويلة ذات الأحجام الواسعة، ثم نرى تأثرا بالسينما الفرنسية الجديدة في الناحية الأسلوبية والإيقاع، من تصوير خارجي، وخطوط سردية متوازية، وإيقاع سريع أحيانا. ويعد 'نيلسون بيريرا دوس سانتوس' رائدا للحركة السينمائية بفيلمه الصادر عام 1955، ألا وهو فيلم 'نهر الـ40 درجة' (Rio, 40 Graus)، وقد مهد الطريق لمن بعده من المخرجين، فمنهم 'غلوبير روشا'، و'روي غويرا'، و'باولو سيزار سارسيني'، و'كارلوس دييغيس'، و'جواكيم بيدرو أندرادي'، وآخرون. كل هؤلاء ظهرت أعمالهم بداية الستينيات، ولا سيما عندما عرضت 3 أفلام من سينما 'نوفو' في مهرجان 'كان' السينمائي عام 1964، وهي: 'الإله والشيطان في أرض الشمس' (Deus e o Diabo na Terra do Sol) للمخرج 'غلوبير روشا'. 'حياة قاحلة' (Vidas Secas)، للمخرج 'نيلسون بيريرا دوس سانتوس'. 'غانغا زومبا' (Ganga Zumba) للمخرج 'كارلوس دييغيس'. تشابكت أفلام رواد الحركة في عدة مواضيع، واشتركت في بعض السمات، ونرى أغلبها في فيلم 'نهر الـ40 درجة'، فقد رصد فيه مؤسس الحركة 'دوس سانتوس' معاناة سكان الأحياء الشعبية في المدن الكبرى، من خلال 4 أطفال يقاسون لكسب قوتهم اليومي. ثم نرى ذلك فيما بعد في عدة تجارب له، متمثلا إما في رصد معاناة الأطفال وحدهم، أو رفقة أسرهم الفقيرة، كما في فيلميه 'حياة قاحلة'، و'النهر، المنطقة الشمالية' (Rio, Zona Norte). ويلحظ في سينما 'دوس سانتوس' الأسلوب التوثيقي، لا سيما في أفلامه المبكرة تلك، ويرجع ذلك إلى عمله مصورا صحفيا قبل عمله صانع أفلام، وتأثره بالحركات السينمائية يومئذ، لا سيما الواقعية الإيطالية، التي قال إنها أقرب إلى 'واقعية حديثة'. وكان يرى أن تلك الواقعية مناسبة أكثر للدول التي لا إمكانيات فيها، فبمجرد إمساك المخرج المصور لكاميرا يستطيع تصوير العالم بحرية، بعيدا عن قيود الإنتاج، وهيمنة الأستوديوهات الكبرى، وذلك مناسب لدول العالم الثالث أكثر، فقد عانت من الفقر والاستعمار أزمانا طوالا، كدول أفريقيا وآسيا ودول أمريكا اللاتينية، ولذلك عرفت سينماهم بـ'السينما الثالثة'. سينما نوفو ومدخل إلى السينما الثالثة كان أول أطلق مصطلح السينما الثالثة صانعا الأفلام الأرجنتينيان 'فرناندو سولاناس' و'أوكتافيو جينتو'، وقد أنتجا وأخرجا أهم الأفلام الوثائقية في الستينيات. ويعدّ المنظرون أن مفهوم السينما الثالثة -الذي تجلى بعد الثورة الكوبية تحديدا- ليس مقتصرا على منطقة ولا حيز جغرافي بعينه، بل هو متعلق بالفكر الذي يتبناه صانع الفيلم، بشرط أن يكون مناهضا للاستعمار، كاشفا للاضطهاد الطبقي والعرقي، شديد الخصوصية المحلية، مهتما بالحقيقة في أي مكان، ولذلك فضّل المنظرون المصطلح على مصطلح 'سينما العالم الثالث'. رأى 'دوس سانتوس' ورفاقه في سينما 'نوفو'، أن أبناء تلك الدول إن أرادوا التعبير عن أنفسهم بصدق، فعليهم ألا يلجؤوا للميزانيات الضخمة، فهي لا تصدر إلا من الأستديوهات الكبرى، التي تشترط سياسات خاصة، وهي تجارية في الغالب، لذلك فلن تدعم بالضرورة أي موقف حر وحقيقي. يفسر ذلك تفضيل 'دوس سانتوس' وأتباعه سياسة التعبير الحر، ذلك النهج الذي سار عليه رواد الواقعية الإيطالية والفرنسيين الجدد، وهو أسلوب سماه المنظرون 'تيار الحداثة في السينما'. 'كاميرا في اليد وفكرة في الرأس' منذ بداية الحداثة (انتهاء الحرب العالمية الثانية)، هُمش دور المؤلف السينمائي، أو استبدل بالأدباء والفلاسفة لكتابة الأفلام، لصالح لقطات وثائقية اهتم فنانو السينما بتوثيقها، لرصد تبعيات الحرب وطبيعة المجتمعات. ومثال ذلك استعانة المخرج الفرنسي 'آلان رينيه' بالكاتبة 'مارغريت دوراس' في فيلمه 'هيروشيما حبيبتي' (Hiroshima mon amour)، والكاتب 'آلان روب غرييه' في فيلم 'العام الماضي في مارينباد' (L'année dernière à Marienbad). إن ذلك الاتجاه الحر في التعبير هو نتيجة الابتعاد عن سياسات الأستوديوهات الكبرى وقيود الإنتاج، وقد قال المخرج الفرنسي 'جان لوك غودار' إن 'كل فيلم يدور بداخل أستديو هو فيلم يميني'، وقد يشرح ذلك سياق مقولة 'غلوبير روشا' الشهيرة، التي عُدّت شعارا للحركة 'كاميرا في اليد، وفكرة في الرأس'. نرى ذلك الأسلوب الواقعي المستقل في التصوير ممتدا لتجارب أخرى في الحركة، مثل فيلم 'جلد القط' (Couro de Gato) للمخرج 'جواكيم بيدرو دو أندرادي'، فنراه يرصد معاناة 4 أطفال، يحاولون كسب قوتهم اليومي بتجارة جلد القطط، ونرى جماليات الجوع والفقر في مدينة ريو دي جانيرو الصاخبة. صراع الإقطاع والدين في حكايات الريف لم تقتصر أفلام حركة 'نوفو' على رصد معاناة سكان الأحياء في المدن، فلقد تخلى المخرجون عن مركزية المدينة واتجهوا للريف، فتنوعت مواضيعهم في الريف ما بين رصد سيطرة الإقطاع والدين. نرى ذلك في فيلم 'حياة قاحلة' للمخرج 'دوس سانتوس'، ويرصد رحلة الفلاح 'فابيانو'، الذي يعتدي على إقطاعي كان يعمل لديه، ثم يهرب ليقاسي هو وأسرته في مزرعة لإقطاعي آخر، وكأنها رحلة لا تنتهي من العذاب، في ظل سيطرة الإقطاع. تتشابه تلك الحبكة مع تلك التي بدأ بها 'غلوبير روشا' فيلم 'الإله والشيطان في أرض الشمس'، الذي يعده المنظر السينمائي 'كلود بيلي' الفيلم الذي رسخ سينما 'نوفو' عالميا. ففيه نرى 'مانويل' يقتل رئيسه الإقطاعي، ويهرب هو وزوجته سعيا للحرية، ولكنه يقع تحت سطوة رجال الدين نتيجة لجهله، ثم يلتقي بعدها رجل العصابات المتطرف 'كوريسكو'، وقاطع الطريق 'أنتونيو دي مورتي'. وقد غلبت تلك المواضيع على أفلام الحركة، وناقشت هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، وتحالفها مع رجال الإقطاع والسياسة، ليكون المواطن الريفي والفقير دوما ضحية لتلك التحالفات. نرى ذلك ممتدا لأفلام أخرى، منها: 'حياة قاحلة'، للمخرج 'نيلسون بيريرا دوس سانتوس'. 'البنادق' (Os Fuzis)، للمخرج 'روي غويرا'. 'الكاهن والفتاة' (O Padre e a Moça)، للمخرج 'جواكيم بيدرو دي أندرادي'. 'الأرض الهائجة' (Terra em Transe)، للمخرج 'غلوبير روشا'. 'صادق الوعد' (O Pagador de Promessas)، للمخرج 'أنسيلمو دوارتي'. كما اتجه رواد الحركة أيضا لرصد فئات مهمشة مثل صيادي السمك، وهو ما نراه في فيلم 'التيار الجارف' (Barravento) للمخرج 'غلوبير روشا'، وفيلم 'أريال دو كابو' (Arraial do cabo) للمخرج 'باولو ساراسيني'. مزجت تلك الأفلام بين الروائي والوثائقي، ولم تقتصر غايتها على رصد تلك الفئات، بل كانت تحيي الهوية وتؤكد استمرارية التراث، اللذين سعت الإمبريالية والحداثة لمحوهما، وفي تلك الأفلام نرى ملامح الأسلوب الوثائقي الذي اكتسبه رواد الحركة من سينما 'دوس سانتوس'. فساد يحرق أخلاق الطبقة العمالية امتدت مواضيع الحركة لأكثر من ذلك، فاتجهت لرصد تبعيات الفقر، مثل الدعارة والسرقة والخيانات الزوجية والفضائح الأخلاقية، ولكن الملفت هو عدم اهتمام مخرجيها بما هو أخلاقي، بقدر اهتمامهم بما تعبر عنه تلك الانحرافات، وذلك لسببين: أولا: كونها نتيجة لما سبق من قمع سياسي واقتصادي. ثانيا: كونها من تبعيات الحداثة الغربية. نرى ذلك في فيلم 'الأوغاد' (Os Cafajestes) للمخرج 'روي غويرا'، وفيه نرى شابين يستدرجان الفتيات لتصويرهن عاريات، ثم يبيعان تلك الصور بثمن بخس. تذكرنا بنية ذلك الفيلم بثلاثية الانحطاط للمخرج الإيطالي 'مايكل أنجلو أنتونيوني'، لا في إثارة موضوعه فقط، بل على مستوى الشكل والأسلوب الإخراجي الذي تميز به 'أنتونيوني'، من استخدام المساحات والفراغ تعبيرا عن خواء الإنسان المعاصر واستهلاكه. نرى ذلك أيضا في أفلام أخرى، منها: 'فقيد' (Falecida)، للمخرج 'ليون هيرزمان'. 'صادق الوعد' (O Pagador de Promessas)، للمخرج 'أنسيلمو دوارتي'. 'تنين الشر ضد المحارب المقدس' (O Dragão da Maldade contra o Santo Guerreiro)، للمخرج 'غلوبير روشا'. 'ميناء الصناديق' (Porto das caixas)، للمخرج 'باولو ساراسيني'. 'باولو ساراسيني'.. مخرج يغرف من معين الأدب والثقافة المحلية أرى أن المخرج 'باولو ساراسيني' لم يأخذ حقه كثيرا مثل 'نيلسون بيريرا دوس سانتوس'، لكونه رائدا للحركة، أو مثل 'غلوبير روشا' الذي اشتهر بإعلانه ميلاد الحركة وذيوع صيته عالميا. ولقد تميز 'ساراسيني' بطرحه لشخصيات ومواضيع إشكالية، فمثلما يرصد في فيلمه 'ميناء الصناديق' انحطاطا أخلاقيا للطبقة العمالية، متمثلا في خيانة امرأة فقيرة لزوجها وسأمها منه، فإنه بالمثل يرصد سأم الأثرياء في فيلمه 'التحدي' (O Desafio)، وهي سمة تكررت مرارا في أفلام الحركة، فنراها مثلا في فيلمي 'الأوغاد' و'فقيد'، اللذين ذكرنا آنفا. كما تأثر 'ساراسيني' برموز أصيلة في الأدب، فنرى في أفلامه تلك ملامح من أدبيات كبرى، منها على سبيل المثال مسرحية 'ماكبث' للكاتب الإنجليزي 'ويليام شكسبير'، وأسطورة 'أورفيوس' الإغريقية. تظهر أيضا سمات واضحة في أفلام الحركة، منها هيمنة كرة القدم على خلفية الأحداث، تعبيرا عن أصالة رياضة كرة القدم، ومدى ارتباط الشعب البرازيلي بها، ويتجلى ذلك بقوة في فيلمي 'فقيد'، و'نهر الـ40 درجة'. كما تتكرر فكرة وجود شهيد مخلص، يحمل إثم جميع شخوص الحكاية –واقعيا أو مجازيا- كما نرى في أكثر الأفلام التي ذكرنا. ومالت أفلام أخرى لنهايات مأساوية، يضيع فيها أبطال الحكاية بلا خلاص ولا ملجأ، مثل فيلم 'الإله والشيطان في أرض الشمس'، الذي ينتهي فيه الزوجان وهما يجريان إلى ما لا نهاية، وفيلم 'حياة قاحلة' الذي نرى فيه الزوجين في النهاية يمشيان وسط أرض جافة وقاحلة، في طريق طويل لا نهاية له. حكايات دالة تراوغ عصر الاستبداد والهيمنة إن تلك النهايات المأساوية والمتشائمة تعبر عن تصورات رواد الحركة، تجاه ما هو قادم في ظل الحكومات المستبدة، فيبدو مظلما بلا ملامح، وهو ما يذكرنا بنهايات أفلام حركة الواقعية الإيطالية، فهي نهايات مأساوية عبّر بها رواد الواقعية الإيطالية بحدّة عن رفضهم للميلودراما لإرضاء الجمهور، فاهتموا أكثر برصد الواقع كما هو، وبالتعبير عن رؤاهم بصدق. وكان ذلك يرجع لقلق مهيمن على رواد الحركة، يعبر عن تيههم بخصوص ما هو قادم، لا سيما بعد تغير أكثر من حكومة، وخوفهم المبرر من توغل الهيمنة الأمريكية بعد عام 1961، فلم يطمئن المخرجون بمجرد تولي حكومة 'جواو غولار' الإصلاحية الحكم، تخوفا من السياسة الأمريكية التي وضعت دول أمريكا اللاتينية نصب أعينها، لا سيما بعد نجاح الثورة الكوبية. وقد حدث ما يخافون عام 1964، بعد انقلاب دعمته الولايات المتحدة على حكومة 'غولار'، انتصارا للديكتاتورية العسكرية، وذلك ما يفسر غضب أفلام الحركة بعد 64 تحديدا، واتجاه المخرجين لرؤية السلطة تلتهم نفسها بنفسها. ظهر ذلك في عدة أفلام، منها 'الأرض الهائجة'، و'تنين الشر ضد المحارب المقدس'، و'المحارب الشجاع' (O Bravo Guerreiro) للمخرج 'غوستافو دال'، وهي أفلام ترصد أزمات لسياسيين بجانب السلطة، وتعبر عن الوضع السياسي المعقد في ظل الحكومات الديكتاتورية. يتجلى ذلك في فيلم 'تنين الشر ضد المحارب المقدس' للمخرج 'غلوبير روشا'، ونرى فيه المناضل 'أنتونيو داس مورتيس' قاطع الطريق، ثم ينتهي به الأمر بالضياع في النهاية. فربما تعبر تلك النهاية عن رؤية 'روشا' المتشائمة تجاه الفرسان -لا سيما في عصر الديكتاتورية- الذين تلاشوا ولم يعد لهم وجود ولا تأثير كافٍ، فأصبحوا ضائعين في الطريق. وبسبب سيطرة الديكتاتورية العسكرية على الحكم، اختلفت أفلام نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عما قبلها، فلقد ابتعدت تلك الأفلام عن الواقعية، واتجهت أكثر إلى ما هو غرائبي وسريالي ورمزي، محاوِلةً الإسقاط على الوضع القائم. نرى ذلك متمثلا في أفلام منها: 'كم كان لذيذا فرنسيي' (Como Era Gostoso o Meu Francês) للمخرج 'دوس سانتوس'. 'الآلهة والموتى' (Os Deuses e os Mortos) للمخرج 'روي غويرا'. 'ماكونيما' (Macunaíma)، للمخرج 'جواكيم دي أندرادي'. 'ساو برناردو' (São Bernardo)، للمخرج 'ليون هيرزمان'. وكانت هذه الأفلام جميعا بمنزلة حيل أو مراوغات لا بد منها، لدرجة أن فيلم 'كم كان لذيذا فرنسيي' (1971) تدور قصته في القرن السادس عشر، وهي قصة تحكي محاولة دول أوروبا استعمار البرازيل، ويتماس ذلك مع ما حاولت الولايات المتحدة فعله في دول أمريكا اللاتينية في منتصف القرن العشرين. نرى أيضا ظهورا لمخرجين أكثر عنفا وجموحا من مخرجي 'نوفو'، وهم جيل المخرجين الذي ظهر في نهاية الستينيات، فمنهم 'نيفيل دالميدا'، الذي اتخذ الجنس والعنف موضوعا أساسا في سينماه، تعبيرا عن غضب كامن في النفس من القمع السياسي يومئذ. وفي نفس الوقت كان ذلك يتماس مع الحركات التحررية التي بدأت في الستينيات، فنرى مثلا في فيلمه 'قتَل أهله وذهب إلى السينما' (Matou a Família e Foi ao Cinema) عصارة هذا الفكر، فهو يبدأ بشاب من عائلة متوسطة، يقتل أهله ويبدأ بممارسة حياة عادية، في حين تبدو حياته بلا أي جدوى. جماليات الجوع والعنف التي تصنع الثورة كل ما ذكرنا هو تمهيد لمصطلح 'جماليات الجوع'، وهو مفهوم سكه فتى سينما 'نوفو' الذهبي 'غلوبير روشا'، في بيانه عن الحركة عام 1965 في إيطاليا، بوصفها حركة مضادة للسينما التجارية في البرازيل، وهي ممسوخة من السينما الهوليودية، وليست أكثر من محاكاة رديئة لها، ومحاكاة رديئة لواقع البرازيل نفسه. عوضا عن ذلك، رأى 'روشا' ورفاقه مسؤولية حقيقية في رصد الجوع والفقر والاستبداد، بلا عاطفة ولا رومانسية رخيصة، ليصل المشاهد للغضب، وليس غضب الحزن بل غضب الثورة. يقول 'روشا' في نص بيانه: إن سينما 'نوفو' ليست تجليا فنيا فحسب، بل هي بيان سياسي واجتماعي أيضا، فليس الجوع اللاتيني مجرد عرض يدعو للقلق، بل هو جوهر المجتمع، وهنا تكمن أصالة سينما 'نوفو'، المأساوية مقابل السينما العالمية. ثم قال: في أصالتنا يكمن جوعنا، وفي أشد مظاهر بؤسنا يستعصي ذلك الجوع على الفهم، نظرا لكونه محسوسا. لقد استطاعت سينما 'نوفو' أن تكشف وتحلل تلك المواضيع المرتبطة بالجوع، فنحن نرى فيها شخصيات تأكل التراب والنباتات وحتى الجذور، وهناك من يقتل من أجل الطعام، ومن يهرب من كل شيء خشية العار. وآدميون 'قذرون' يسكنون في أماكن متهالكة، في ظل إنسانية تحتضر. إن الجائع لا يتحرك، بل يسرق أو يموت، لذا يكون العنف هو الفعل الوحيد الممكن، وهو يكون أكثر تطرفا وحدة كلما أصبحت الحياة مستحيلة. ملامح الغضب في هذا الخطاب، نتلمسها في اختيار مواضيع أفلام الحركة، في الأسلوب والشكل والشخصيات وكل شيء، تقنيا كان أو جماليا، ويعد المشهد الأخير من فيلم 'البنادق' (Os Fuzis) للمخرج 'روي غويرا' معبرا بشدة عن تلك الثنائية؛ ثنائية الغضب والجوع، فنرى الفيلم ينتهي بوحشية كبيرة، متمثلة في التهام الفلاحين بشراهة للثور المقدس الذي كان ملكا للسلطات. إن الجائع لا يتحرك، بل يسرق أو يموت، لذا يكون العنف هو الفعل الوحيد الممكن، وهو يكون أكثر تطرفا وحدّة كلما أصبحت الحياة مستحيلة. يشير مخرج الفيلم 'غويرا' إلى أن التضحية الفردية- كتضحية سائق الشاحنة- ليست كافية، بل لا بد للتغيير من غضب جمعي، ولكنه مع الأسف يصبح غضبا غير مكتمل في الفيلم، فلا يؤدي لثورة ولا تغيير حقيقي، لأن الجوع يكون هو الغالب، في تلك الحالة 'المقدس' -وهو الثور- لا حضور لقدسيته تلك. يقول 'غيل دولوز' في كتابه 'الصورة– الحركة' إن المشكلة الجوهرية في سينما 'نوفو' –وسينما العالم الثالث عموما- لا تكمن في اختيارهم المواضيع أو الأسلوب وطريقة التعبير، بل في كون تلك الشعوب لم تظهر ظهورا حقيقيا في السينما من قبل، لذلك لم تعرف نفسها ولا هويتها، وذلك أول عائق يواجه صناع تلك الأفلام، ألا وهو إيجاد شيء ليست له ملامح ولا صور ذهنية مسبقة. وقد عبر عن ذلك بدقة حين قال: 'الشعب نفسه كان غائبا'. ولإيجاد الشعب في نظر 'دولوز'، كان لا بد من خلق طريقة أو كيفية خاصة، فذلك ما فعله 'روشا' ورفاقه، باختيارهم العنف أسلوبا تعبيريا، لأنه الشيء الوحيد الذي يجمع بين غريزتي الغضب والجوع. فكان هنا العنف وسيلة شاعرية، لخلق ما لم يكن موجودا من قبل، ويعبر عن تلك الثقافة وهذا الشعب بخصوصية شديدة، وهو ما نراه متجليا في الأفلام التي صورت في منطقة السيرتاو الصحراوية القاحلة، مثل 'حياة قاحلة'، و'الإله والشيطان في أرض الشمس'، و'البنادق'. إشكالية السينما الثالثة والجمالية الأوروبية في مقالهِ المعنون 'غودار وروشا في مفترق الطريق'، يكتب الناقد السينمائي والمنظر 'جيمس روي ماكبين' عن الفارق الكبير بين أسلوب الفرنسي 'جان لوك غودار' وأسلوب 'غلوبير روشا'، مع أنهما انطلقا من فكر واحد، فيقول: مع أن 'روشا' و'غودار' التزما بالنضال للتحرر الثوري، فإن كلا منهما لديه -بكل وضوح- آراء مختلفة جدا، فيما يتعلق بكيفية تطوير الثورة، وإسهام السينما في هذه العملية، أما 'روشا' فهو يتبنى العفوية ويقلل لحد كبير من أهمية الهموم النظرية، التي لا يراها إلا 'أفعالا مساعدة'، لحث الطاقة العفوية عند كتل الجماهير. وقد عبر 'روشا' عن تصوره ذلك قائلا: الثوريون الحقيقيون في أمريكا الجنوبية هم أفراد، يعانون وجودهم الشخصي، وليسوا منهمكين في مشكلات نظرية. إن التحريض على العنف، والاحتكاك بالواقع المرير قد ينتج تغييرا شديدا في أمريكا الجنوبية، هذه الانتفاضة يمكن فقط أن تأتي على أيدي أناس فرادى قاسوا هم أنفسهم، وتأكدوا من وجوب الحاجة إلى التغيير، لا بدافع مبررات نظرية، بل بسبب الألم المبرح الشخصي. كما أنه يؤكد فكرته بأن القوة الحقيقية لكتل الجماهير في أمريكا الجنوبية تكمن في الصوفية، وفي سلوك عاطفي فوضوي، وهو ما يراه ناشئا عن خليط من الكاثوليكية والأديان الأفريقية. ويحاول 'روشا' إثبات أن الطاقة التي تجذب إلى الصوفية، هي التي سوف تؤدي في النهاية إلى مقاومة الناس للاضطهاد، وهذه الطاقة العاطفية يسعى إلى العزف على نغمتها في أفلامه. 'أما 'غودار' فإنه على الجانب الآخر، يرفض التناول العاطفي، لأنه معالجة يتلاعب بها العدو، كما يسعى إلى مقاومة الصوفية بكل شكل، سواء جاءت من اليمين أو اليسار. ويتبنى مبدأ راسخا، وهو أن الوعي الثوري ينشأ بالتنظيم المطور بصلابة، المبني على أسس نظرية سليمة، وهو ما سعى 'غودار' إلى تبنيه دوما في سينماه. انتهى الاقتباس من المقال. يوضح مقال 'ماكبين' الفرق بين ما فعله 'روشا' ورفاقه في سينما 'نوفو' وغيرهم من المنتمين إلى السينما الثالثة، وبين ما فعله مخرجو أوروبا، حتى أكثرهم تطرفا في النضال كـ'غودار'، فيبدو بجوار 'روشا' أشبه بطفل مدلل، مهتم بما هو جمالي ونظري وتقني، وهذا ما يفضي به إلى كونه مخرجا نخبويا. فهو إذن على النقيض من 'روشا'، المهتم في المقام الأول بما هو عاطفي وانفعالي، بالتواصل الحسي المباشر مع الجمهور، حتى وإن كان في نظر 'غودار' مستخدما 'أدوات السينما البرجوازية'، التي تعمل على شحذ مشاعر المتفرج وإيهامه بالحقائق، عن طريق محاكاة الواقع، التي هي في جوهرها بعيدة كل البعد عن الواقع نفسه. كل ذلك هو ما يفسر تأثير حركة 'سينما نوفو' الطاغي منذ ظهورها، انطلاقا من كونها شرارة انطلاق السينما الثالثة، التي جاءت هادمة بعنف للتقاليد المتعارف عليها في السينما التجارية في جميع أنحاء العالم. لقد كشفت زيف السينمائ التجارية، فأظهرت أن ليس كل وطني وعاطفي هو بالضرورة حقيقي، وأن دول الاستعمار لم ينته تأثيرها بخروجها الظاهري، وإنما احتالت في كيفية وجودها لا أكثر، ونتيجة لكل ذلك لم يكن أمام فناني السينما الثالثة أي خيار، سوى التعبير عن مواقفهم بوضوح، وبلا مواربة.

العدل الذي يتسع لكل إنسان
العدل الذي يتسع لكل إنسان

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

العدل الذي يتسع لكل إنسان

حدثتني صديقتي اليونانية كثيرًا عن رُوح اليونان حتى وجدتُ ملامح الفلسفة في أكاديمية أفلاطون؛ حيث يرى سقراط أن الظلم يولّد الفوضى، والعدل يولّد الانسجام. من "الجمهورية" لأفلاطون، التي تخيل فيها مدينة مثالية يحكمها الفلاسفة، إلى "الأخلاق النيقوماخية" لأرسطو، التي حللت معنى الفضيلة والعدالة، رُبما كان اليونانيون أول من سأل: ما هو العدل؟ الماضي ليس مضرًا بحد ذاته، ولا عائقًا أمام التطور.. المسألة ترتبط بك أنت! كيف تبني على الماضي، وتأخذ منه الجيد، وتتعلم من السيئ، وتكون أنت؟ عندما سافرت إلى تيرامو مرورًا بروما، عادت بي الذاكرة إلى لوحات ليوناردو دافنشي، وتذكرت اقتباسًا له.. "البساطة هي أقصى درجات الرقي". وعلى صدى أوبرا فيردي في أوبراه الشهيرة "نابوكو"، التي تحولت إلى نشيد للحرية ضد الظلم، سمعت كلماته: "البساطة أقصى درجات الرُقي!" تقاطعت كل تلك الصور مع مقطوعات باخ الألماني، حيث تتشابك الألحان بنظام رياضي دقيق في "فاوست" لـ"غوته"، حيث يبيع البطل روحه بحثًا عن المعرفة المطلقة، وهو صراع أبدي بين المعرفة والجهل، أكده شيلر: "أقسى سجون العالم هي تلك التي نبنيها لأنفسنا". تُفزعني هذه الجملة.. كيف نبني نحن سجوننا؟ ربما عندما نرفض سماع إنسانيتنا مثلًا؟ ورغم أن اليابان تبدو غير مألوفة بالنسبة لي، تلفتني مراسم الشاي اليابانية، حيث تعكس كل حركة تقديرًا للجمال والصبر، في أدب هاروكي موراكامي، في كتابه: "كافكا على الشاطئ" قرأت له: عندما تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص نفسه الذي دخلها.. فكيف لو خرج مجتمع كامل من كوارث؟! تتحول الشوارع إلى لوحة من الألوان والرقص في البرازيل تعبيرًا عن الحرية في وجه الظلم؛ يؤكدها الكاتب البرازيلي باولو كويلو في "الخيميائي".. عندما ترغب في شيء بشدة، فإن العالم كله يتآمر لمساعدتك على تحقيقه!. ورُبما يحدث العكس أو كلاهما أو ما بينهما.. لماذا نعود دائمًا للأبيض والأسود، ونتجاهل كل الألوان؟ وكيف تندمج التقاليد مع الحداثة، كما يظهر في آيا صوفيا؟ هناك حيثُ ينتفض الحنين من غسق ليله، هناك تتعلم كيف أن الماضي ليس مضرًا بحد ذاته، ولا عائقًا أمام التطور.. المسألة ترتبط بك أنت! كيف تبني على الماضي؟ كيف تأخذ منه الجيد، وتتعلم من السيئ، وتكون أنت؟ الإصرار على العدل يتجلى في عادات وثقافات مختلفة، كلها تطرح نفس السؤال: العدل الذي يتسع لكل إنسان، لماذا يتم تطبيقه بشكل ضيق بقالب واحد؟ "حتى أحلك الليالي ستنتهي بطلوع الفجر".. يقول فيكتور هوغو في "البؤساء"!. وهو تجسيد للصراع الأبدي بين العدل والظلم، كما هو في "العقد الاجتماعي" لروسو، الذي طرح فكرة أن العدالة تتحقق حين يحكم الشعب نفسه بنفسه! هل سنحكمها كما يحكم البريطانيون نقاشاتهم بحنكة سياسية بليغة؟. شكسبير في "هاملت" يرى أن "الشيء ذاته ليس خيرًا أو شرًا، لكن تفكيرنا هو الذي يجعله كذلك"!. ما أعمقها من فلسفة! وما أبسطه من أسلوب حياة! وما أرقاها من فكرة! تتشابك حروفها مع كلمات في رواية "أن تقتل عصفورًا بريئًا" لهاربر، التي صورت الظلم العرقي في أميركا، وفي كلمات مالكوم إكس: "لا يمكنك فصل السلام عن الحرية، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون مسالمًا ما لم يكن حرًا". حقيقة، لا أفهم الكثير تحت كلمة "حرية".. أوْمن بالعدل، بالحقوق والواجبات، ذاك أن الحرية كلمة هوائية جدًا بالنسبة لي، تشبه جنون الجوزاء، ولكنها تُشبع حاسة السَمع.. حرية! ولكن الحرية لها شريك.. المسؤولية! حتى في أدب دوستويفسكي في "الجريمة والعقاب": "إن أسوأ ما في السجن أنه يجعل الإنسان يفكر"، وهو تأمل في الصراع النفسي والعدل والظلم والمسؤولية، لأن المعرفة مسؤولية أيضًا.. في "أنا كارنينا" لتولستوي، حيث تتحطم بطلة الرواية بسبب قوانين المجتمع الظالمة، تُدرك أن الظلم ليس بيد السلطة فقط! إعلان مثلًا، الحكم على الآخر واتهامه وتخوينه وتكفيره -بحسب مزاج الجوزاء- عدل؟ لماذا لا نؤمن بأن العدل حتى بالكلمة بين صديقين لا يقلّ أهميةً عن العدل بين المواطن والسلطة؟ حين تنظر إلى العالم بعيونهم، لن ترى طوائف ولا انقسامات، بل سترى الإصرار على العدل يتجلى في عادات وثقافات مختلفة، كلها تطرح نفس السؤال: العدل الذي يتسع لكل إنسان، لماذا يتم تطبيقه بشكل ضيق بقالب واحد؟

"إيلاستيكو".. مراوغة برازيلية ساحرة ابتكرها إيتشيغو وبرع فيها رونالدينيو
"إيلاستيكو".. مراوغة برازيلية ساحرة ابتكرها إيتشيغو وبرع فيها رونالدينيو

الجزيرة

time٠٩-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"إيلاستيكو".. مراوغة برازيلية ساحرة ابتكرها إيتشيغو وبرع فيها رونالدينيو

عند مشاهدة لاعب ما يقوم بأكثر الخدع أناقة في عالم كرة القدم وهي حركة "إيلاستيكو" (elastico) يقفز إلى الذهن سريعا اسم البرازيلي رونالدينيو النجم السابق لميلان وبرشلونة وباريس سان جيرمان. اشتهر رونالدينيو -الفائز بالكرة الذهبية عام 2005- بتنفيذ حركة "إيلاستيكو" ببراعة ومرونة فائقتين، واستخدمها مئات المرات بنجاح غير مسبوق حتى أصبحت علامة مسجلة باسمه، ودأب الكثير من النجوم على تقليده بنسب نجاح متفاوتة. في تصريحات سابقة لموقع آر إم سي الفرنسي، اعترف رونالدينيو "إنها مراوغة أحببت القيام بها عندما كنت ألعب.. بدأت التدريب على القيام بذلك وبمرور الوقت، تمكنت من استخدامها بسهولة أثناء المباريات، ويكاد يكون من المستحيل على المدافع أن يأخذ مني الكرة". بدوره اعترف البرازيلي الدولي ويليان لاعب تشلسي سابقا وفولهام حاليا في فيلم "المراوغون": "شاهدت رونالدينيو يقوم بتلك المراوغة مرار وتكرارا، وحاولت في كثير من الأحيان تقليده". كما أبدا رياض محرز نجم الأهلي السعودي إعجابه الشديد بمهارة رونالدينيو العالية في تطبيق الحركة: "رونالدينيو يرتدي أشرطة مطاطية حقيقية، لأن الكرة كانت تلتصق بقدمه عندما يقوم بتلك الحركة العجيبة". مرواغة "إيلاستيكو " هي حركة سحرية خاطفة لمراوغة الخصوم بمهارة وإبداع وتعرف أيضا بـ"فليب فلاب" أو "الفاصلة" أو "الثعبان"، حيث يقوم فيها اللاعب بدفع الكرة في اتجاه واحد قبل أن ينقرها في الاتجاه المعاكس بضربة سريعة. هذه الحركة "ذهابا وإيابا"، عند تنفيذها بشكل جيد، يمكن أن تترك الخصم تائها في الملعب، مما يفتح فجوة للقيام بتمريرة أو تسديدة على المرمى. يثير استخدام "الفاصلة" إعجاب المتفرجين في مختلف ملاعب العالم، لذلك حرص لاعبون على استخدامها وتطويرها لتحدي المدافعين وخلق الفرص وأبرزهم رونالدينيو وروماريو ورونالدو نزاريو. المبتكر الحقيقي لـ"إيلاستيكو" لا يشك أحد أن رونالدينيو كان المتخصص رقم واحد في تطبيق "الفاصلة"، لذلك نسب إليه الكثيرون في الجيل الجديد بأنه هو من ابتكر "إيلاستيكو" وقدمها إلى المسرح العالمي لكرة القدم. لكن في الحقيقة لم تكن المراوغة الشهيرة اختراع رونالدينيو -الذي لا يشك أحد في مهاراته وقدراته العجيبة على مداعبة المستديرة- لكنه قام باعادة إنتاج حركة تلاشت بعد اعتزال مخترعها الأول. إن سيرجيو إيتشيغو، المولود في البرازيل ولكنه من أصل ياباني هو المبتكر الحقيقي لهذه المهارة بحسب عديد المصادر الإعلامية، واخترعها لاعب خط الوسط في لحظة من الإلهام خلال تدريبات كورينثيانز مما أثار إعجاب زملائه في الفريق. بعد هذا الابتكار الفريد كانت تلك المراوغة كل ما يحتاجه إيتشيغو ليصبح معروفا بعد بداية كروية متواضعة في كورينثيانز البرازيلي. تطوير ريفيلينو لخدعة "الفاصلة" في الستينيات من القرن الماضي، عرف ريفيلينو -الفائز بكأس العالم 1970 مع منتخب البرازيل- كيف يهزم الخصوم بسهولة ويرتجل بأسلوبه الاستثنائي وبراعته في المراوغة والتمرير. كان ريفيلينو -لاعب الهلال السعودي سابقا- المفضل لدى المشجعين في البرازيل لفترة طويلة لكونه خلاقا وطور خدعة "الفاصلة"، قبل أن يستخدمها لاحقا العديد من مواطنيه مثل رونالدينيو ورونالدو. لم يقتصر ريفيلينو -الذي اشتهر بشاربه الكثيف- على تحسين وتطوير تقنية مواطنه إيتشيغو فحسب، بل حول المراوغة العبقرية إلى حركة رمزية للمهارة التي تمثلها كرة القدم البرازيلية وقدمها للجمهور خلال البطولات الدولية المرموقة. من خلال تنفيذه الإستراتيجي لخدعة الفاصلة، تمكن ريفيلينو من التغلب على أعتى المدافعين ومهد الطريق لتسجيل أهداف مذهلة. على الرغم من أن ريفيلينو لم يخترع "إيلاستيكو"، فإنه لعب دورا حاسما في تعميم وترويج هذه الحركة المتطلبة تقنيا في كرة القدم. "إيلاستيكو" في كرة القدم الحديثة تعد الحركة البرازيلية المبهرة عنصرا أساسيا في كرة القدم الحديثة، ويستخدمها اللاعبون في جميع أنحاء العالم بأنماط وأشكال مختلفة، ويكافح المدافعون لمواجهتها، ويرجع ذلك أساسا إلى سرعة تطبيقها. ويمكن لحركة فاصلة جيدة التنفيذ أن تجبر المدافعين على التراجع، مما يخلق مساحات للتمريرات والتسديدات والعرضيات. إن انتشار "إيلاستيكو" وحرص الأجيال على تعلمها وإتقانها ليس فقط دليلا على فعاليتها ولكن أيضا تكريم لسحر برازيلي تركه سيرجيو إيتشيغو وريفيلينو وطوره رونالدينيو ورونالدو نازاريو وروماريو وغيرهم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store