الحرب الباردة الثانية: صراع التكنولوجيا لا الأيديولوجيا
العالم لا يسير نحو حرب باردة جديدة، بل يعيشها واقعا. لكن هذه المرة، لا تعلو فيها شعارات الشيوعية والرأسمالية، ولا تتواجه فيها مدافع الأيديولوجيا من خلف الستار الحديدي. إنها حرب باردة من طراز رقمي، تُخاض ببيانات لا دبابات، وبشبكات لا خنادق، وبتحالفات مرنة تحكمها لوغاريتمات الأسواق لا عقائد النُظم.
الصين: من الهامش إلى المحور
إذا كانت الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب الباردة الأولى كقطب أوحد متسلّح بعقيدة الردع ومتفرد بالهيمنة، فإن الحرب الباردة الثانية تُعلن عن عالم متعدد الأقطاب، تقف فيه الصين لا كمُتلقٍ أو لاحقٍ، بل كمهندس لخرائط المستقبل. لقد نجحت بكين في بناء نموذج جديد من القوة الناعمة الصلبة (اقتصاد رقمي، حزام وطريق، ذكاء اصطناعي، وتكنولوجيا فائقة السرعة) كلها أدوات تصوغ بها مجالها الحيوي دون أن تطلق طلقة واحدة.
فبدل سياسة الاحتواء التي اعتمدتها واشنطن لكبح الاتحاد السوفييتي، تواجه الصين، اليوم، محاولات تطويق أميركية عبر حظر تصدير الرقائق المتقدمة، وحصار شبكاتها الرقمية، وشيطنة شركاتها الكبرى. ومع ذلك، تمضي الصين في ترسيخ موقعها، ليس من خلال خطاب أيديولوجي أو تصدير ثورة، بل عبر تدفقات استثمارية بلا شروط، وتحالفات براغماتية تُغني عن المحاضرات الأخلاقية.
تحالفات لا تسأل عن هوية النظام
بعكس النموذج الغربي، لا تسأل الصين شركاءها عن نمط الحكم أو سجل حقوق الإنسان. إنها تقدم نفسها بوصفها شريكا صامتا، لكنه فعّال. لا تبني تحالفاتها على الولاء للعقيدة، بل على الجدوى الاقتصادية. ولذلك، تجد دول الجنوب العالمي (وقد سئمت من مشروطية الغرب) في الصين نموذجا أكثر تحررا من الأثقال السياسية.
الولايات المتحدة: دفاع استباقي في زمن الانزياح
في هذا التوازن الجديد، تخوض واشنطن حربها بوسائل شبيهة بأدوات الأمس: تشكيل تحالفات مغلقة، توسيع القواعد، استخدام العقوبات، ومحاولة فرض هيمنة رقمية عبر وادي السيليكون. لكن شيئا ما تغير في بنية القوة. الردع لم يعد نوويا بل سيبرانيا، والرد على «الصواريخ الافتراضية» لا يتم في غرف العمليات بل في الأسواق والبورصات والمختبرات.
المنطقة العربية: من الساحة إلى اللاعب
في الحرب الباردة الأولى، كانت المنطقة العربية ميدانا للنفوذ المتبادل، من الانقلابات إلى الوكلاء. أما، اليوم، فقد أدركت بعض العواصم، وفي طليعتها الرياض، أن العالم الجديد لا ينتظر أحدا. فمع تبني رؤية تنموية شاملة، واستثمارات استراتيجية في التقنية والطاقة المتجددة والفضاء، تحوّلت السعودية من دولة تُستقطب، إلى دولة تستقطب، ومن تابع ضمن توازنات الحرب الباردة القديمة، إلى لاعب مستقل يعيد تموضعه بدقة في الحرب الجديدة.
السعودية تفهم أن القوة، اليوم، لا تُقاس بعدد الحلفاء، بل بقدرة الدولة على التحرّك ضمن كل المحاور، دون أن تُستهلك في محور واحد. وهذا بالضبط ما تفعله عبر إدارة ذكية لعلاقاتها مع واشنطن وبكين في آن.
فلسطين: بين الذاكرة السياسية وفرصة الانبعاث
في زحمة الاستقطاب الجديد، تبدو القضية الفلسطينية وكأنها تائهة بين الملفات، لكنها في الحقيقة تقف أمام لحظة تحوّل يمكن أن تعيدها إلى قلب المعادلة، لا إلى هامشها. فمع تآكل الانحياز الأميركي المطلق لإسرائيل، وصعود قوى جديدة لم تُلوث سجلها بالتحالف الأعمى مع الاحتلال، تتاح للفلسطينيين نافذة، وإن كانت ضيقة، لإعادة تعريف تموضعهم الدولي.
غير أن هذه القوى الصاعدة لا تنتظر أحدا. إنها لا تمنح «عدم الانحياز» مجانا، بل تُكافئ من يُحسن التموضع ويُتقن لغة المصالح. وعلى النخب الفلسطينية أن تُغادر أسر الشعارات، وتتحرر من التردد، وتبادر إلى صياغة شبكة تحالفات مع دول مثل إندونيسيا، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، وحتى الصين نفسها، لا من باب الاستعطاف، بل من موقع الفعل والمبادرة.
فالقضية الفلسطينية، إن أرادت أن تخرج من أرشيف الحرب الباردة الأولى، عليها أن تكتب اسمها بحبر جديد في دفتر الاصطفاف القادم.
العالم يعيد اختراع نفسه
لم تعد الحرب الباردة مجرد ذكرى، بل واقع يتشكل، بأسلحة جديدة، ومصطلحات جديدة، وخريطة قوى تتغيّر كل يوم. ومن لم يكن يملك في الحرب الأولى إلا خيار التبعية أو الرفض، أمامه، اليوم، فسحة أوسع للمناورة، بشرط أن يُجيد قراءة الزمن، وأن يمتلك ما يقدّمه للعالم الجديد، لا ما يستجديه منه.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ليبانون 24
منذ 20 دقائق
- ليبانون 24
محتجون قطعوا طريق عام العيرونية
Advertisement قطع محتجون طريق عام العيرونية – بالإطارات المشتعلة، ما أدى إلى زحمة سير خانقة في المحلة.وفي وقتٍ لاحق، أُعيد .


ليبانون 24
منذ 20 دقائق
- ليبانون 24
تراجع إنتاج مصر من النفط الخام
أفادت منصة الطاقة، أن إنتاج مصر من النفط الخام تراجع بنسبة 8%، بما يعادل 43 ألف برميل يوميا ، خلال الربع الأول من العام الجاري، ليواصل هبوطه إلى أقل مستوى خلال 5 عقود. وأكدت المنصة أن مصر أنتجت 510 آلاف برميل يوميًا في المتوسط خلال الأشهر الثلاثة المنتهية في آذار 2025، مقابل 553 ألفا في الفترة عينها من عام 2024. (سبوتنيك)


الأسبوع
منذ 20 دقائق
- الأسبوع
البورصة تنهي تعاملات الأسبوع على ارتفاع جماعي للمؤشرات قبل اجتماع البنك المركزي
البورصة المصرية قبل اجتماع البنك المركزي جهاد جمال أنهت البورصة المصرية، تعاملات جلسة اليوم الخميس، بارتفاع جماعي للمؤشرات، للجلسة الثالثة على التوالي، مدفوعة بعمليات شراء من المتعاملين المصريين. ومالت تعاملات العرب والأجانب للبيع، وبلغت قيمة التداول 13.5 مليار جنيه، وربح رأس المال السوقي 8 مليارات جنيه ليغلق عند مستوى 2.247 تريليون جنيه. البورصة المصرية مؤشرات البورصة المصرية مؤشر إيجي إكس 30 وارتفع مؤشر إيجي إكس 30 بنسبة 0.44% ليغلق عند مستوى 31975 نقطة. مؤشر إيجي إكس 30 محدد الأوزان وصعد مؤشر إيجي إكس 30 محدد الأوزان بنسبة 0.54% ليغلق عند مستوى 39913 نقطة. مؤشر إيجي إكس 30 للعائد الكلي وقفز مؤشر إيجي إكس 30 للعائد الكلي بنسبة 0.43% ليغلق عند مستوى 14327 نقطة. مؤشر الشركات الصغيرة والمتوسطة كما ارتفع مؤشر إيجي إكس 70 متساوي الأوزان بنسبة 0.75% ليغلق عند مستوى 9389 نقطة. مؤشر إيجي إكس 100 متساوي الأوزان وصعد مؤشر إيجي إكس 100 متساوي الأوزان بنسبة 0.69% ليغلق عند مستوى 12776 نقطة، وقفز مؤشر الشريعة الإسلامية بنسبة 0.4% ليغلق عند مستوى 3268 نقطة.