
الطرامبية خروج من أزمة أم ولوج إليها !هاني عرفات
الطرامبية خروج من أزمة أم ولوج إليها !!
هاني عرفات
تتفاوت تقديرات المعنيين بالشأن الأمريكي، في فهم المنطلقات والتوجهات السياسية لطرامب ، البعض يعتقد أنه مجرد ملياردير أميركي ، مغرور و متهور و أخرق، فيما يجزم البعض الآخر بأن لدى الرجل مشروع سياسي داخلي و خارجي متكامل.
في حقيقة الأمر ، أن طرامب حينما بدأ سعيه للوصول إلى السلطة، لم يكن لديه خلفية ايديولوجية مكتملة الأركان ، فهو لم يكن تاريخياً ، جزء من منظومة الحزبين الرئيسيين ، و إنما كان دائماً على أطرافها. و العلاقة التي ربطته بـ كلا الحزبين سياسياً ، كانت كعلاقة ثري أميركي ، في دعم مرشحي هذا الحزب أو ذاك ، خدمةً لمصالحه الاستثمارية.
و عندما قرر دخول المعترك السياسي بشكل جدي، قبيل الانتخابات الرئاسية في العام ٢٠١٦م ، اعتمد في حملته الانتخابية، على تذمر قطاعات واسعة منّ الأميركيين ، من المنظومة الحاكمة ، صحيح أن أغلب سهام نقده ، صوبها نحو الحزب الديمقراطي، وهذا أمر طبيعي، كونه ترشح على قوائم الحزب الجمهوري، لكنه هاجم المؤسسة والسياسيين المحترفين من كلا الحزبين ، ورفع شعار (تجفيف المستنقع ) في واشنطن .
هذا الأمر بالذات ، أي تغيير المؤسسة الفاسدة ، هو ما دفع بطرامب إلى مقدمة مرشحي الحزب الجمهوري في حينه، ولاحقاً حقق له فوزه الأول في الانتخابات الرئاسية .
دعوات طرامب هذه ، أدت إلى زيادة أنصاره ، ليس في داخل الحزب الجمهوري فقط، و إنما من خارجه في أوساط المستقلين ، هذه القوة الشعبية الجارفة، التي جلبها طرامب للجمهوريين ، جعلت ساسة الحزب يرضخون صاغرين له، رغم أنهم لم تكن لتعجبهم هذه الشعارات تماماً .
لكن هل الطرامبية كانت محض صدفة؟
بتقديري أن الطرامبية السياسية ، هي تعبير عن أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية أميركية عميقة ، و كانت سوف تظهر سواءً بشخص طرامب أو غيره أمس أو اليوم أو غداً.
التراجع الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية ، و النمو المتسارع لقوى اقتصادية عالمية ، وانعكاسات ذلك على موقع الولايات المتحدة العالمي ، وكذلك إنزلاق فئات واسعة من الطبقة الوسطى الاميركية نحو الفقر ،والتي كانت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ، مصدر فخر الاميركيين ، والعمود الفقري للاقتصاد الأميركي ، دفع قطاعات واسعة في المجتمع الأميركي للانجذاب أكثر فأكثر نحو سياسات طرامب.
كل ذلك ولد حالة داخلية من السخط المتراكم على الحكومات المتعاقبة ، وعلى كل طبقة السياسيين المحترفين ، وقد عبر طرامب مراراً عن غضبه على هؤلاء ، معللاً بأن هؤلاء هم السبب في تراجع أميركا أمام بلدان أقل شأناً ، دول الخليج مثالاً ، حيث صارت لدى هذه البلدان ، بنية تحتية ، و رفاهية أعلى بكثير من تلك التي يملكها أو يتمتع بها الأميركان ، هذا رغم أن هذه البلدان ، حسب الفهم الطرامبي ، ما كانت لتستمر لولا الحماية التي توفرها لها أميركا. و من أجل تصحيح هذا الوضع ، فإن على الدول الثرية الحليفة أو التابعة ، أن تدفع للولايات المتحدة بدل حماية ، و الطريقة التي اتبعها طرامب للوصول إلى ذلك ، كان من خلال ممارسة الابتزاز المباشر.
في طريقه إلى السلطة والحفاظ عليها ، نسج طرامب شبكة تحالفات داخلية بضمان أن يكون هو المقرر أولاً و أخيراً فيها ، حيث تعلم خلال الشهور الاولى من فترته الرئاسية الاولى، أنه لا يستطيع الركون إلى المحترفين السياسيين، فقد قرر أن يشكل حكومته الجديدة في مرحلته الرئاسية الثانية ، بناءً على معيار واحد أساسي ، هو الولاء الشخصي .
العمود الأساسي للتحالف اعتمد على جمهور الإنجيليين المحافظين ، وقدم لهم كل مطالبهم: إعادة الدين إلى المدارس، و محاربة المثلية و ظواهرها المختلفة في المجتمع ، ، وتقليص دور الحكومة المركزية في الحياة العامة .
من ناحية أخرى ، دغدغ طرامب مشاعر القوميين الأميركيين ، من خلال رفع شعار ترحيل المهاجرين غير الشرعيين ، و رفعه شعارات ذات طابع عنصري ، و جعل الطريق إلى (أميركا عظيمة مرة أخرى) تمر بالضرورة عبر استيلاء أميركا على أراضي وبلدان أخرى، مثل جرينلاند، وكندا ، وقناة بنما ، و تغيير اسم خليج المكسيك ليصبح اسمه خليج أميركا. و طالب الشركات الأميركية بإعادة فروعها العالمية إلى داخل الولايات المتحدة ، وفرض رسوم جمركية عالية على البضائع الأجنبية.
ورغم أن القاعدة الأساسية لجمهور طرامب ، تعتمد على المحافظين الإنجيليين المتدينين ، و القوميين المتطرفين ، إلا أن هناك قطاع واسع من الشباب الذين ضاقوا ذرعاً تاريخياً ، بالسياسات العقيمة لكلا الحزبين، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ، فقد وجد هؤلاء في دعوة طرامب للتغيير بصيص أمل في حياة أفضل.
وبناءً على المنطلقات الأساسية سالفة الذكر ، واستناداً إلى فائض القوة العسكرية التي تملكها أميركا ، و سيطرتها على الأسواق المالية ، بنى طرامب سياساته الدولية على النحو التالي:
أوروبا : هذه القارة العجوز ، بحاجة إلى اميركا بالذات أمنياً وليس العكس ، ومن هنا تكمن أهمية روسيا في سياسات طرامب، كلما تعاظم شعور الأوروبيين (بالتهديد الروسي) ، كلما زاد اعتمادهم على أميركا و تبعيتهم لها ، ومن هنا فأن بدل هذه الحماية واجب و مستحق لاميركا.
الصين: هي التهديد الرئيس للولايات المتحدة اقتصادياً ، وفي حال فقدت الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة الاقتصادية على العالم ، فإن القوة العسكرية لن تكون كافية لإخضاع العالم ، خصوصاً وأن معيار الزعامة القيمي والأخلاقي(لدول العالم الحر) ومبادئ حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية ، قد تلاشت هي الاخرى بشكل جلي، بسبب المعالجة غير العادلة و المنحازة في العقود الأخيرة، و تراجع قدرة هذا المجتمع الدولي ، الذي تتزعمه امريكا عن حل عادل لهذه القضايا .
وفي الموضوع الصيني ، تم توظيف الكثير من الجهد لناحية فرض رسوم جمركية عالية ، و تأمين سلاسل الإمداد، والسيطرة على مصادر الطاقة. و من هنا تأتي أهميةً استمالة روسيا مرة أخرى ، لإبعادها قدر المستطاع عن التحالف مع الصين.
سوف نسمي هذه الدول اصطلاحاً ، دول الحالات الخاصة في السياسة الأمريكية : الهند ، السعودية و إسرائيل: كل دولة من هذه الدول ، تتمتع بميزة ما ذات فائدة لاميركا ، فالهند بحجمها الديمغرافي ، وتطورها التقني ، لا سيما في مجال الخبرة الإليكترونية الرخيصة ، عليها أن تظل أقرب للولايات المتحدة من قربها من الصين ، و السعودية بما تمتلكه من مصادر طاقة وثروة ، و موقع و قدرتها على التأثير في المحيط، ضرورة لاميركا أيضاً. أما إسرائيل فعدا عن دورها التقليدي القديم ، في خدمة المصالح الاميركية ، والذي تراجع كثيراً ، خلال العقود الاربعة الماضية ، إلا أنها تفرض نفسها على الأجندة ، بسبب تغلغلها الذي لا يمكن تجاهله في مؤسسات القرار الأميركي ، ومن خلال العلاقات الخاصة ، وكذلك علاقتها بالمؤسسة المالية ، و نفوذها في اوساط الكنيسة و الجامعات أيضاً ، وهي بذلك تفرض نفسها فرضاً على التوجهات السياسية الأميركية.
الفلسفة العامة لسياسات طرامب الخارجية ، تعتمد على مبدأ ،أن التلويح بفائض القوة العسكرية والسيطرة الاقتصادية على العالم ، كفيلان بتحقيق الأهداف ، دونما حاجة لخوض حروب مباشرة. وهذا بالمناسبة لا يتفق تماماً ، مع توجهات الحكومة الاسرائيلية ، مما قد يؤدي إلى نوع من الخلاف بين البلدين في المستقبل ، تحديداً فيما يتعلق بايران.
السنوات القليلة القادمة ، كفيلة بأن تكشف ، أن هذه التوجهات الطرامبية ، سوف تفشل فشلاً ذريعاً ، داخلياً و خارجياً ، التعامل مع الحلفاء الكبار ، بهذه الطريقة ، قد يجعلها تنحني أمام العاصفة ، في انتظار عودة الأمور إلى سابق عهدها بعد رحيل طرامب،وهو أمر غير مضمون بالمناسبة ، لكنها لن تظل على ما هي عليه إلى الأبد، خلال فترة لن تطول ، سوف تبدأ هذه البلدان بالبحث عن حلول لمشاكلها بنفسها و بعيداً عن الولايات المتحدة. وهو ما يفتح المجال أمام نشوء قوى و تكتلات عالمية جديدة.
2025-03-17

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اذاعة طهران العربية
منذ يوم واحد
- اذاعة طهران العربية
ما هو رد المقاومة على دعوة نائب أمريكي لقصف غزة بالسلاح النووي؟
واعتبرت حماس أن هذه الدعوة تمثل "جريمة مكتملة الأركان" ودليلاً على "العنصرية الفاشية" التي تحكم تفكير بعض الساسة الأميركيين، مما يستوجب الإدانة من الإدارة الأميركية والكونغرس، الذي أصبح منصة لتبرير جرائم الاحتلال. وأشارت الحركة إلى أن هذه التصريحات تمثل "انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني" وتحريضاً على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أكثر من مليوني مدني. من جهتها، عبّرت حركة الجهاد الإسلامي عن استنكارها وغضبها من تصريحات فاين، معتبرةً إياها دعوة علنية لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. واعتبرت الحركة أن تشبيه سكان غزة بالنازيين أو اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية يُعد تحريضاً مباشراً على الإبادة الجماعية. كما دانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هذه التصريحات، واعتبرتها "جريمة حرب مكتملة الأركان" تعكس العقلية الأميركية المتطرفة. بدورها، حركة المجاهدين أدانت تصريحات فاين، ورأت فيها امتداداً للسياسة الأميركية المساندة للإرهاب، داعيةً أحرار العالم إلى رفض هذه التصريحات ومناصرة الشعب الفلسطيني. وكان النائب الجمهوري قد صرّح خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" بأن "القضية الفلسطينية قضية شريرة"، مشيراً إلى أن الحل يجب أن يكون مماثلاً لما حدث في الحرب العالمية الثانية.


ساحة التحرير
منذ 2 أيام
- ساحة التحرير
منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري!كاظم نوري
منظمة العفو 'الدولية ' ونشاطاتها المريبة خدمة للغرب الاستعماري! كاظم نوري خطوة كانت في مكانها ولوانها جاءت متاخرة عندما اعتبرت روسيا انشطة 'منظمة العفو الدولية ' بانها جهة غير مرغوب فيها. ويفترض ان تكون هذه المنظمة ومقرها لندن فاعلة في مجال حماية حقوق الانسان لكنها تعمل بالضد من ذلك خدمة للاجندات الغربية؟؟ هذه المنظمة التي تحمل صفة ' دولية' زورا اخذت تبرر جرائم النازيين الجدد في اوكرانيا وتدعوا الى زيادة تمويلهم وتصر على عزل روسيا سياسيا واقتصاديا؟؟ لقد عرف عن هذه المنظمة ان اعضاءها يدعمون الجماعات المتطرفة ويمولون انشطة عملاء اجانب؟؟ وهناك منظمات عديدة ولجان تحمل اسماء ' دولية ' لكنها تنفذ اجندات امريكية وغربية منها مثلا اللجنة الدولية للطاقة الذرية ومقرها 'فينا' فان معظم مفتشيها الذين يحملون ' صفات دولية' يقدمون معلومات الى الدول الغربية خلال نشاطاتهم وزياراتهم للدول الاخرى المستهدفة غربيا ويقدمون تقارير ومعلومات كاذبة وقدحصل ذلك مع العراق وليبيا وحتى ايران. ومنذ وجدت هذه المنظمات التي تحمل اسماء ' دولية زورا' بهدف التزام الدول الاخرى بقراراتها فهي تنفذ اوامر واشنطن ولندن وقد حرصت الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية على ان تكون مقراتها في دول تسير على النهج الامريكي كما ان معظم كبار المسؤولين فيها يتم اختيارهم وفق رغبات الغرب وان نشاطاتهم لاتخرج عن اهداف دول الغرب الاستعماري ؟؟ موسكو كما هو معروف من الدول المؤسسة للامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية باتت تشعر ان هذه المنظمات التي يفترض ان تنشط باستقلالية بعيدا عن التعليمات الامريكية والغربية تمارس نشاطات بعيدة كل البعد عن النهج الدولي المستقل وكانت احدى هذه المنظمات' محكمة الجنايات الدولية' قد اصدرت حكما ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وامرا بالقاء القبض عليه في حال زيارة بلد ما وان على ذلك البلد ان ينفذ قراراتها كما اصدرت حكما ضد رئيس حكومة العدو الصهيوني نتن ياهو جراء المجازر التي ارتكبها ضد شعب غزة الا ان احدا لم يكترث بقراراتها فقد زار نتن ياهو هنغاريا دون ان تهتم بقرار المحكمة بالقاء القبض عليه. على روسا ان تلتفت الى بقية المنظمات والهيئات التي تحمل اسماء دوليية وتنفذ اجندات غربية وما اكثرها وان منظمة العفو الدولية التي اعتبرت موسكو قراراتها غير شرعية واحدة من تلك المنظمات التي يستغلها الغرب من اجل تنفيذ مشاريعه الاستعمارية في العالم بمنحها صفة دولية زائفة ؟؟ 2025-05-23


موقع كتابات
منذ 2 أيام
- موقع كتابات
مأساة الناصرية وإشكالية العقيدة التدريبية في الكليات العسكرية العراقية
قبل يومين، شهد موقع التدريب الميداني للكلية العسكرية الرابعة في محافظة ذي قار جنوب العراق مأساة مزدوجة تمثلت في وفاة متدربين اثنين وإصابة أكثر من 100 طالب بالإعياء وحالات إغماء نتيجة تعرضهم لاختبارات بدنية قاسية في ظروف مناخية قاسية تجاوزت فيها درجات الحرارة حدود التحمل البشري. وبينما سارعت وزارة الدفاع إلى إقالة عميد الكلية وآمر الفوج المختص وتشكيل مجلس تحقيقي، يبقى السؤال الأهم دون إجابة: ما الذي يدفع مؤسسات عسكرية إلى تكرار نفس الخطأ البنيوي في زمن تغيّرت فيه طبيعة الحروب والجيوش؟ الحدث لا يُقرأ كحادثة ميدانية معزولة، بل كعرض صارخ لأزمة أعمق في العقيدة التدريبية العسكرية العراقية، التي لم تواكب بعد متغيرات القرن الحادي والعشرين. فالمناهج التدريبية لا تزال أسيرة نماذج استنزافية بدنية تعود إلى عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت الجندية تقاس بمدى صلابة الجسد وقسوته. غير أن الجيوش الحديثة، في سياق التحول نحو الرقمنة العسكرية، والسيطرة السيبرانية، والأنظمة الذكية الموجهة عن بعد، باتت تُدار بعقول متخصصة ومهارات تكتيكية رقمية أكثر مما تُدار بعضلات تقاوم الصهد والتراب. إن ما حدث في استقبال الدورة الجديدة ليس فقط سوء تقدير ظرفي، بل فشل في استيعاب التحول الجذري في وظيفة الجندي. فبينما تتجه المؤسسات العسكرية الاحترافية في العالم إلى تقسيم برامج الإعداد وفق التخصصات الدقيقة – بين الميداني، والاستخباري، والرقابي، والتقني – لا تزال بعض الكليات في العراق تُخضع كل طالب للنوع نفسه من التدريب، دون اعتبار لفروقات التخصص، أو الفروق البيولوجية، أو حتى المؤشرات الحيوية المباشرة لحالته الصحية. هذه ممارسة لا يمكن وصفها إلا بأنها تدريب قسري لا يراعي لا المناخ ولا الإنسان. إن العقيدة العسكرية الحديثة، كما تبلورت في جيوش الدول المتقدمة، تقوم على التمييز بين الجهد البدني المطلوب لبناء اللياقة العامة، وبين الكفاءة العقلية والتخصصية المرتبطة بأدوار العمليات المستقبلية. فليس مطلوبًا من ضابط سيتولى قيادة طائرة بدون طيار أن يتحمل مسيرًا قاسيًا في حرارة 50 درجة، كما لا يُفترض أن يُجبر ضابط استخبارات على الركض لساعات في ميدان ترابي مكشوف وهو سيتعامل لاحقًا مع تهديدات رقمية معقدة تتطلب هدوءًا ذهنيًا، لا إرهاقًا عضليًا. والخطر الأكبر أن التدريب البدني القاسي – حين يُفرض بشكل شمولي وغير علمي – يتحول من أداة تأهيل إلى أداة قتل رمزي أو فعلي. وهو ما وقع بالفعل في الناصرية: اثنان من أبناء العراق سقطا قتلى لا في ميدان قتال، بل تحت سياط تدريب عقيم، فيما أصيب أكثر من مئة طالب بالإجهاد، بعضهم بأعراض حرجة. كل هذا في وقت يفترض فيه أن تكون الكليات العسكرية هي مراكز الاحتراف والانضباط والجاهزية، لا مراكز إرهاق عشوائي. الإقالات الإدارية – وإن كانت ضرورية من باب المساءلة – لا تمثل حلاً جوهريًا ما لم يُعاد النظر في الفلسفة التعليمية للمؤسسة العسكرية العراقية. لا يتعلق الأمر فقط بضبط توقيت التمارين أو توفير الظل والماء، بل بإعادة تعريف التدريب العسكري نفسه: هل ما زال الجهد البدني القاسي معيارًا لبناء الضابط؟ أم أن المعركة اليوم تحسمها المعرفة، والجاهزية السيكولوجية، والقدرة على التحليل الفوري في بيئات هجينة ومعقدة؟ إن مؤسسات التدريب العسكرية في الدول المتقدمة أصبحت تدمج بين التقنية، والطب الحيوي، والذكاء الاصطناعي، لتحليل قدرة المتدرب لحظيًا وتحديد حدود جهده القابل للتحمل. التدريب هناك لا يتسم فقط بالصرامة، بل بالدقة. أما في الحالة العراقية، فغالبًا ما يُفهم الانضباط على أنه التحمّل المطلق، وتُفهم القوة على أنها استنزاف، لا فعالية. من هنا فإن ما جرى في الناصرية يجب أن يُقرأ بوصفه لحظة اختبار حقيقية لمدى رغبة المؤسسة العسكرية العراقية في إجراء مراجعة جذرية لعقيدتها التدريبية. لا يكفي تغيير الأشخاص، ولا تقديم اعتذار بيروقراطي. المطلوب هو إعادة صياغة فلسفة الإعداد العسكري من جذورها، على قاعدة التفريق بين الرجولة العسكرية وبين الانتحار النظامي المقنن. ومثل هذه المراجعة لا تتطلب فقط شجاعة في الاعتراف، بل جرأة في التغيير الجوهري للمناهج، وللغايات، ولأدوات القياس. ففي عصر تحسم فيه الحروب عبر الأقمار الصناعية والهجمات السيبرانية والطائرات المسيّرة، لا تزال بعض الكليات في العراق تختبر جنودها عبر قسوة الشمس، لا عبر اختبارات الذكاء أو الجاهزية الذهنية. وإذا لم تتحول هذه المأساة إلى نقطة انعطاف في وعي المؤسسة، فسنظل نودّع أبناءنا لا في المعركة، بل في ميدان 'الاستقبال'.