
"المماليك" في أوروبا للمرة الأولى.. عصر ذهبي في مصر وسوريا
قاعة نابليون الواقعة تحت الهرم الزجاجي الشهير في اللوفر، فتحت أبوابها لتراث المماليك التاريخي حتى 28 يوليو، قبل أن يعود للانعقاد مرّة أخرى خلال شهر سبتمبر، في متحف اللوفر أبوظبي.
تجمع القاعات 126 قطعة من الكتب والمخطوطات، والملابس والأقمشة، فضلاً عن أواني من الخزف والزجاج الصيني، وحُلي وأسلحة وأبواب وسجاجيد، تعود إلى فترة المماليك، وتعكس الثراء الثقافي والفكري الذي اتسمت به فترة حكمهم لمصر وسوريا، بين 1250و1517م.
يحظى معرض "مملوك" بتفاعل كبير من زوّار اللوفر، وتستقبلهم لافتات كثيرة تنتشر في أرجاء البهو الرئيسي للمتحف، تحمل صورة لملابس الفرسان المماليك المميزة.
سينوجرافيا تفاعلية
يعتمد تنسيق المعرض على السينوجرافيا، التي تقدّم تجربة تفاعلية بصرية وسردية، تقود الزوّار في مسار محدّد بين اللوحات المرسومة، التي تعبّر عن فترة حكم المماليك، فضلاً عن القطع الأثرية المعروضة، ولوحات النصوص الشارحة لتاريخهم، تتوسطها مساحات خاصة تشبه سينما صغيرة، تعرض مقاطع فيديو ثلاثية الأبعاد، وتدخل الزوّار إلى قلب الآثار والعمارة المملوكية وخصوصاً في مصر، وتعتمد على الإضاءة الخافتة، ومساقط النور فوق القطع المعروضة، فتعيد الزوّار إلى حقبة تاريخية مختلفة.
يتصدّر مدخل "مملوك"، لوحة كبيرة تشرح أصول المماليك وتاريخهم؛ فهم فرسان من أصول تركية وقوقازية، عملوا في خدمة الدولة الأيوبية، التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي، ووصلوا إلى درجة كبيرة من النفوذ، قادتهم إلى الإطاحة بالأيوبيين، وتولي الحكم بين عام 1250 و 1517.
استطاع المماليك خلال حكمهم، استرداد آخر معاقل الصليبيين في الشرق، التي استولوا عليها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والتصدي للتهديد المغولي، وأخضعوا مناطق شاسعة لنفوذهم، وسيطروا على الطرق التجارية الرئيسة، وخصوصاً تجارة التوابل من جنوب شرق آسيا، التي تمرّ عبر البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وصولاً إلى أوروبا.
تُبرز اللوحات النصّية المدعومة بالخرائط القديمة في المعرض، كيف اتخذت الدولة المملوكية القاهرة عاصمة لها، وكيف أصبحت حينها مركزاً تجارياً وثقافياً عالمياً، استقطب العلماء والمثقفين من جميع أنحاء العالم، ووفّر حالة من الازدهار الفني والعمراني والثقافي غير المسبوقة في التاريخ الإسلامي، ظهر أثرها في أوروبا في عصر النهضة.
خمسة أقسام
ينقسم معرض "مملوك" الذي يُقام بالتعاون مع متحف اللوفر أبوظبي، وبدعم خاص من المكتبة الوطنية الفرنسية "Bibliothèque Nationale de France"، إلى خمسة أقسام تركز على هوية المماليك، والتعدد المجتمعي ومكانة العلماء والمتصوّفين والكُتّاب والتجار والحرفيين، وموقع الأقليات الدينية، فضلاً عن امتزاج الثقافات العلمية والعسكرية والدينية والشعبية، والعلاقات مع العالم، والإنجازات الفنية والمعمارية للدولة المملوكية، لجهة الخط والتصميم والنسيج والسيراميك والزجاج، فضلاً عن تشكيل المعادن والأعمال الخشبية.
يضم المعرض قطعاً متنوّعة من الملابس المميزة لجنود المماليك وأسلحتهم، ومنها سرج وحزام حصان مطرّز بخيوط ذهبية وزخارف نحاسية، يُعتقد أنه يعود إلى معركة الأهرامات، التي دارت بين المماليك والحملة الفرنسية على مصر سنة 1798.
مفتاح الكعبة
كما يعرض مفتاح الكعبة الذي يحمل اسم السلطان فرج، وهو مفتاح مطلي بالذهب والفضة، يعتقد الباحثون أنه تمّ إهداؤه إلى السلطان فرج، عندما أمر بتجديد الحرم عام 1402، كما كانت تُقدّم هذه المفاتيح في بداية عهد السلطان في بداية فترة حكمه، وعدد من علب الأقلام النحاسية، ومنها غطاء علبة أقلام نحاسي نُقش عليه مشهداً للصيد، وحوض نحاسي مزيّن بالزخارف، ومبخرة للتعطير، وهي المجموعة التي تعود للسلطان الناصر محمد قلاوون، المعروف برعايته للفنون، وتعتبر فترة حكمه أحد الفترات الذهبية لسلطنة المماليك.
ظهرت المرأة أيضاً في معرض "مملوك" من خلال لوحة توضيحية لحياة خواندا فاتيما، الزوجة الوحيدة للسلطان قايتباي، التي كانت تخرج في رحلات خارج القاهرة مصحوبة بمواكب مُبهرة، واشتهرت بإدارتها لثروتها من خلال شراء الأراضي والمنازل، وبعد وفاة السلطان قايتباي، تزوّجت السلطان طومان باي، وتضم معروضاتها حلي ذهبية وشمعدان نحاسي وإبريق.
ظهرت في المعرض أيضاً المشكاوات الزجاجية، ومنها مشكاة مطلية بالمينا المذهّبة، وتعود إلى مسجد الأمير قوسون، منقوش عليها اسمه وآيات من سورة النور.
مجتمع يتسع للجميع
تعرض في "مملوك" وثائق كثيرة تؤكد على حيوية الطوائف المسيحية في التعامل مع السلطات المملوكية، وتظهر ضمن المعروضات أطباق وأواني نُقشت عليها الصلبان، ولوحتان كانتا من ضمن 10 ألواح تزيّن أحد الأبواب في الكنيسة المعلّقة بالقاهرة، تمّ ترميمها خلال العصر المملوكي، وتصوّر أحدها صعود المسيح، والأخرى صليب تخيط به زخارف تعود للعصر المملوكي، فضلاً عن كتاب يضمّ رسائل القديس بولس، التي نسخها إلى اللغة العربية توما ابن الصافي، المعروف في دمشق بابن الصائغ.
وفي قسم المعروضات الخشبية، هناك باب يٌعتقد أنه يعود إلى جامع المارداني بالقاهرة، وهو أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، وتُظهر الزخارف على البابين درجة التعقيد في التراكيب الهندسية، إضافة إلى التطعيم بالعاج، ما يمنحه ألواناً زاهية.
يضم المعرض مجموعة من المخطوطات، منها شهادة للحج الإسلامي، وهي الوحيدة الموجودة من العصر المملوكي، وتقدّم مراحل الحج التي قامت بها امرأة تدعى ميمنة، ابنة محمد الزرديلي، وتُظهر صوراً تخطيطية للمراحل الرئيسة للحج، وصوراً للأماكن المقدّسة من الكعبة، والمسجد النبوي، إلى جانب نسخ متعددة من القرآن الكريم، ومجموعة من الكتب، ومنها نسخة من كتاب المؤرّخ أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، بعنوان "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وكتاب محمد ابن عقيل بعنوان "الدر النضيد في مناقب الزهير أبي سعيد".
علاقات تجارية ودبلوماسية
سيطرة المماليك على طرق التجارة، مكّنتهم من إقامة علاقات تجارية ودبلوماسية مع أوروبا، مثل إسبانيا وجنوة والبندقية وفلورنسا، وجنى المماليك أرباحاً كبيرة من تجارة إعادة بيع التوابل والسكر إلى أوروبا، في حين كان الأوروبيون يصدّرون إلى السلطنة، النحاس والقصدير والأقمشة الصوفية.
وحظيت المنسوجات المملوكية بشعبية كبيرة بين الأوروبيين، وكانت مصدر إلهام لإبداعاتهم الفنية. وظهر في معرض "مملوك" لوحات تُوضح استقبال بعثة دبلوماسية فينيسية في دمشق عام 1545، ولوحة أخرى تظهر دمشق في عهد المماليك وتعود لعام 1511، بينما تجسّد لوحة أخرى، شخصيات ومباني مملوكية، يجلس فيها الحاكم في دمشق على منصّة مرتدياً عمامة بيضاء مزخرفة، يحيط به الأمراء الذين يرتدون عمامات طويلة أو قلنسوات حمراء.
وعلى الرغم من ضعف دولة المماليك في نهاية عهدها، واستيلاء العثمانيين عليها عام 1517، لكن وجودهم لم ينته فعلياً؛ بل استمروا في تشكيل فرق مميزة من الفرسان في صفوف الجيش العثماني بمصر.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تمكّن قادتهم الذين أصبحوا يحملون لقب "الباكوات"، من استعادة نفوذهم السياسي، وتولوا الدفاع عن مصر عام 1798 خلال الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، الذي أُعجب بمهاراتهم القتالية، لدرجة أنه أنشأ فرقة منهم ضمن الحرس الإمبراطوري الفرنسي، بين عامي 1801 و1815، ما جعلهم جزءاً من التاريخ الأوروبي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
السقا يعود إلى منطقته المفضلة عبر فيلم «أحمد وأحمد»
استقبلت دور العرض السينمائية في مصر (الأربعاء) الفيلم السينمائي الجديد «أحمد وأحمد» الذي يتقاسم بطولته أحمد السقا مع أحمد فهمي وهما الثنائي الذي تحدث لسنوات عن رغبتهما في العمل معاً. وعلى مدار 95 دقيقة هي مدة أحداث الفيلم، نشاهد «أحمد» (أحمد السقا) وهو يجسد شخصية «مُدرس كيمياء» صاحب شخصية ضعيفة، فيما يعود من السعودية نجل شقيقته «أحمد» (أحمد فهمي). الذي يجد خاله «أحمد السقا» قد فقد الذاكرة بشكل كامل ويجد نفسه متورطاً معه في أزمة كبيرة على خلفية ترؤسه لعصابة من أجل تنفيذ عملية سرقة للوحة تاريخية، وبينما لا يتذكر «الخال» أو أحمد السقا أي شيء ويستمر في محاولة كشف الخيوط يرافقه طوال الأحداث نجل شقيقته «فهمي»، وخطيبته التي تقوم بدورها الفنانة جيهان الشماشرجي. السقا وفهمي بطلا فيلم «أحمد وأحمد» - الشركة المنتجة ولا يتوقف السقا طوال الأحداث عن انتصاره في مشاهد الأكشن، حيث يطلق عليه خلال الفيلم لقب «الساموراي»، نظراً لقدرته على الهرب بسرعة بجانب القضاء على ملاحقيه أو الوقوع في قبضتهم. وعبر العديد من المطاردات والمواقف الكوميدية يواصل الثلاثي رحلتهم لفك غموض الماضي بشأن اللوحة. يكتشف أحمد فهمي الكثير عن خاله في كل محطة يتوقفون عندها مع تعرضهم لخطر القتل عدة مرات والملاحقات التي تجري من جانب أصحاب المصلحة الذين يتكشفون واحداً بعد الآخر. وتشهد الأحداث ظهور عدد من الفنانين ضيوف شرف؛ من بينهم طارق لطفي، غادة عبد الرازق، حاتم صلاح، علي صبحي، رشدي الشامي، والفيلم أشرف على كتابته أحمد عبد الوهاب وكريم سامي، فيما قام بتأليفه أحمد درويش مع محمد عبد الله سامي، ومن المقرر طرحه في دور العرض السعودية يوم 17 يوليو (تموز) الحالي. غادة عبد الرازق خلال العرض الخاص للفيلم (الشركة المنتجة) وأبدى الفنان أحمد فهمي سعادته بتحقيق حلمه في العمل مع أحمد السقا بفيلم سينمائي مؤكداً في تصريحات صحافية على هامش الاحتفال بالعرض الخاص للعمل أن السقا «أحد أكثر الفنانين المجتهدين والمخلصين في عملهم، حيث يحرص على الاهتمام بأدق التفاصيل». فيما تحدث السقا عن سعادته بالتجربة وخروجها للجمهور بعد المجهود الكبير الذي بذله خلال التحضير للفيلم على مدار أكثر من عام. ورغم ذلك، يرى الناقد طارق الشناوي أن «الفيلم يعاني من مشكلة في السيناريو على الرغم من وجود أكثر من كاتب للعمل بالإضافة إلى نمطية أداء السقا لمشاهد الأكشن بالطريقة المعتادة نفسها التي يقدمها منذ ما يزيد على 25 عاماً رغم اختلاف اللياقة البدنية وزيادة وزنه نسبياً وهو أمر كان يتطلب طريقة مغايرة لتقديم الأكشن». أبطال الفيلم خلال «العرض الخاص» - الشركة المنتجة وأضاف الشناوي لـ«الشرق الأوسط» أن «الفيلم على الرغم من كونه بطولة مشتركة بين السقا وفهمي، لكنه من الناحية العملية معتمد على السقا بشكل أساسي بعدّه المحرك الرئيسي في الأحداث، والذي تدور حوله جميع الأحداث من البداية للنهاية». ولفت إلى أن «بعض الفنانين ضيوف الشرف أو أصحاب الظهور الخاص لم ينجحوا في ترك بصمة بأدوارهم على غرار غادة عبد الرازق التي حاولت الظهور بشكل مختلف عبر منح دورها لمسة كوميدية»، على حد تعبيره. ويشير الشناوي إلى أنه «على الرغم من رهان الفيلم على الأكشن بشكل كبير بجانب مساحة الكوميديا التي أضافها وجود أحمد فهمي فإن هذه المشاهد لم تُقدم بالشكل المنشود خصوصاً في ظل كونها جزءاً رئيسياً من الأحداث لا يمكن إغفاله»، لكن الشناوي يرى في الوقت نفسه أن الفيلم أمامه فرصة جيدة بشباك التذاكر لتحقيق إيرادات جيدة. ومن أبرز أفلام السقا التي تنتمي إلى الأكشن «الجزيرة» الذي يُعد من أبرز أفلامه وأكثرها نجاحاً، بالإضافة إلى أفلام «شورت وفانلة وكاب»، و«تيمور وشفيقة»، و«عن العشق والهوى»، و«حرب إيطاليا». وانشغل السقا خلال السنوات الماضية بالدراما التلفزيونية على حساب السينما وقدم مسلسلات اجتماعية عدة من بينها «العتاولة» و«نسل الأغراب» و«وِلد الغلابة» وهي أعمال لم تخل من بعض مشاهد الأكشن. وشغل اسم السقا الرأي العام في مصر بالآونة الأخيرة بعد إعلانه الانفصال عن زوجته الإعلامية مها الصغير بعد زواج استمر 25 عاماً.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
الفيلم قبل المخرج
> لعل الناقد البريطاني الراحل رايموند دورغنات، في مقالة له نشرتها مجلة «فيلمز آند فيلمينغ» سنة 1968، كان أول من لاحظ أن نقاد مجلة «كاييه دو سينما» (تلك التي أنجبت في ذلك الوقت مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة) قد تبنّوا المخرج روبرت ألدريتش في البداية، استناداً إلى أفلامه (مثل Kiss Me Deadly وAttack)، لكن حين بدأ في تقديم أفلام أقل قيمة، تجاهلوا هذا الانحدار وواصلوا مدحه عوضاً عن التراجع عن تأييدهم له. > في عالمنا اليوم، ما زال مثل هذا الموقف قائماً. نحن مستعدون لنثر المديح على عدد من المخرجين الذين نالوا إعجاب من سبقونا في النقد، من دون النظر إلى أن أفلام معظم هؤلاء المخرجين، عرباً كانوا أم أجانب، قد تختلف. ربما هي طبيعة بعضنا الجاهزة للتصفيق، كنتيجة لإعجاب بالمخرج قبل الفيلم. > على سبيل المثال، لا يجرؤ معظم النقاد اليوم على نشر إعادة تقييم لأي من أفلام المخرج يوسف شاهين الشهيرة إن كانت تتناقض مع ما سبق قوله عنها. نعم، «باب الحديد» كان أيقونة بين الأفلام وما زال، لكن «جميلة»، عن المناضلة الجزائرية، مليء بالهفوات. أما «حدوتة مصرية»، فقد يكون نقداً ذاتياً، لكنه يسير في اتجاهات متضاربة. حتى «الأرض»، وهو فيلم جيد بلا ريب، فيه ما يمكن طرحه اليوم من ملاحظات ليست في صالحه. > وهناك سواه. وبعض ذلك يعود إلى الصداقة الشخصية، لكن الكثير منه كان نتيجة اتجاه سينما المخرج إلى ما هو مختلف عن السائد، وهو ما قد يكون أمراً كافياً في بعض الأحيان، لكنه ليس شاملاً لكل الأفلام. > التخلّص من هذه المشكلة المتكرّرة يتطلّب النظر إلى الفيلم بحياد تام، لا تشوبه الآراء الخاصّة أو الاعتبارات العاطفية. وبهذا يمكن إطلاق حكم نقدي لا يمنح الفيلم أكثر مما يستحق، ولا يبخسه حقّه.


الرياض
منذ 3 ساعات
- الرياض
مساءات الرفقة في بودكاست «ذاكرة»
بودكاست «ذاكرة» ليس استرجاعاً للماضي من أجل الترف العاطفي، بل هو تمرين حقيقي على أن التذكّر فعل مقاومة للنسيان، وبحث دائم عن المعنى، وإيمان بأن الإنسان لا يُفهم خارج ذاكرته. إنه بودكاست لا يروي لنا التاريخ، بل يجعلنا نعيشه، ونفهمه، ونتصالح معه.. في وقت تعج فيه المنصات بأصوات تتشابه، وتميل نحو الإيقاع السريع والمضامين السطحية، قدّم "ذاكرة" صوتًا هادئًا، متأنيًا، ولكنه عميق الأثر، هو أشبه بجلسة تأمل جماعية في تفاصيل كادت تُنسى، أو لحظات لم تُدوَّن في كتب التاريخ، لكنها تسكن وجدان الناس الذين عاشوها. في زمن يركض فيه الناس إلى المستقبل، ويغرق فيه الإعلام بالمستجدّات اليومية، ظهر بودكاست "ذاكرة" كحالة صوتية مميزة، واستغراق عاطفي ليستدعي الماضي ويجعل منه مادةً حية على طاولة الحاضر فأعاد ترتيب العلاقة بين شجن المتلقي وذكرياته، واستحضر الزمن الغابر لا كمجرد تذكّر، بل كمشاركة وجدانية حية، تُعيد تشكيل الواقع وتفتح باب التأمل. "ذاكرة" بودكاست لافت في شكله الفني، ومثرٍ في أسلوبه الإنتاجي، ويتجلى كمشروع ثقافيّ محلي وطني إنسانيّ عميق يقف خلفه منتج وطاقم يملكان الخبرة والرصيد المعرفي والتواصلي ما يمكّنهم من تقديم محتوى تواصلي لينثال على تلامس الزمن، وتقديم التاريخ، لا كصفحات مجففة، بل كأحاديث حميمة تُقال على مائدة، أو تُروى تحت ظل شجرة، أو تُهمس في مساءات الرفقة. ولعل ما يميّز مقدّمي هذا البودكاست، ليس تمكنهم من المادة التي يتناولونها فقط، بل قدرتهم العفوية على أن يجعلوا الذاكرة صوتًا نابضًا، يعيش في رأس المتلقي وقلبه في آنٍ واحد. لا يتكلّفون في الحديث، ولا يغرقون في التقريرية، بل يقدّمون الحكاية كما لو كانت جارة عزيزة طرقت الباب على حين دفء، وجلست تروي ما كان وكأنّه يحدث الآن. في كل حلقة من "ذاكرة"، يبدو أن الصوت لا يخرج من أفواه المقدّمين فحسب، بل من أعماق الذاكرة المحلية الوطنية، التي كثيرًا ما صمتت، أو لم تجد من ينصت لها بهذا القدر من الاحترام والتذوق. فهم لا يعرضون التاريخ كأحداث باردة، بل يضعونه على طاولة الحاضر، يقرّبونه من اليوم، ويحرّكون به ذواكر المستمعين، فيدهشوننا بالتفاصيل، وكيف أن حدثًا مرّ قبل سنين مضت قد يُحرّك دمعة أو يوقظ ابتسامة. تناولت الحلقات موضوعاتٍ شتى من الطفولة في أحياء كانت ذات يوم تغلي بالحياة، إلى مواقف سياسية وثقافية صنعت وعي الأجيال، ومن شخصيات منسية أعطت بعمق ولم تُحتفَ بها، إلى لحظات تحوّل تركت أثرًا لا يُمحى. لم يكن موضوع الحلقة هو البطل، بل كان مجرد باب، وراءه حكايات لا تنتهي، تُحرّك الساكن، وتبعث في القلب أسئلة، وفي الذهن صورًا، وفي الذاكرة أصواتًا كانت غائبة فعادت. وتنوّعت أطروحاتها بين مواقف ومشاهد وصور متعدد كالعادات القديمة في المأكل والملبس والتزاور والاحتفال والفرح والحزن والتواصل، وتغيرات المدينة كالرياض في حراكها وأحداثها وشواهدها وشوارعها وناسها وأسلوب حياتها وقيمها وغير ذلك. وإن تنوعت فهي تتوحّد في رسالتها؛ التذكير بأن الزمن ليس جدارًا نعلّق عليه الصور، بل كائن حيّ نعيش فيه ويعيش فينا. من الحديث عن المدن في لحظاتها العتيقة، إلى سرد تفاصيل الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والرياضية وحتى العائلية، كان كل موضوع في "ذاكرة" يُقدَّم وكأنه مشهد نعرفه مسبقًا، نكاد نراه، ونشمّ رائحته، ونسمع أصواته القديمة تتردّد. في كل حلقة، وكأنك أمام مرآةٍ زمنية، لا تعكس وجهك، بل ملامح أجيال سبقتك، تركت لك الإرث والمكان، واللغة والصمت، والفرح والشجن، ثم مضت. ومما يلفت الانتباه في هذا البودكاست، هو الانسجام بين المقدّمين، والتناغم الذي يتجاوز توزيع الأدوار، إلى إظهار حالة من الحوار التفاعلي الصادق، الذي لا يعتمد على نصوص مكتوبة بقدر ما ينطلق من أعماق خبرتهم وتلقائيتهم وبراعتهم في الإنصات لبعضهم ولما بين السطور، وقد استطاع هذا الأسلوب أن يمنح "ذاكرة" طابعًا خاصًا، لا يشبه إلا نفسه. وما يجعل "ذاكرة" مختلفًا أيضًا هو أنه لا يخاطب عقل المتلقي فقط، بل يربت على ذاكرته، وينشط وجدانه، ويثير أسئلته الشخصية: أين كنت عندما حدث ذلك؟ كيف كنا نعيش؟ وما الذي تغيّر؟ ومع كل إجابة، لا نكتشف الماضي فحسب، بل نكتشف الحاضر بطريقة أوضح، وأصدق. ويمكن القول إن "ذاكرة" قد نجح عبر شخصيتين تمتلكان خبرة عريضة، وبصيرة مؤرخ لا تَحكمه الوقائع بقدر ما تستثيره التفاصيل الصغيرة، تلك التي غالبًا ما تتسلل من الكتب ولا تسكن إلا في العيون التي عايشت. شخصيتان بارزتان، باحثان مؤرخان جديران هما الأستاذ منصور الشويعر والأستاذ منصور العساف، اسمان يمتلكان من الخبرة والرصيد المعرفي والتواصلي ما يمكّنهما من إدارة الحوار مع الزمن نفسه، ومن تقديم التاريخ، لا كصفحات مجففة، بل كأحاديث حميمة تُقال على مائدة، أو تُروى تحت ظل شجرة، أو تُهمس في مساءات الرفقة. ويبقى القول: بودكاست "ذاكرة" ليس استرجاعاً للماضي من أجل الترف العاطفي، بل هو تمرين حقيقي على أن التذكّر فعل مقاومة للنسيان، وبحث دائم عن المعنى، وإيمان بأن الإنسان لا يُفهم خارج ذاكرته. إنه بودكاست لا يروي لنا التاريخ، بل يجعلنا نعيشه، ونفهمه، ونتصالح معه.. بودكاست يُعيد تشكيل وعينا، حلقة بعد أخرى، فشكراً للناقل والمنقول.