
من "الوحدة 8200" إلى "باراغون".. كيفية صناعة التجسس السيبراني الإسرائيلي
وفي قلب الصناعة الأمنية الرقمية الإسرائيلية برزت "الوحدة 8200" بمثابة منظومة استخباراتية تقنية، وهي الحاضنة لعشرات الشركات الناشئة المتخصصة في التجسس السيبراني والهجمات الإلكترونية.
في قلب هذا المشهد ظهرت شركة "باراغون سوليوشنز" التي أثار منتجها للتجسس "غرافيت" (Graphite) جدلا واسعا بسبب قدرته على اختراق الهواتف الذكية وسرقة البيانات.
وفي هذا التقرير نستعرض العلاقة بين الوحدة والشركات الخاصة، وكيف ولدت شركة "باراغون سوليوشنز"، وآلية عمل "غرافيت"، وأبرز التحديات الأخلاقية والقانونية المرتبطة بهذه الصناعة.
من قلب الاستخبارات إلى التكنولوجيا العالمية
أُسست هذه الوحدة في خمسينيات القرن الماضي، واكتسبت سمعتها الواسعة بفضل تطويرها أدوات مراقبة واختراق متقدمة.
وتعرف "الوحدة 8200" بكونها الذراع الاستخباراتية الإلكترونية الأهم في الجيش الإسرائيلي، وتشتهر بقدرتها على اعتراض الاتصالات وتحليل البيانات واختراق الشبكات وشن الهجمات السيبرانية.
وتتميز الوحدة بتوظيف نخبة من ألمع العقول في مجالات الرياضيات والحوسبة والأمن السيبراني واللغات.
ويحصل المجندون على تدريب متقدم في القرصنة الأخلاقية وغير الأخلاقية وتحليل المعلومات، الأمر الذي ينتج كوادر تقنية عالية الكفاءة.
وبعد انتهاء خدمة التجنيد الإجباري ينطلق العديد من هؤلاء الخريجين إلى عالم ريادة الأعمال، مستفيدين من خبراتهم في تطوير أنظمة مراقبة وتشفير واكتشاف الثغرات.
ونتيجة لذلك أصبحت هذه الوحدة بمثابة حاضنة أعمال غير رسمية لشركات التكنولوجيا في إسرائيل.
وعلى المستوى الدولي، تبرز العديد من الشركات الي أنشأها خريجو "الوحدة 8200″، مثل "تشك بوينت"، و"بالو ألتو نيتوركس"، و"إن إس أو".
وحولت هذه الشركات إسرائيل إلى قوة في الأمن السيبراني، حيث تصدّر منتجاتها إلى حكومات وشركات حول العالم، أحيانا وسط جدل أخلاقي بشأن استخدامها في انتهاك الخصوصية.
وجه جديد في عالم التجسس السيبراني
في خضم هذا المشهد التكنولوجي المعقد تبرز شركات جديدة مثل "باراغون سوليوشنز" التي أُسست عام 2019 على يد قادة ومجندين سابقين في تلك الوحدة، لتصبح لاعبة رئيسية في سوق أدوات التجسس والقرصنة المتقدمة.
ومن بين مؤسسيها إيهود شنيورسون القائد السابق في "الوحدة 8200".
وتركز "باراغون سوليوشنز" على بيع أدوات اختراق ومراقبة سيبرانية متطورة لحكومات ووكالات أمنية حول العالم، مستفيدة من خبرات مؤسسيها في "الوحدة 8200".
ومن بين أبرز المنتجات التي تقدمها "باراغون سوليوشنز" برنامج "غرافيت" الذي أثار جدلا واسعا بسبب قدرته على التجسس رغم أن الشركة تدعي أنه مخصص لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وتحاول "باراغون سوليوشنز" التمايز عن سمعة "إن إس أو" السيئة من خلال ادعاء احترامها القوانين المحلية والدولية، ومع ذلك يتبع "غرافيت" النمط نفسه الذي رأيناه مع أدوات، مثل "بيغاسوس".
ويظهر التاريخ صعوبة منع إساءة الاستخدام، حيث إن قدرة "غرافيت" على الاختراق الصامت تجعله أداة مثالية للقمع والمراقبة غير المشروعة.
الابتكار في خدمة المراقبة
ينتمي "غرافيت" إلى سلالة جديدة من برامج التجسس القادرة على العمل دون كشف، وهو إحدى أكثر أدوات الاختراق تطورا، حيث يتميز بالهجوم الصامت وتجاوز التشفير والتنصت الشامل.
ويستطيع "غرافيت" اختراق جهاز الهدف دون أن يتطلب أي تفاعل من الضحية، مثل النقر على رابط أو فتح ملف، وهذه النوعية من الهجمات هي ذروة التطور في عالم التجسس.
ويستغل البرنامج ثغرات غير معروفة في أنظمة التشغيل أو في التطبيقات الشائعة لتنفيذ الاختراق تلقائيا عند استلام رسالة أو بيانات معينة.
ويهدف "غرافيت" إلى البقاء مختبئا ضمن الجهاز لمدة طويلة من خلال إنشاء حسابات خفية غير مرئية للمستخدم تستخدم لتلقي الأوامر وإرسال البيانات المسروقة.
وصمم "غرافيت" ليعمل بشكل أساسي في ذاكرة الجهاز، مما يقلل فرص ترك آثار دائمة تسمح باكتشافه من خلال الفحوصات التقليدية.
وبمجرد الاختراق يستطيع "غرافيت" الوصول إلى الرسائل النصية ورسائل التطبيقات المشفرة والبريد الإلكتروني والصور والملفات وسجل المكالمات وجهات الاتصال وسجل التصفح.
كما يتتبع الموقع الجغرافي، ويستخدم الميكروفون والكاميرا سرا، ويتحكم عن بعد بالجهاز المستهدف دون كشف الأثر محولا الهاتف إلى جهاز مراقبة.
ولأن البرنامج قادر على الوصول إلى المحادثات المشفرة فإن أي شخص يتواصل مع جهاز مستهدف قد تعترض رسائله أيضا، مما يجعله ضحية غير مباشرة للهجوم.
ويستهدف "غرافيت" الهواتف العاملة بنظامي "آي أو إس"، و"أندرويد".
ومن الناحية التقنية، يتألف برنامج التجسس من المكونات التالية:
وحدة التوصيل: تستغل الثغرات غير المكتشفة أو تستخدم الهندسة الاجتماعية للهجوم الأولي.
وحدة الاستمرارية: تتيح الوصول إلى صلاحيات المستخدم الجذر أو كسر الحماية للتحكم الطويل الأمد في الجهاز.
وحدة استخراج البيانات: تسرق الرسائل وجهات الاتصال وسجلات المكالمات وبيانات الموقع وملفات الوسائط.
وحدة المراقبة: تفعّل الميكروفونات والكاميرات سرا للمراقبة الفورية.
وحدة الاتصالات: تسرب البيانات المسروقة عبر قنوات القيادة والتحكم المشفرة.
وحدة الدفاع الذاتي: تكتشف محاولات التحليل وتتفادى الكشف، ويمكنها التدمير الذاتي لتجنب التحليل الجنائي.
السوق العالمية الرمادية
تسلط قصة "باراغون سوليوشنز" الضوء على السوق الرمادية للتجسس الرقمي، وهي سوق غير خاضعة للرقابة.
ومن خلال هذه السوق توفر شركات يقودها خبراء عسكريون سابقون أدوات اختراق عالية التعقيد لحكومات قد تسيء استخدامها.
وبالاعتماد على "الوحدة 8200" أصبحت إسرائيل واحدة من أكبر مصدري برامج التجسس في العالم، وتحولت إلى مركز عالمي لهذه الصناعة التي توسعت بسرعة وسط طلب عالمي متزايد.
ومن خلال هذه السوق تباع تقنيات هجومية متقدمة لعملاء قد يستخدمونها لقمع المعارضين، كما تنقل الخبرات العسكرية إلى القطاع التجاري، حيث تتفوق القدرات الهجومية على القدرات الدفاعية.
وتتعاقد الحكومات مع الشركات الإسرائيلية من أجل الحصول على تقنيات يصعب تطويرها داخليا، الأمر الذي جعل تلك الشركات تتنافس على تزويد السوق بأدوات مراقبة متطورة جدا.
وحفزت هذه المنافسة الابتكار، ولكنها أيضا أججت الجدل بشأن أخلاقيات بيع أدوات التجسس، حيث اضطرت إسرائيل إلى فرض قيود إضافية على صادرات هذه البرامج بعد فضائح شركة "إن إس أو".
وتشترط وزارة الدفاع الإسرائيلية حصول الشركات على موافقة رسمية على صفقات البيع، والتدقيق في هويات الزبائن، والالتزام بالحفاظ على العلاقات الدبلوماسية.
لكن الخبراء يشيرون إلى أن هذه القيود تبقى نسبية، حيث تستمر صادرات التجسس الإسرائيلية إلى عشرات الدول، بما في ذلك دول غربية حليفة، وهو ما يجعل الحديث عن ضوابط صارمة موضع شك.
وتحذر المنظمات من أن ادعاءات البيع الأخلاقي مجرد تسويق، إذ إن التقنية نفسها خطيرة بطبيعتها، وقد تستخدم ضد المعارضة والصحفيين حتى في الدول الديمقراطية.
ختاما، فإن "باراغون سوليوشنز" وبرنامجها "غرافيت" ليسا مجرد قصة شركة أمنية ناجحة، بل انعكاس لسوق تجسس عالمي بدون ضوابط، حيث تتحول الخبرات العسكرية إلى سلع تباع وتشترى تحت ستار محاربة الإرهاب، ولكنها قد تصبح أداة للقمع والاستبداد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
كريستيانو يجذب مواطنه للنصر وصفقات مميزة للاعبين عرب
02:42 سوق الملاعب يقترب النصر السعودي من حسم صفقة نارية في هذه الصائفة، سيكون لها مفعول كبير دون أدني شك على أداء الفريق الموسم المقبل. اقرأ المزيد المصدر: الجزيرة


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
ما أسباب حظر مؤسسة "القرض الحسن" في لبنان؟
بيروت – في خطوة تعكس تحولًا لافتًا في سياسة مصرف لبنان تجاه المؤسسات المالية غير النظامية، أصدر المصرف المركزي قرارًا يقضي بحظر التعامل مع عدد من الهيئات غير المرخصة، في مقدّمتها "جمعية القرض الحسن" التابعة ل حزب الله ، مما فتح الباب أمام سجال واسع حول قانونية هذه المؤسسات ودورها في المنظومة المالية الموازية التي نشأت في ظل الانهيار المصرفي اللبناني. وتُعد الجمعية من أبرز الركائز الاقتصادية التي يعتمد عليها حزب الله في تمويل أنشطته الاجتماعية وتقديم الخدمات المالية. ونشأت في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 تحت غطاء جمعية خيرية، قبل أن تحصل على ترخيص رسمي من وزارة الداخلية اللبنانية عام 1987، مما أتاح لها العمل بشكل قانوني ضمن الإطار الرسمي للجمعيات. ورغم أنها لا تخضع لقانون النقد والتسليف اللبناني الذي ينظم عمل المصارف، فقد تمكنت "القرض الحسن" من ترسيخ حضورها في السوق المالية اللبنانية، حيث تدير أكثر من 30 فرعًا موزعة على مختلف المناطق. وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، تحولت الجمعية إلى هدف مباشر للغارات الإسرائيلية، حيث استُهدفت معظم فروعها بالقصف، مما اعتُبر رسالة واضحة إلى البنية الاقتصادية الداعمة للحزب. تنظيم مالي يعلّق الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان على القرار بالقول إنه "خطوة إيجابية في سياق الحد من تمدد اقتصاد الكاش في لبنان"، لكنه يلفت في المقابل إلى أن التعميم الصادر عن مصرف لبنان لا يطول مؤسسة "القرض الحسن" فقط، بل يشمل المؤسسات والمصارف المالية الخاضعة لرقابته. ويُوضح أبو سليمان للجزيرة نت أن "القرض الحسن" هي جمعية مرخّصة من وزارة الداخلية، وبالتالي فإن أي إجراءات بحقها -إن ثبت أنها تمارس أنشطة مالية خارج الأطر القانونية- تُعدّ من مسؤولية السلطات المحلية، نظرًا إلى أن تقديم أي خدمات مالية يتطلب ترخيصًا رسميًا من المصرف المركزي. إعلان ويضيف أن هذا التعميم لا يُتوقع أن تكون له تداعيات مباشرة على الاقتصاد اللبناني، سواء سلبًا أو إيجابًا، بل يُقرأ بوصفه "إشارة سياسية موجّهة إلى الخارج، تفيد بأن لبنان بصدد تنظيم قطاعه المالي ووقف التعامل مع أي كيانات لا تخضع للرقابة". ويشير إلى أن القرار لا يترك تأثيرًا يُذكر على القطاع المصرفي، "إذ إن المصارف اللبنانية أساسًا لا تتعامل مع مؤسسة القرض الحسن، ولا تقدم لها أي خدمات". ازدواج مالي من جانبه، يقول خبير الاقتصاد والأسواق المالية الدكتور عماد عكوش للجزيرة نت، إن فهم الفروقات الجوهرية بين عمل المصارف وجمعية القرض الحسن يتطلب أولًا الإلمام بالإطار القانوني الذي ينظم القطاع المصرفي في لبنان. فمن أبرز القوانين التي تحكم عمل المصارف: قانون النقد والتسليف الصادر عام 1963، قانون السرية المصرفية لعام 1956، قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44 لعام 2015، يُضاف إليها قانون دمج المصارف، ومشروع قانون إعادة هيكلة القطاع الذي لا يزال قيد البحث في البرلمان، فضلًا عن سلسلة تعاميم صادرة عن مصرف لبنان، وقانون حماية المستهلك الذي يفرض معايير للشفافية والإفصاح في التعاملات المصرفية. لكن عكوش يشدد على أن هذه المنظومة القانونية لا تنطبق على "جمعية القرض الحسن"، التي تُصنّف خارج النظام المالي الرسمي، والاختلاف لا يقتصر على الإطار القانوني فحسب، بل يتعدّاه إلى الوظيفة. فالمصارف، بحسب عكوش، تستقبل الودائع بأنواعها كافة وتمنح قروضًا بفوائد، وتُعنى بأنشطة التمويل، والخصم، والضمانات المصرفية، وتسهيل عمليات الدفع، إلى جانب المتاجرة بالعملات والمعادن وتقديم الخدمات البنكية التقليدية. في المقابل، تقتصر وظيفة الجمعية على منح قروض بلا فوائد وبمبالغ محدودة، في سياق دعم الفئات الفقيرة والمجتمعات الهشّة. من هذا المنطلق، يرى عكوش أن تعميم مصرف لبنان رقم 169، الذي يمنع التعامل مع الجمعية، يأتي في سياق سياسي أكثر منه ماليا، إذ يستهدف ما يُعرف بـ"السلاح المالي لحزب الله" عبر تقويض الشبكة الاقتصادية التي ينسجها خارج النظام المصرفي الرسمي. وبرغم الطابع الخيري الذي تتسم به خدمات الجمعية، فإن الخبير الاقتصادي يشير إلى أنها تواجه اتهامات بأنها تُستخدم ذراعا تمويلية للحزب، ويأتي قرار الحظر في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، مما قد يفاقم الضغوط المعيشية على آلاف العائلات التي كانت تعتمد على هذه القروض الصغيرة لتسيير شؤونها اليومية. ويرى الخبير أن هذا القرار يشكّل رسالة سياسية موجّهة من مصرف لبنان إلى الخارج، بهدف الدفع نحو شطب اسم لبنان من "اللائحة الرمادية" التابعة لمجموعة العمل المالي (FATF)، التي تضم الدول المقصّرة -بحسب المفهوم الغربي- في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. رقابة مشددة وأبعاد سياسية يقول الباحث المالي والاقتصادي الدكتور عماد فران إن مؤسسة "القرض الحسن" لم تكن يومًا على ارتباط مباشر بالمصارف أو تملك حسابات مصرفية فيها، بل تتعامل غالبًا مع مؤسسات الصرافة، ومن هنا فإن التعميم يُعد إجراءً رقابيًا ضمن صلاحيات مصرف لبنان، يهدف إلى ضبط حركة الأموال خارج النظام المصرفي الرسمي. ويوضح أن الجمعية، رغم نشاطها المالي الواسع، فإنها لا تُعد مؤسسة مصرفية مرخّصة، بل تُشبه في طبيعة عملها بعض شركات التمويل أو الاستثمار، مما يضعها خارج المظلّة القانونية التي يخضع لها القطاع المصرفي اللبناني. لكن الإشكالية، بحسب فران، لا تنحصر في البعد التنظيمي أو المالي، بل تتجاوز ذلك إلى أبعاد سياسية، إذ يرى أن هناك ضغوطًا خارجية تُمارس على لبنان لوضع نظامه المصرفي تحت رقابة صارمة، بذريعة مكافحة تمويل جهات معيّنة أو الالتزام بالمعايير الدولية. ويعتبر أن ما يصدر عن مصرف لبنان أو لجنة الرقابة على المصارف، وحتى الجهات الدولية، يحمل في طيّاته رسائل سياسية واضحة تتصل بإعادة رسم التوازنات في المنطقة. ويحذر فران من أن هذا المسار قد يُفضي إلى ارتدادات داخلية، إذ إن أي توتر سياسي أو اجتماعي سيلقي بثقله على الوضع الاقتصادي الهش أصلًا. أما في ما يخص القطاع المصرفي، فيرى فران أنه لا يتأثر مباشرة بهذه التطورات، لكن استعادة الثقة به ستبقى مرهونة بقرارات مصرف لبنان، لا سيما ما يتعلق بأموال المودعين وإعادة تفعيل دور المصارف في تمويل الاستثمارات. ويؤكد أن هذه العودة مشروطة بتوفر التمويل بالدولار، وهو ما يفتقده لبنان حاليًا في ظل غياب "الدولار الاستثماري" الضروري لتحريك العجلة الاقتصادية.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
تداعيات اقتصادية لأكبر حملة ترحيل للعمالة الأفغانية من إيران
طهران – نفذت إيران أكبر حملة ترحيل للاجئين الأفغان غير النظاميين في تاريخها الحديث، بعد اتهام بعضهم بالتجسس وتسريب معلومات عسكرية لا سيما بعد المواجهة الأخيرة مع إسرائيل ، لكن ثمة تساؤلات بشأن تداعيات هذه الحملة على الاقتصاد الإيراني. فبعد عقود من اعتماد الاقتصاد الإيراني على العمالة الأفغانية الرخيصة في قطاعات حيوية عديدة، خلّف ترحيل المهاجرين المخالفين شروخا عميقة في بنية الاقتصاد الإيراني، وفق مراقبين، أدت إلى زيادة كبيرة في تكاليف القوى العاملة في تلك القطاعات. وأعلنت إيران ترحيل أكثر من 772 ألف لاجئ أفغاني غير نظامي إلى بلادهم منذ 21 مارس/آذار الماضي، وفق ما أوردت وكالة الأناضول نقلا عن رئيس دائرة الأجانب واللاجئين في وزارة الداخلية الإيرانية، نادر ياراحمدي. ويقدر المسؤولون الإيرانيون عدد الأفغان المقيمين في البلاد بنحو 6 ملايين شخص، بينهم أكثر من مليوني شخص يقيمون فيها بشكل غير قانوني. وخلال عقود من استحواذ العمال الأفغان على قطاعات البناء والزراعة والمهن الصعبة، استطاع بعضهم توظيف مدخراته لإنشاء مشاريع صغيرة اصطدمت بحملات الترحيل مؤخرا، فضلا عن الخشية من تداعيات تعطيل هذه الورشات على بعض القطاعات الصناعية والخدمية. ومنذ عقود دأب أصحاب العمل الإيرانيون على توظيف العمال الأفغان لأنهم يقبلون بأجور منخفضة جدا من دون تأمين صحي مقابل ساعات عمل طويلة، لكن موجة الترحيل المتواصلة تسببت في تراجع اليد العاملة الأفغانية في البلاد، بينما تتزايد معدلات البطالة بين الشباب الإيرانيين بسبب رفضهم قبول المهن الشاقة القليلة الأجر. ومع تسجيل المعابر الحدودية ترحيل مئات آلاف الأفغان خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدأت الصحافة الإيرانية بنشر تقارير عن التحديات التي تنكشف رويدا رويدا في بعض قطاعات الاقتصاد الإيراني جراء انخفاض العمالة المهاجرة وتداعياتها على ارتفاع تكاليف الإنتاج من جهة وانخفاض الإنتاجية من جهة أخرى. تداعيات الترحيل يحذّر الباحث الاقتصادي عضو غرفة إيران للصناعة والتجارة زين العابدين هاشمي من تبعات ترحيل القوى العاملة الأفغانية من إيران، موضحا أن أكثر من 70% من المهاجرين الأفغان في إيران يعملون في وظائف يدوية وعلى رأسها قطاع البناء والتشييد ثم الخدمات البلدية والقطاع الزراعي وتربية الماشية. وقال في حديث للجزيرة نت إنه بعد اعتماد هذه القطاعات على اليد العاملة الأفغانية طوال العقود الماضية، فإن ترحيل هذه الفئة سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف العمالة وتعطيل المشاريع التنموية وتراجع عرض البضائع جراء انخفاض الإنتاج والذي سينعكس بدوره على ارتفاع أسعار العقارات والمواد الغذائية وزيادة تكاليف الصيانة والخدمات الفنية والمنزلية والبلدية. وأشار هاشمي إلى أن العديد من المصانع والمنشآت الصغيرة تعتمد بشكل أساسي على العمالة الأفغانية، وقد يؤدي ترحيلهم إلى إغلاق بعض الورش أو تقليص ساعات العمل فيها، إلى جانب الهواجس من نقل رؤوس الأموال إلى بعض الدول الأجنبية إذا ما صعب على أصحاب العمل استبدال اليد العاملة الأفغانية بعمالة إيرانية أعلى كلفة. وأوضح أن استبدال العمال الأفغان بعمالة إيرانية سيكون صعبا لأسباب عديدة، أبرزها رفض الإيرانيين تولّي وظائف يدوية كالبناء أو تربية المواشي إلا بأجور مرتفعة جدا، منوها بأن مؤشرات البطالة في إيران تعود إلى خريجي الجامعات وليس للعمالة البسيطة. وتوقع الهاشمي ارتفاع معدلات البطالة جراء توقف نشاط العديد من الورش والصناعات الصغيرة في المستقبل. وقال إن البلديات في العديد من مدن المحافظات الإيرانية تفوّض الخدمات البلدية إلى مقاولين يستخدمون عمالا أفغانا، وبترحيلهم سوف تشهد بعض المشاريع كجمع النفايات وتدويرها وتنظيم المناطق العشوائية عراقيل حقيقية في تسيير العمل. وشدد الهاشمي على أن البلديات قد تضطر إلى رفع الضرائب أو تقليص الخدمات جراء زيادة تكاليف صيانة المدن بسبب غلاء أجور العمالة الإيرانية. وقال إن متوسط أجر العامل الأفغاني في إيران يبلغ في قطاع البناء 7 ملايين ريال إيراني (8.2 دولارات) لليوم الواحد، بينما يصل أجر العامل الإيراني يوميا من 12-15 مليون ريال إيراني (14-17.4 دولارا) مما يرفع كلفة الوحدات السكنية وقد يُدخل سوق العقار في ركود. فوائد أمنية في المقابل، قال إبراهيم نجفي نائب رئيس لجنة العمران البرلمانية إن ترحيل المهاجرين غير القانونيين سيفضي إلى آثار إيجابية في الاقتصاد الوطني من خلال انخفاض الدعم الحكومي على الطاقة والسلع الأساسية، إلى جانب زيادة فرص العمل للإيرانيين وارتفاع عرض الوحدات السكنية. ونقلت وكالة خانه ملت التابعة للبرلمان الإيراني عن نجفي قوله إنه لمغادرة المهاجرين غير النظاميين فوائد أمنية للدولة، مضيفا أن هذه الشريحة الكبيرة كانت تستفيد من الدعم الحكومي في جميع المجالات بما فيها التعليم والمواد الغذائية والطاقة، وفق قوله. وأضاف أن ترحيل المهاجرين المخالفين قد يتسبب في تحديات محدودة في بعض القطاعات بسبب نقص اليد العاملة، لكن المنافع تفوق السلبيات من دون أدنى شك، موضحا أن أعدادا كبيرة ممن يغادرون البلاد حاليا كانوا مستأجرين لوحدات سكنية تُعرض الآن في السوق، مما يعوّض جزءا من نقص المعروض. استنزاف الدعم الحكومي في السياق، قال الصحفي المتخصص في الشأن الأفغاني هادي كسائي زاده إنه نظرا لنشاط العمالة الأفغانية بشكل أساسي في عدد محدود من القطاعات الصناعية والإنتاجية، فإنه يمكن حل مشكلة نقص العمالة عبر تخطيط دقيق فيمكن أن تكون عبر المهاجرين النظاميين حيث ترحب السلطات الإيرانية ببقائهم في البلاد. وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح كسائي زاده أن زيادة أعداد المهاجرين غير النظاميين خلال السنوات الأخيرة أدت إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية واسعة النطاق في إيران بدءا من ارتفاع الطلب على سوق الإسكان والاستهلاك الواسع للدعم الحكومي على السلع الأساسية، وصولا إلى "التغلغل الاستخباراتي والأمني للعدو الذي تجلى في العدوان الإسرائيلي الأخير على الجمهورية الإسلامية"، وفق قوله. ومنذ بدء الهجوم الإسرائيلي الذي استمر 12 يوما على إيران، شنت وزارة الاستخبارات الإيرانية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية التابعة للحرس الثوري وقوى الأمن الداخلي حملات أمنية ألقت القبض خلالها على مئات الجواسيس بينهم عدد من المهاجرين الأفغان غير النظاميين وبثت -في وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية- لقطات من اعترافاتهم بالتعاون مع جهاز الموساد الإسرائيلي عبر التقاط صور لأماكن حساسة وإرسالها إلى جهات خارج البلاد مقابل الحصول على أموال. وتابع "المهاجرون الأفغان يستهلكون نسبة كبيرة جدا من الدعم الحكومي على السلع الأساسية والطاقة مما يكبِّد الاقتصاد الوطني تكاليف باهظة كان بالإمكان توجيهها مباشرة لتحسين رفاهية الإيرانيين". ولدى إشارته إلى الدعم الحكومي على الغاز والبنزين والسولار والكهرباء ومياه الصرف الصحي وقطاع التعليم والعلاج وغيرها، قال الصحفي الإيراني إنه في ظل معاناة البلاد من عجز في الطاقة والمياه يحصل المهاجرون الأفغان على حصة كبيرة من الموارد العامة لا تتناسب مطلقا مع القدرة الاقتصادية للبلاد في وقت تعاني فيه الحكومة من عجز مزمن في الميزانية. وأضاف كسائي زاده أنه إلى جانب الأعباء الاقتصادية، ثمة مخاوف جادة من تبعات أمنية للهجرة غير القانونية؛ إذ كشفت الاعتقالات الأمنية التي أعقبت الحرب الإسرائيلية الأخيرة عن استخدام " الموساد" الإسرائيلي لعدد من المهاجرين غير النظاميين في عمليات تجسس وتخريب، مؤكدا أن الهوية لهؤلاء توفر بيئة خصبة لتسلل العملاء، ويصعب تعقب تحركاتهم مقارنة بالمقيمين النظاميين. ووفق آخر الإحصاءات الإيرانية الرسمية، أعلن محمود كريمي بيرانوند، المساعد السابق لوزارة العمل، أن حوالي مليون و500 ألف شخص من المهاجرين الأجانب يمتلكون التراخيص اللازمة ويعملون بصورة قانونية داخل البلاد، في حين يُقدَّر عدد الأشخاص المخالفين بضعف هذا الرقم. الموقف الأفغاني في غضون ذلك، نشرت وكالة "صداي أفغان" -التي تديرها الجالية الأفغانية في إيران- تقريرا ميدانيا من معبر دوغارون، مؤكدة أن المركز الخدمي الملاصق للمعبر يشهد هذه الأيام واحدة من أكبر عمليات عودة المهاجرين لكنها في الوقت ذاته تبدو الأكثر تنظيما وإنسانية. واعتبرت الوكالة أن التنظيم المحكم للمهاجرين، وتوزيع المستلزمات الأساسية، وتقديم الخدمات الصحية والضيافة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، تمثل أبرز نقاط قوة الإدارة الحدودية في مدينة تايباد الإيرانية حيث يعبر المهاجرون الأفغان الحدود المشتركة. ووفقا للوكالة، فإن "عودة المهاجرين من حدود دوغارون ليست علامة على الخروج القسري، بل هي رمز لحركة واعية، تطوعية، ومفعمة بالأمل لمهاجرين يبدؤون مسارًا جديدًا في بلادهم بنظرة نحو المستقبل". وفي الجانب الأفغاني، انتقد وزير الخارجية أمير خان متقي الترحيل "المؤلم والمهين" لمواطني بلاده من إيران، حسب وصفه، مضيفا أن السلطات الإيرانية "بدأت بترحيل اللاجئين الأفغان بصورة عشوائية ومن دون التنسيق معنا، حيث لم نكن جاهزين لاستقبال هذا العدد الضخم من العائدين". وفي تصريحات نقلها التلفزيون الأفغاني الرسمي، أضاف متقي خان أن بلاده طلبت "مرارا وتكرارا من السلطات الإيرانية أن يكون الترحيل تدريجيا، يحفظ كرامة العائدين وممتلكاتهم"، مشيرا إلى أن معظم اللاجئين غادروا أفغانستان بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية. ومع تحول قضية المهاجرين الأفغان غير النظاميين في إيران إلى أزمة متعددة الأبعاد، تكاد تجمع الأوساط الإيرانية على ضرورة تنظيم ظاهرة الهجرة وإصلاح الهياكل الاقتصادية ووضع سياسات وطنية تحمي مصالح الإيرانيين، مع الحفاظ على كرامة المهاجرين وحسن الجوار لتفادي تحول الأزمة إلى تهديد أمني مستقبلي.