
منظومة سُنن التسخير
ومصطلح ميزانية التسخير هذا هو للمفكر الجزائري الكبير دكتور الطيب برغوث حفظه الله، أطلقه على رأس المال الذي يصرفه الإنسان في المجالات التي يمارس فيها فاعليته ودافعيته في الحياة، في إطار واجباته النهضوية ليرتقي من مستوى إلى مستوى آخر أعلى وأفضل، وتتمثل هذه الميزانية في جملة من القوانين والسنن الثابتة، مستقاة من الخبرة التاريخية، ومن منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد اختزل الأستاذ الدكتور هذه القوانين في كليات قانونية ناظمة للوجود سماها ' كليات منظومة سنن التسخير' وهي أربع: كلية سنن الآفاق، وكلية سنن الأنفس، وكلية سنن الهداية، وكلية سنن التأييد.
ولفظة سنن يُقصد بها القوانين التي وضعها الله حاكمة لعلاقات الأشياء بعضها ببعض، مادة وقيما ومعاني (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب 62].
وفي هذه الحياة قوانين تحكم الوجود كله وناظمة له، ولها سلطانها على الحياة البشرية وعلاقاتها بين أفرادها وفئاتها، وبين الأشياء بعضها ببعض، فهناك قوانين تحكم عالم المادة، وأخرى تحكم عالم العلاقات الإنسانية والنظم التي تسيّرها وعلاقاتها فيما بينها وبينها وبين غيرها، وجملة ثالثة من القوانين متعلقة بالعلاقة بالله واليوم والآخر، والمنظومة الرابعة التي تهيمن على هذا الوجود وهي الهيمنة الربانية والقَدَر الإلهي النافذ في الحياة، وهي منظومة رغم أنها خارج الإطار البشري، إلا أنها معروضة للاستثمار فيها من قبل البشر الساعين إلى العيش في هذه الحياة، وهي جزءٌ من ميزانية التسخير وقسم من رأس المال الموضوع بين يدي الإنسان.
كلية سنن الآفاق
هي القوانين التي تحكم عالم المادة في الحياة في كل ما يتعلق بالمسخّرات الكونية، وهذه القوانين موضوعة في ثنايا عناصر الكون كلها، كقوانين صنِّفت لكثافتها إلى علوم تُعرف اليوم بعلوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك والفلاحة والزراعة.
وواجب الإنسان كمستثمر في تعامله مع هذه المنظومة، هو الكشف عن هذه القوانين وإعمالها في إطار التفاعل الإيجابي مع الطبيعة وحركة الكون، من أجل التحكم في المادة وإخضاعها لخدمة الإنسان وقيمه العليا.
واكتشاف هذه القوانين يعلّمنا أمورا كثيرة تتعلق بعلاقاتنا بهذا لكون، سواء من جانب أن الكون يسير وفق نظام ثابت لا يتغير، أو من جانب أن هذه القوانين المكتشفة لها سلطانها على الواقع وفق نظامها الذي وضع لها، إذ لا يمكن لمن خالفها أن تحترمه أو تقدّر جهده، ومن جانب آخر أن المكتشف لهذه القوانين يتمكّن من التحكم في عالم المادة بقدر ما يتحكم في هذه القوانين وفقه نظام سيرها.
كلية سنن الأنفس
وهي القوانين المتعلقة بطبيعة الإنسان وتركيبته النفسية والاجتماعية، التي هي الأخرى تخضع لجملة من القوانين الناظمة لطبيعة الإنسان، الذي يبدو عليه التقلُّب والتغيُّر وضعف الانضباط… وهذه القوانين لا تقلّ أهمية وتأثيرا وسلطانا عن القوانين الناظمة للقوانين التي تحكم الكون، ولكنها قد تكون أخفى منها، لكون عالم المادة يخضع للتجربة والمشاهدة، فكل قانون فيه يتقرر وفق التجربة والمشاهدة، بينما عالم النفس البشرية والعلاقات الإنسانية، يستند في تقرير قوانينه إلى الخبرة التاريخية، فمن التاريخ يستخرج علم الاجتماع نظرياته وقوانينه وكذلك علم النفس والتربية والاقتصاد والسياسة… إلخ.
وكلية سنن النفس تشمل أيضا عالم النظم وبناء المؤسسات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بحياة الإنسان ببعديها النفسي على مستوى الفرد والاجتماعي على مستوى الجماعة.
إن هذه القوانين الخاصة بسنن الآفاق والأنفس، ليست من خلق الإنسان وإيجاده، وإنما هي مودعة في ثنايا الوجود -الكون والعلاقات الإنسانية والحياة- (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت 53].
والآية في لغة القرآن تُطلق على المعجزة التي هي من اختصاص الله سبحانه وتعالى، وتطلق أيضا على القانون الناظم للعلاقات بين الأشياء، وهي من وضع الله أيضا، والفرق بين المعجزة التي يراد بها الإعجاز فحسب، بينما القانون يراد به الحث على اكتشافه واستثماره، في إطار عملية الاستخلاف والاستثمار في المسخّرات، إذ لا ينال الإنسان من التوفيق في هذه الدنيا إلا القدر الذي اكتشف فيه هذه القوانين واستثمر فيها وأعملها وفق مقرراتها التي خُلقت عليها؛ لأن كل ذلك خاضع للمستوى العقلي للإنسان وحركته وفضوله المعرفي.
كلية سنن الهداية
وهي جملة السنن والقوانين التي تتجاوز العقل وعالمي المادة والخبرة التاريخية، إلى مستويات أخرى لا يبتّ فيها إلا الوحي، وذلك خاص بما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما يتفرع عن ذلك من مقررات تعبدية دينية.
ربما هذه الجملة من الكليات التي عناها محمد أركون بكتابه 'اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي'، وهي حقيقة لأنها أحكامٌ تتعلق بغيب لا يعرف عنه العقل شيئا إلا بواسطة الوحي، ولكن عيب الأستاذ أركون أنه عمَّم ذلك على باقي الفكر الإسلامي في جميع المجالات، فأوهم الناس بأن لا فكر سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، ولا تفكير علميا بالمرة في الإسلام.
والمرجع في هذه الكلية هو الوحي الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاء برسالة الإسلام الخاتمة.
وما يميز هذه الكلية أنها خاصة بما لا يقوى العقل على الخوض، وذلك فيما يتعلق بالغيب من إيمان بالله واليوم الآخر والقدر والعبادة وغير ذلك من الغيبيات التي لا يحسم فيها إلا الوحي، ولا يسع العقل فيها إلا التسليم والتفهم في الإطار السنني العامّ، الذي يراعي الزمان والمكان والحال؛ لأن المطلوب في سنن الهداية ليس الاستقلال التام عن باقي الكليات السننية، وإنما هي متناغمة مع جميع ما يتماشى ومصالح الإنسان واستقامة حياته، ولذلك اعتبر من مقاصد الشارع الحكيم، أن تكون هذه القوانين الهدائية ميسورة مقدور عليها، ومما يليق بالجمهور وفي طاقة السواد الأعظم، وألا تكون مضادة لما تقرر في سنن الآفاق والأنفس.
وربما هذه الجملة من الكليات التي عناها محمد أركون بكتابه 'اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي'، وهي حقيقة لأنها أحكامٌ تتعلق بغيب لا يعرف عنه العقل شيئا إلا بواسطة الوحي، ولكن عيب الأستاذ أركون أنه عمَّم ذلك على باقي الفكر الإسلامي في جميع المجالات، فأوهم الناس بأن لا فكر سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، ولا تفكير علميا بالمرة في الإسلام.
كلية سنن التأييد
وهي جملة القوانين التي وضعها الله داعمة للفعل البشري، عندما يشتغل وفق مقررات الكليات الثلاث السابقة، فكل من توصل إلى حقائق علمية في الكليات الثلاث السابقة، يحصل على التأييد الإلهي اعترافا له بشرعية ما قام به، ولذلك لم يفرق الله في مدده هذا بين كافر ومؤمن ممن وصلوا إلى الحقائق العلمية (كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء 20].
والتأييد الإلهي ليس مستوى واحدا، وإنما هو مستويات، وأعلى هذه المستويات من وفق لإعمال جميع الكليات السننية، آفاقا وأنفسا وهداية، إذ راعى في كل ما يفعل ويقول القوانين والسنن الناظمة لذلك، كما جاء في الحديث القدسي المعروف 'لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها….'، ودون هذه المرتبة، من تمكن من التحكم في جانب من جوانب العلوم اكتشافا وإعمالا، فهذا ينال من التأييد الإلهي القدر الخاص بذلك، دون الرضوان الإلهي الذي لا يقف عند حدود الدنيا؛ لأن ذلك لا يتحقق بمجرد التحكم في سنن الآفاق والأنفس، وإنما لا بد من تحقق سنن الهداية التي تتمثل في طاعة الله، والعمل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
إن ميزانية التسخير هذه هي رأس المال الذي يمكِّن الإنسان من التحكم في عوالم المادة والعلاقات الإنسانية والعلاقة بالله، باكتشاف قوانينها وتطبيقها في الحياة، وهذه العوالم بدورها خاضعة لمستوى فاعلية الإنسان، فإذا كان في المستوى الأدنى من الفاعلية، فإنه لا يستثمر منها إلا القدر الذي يحقق له حاجته التي يشعر بها، وإذا ارتقى إلى المستوى الثاني فإنه يرتقي إلى المستوى الذي يحقق له البقاء، فيستثمر من رأس المال هذا القدر الذي يحقق له ذلك، وإذا كان في مستوى من الفاعلية يطمح إلى الخلود القاصر من تحكم في آليات التفوق والقوة والغلبة، فإنه يستثمر من رأس المال المعروض بين يديه بقدر ذلك، وإذا ارتقى بمستوى فاعليته إلى التطلع إلى الخلود الأخروي، فإنه بلا شك يكون من المحسنين في الاستثمار في كلية سنن الهداية إلى جانب الكليات الأخرى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 2 أيام
- الشروق
منظومة سُنن التسخير
لقد تكلمنا في المقال السابق: 'الفاعلية رباعية الدفع'، المنشور في موقع الشروق أونلاين بتاريخ 23/07/2023، عن القوى النفسية التي تدفع بالإنسان إلى الارتقاء بمستويات التفاعل، والرفع من مستوى الدافعية إلى المواقع والمراتب الأفضل، ووعدنا بأن يكون لنا كلامٌ عن الميزانية التي بها يمارس الإنسان فاعليته ودافعيته في الواقع. ومصطلح ميزانية التسخير هذا هو للمفكر الجزائري الكبير دكتور الطيب برغوث حفظه الله، أطلقه على رأس المال الذي يصرفه الإنسان في المجالات التي يمارس فيها فاعليته ودافعيته في الحياة، في إطار واجباته النهضوية ليرتقي من مستوى إلى مستوى آخر أعلى وأفضل، وتتمثل هذه الميزانية في جملة من القوانين والسنن الثابتة، مستقاة من الخبرة التاريخية، ومن منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد اختزل الأستاذ الدكتور هذه القوانين في كليات قانونية ناظمة للوجود سماها ' كليات منظومة سنن التسخير' وهي أربع: كلية سنن الآفاق، وكلية سنن الأنفس، وكلية سنن الهداية، وكلية سنن التأييد. ولفظة سنن يُقصد بها القوانين التي وضعها الله حاكمة لعلاقات الأشياء بعضها ببعض، مادة وقيما ومعاني (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب 62]. وفي هذه الحياة قوانين تحكم الوجود كله وناظمة له، ولها سلطانها على الحياة البشرية وعلاقاتها بين أفرادها وفئاتها، وبين الأشياء بعضها ببعض، فهناك قوانين تحكم عالم المادة، وأخرى تحكم عالم العلاقات الإنسانية والنظم التي تسيّرها وعلاقاتها فيما بينها وبينها وبين غيرها، وجملة ثالثة من القوانين متعلقة بالعلاقة بالله واليوم والآخر، والمنظومة الرابعة التي تهيمن على هذا الوجود وهي الهيمنة الربانية والقَدَر الإلهي النافذ في الحياة، وهي منظومة رغم أنها خارج الإطار البشري، إلا أنها معروضة للاستثمار فيها من قبل البشر الساعين إلى العيش في هذه الحياة، وهي جزءٌ من ميزانية التسخير وقسم من رأس المال الموضوع بين يدي الإنسان. كلية سنن الآفاق هي القوانين التي تحكم عالم المادة في الحياة في كل ما يتعلق بالمسخّرات الكونية، وهذه القوانين موضوعة في ثنايا عناصر الكون كلها، كقوانين صنِّفت لكثافتها إلى علوم تُعرف اليوم بعلوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك والفلاحة والزراعة. وواجب الإنسان كمستثمر في تعامله مع هذه المنظومة، هو الكشف عن هذه القوانين وإعمالها في إطار التفاعل الإيجابي مع الطبيعة وحركة الكون، من أجل التحكم في المادة وإخضاعها لخدمة الإنسان وقيمه العليا. واكتشاف هذه القوانين يعلّمنا أمورا كثيرة تتعلق بعلاقاتنا بهذا لكون، سواء من جانب أن الكون يسير وفق نظام ثابت لا يتغير، أو من جانب أن هذه القوانين المكتشفة لها سلطانها على الواقع وفق نظامها الذي وضع لها، إذ لا يمكن لمن خالفها أن تحترمه أو تقدّر جهده، ومن جانب آخر أن المكتشف لهذه القوانين يتمكّن من التحكم في عالم المادة بقدر ما يتحكم في هذه القوانين وفقه نظام سيرها. كلية سنن الأنفس وهي القوانين المتعلقة بطبيعة الإنسان وتركيبته النفسية والاجتماعية، التي هي الأخرى تخضع لجملة من القوانين الناظمة لطبيعة الإنسان، الذي يبدو عليه التقلُّب والتغيُّر وضعف الانضباط… وهذه القوانين لا تقلّ أهمية وتأثيرا وسلطانا عن القوانين الناظمة للقوانين التي تحكم الكون، ولكنها قد تكون أخفى منها، لكون عالم المادة يخضع للتجربة والمشاهدة، فكل قانون فيه يتقرر وفق التجربة والمشاهدة، بينما عالم النفس البشرية والعلاقات الإنسانية، يستند في تقرير قوانينه إلى الخبرة التاريخية، فمن التاريخ يستخرج علم الاجتماع نظرياته وقوانينه وكذلك علم النفس والتربية والاقتصاد والسياسة… إلخ. وكلية سنن النفس تشمل أيضا عالم النظم وبناء المؤسسات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بحياة الإنسان ببعديها النفسي على مستوى الفرد والاجتماعي على مستوى الجماعة. إن هذه القوانين الخاصة بسنن الآفاق والأنفس، ليست من خلق الإنسان وإيجاده، وإنما هي مودعة في ثنايا الوجود -الكون والعلاقات الإنسانية والحياة- (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت 53]. والآية في لغة القرآن تُطلق على المعجزة التي هي من اختصاص الله سبحانه وتعالى، وتطلق أيضا على القانون الناظم للعلاقات بين الأشياء، وهي من وضع الله أيضا، والفرق بين المعجزة التي يراد بها الإعجاز فحسب، بينما القانون يراد به الحث على اكتشافه واستثماره، في إطار عملية الاستخلاف والاستثمار في المسخّرات، إذ لا ينال الإنسان من التوفيق في هذه الدنيا إلا القدر الذي اكتشف فيه هذه القوانين واستثمر فيها وأعملها وفق مقرراتها التي خُلقت عليها؛ لأن كل ذلك خاضع للمستوى العقلي للإنسان وحركته وفضوله المعرفي. كلية سنن الهداية وهي جملة السنن والقوانين التي تتجاوز العقل وعالمي المادة والخبرة التاريخية، إلى مستويات أخرى لا يبتّ فيها إلا الوحي، وذلك خاص بما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما يتفرع عن ذلك من مقررات تعبدية دينية. ربما هذه الجملة من الكليات التي عناها محمد أركون بكتابه 'اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي'، وهي حقيقة لأنها أحكامٌ تتعلق بغيب لا يعرف عنه العقل شيئا إلا بواسطة الوحي، ولكن عيب الأستاذ أركون أنه عمَّم ذلك على باقي الفكر الإسلامي في جميع المجالات، فأوهم الناس بأن لا فكر سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، ولا تفكير علميا بالمرة في الإسلام. والمرجع في هذه الكلية هو الوحي الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاء برسالة الإسلام الخاتمة. وما يميز هذه الكلية أنها خاصة بما لا يقوى العقل على الخوض، وذلك فيما يتعلق بالغيب من إيمان بالله واليوم الآخر والقدر والعبادة وغير ذلك من الغيبيات التي لا يحسم فيها إلا الوحي، ولا يسع العقل فيها إلا التسليم والتفهم في الإطار السنني العامّ، الذي يراعي الزمان والمكان والحال؛ لأن المطلوب في سنن الهداية ليس الاستقلال التام عن باقي الكليات السننية، وإنما هي متناغمة مع جميع ما يتماشى ومصالح الإنسان واستقامة حياته، ولذلك اعتبر من مقاصد الشارع الحكيم، أن تكون هذه القوانين الهدائية ميسورة مقدور عليها، ومما يليق بالجمهور وفي طاقة السواد الأعظم، وألا تكون مضادة لما تقرر في سنن الآفاق والأنفس. وربما هذه الجملة من الكليات التي عناها محمد أركون بكتابه 'اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي'، وهي حقيقة لأنها أحكامٌ تتعلق بغيب لا يعرف عنه العقل شيئا إلا بواسطة الوحي، ولكن عيب الأستاذ أركون أنه عمَّم ذلك على باقي الفكر الإسلامي في جميع المجالات، فأوهم الناس بأن لا فكر سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، ولا تفكير علميا بالمرة في الإسلام. كلية سنن التأييد وهي جملة القوانين التي وضعها الله داعمة للفعل البشري، عندما يشتغل وفق مقررات الكليات الثلاث السابقة، فكل من توصل إلى حقائق علمية في الكليات الثلاث السابقة، يحصل على التأييد الإلهي اعترافا له بشرعية ما قام به، ولذلك لم يفرق الله في مدده هذا بين كافر ومؤمن ممن وصلوا إلى الحقائق العلمية (كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء 20]. والتأييد الإلهي ليس مستوى واحدا، وإنما هو مستويات، وأعلى هذه المستويات من وفق لإعمال جميع الكليات السننية، آفاقا وأنفسا وهداية، إذ راعى في كل ما يفعل ويقول القوانين والسنن الناظمة لذلك، كما جاء في الحديث القدسي المعروف 'لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها….'، ودون هذه المرتبة، من تمكن من التحكم في جانب من جوانب العلوم اكتشافا وإعمالا، فهذا ينال من التأييد الإلهي القدر الخاص بذلك، دون الرضوان الإلهي الذي لا يقف عند حدود الدنيا؛ لأن ذلك لا يتحقق بمجرد التحكم في سنن الآفاق والأنفس، وإنما لا بد من تحقق سنن الهداية التي تتمثل في طاعة الله، والعمل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. إن ميزانية التسخير هذه هي رأس المال الذي يمكِّن الإنسان من التحكم في عوالم المادة والعلاقات الإنسانية والعلاقة بالله، باكتشاف قوانينها وتطبيقها في الحياة، وهذه العوالم بدورها خاضعة لمستوى فاعلية الإنسان، فإذا كان في المستوى الأدنى من الفاعلية، فإنه لا يستثمر منها إلا القدر الذي يحقق له حاجته التي يشعر بها، وإذا ارتقى إلى المستوى الثاني فإنه يرتقي إلى المستوى الذي يحقق له البقاء، فيستثمر من رأس المال هذا القدر الذي يحقق له ذلك، وإذا كان في مستوى من الفاعلية يطمح إلى الخلود القاصر من تحكم في آليات التفوق والقوة والغلبة، فإنه يستثمر من رأس المال المعروض بين يديه بقدر ذلك، وإذا ارتقى بمستوى فاعليته إلى التطلع إلى الخلود الأخروي، فإنه بلا شك يكون من المحسنين في الاستثمار في كلية سنن الهداية إلى جانب الكليات الأخرى.


إيطاليا تلغراف
منذ 6 أيام
- إيطاليا تلغراف
بين توجيهات الملك وصمت الحكومة: أين هي العدالة الاجتماعية؟
إيطاليا تلغراف عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم بايطاليا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن المغربي اليوم، تتعاظم مسؤولية الحكومة لا في تدبير الواقع فحسب، بل في إعطاء معنى حقيقي للتنمية، وربطها بمصالح الناس لا بمنطق الأرقام والتوازنات التقنية. إن ارتفاع الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية، واستمرار شكاوى المواطنين المغاربة من تكلفة العيش، ليست مؤشرات ظرفية، بل علامات على خلل بنيوي في السياسات العمومية. والمطلوب اليوم ليس تبرير الأزمة أو التذرع بالعوامل الخارجية، بل اتخاذ قرارات جريئة وعادلة تحمي المواطن من المضاربين، وتوفّر له الحد الأدنى من العيش الكريم. الحكومة، وفق ما يحدده دستور المملكة وتوجيهات جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ملزمة بأن تكون في صف المواطن، لا في موقع الحياد. فالسلطة التنفيذية ليست جهازًا تقنيًا يراقب السوق من بعيد، بل طرف أساسي في توجيه البوصلة الاقتصادية والاجتماعية. ومهمة حماية المستهلك، وتثبيت الأسعار، وتوفير الرعاية الصحية، والتعليم الجيد، والسكن الكريم، ليست مطالب رفاهية، بل استحقاقات دستورية وحقوق مشروعة. نحتاج إلى خطاب سياسي جديد، يؤمن بأن التنمية ليست رقمًا في التقارير، بل شعور يومي بالكرامة والعدالة. خطاب لا يخاف من الأسئلة، بل يُقدّرها كجزء من الرقابة الضرورية.و يُبني الثقة في مناخ اقتصادي سليم لا تحكمه العلاقات الشخصية ولا 'دوائر المعرفة'، بل القوانين والمؤسسات. جلالة الملك، من موقعه الضامن لوحدة البلاد واستقرارها، ما فتئ يدعو في خطبه إلى النهوض باالاقتصاد، ومواجهة الريع، وتحقيق العدالة المجالية، والنهوض بالصحة والتعليم. وهذه التوجيهات ليست زينة بروتوكولية، بل أولويات ينبغي أن تتحوّل إلى سياسات عملية تُلامس معيش المواطن. إن المطلوب من الحكومة اليوم ليس فقط تدبير الأزمات، بل وضع المواطن في صلب النموذج التنموي، عبر حماية حقيقية من لوبيات المضاربة، وتحقيق عدالة مجالية واقتصادية. ولن يكون ذلك ممكنًا إلا في ظل احترام فعلي للدستور، وتفعيل حقيقي لآليات المحاسبة، وإعادة الاعتبار للمؤسسة الملكية باعتبارها الضامن الأعلى لمصلحة الوطن والمواطن، بعيدًا عن أي انزلاقات أو ممارسات تُربك الثقة العامة. فالمغرب لا يحتاج إلى من يراكم الخطابات، بل إلى من يُنصت بصدق ويُدبّر بمسؤولية… لأن كرامة المواطن ليست ترفًا سياسيًا، بل جوهر الوطن نفسه. وقد عبّر جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بمناسبة عيد العرش لسنة 2022 عن هذا التوجّه بكل وضوح، حين قال: 'نضع النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المغربي في صلب اهتماماتنا، وندعو الحكومة والقطاعات المعنية إلى العمل الجاد من أجل التخفيف من آثار الظرفية الاقتصادية على الفئات الهشة، وتعزيز الأمن الاجتماعي وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين.' إن هذا التوجيه الملكي ليس مجرد خطاب، بل خارطة طريق واضحة: المواطن أولًا، والكرامة فوق كل اعتبار، والمسؤولية التامة تقع على عاتق الحكومة والمؤسسات، لأن الوطن لا يُبنى إلا بالعدل… ولا تُصان كرامته إلا بالإنصات لمعاناة أبنائه والاستجابة الحقيقية لها. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٩-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
خطاب عيد العرش 2025: جلالة الملك محمد السادس يجدد الرؤية ويضع المواطن في قلب التنمية
إيطاليا تلغراف عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم في ايطاليا في الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، ألقى جلالة الملك محمد السادس حفظه الله خطابًا وازنًا حمل في مضمونه روح التقييم والتجديد، ومضى أبعد من مجرد استعراض للمنجزات، إلى تأكيد على جوهر الرؤية الملكية: تنمية شاملة لا يستثنى منها أحد، وعدالة مجالية تضع الإنسان في صلب كل مشروع إصلاحي أو اقتصادي. هذا الخطاب الذي يأتي في سياق إقليمي ودولي شديد التقلب، جدد البيعة المتبادلة بين العرش والشعب، وأعاد التأكيد على الثوابت الوطنية التي جعلت من المغرب نموذجًا في الاستقرار والتحول التدريجي المدروس. أشار جلالة الملك إلى التحديات الكبرى التي مر بها الاقتصاد الوطني، وعلى رأسها سنوات الجفاف المتوالية، لكنه شدد على أن المغرب، رغم ذلك، استطاع الحفاظ على مؤشرات اقتصادية إيجابية، ونجح في تنويع بنيته الاقتصادية، معزّزًا حضوره في قطاعات حيوية كالصناعة والطاقة واللوجستيك. والمُلفت في الخطاب الملكي هو تأكيده على أهمية الاستقرار الماكرو-اقتصادي كأساس لبناء اقتصاد قوي، تنافسي، ومتوازن، منفتح على تعدد الشركاء، ويستثمر في الموقع الجيوسياسي المتميز للمغرب، ودوره كحلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي. المواطن أولا: التنمية لا تكتمل دون أثر اجتماعي ملموس 'لن أكون راضيا إذا لم تساهم هذه التنمية في تحسين ظروف معيشة المواطنين'، بهذه العبارة الصريحة والمباشرة، رسم جلالة الملك سقف الطموح وأعاد تصويب بوصلة التنمية نحو هدفها الأسمى: الكرامة والعدالة الاجتماعية. الخطاب لم يكتف بإبراز المكاسب، بل اعترف بوجود مناطق لا تزال ترزح تحت مظاهر الفقر والهشاشة، وهو ما اعتبره جلالته أمرًا لا يليق بـ'مغرب اليوم'، مؤكداً أن الرؤية الملكية لا تقبل بمنطق 'مغرب بسرعتين'، حيث تنعم جهة بالنمو وتُترك أخرى في الظل. هذا التأكيد الملكي يأتي متناغمًا مع الأوراش الاجتماعية الكبرى، وعلى رأسها ورش الحماية الاجتماعية، والدعم المباشر للأسر المحتاجة، وإعادة توجيه الدعم لمستحقيه الحقيقيين، في تجسيد لمبدأ العدالة المجالية. من بين المؤشرات الدالة على الطموح التنموي للمغرب، أشار جلالة الملك إلى تقدم الأشغال في خط القطار فائق السرعة الجديد الذي سيربط القنيطرة بمراكش، وهو مشروع يعزز الربط بين الجهات، ويرسّخ منطق المغرب الموحد والمندمج اقتصادياً ولوجستيكيًا. كما شدد على ضرورة أن تكون البنية التحتية رافعة للتنمية لا مجرد مشاريع هندسية ضخمة، مؤكدًا على أن أثر هذه الأوراش لا بد أن ينعكس مباشرة على حياة الناس، وعلى تحريك العجلة الاقتصادية محليًا وجهويًا. أعاد جلالة الملك التأكيد على أن المغرب أصبح يحظى بمكانة مرموقة بين شركائه، بفضل نهج يقوم على الاستقرار والوضوح والوفاء بالالتزامات، وهو ما جعل المملكة شريكًا موثوقًا ومسؤولًا على الساحة الدولية، منفتحًا على تنوع العلاقات ومتوازنًا في تعاملاته الاستراتيجية. وهذا التوجه الراسخ في السياسة الخارجية المغربية هو الذي أكسب المملكة احترام شركائها، وساهم في جذب استثمارات كبرى، وفتح آفاق جديدة للتعاون جنوب-جنوب، وشمال-جنوب، في انسجام تام مع توجهات النموذج التنموي الجديد. خطاب عيد العرش لهذا العام لم يكن مجرد استعراض لإنجازات، بل كان بمثابة تعاقد جديد بين الملك والشعب، تعاقد يضع المواطن في قلب الأولويات، ويجعل من العدالة المجالية والمشاركة في الثروة مسألة وجودية بالنسبة لمغرب الغد. لقد أعاد جلالة الملك التأكيد على أن مغرب المستقبل ليس فقط في المصانع والموانئ والقطارات، بل في البيوت والمدارس والمراكز الصحية وفي العيش الكريم للمواطن، أيا كانت جهته أو طبقته أو موقعه. وفي ظل هذه الرؤية المتبصّرة، يواصل المغرب مسيرته، بقيادة ملك لا يكتفي بالحكم من فوق، بل يخاطب شعبه بلغة الصدق والمكاشفة، واضعًا نصب عينيه شعارًا واحدًا: مغرب الجميع، لا مغرب النخب فقط. إيطاليا تلغراف