logo
من وعود الأبراج الزجاجية إلى واقع العشوائيات ومخيمات اللجوء

من وعود الأبراج الزجاجية إلى واقع العشوائيات ومخيمات اللجوء

العربي الجديدمنذ يوم واحد
تُطرح الاستثمارات الأجنبية وكأنها الحل السحري لأزمة السكن في سورية. تتكرّر صور الأبراج والمدن الحديثة باعتبارها رموزاً للتعافي، فيما تُقدَّم المؤتمرات والوعود الكبرى بوصفها المدخل إلى مستقبل أفضل. خلف هذه الوعود يبرز سؤال أساسي: هل تكفي هذه المشاريع الكبرى لمعالجة أزمة سكن تراكمت عبر عقود وتفاقمت بفعل الحرب، أم أن السوريين أمام وهم جديد يكرّس التفاوت الاجتماعي تحت لافتة الإعمار؟
حتى في الاقتصادات المستقرّة، تحتاج المشاريع الكبرى سنوات قبل أن تنتج وحدات سكنية بأعداد كافية، أما في بيئة ما بعد الحرب، حيث تزداد الحاجة بفعل العودة الجماعية والنمو الديمغرافي
ما يُغفل في هذا الخطاب أن إعادة الإعمار في بلدٍ أنهكته الحرب تختلف جذرياً عن معالجة نقص المساكن في اقتصادٍ مستقر. ففي البيئات المستقرة، ترتكز الاستراتيجيات على بنية تحتية قائمة ونظام مالي يعمل وقدرة دفع معقولة للأسر، أما في الحالة السورية فالمعادلة مختلفة: انهيار البنى الأساسية، تراجع الدخول، هشاشة حقوق الحيازة، وأولوية إعادة الخدمات الأساسية لتحريك الاقتصاد المحلي قبل أي أحلام عمرانية كبرى.
لماذا لا تكفي الاستثمارات الكبرى لحلّ أزمة السكن؟
تبدو فكرة الاعتماد على رؤوس الأموال الكبيرة والمشاريع الاستثمارية الضخمة مغرية لأي بلد يسعى إلى النهوض من كارثة، فهي تحمل وعوداً بالبنية التحتية الحديثة وضخ السيولة وإيحاد فرص عمل. لكن التجارب تظهر أن هذا الخيار، حين يُعتمد باعتباره مساراً رئيسياً، يواجه تحدّياتٍ تحدّ من أثره، خصوصاً في سياقات ما بعد النزاع.
أولى المشكلات القدرة على تحمل التكاليف: تقوم هذه المشاريع على منطق استرداد الكلفة وتحقيق الربح، ما يجعل منتجاتها موجهة في الغالب إلى الشرائح المقتدرة، فيما تبقى الفئات الأشد حاجة، وهي الغالبية في سورية، خارج المعادلة. النتيجة أن فجوة السكن للفقراء لا تُسد مهما بلغت قيمة الاستثمارات.
المشكلة الثانية الزمن: حتى في الاقتصادات المستقرّة، تحتاج المشاريع الكبرى سنوات قبل أن تنتج وحدات سكنية بأعداد كافية، أما في بيئة ما بعد الحرب، حيث تزداد الحاجة بفعل العودة الجماعية والنمو الديمغرافي، فإن هذا البطء يعني توسّع البناء العشوائي ومخاطر اجتماعية أكبر.
ثم هناك الآثار الجانبية: ضخ استثمارات عقارية كبيرة في سوق عقاري هشّ قد يؤدّي إلى تضخّم أسعار الأراضي وتصاعد المضاربة وتكوين فقاعاتٍ لا علاقة لها بالإنتاج الفعلي، ما يفاقم الاختلالات بدل تحقيق الاستقرار. وغالباً ما تهمل هذه النماذج الأبعاد الاجتماعية للتخطيط، إذ تُصمم وفق منطق السوق لا وفق حاجات الأسر الممتدة وأنماط العيش المحلية، ما يضعف شبكات الدعم التي يعتمد عليها الفقراء للبقاء.
الواقع السوري أكثر تعقيداً
لم تدمّر الحرب الحجر فحسب، بل أيضاً أضعفت منظومة الاقتصاد برمتها. تفيد التقديرات بأن سورية ستحتاج ما بين 108 و242 ألف وحدة سكنية سنوياً لتعويض الدمار (خلال 5 إلى 12 سنة)، إضافة إلى 160 ألف وحدة أخرى لتلبية النمو الطبيعي، أي ما يفوق قدرة القطاعين العام والخاص بمرات. حتى إذا نُفذت جميع المشاريع الاستثمارية المعلنة، فلن تغطي سوى جزء ضئيل من هذه الحاجة، وغالباً ستستهدف الشرائح المقتدرة. وحدها كلفة إعادة المساكن قد تصل إلى 30 مليار دولار، من دون احتساب البنية التحتية أو المساكن الجديدة المطلوبة للشباب، في حال تولّى السكان البناء الذاتي. أما إذا نفّذتها الشركات الاستثمارية، فقد تتضاعف الكلفة إلى أضعاف.
في الوقت نفسه، تدهورت القدرة الشرائية للأسر السورية بشكلٍ حاد، إذ انخفض متوسّط الدخل بأكثر من 60% مقارنة بما كان عليه قبل الحرب. حتى قبل 2011، كان امتلاك منزل يتطلب أضعاف دخل الأسرة السنوي، فما بالك اليوم؟ أي مشروع استثماري سيعتمد على منطق استرداد التكاليف وتحقيق الربح، ما يجعل هذه الوحدات خارج متناول الغالبية.
أما الإطار القانوني فليس مجرد عائق يجب تجاوزه، بل شبكة أمان لحقوق الحيازة. أي تعديل متسرع، خصوصاً في المناطق العشوائية، قد يفتح الباب أمام حرمان واسع، في ظل فقدان الوثائق وتعدد المرجعيات القانونية. الحفاظ على هذه الحقوق ضرورة، لأن المساس بها يعني موجات جديدة من الإقصاء والتوتر الاجتماعي.
كما لا يمكن تجاهل الآثار الاقتصادية لمشاريع ضخمة في بيئة هشّة. ضخ استثمارات عقارية بهذا الحجم سيرفع أسعار الأراضي، ومع مبدأ تناقص العوائد سترتفع الأسعار أسرع من القيمة الحقيقية، ما يفتح الباب أمام المضاربات ويهدد بنزوح اقتصادي قد يفوق في قسوته النزوح الذي فرضته الحرب، ويخلق أحزمة فقر جديدة حول المدن.
ل يمكن الرهان على الاستثمارات الخارجية لتكون الحل السحري لأزمة السكن في سورية؟ التجارب تقول لا
عامل الوقت لا يرحم
تحتاج المشاريع الكبرى وقتاً طويلاً قبل أن تسلّم أول وحدة سكنية لساكنيها. من تخصيص الأرض إلى تسليم المفاتيح، قد تمتد الدورة إلى سنوات طويلة، وقد تطول الدورة إذا كان نموذج الحل يقتضي أن تبيع الشركات أولى منتجاتها وأن تستخدم أرباحها لتوسيع العمل وتوفير مزيد من المساكن في دورات لاحقة. بينما تواجه سورية ضغطاً متزايداً من موجات العودة وطفرة شبابية غير مسبوقة تدخل سوق السكن أول مرة منذ عشية الربيع العربي. فهل يمكن لملايين السوريين الانتظار عقداً جديداً في المخيمات أو في مساكن مؤقتة؟
يثبت الواقع الميداني أن السوريين لم ينتظروا ولن ينتظروا. من يملك القدرة رمّم منزله أو أضاف غرفة جديدة بمساعدة الجيران والأقارب، حتى في أحلك ظروف الحرب. تفرض هذه الدينامية حقيقة واضحة: الناس سيتصرّفون بمواردهم الذاتية مهما كانت شحيحة، سواء أدرجتهم الخطط الرسمية أم أهملتهم. تجاهل ذلك يعني انفجار البناء العشوائي بكل مخاطره على السلامة العامة والخدمات، وإعادة إنتاج التهميش الذي كان أحد أسباب النزاع في الأصل.
ما البديل الواقعي؟
لا يكمن الحل في استنساخ تجارب الآخرين ولا في انتظار استثماراتهم، بل في صياغة مقاربة سورية واقعية تنطلق من موارد المجتمعات المحلية وقدراتها. وأبرز ملامحها:
• تمكين البناء الذاتي التدريجي: (Self-Help) بدلاً من محاربة البناء الذاتي أو تركه عشوائياً، يجب تقنينه عبر كودات إنشائية مرنة تحدد معايير السلامة، وتسهيل التراخيص وربط المناطق السكنية بحد مقبول من الخدمات وعدم المبالغة في الوعود التي لا يمكن تحقيقها عبر معايير التخطيط الدولية.
• دعم الحيازة وحماية الحقوق: إن أي تعديل قانوني لحقوق الحيازة يجب أن يتم بحذر شديد لحماية حقوق الحيازة الهشة لأغلب النازحين واللاجئين. أغلب مناطق السكن العشوائي تملك نوعاً من إثباتات الحيازة، ولكنه غير كاف لاستصدار تراخيص بناء أو الوصول إلى فرص التمويل الصغير. تثبيت تلك الحقوق قد يعطيها الضمانات اللازمة لتبدأ في البناء.
• تمويل موجه للأسر لا للمشاريع الضخمة: عبر منح صغيرة، قروض دوارة، وضمانات حكومية تقلّل المخاطر، مع إنشاء صناديق إسكان محلية بتمويل مشترك من البلديات والقطاع الخاص والمغتربين.
• إشراك السلطات المحلية والمجتمع: البلديات يجب أن تكون في قلب القرار لتحديد الأولويات بواقعية، بعيداً عن التخطيط المركزي الذي فشل سابقاً في تلبية الاحتياجات. ومن غير المتوقع أن ينجح مجدّداً إذا استمر بالنهج المركزي نفسه مستقبلاً.
• ضبط السوق العقارية للحد من التضخم: من خلال ضرائب عادلة وآليات رقابة تمنع المضاربات التي من شأنها أن تدفع آلاف العائلات خارج المدن إلى أحزمة الفقر بسبب التضخّم.
إذاً، هل يمكن الرهان على الاستثمارات الخارجية لتكون الحل السحري لأزمة السكن في سورية؟ التجارب تقول لا. هذه النماذج، حتى في بيئات مستقرة وغنية، لم تنجح في سد فجوة السكن للفئات الأشد حاجة، وهي الفئات التي تشكّل اليوم الشريحة الأكبر والأكثر إلحاحاً في سورية. الخطر لا يكمن في طول فترة الانتظار أو ارتفاع الكلفة فحسب، بل في ما يمكن أن تخلقه هذه الاستراتيجيات من تضخم في الأسعار، ومضاربات عقارية، ونزوح اقتصادي جديد يزيد تعقيد التحدّيات الاجتماعية، ويضع عراقيل أمام مسار التعافي والاستقرار على المدى الطويل.
يجب ألا يُختزل إعمار سورية في أبراج عاجية وألا يتحوّل إلى مشروع للنخبة، بل ينبغي أن يكون مساراً يشارك فيه الجميع، يراعي العدالة والقدرة الاقتصادية، ويضع الإنسان قبل الإسمنت. عندها فقط يمكن الحديث عن تعافٍ حقيقي يخدم السوريين جميعاً، لا عن وهم جديد عنوانه الإعمار.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الإمارات والفلبين تبحثان آليات تحفيز التدفقات التجارية والاستثمارية
الإمارات والفلبين تبحثان آليات تحفيز التدفقات التجارية والاستثمارية

بوابة الأهرام

timeمنذ ثانية واحدة

  • بوابة الأهرام

الإمارات والفلبين تبحثان آليات تحفيز التدفقات التجارية والاستثمارية

أ ش أ بحث ثاني بن أحمد الزيودي وزير التجارة الخارجية الإماراتي، خلال اجتماع مع مجلس الأعمال الفلبيني في الإمارات، آليات تحفيز التدفقات التجارية والاستثمارية تحت مظلة اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الموقعة بين البلدين في يوليو الماضي. موضوعات مقترحة وتطرق الاجتماع - وفقًا لوكالة الأنباء الإماراتية - إلى سبل بناء وتوسيع الشراكات بين مجتمعي الأعمال والقطاع الخاص في الجانبين. وسلط الزيودي الضوء على تطورات العلاقات الاقتصادية المتنامية بين الإمارات والفلبين، مشيرًا إلى أن إجمالي قيمة التجارة غير النفطية بلغ 940 مليون دولار في عام 2024، واستمر هذا النمو في عام 2025، لتصل قيمة التبادلات التجارية إلى 257.7 مليون دولار في الربع الأول، حيث تعد الإمارات أكبر سوق تصدير للفلبين بين الدول العربية والإفريقية، والسوق السابع عشر الأكبر لها عالميًا، مما يظهر الأساس المتين الذي يتيح للدولتين توسيع نطاق التعاون والشراكة الاقتصادية بينهما. وقال الزيودي: "تعد الفلبين شريكًا تجاريًا رئيسيًا لدولة الإمارات ضمن منطقة الآسيان الواعدة بالنمو، ويجمعنا التزام مشترك بمواصلة تعزيز العلاقات على كافة المستويات، كما نحرص على معالجة أي تحديات قد تواجه الشركات الفلبينية العاملة في دولة الإمارات، أو نظيرتها الإماراتية التي تعمل في السوق الفلبيني، وتعد الفلبين واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومركزًا رئيسيًا للخدمات اللوجستية والتصنيع، ففي عام 2024، نما اقتصادها بنسبة 5.6%، ليصبح ثاني أسرع اقتصاد نموًا في منطقة الآسيان، وتعد رابطة الآسيان رابع أكبر كتلة اقتصادية في العالم، حيث يبلغ إجمالي ناتجها المحلي الإجمالي 4.13 تريليون دولار". ومع وجود جالية فلبينية كبيرة في دولة الإمارات، يهدف الاجتماع أيضًا إلى بحث سبل تعزيز إسهام هذه الجالية بشكل أكبر في تحقيق النمو المتبادل من خلال توطيد العلاقات الاقتصادية، وعند دخولها حيز التنفيذ، من المتوقع أن تحفز اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات والفلبين تدفقات التجارة والاستثمار، وتفتح آفاقًا جديدة لبناء الشراكات في قطاعات رئيسية، بما في ذلك الزراعة والخدمات المالية والمعدات الكهربائية. وتمثل الاتفاقية إضافة مهمة لخطط توسيع التجارة الخارجية غير النفطية لدولة الإمارات، ومن المتوقع أن تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات بمقدار 2.4 مليار دولار، وأن تزيد قيمة الصادرات إلى الفلبين إلى 7.62 مليار دولار بحلول عام 2032.

ارتفاع الجنيه الإسترليني لأعلى مستوى في ثلاثة أسابيع
ارتفاع الجنيه الإسترليني لأعلى مستوى في ثلاثة أسابيع

المشهد العربي

timeمنذ ثانية واحدة

  • المشهد العربي

ارتفاع الجنيه الإسترليني لأعلى مستوى في ثلاثة أسابيع

صعد الجنيه الإسترليني لأعلى مستوى له في ثلاثة أسابيع مقابل الدولار، وذلك مع تزايد التوقعات بـ خفض الفائدة الأمريكية بوتيرة أسرع من نظيرتها البريطانية، خاصة بعد ظهور بيانات التضخم الأخيرة. ودعا وزير الخزانة الأمريكي "سكوت بيسنت" إلى خفض الفائدة بـ 50 نقطة أساس في الاجتماع المقبل للفيدرالي الأمريكي. وارتفع الجنيه الإسترليني بنسبة 0.54% مقابل الدولار، ليصل إلى 1.3573 دولار، وهو أعلى مستوى له منذ 25 يوليو، ليعزز مكاسبه السنوية التي تجاوزت 8%.

الدين العام الأمريكي يخترق حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى
الدين العام الأمريكي يخترق حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى

26 سبتمبر نيت

timeمنذ ثانية واحدة

  • 26 سبتمبر نيت

الدين العام الأمريكي يخترق حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى

أظهرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية أن الدين العام للولايات المتحدة تجاوز حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى على الإطلاق، فيما تؤكد إدارة الرئيس دونالد ترامب التزامها بسداد هذا الدين القياسي بالكامل. أظهرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية أن الدين العام للولايات المتحدة تجاوز حاجز 37 تريليون دولار للمرة الأولى على الإطلاق، فيما تؤكد إدارة الرئيس دونالد ترامب التزامها بسداد هذا الدين القياسي بالكامل. وبحسب البيانات الصادرة الثلاثاء، بلغ الدين العام الأمريكي في 11 أغسطس نحو 37 تريليونًا وقرابة 5 مليارات دولار، مسجلاً رقمًا قياسيًا جديدًا في حجم الاقتراض الحكومي. وأشارت البيانات إلى أن الدين ارتفع بنحو 1.5 تريليون دولار منذ بداية الولاية الثانية لترامب في يناير 2025. وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد أعلنت في يناير الماضي، أن الدين العام الأمريكي تجاوز حاجز الـ 34 تريليون دولار لأول مرة. يشار الى أن مسألة سقف الدين الأمريكي تسببت بخلافات عميقة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيث يعارض الجمهوريون بشدة ارتفاع الدين الحكومي، بينما يرى الديمقراطيون أن رفع سقف الدين يصبح في بعض الأحيان ضروريا للحفاظ على عمل الحكومة الأمريكية ووفاء الولايات المتحدة بالتزاماتها المالية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store