
مهدي حجاوي: بين وهم الأسرار وحقيقة الهروب
إيطاليا تلغراف
عبد القادر الفرساوي
في دروب الظلال التي تسير فيها أجهزة الاستخبارات، هناك من يختار أن يكون جنديا مخلصا لوطنه، وهناك من يقرر أن يبيع أسراره في سوق الخيانة. وبين هذا وذاك، يظهر أشخاص كـ مهدي حجاوي، الرجل الذي لم يعد له مأوى سوى الأكاذيب، ولم يبقَ له رفيق سوى الهروب.
أحس أنه كان يوما ما 'الرجل الثاني' في المديرية العامة للدراسات و المستندات (DGED)، لكنه الآن مجرد طريد، يفرّ من بلد إلى آخر، بحثا عن مأوى في عواصم لا ترحب إلا بمن يبيع نفسه بثمن بخس. بدأ رحلته في باريس، لكنه سرعان ما أقنع نفسه بأنه بطل في فيلم تجسس رديء، حيث العيون تتربص به في كل زاوية، والأنفاس الساخنة تلاحقه في الأزقة المعتمة. ربما ظن أن النوافذ تخفي خلفها عملاء سرّيين، وأن كل نادل في مقهى يرسل إشارات مشفرة إلى غرفة عمليات سرية. لكنه، في الحقيقة، لم يكن سوى رجلٍ يبحث عن دراما تُبرر هروبه، أو ربما تفرّج على أفلام هوليوودية أكثر مما ينبغي.
ربما أحس بأن الهدوء الذي كان يحتمي به لم يعد سوى وهم. لم يكن الأمر مفاجئا، فقد تغيرت السياسة، وتجددت العلاقات بين الرباط وباريس، ولم يعد له مكان في هذه المعادلة. حينها، اختار طريق الهاربين، فركب أول سفينة نحو إسبانيا، معتقدا أن شواطئها ستكون أكثر أمانا أو أكثر سخاء.
لكن النجاة ليست لمن يهرب، بل لمن يملك ما يقدّمه. وحين وصلت مطالبات المغرب بتسليمه، وجد نفسه بين خيارين: إما أن يعود، أو أن يتحول إلى بائع للوهم.
الصحافة الإسبانية التي سارعت لنقل قصته لم تفوّت الفرصة لتقديمه على أنه 'الكنز الاستخباراتي'، الرجل الذي كان يدير كل الملفات، يعرف كل الأسرار، ويحرك السياسة كأنها قطع شطرنج. لكن، هل هذا ممكن؟
مهدي حجاوي ليس أكثر من ضابط كان يعمل في مجال محدد، مثل غيره من مئات الضباط الذين يملأون أجهزة الاستخبارات في العالم. لا يوجد جهاز أمني يمنح شخصا واحدا مفاتيح كل الملفات، ولا يسمح لضابط بأن يكون العارف بكل شيء، لأن الاستخبارات ليست فردا، بل منظومة معقدة، تتوزع فيها الأدوار بعناية دقيقة.
فكيف لرجل مثل مهدي أن يكون مستودع أسرار الدولة كلها؟ كيف له أن يدّعي أنه كان يخطط لكل العمليات ويدير خيوط اللعبة وحده؟ ببساطة، لأنه الآن مضطر ليختلق بطولة زائفة تبرر وجوده في المنفى.
عندما وجد نفسه مطاردا بالقانون، لم يكن أمامه سوى البحث عن مأوى جديد، لكن المخابئ ليست مجانية، والحماية تحتاج إلى ثمن. في عالم الاستخبارات، لا أحد يمنحك الأمان دون مقابل، ومن يهرب يعرف أنه بحاجة إلى ما يقدمه ليُبقي نفسه في اللعبة.
بدأت الصحافة الإسبانية تتحدث عنه كأنه يحمل كنوز المغرب الاستخباراتية: حديث عن تجنيد الصحفيين ، عن التأثير السياسي، عن عمليات في أوروبا، عن صفقات مخابراتية كبرى… لكن، إذا كانت كل هذه المعلومات صحيحة، لماذا لم يكشفها إلا بعد هروبه؟
لأنه ببساطة لا يملك شيئا و لا رأس مال لديه سوى لسانه، ولسان الهارب دائما ما ينطق بالكذب أكثر مما ينطق بالحق.
إسبانيا، التي تحاول الحفاظ على توازن حساس في علاقاتها مع المغرب، لم تجد في قصته أكثر من أداة ضغط استخباراتية وإعلامية مؤقتة. فهناك دائما من يبحث عن قصة تثير الجدل، خاصة حين يكون المغرب طرفا فيها. لكن الزمن كفيل بكشف الحقيقة، ففي عالم السياسة والاستخبارات، لا مكان لمن يتحدث بعد خروجه من اللعبة، ولا وزن لمن يبحث عن أمانه في صفحات الصحف بدل أن يصنعه بنفسه.
مهدي، مثل غيره من الضباط السابقين في أجهزة العالم أجمع الذين اختاروا طريق الهروب بدل المواجهة، قد يجد اليوم من يستمع إليه، لكنه سيكتشف عاجلًا أم آجلًا أن الكلام وحده لا يصنع مستقبلا، وأن الأدوار العابرة سرعان ما تنتهي حين تفقد بريقها.
إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 8 ساعات
- إيطاليا تلغراف
رسالة في الظلام: كيف كسرت RTVE جدار الصمت الأوروبي عن غزة؟
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي في مساء كان يفترض أن يكون مخصصا للأغاني والبهجة، وفي لحظة كان الجمهور الأوروبي ينتظر فيها استعراض الألوان والأنغام، اختارت شاشة RTVE الإسبانية أن تفتح جرحا كان يراد له أن يندمل بالصمت. لم تبث القناة نشيدا ولا لحنا، بل بثّت لحظة صمت حادة كسكين الحقيقة، أطفأت شاشتها وأعلنت، بحروف بيضاء على خلفية سوداء: 'Frente a los derechos humanos, el silencio no es una opción. Paz y Justicia para Palestina.' 'أمام حقوق الإنسان، الصمت ليس خياراً. سلام وعدالة لفلسطين.' في وقت تعالت فيه أصوات الموسيقى الأوروبية في مهرجان 'اليوروفيزيون'، كانت هناك أصوات أخرى تُدفن تحت الأنقاض في غزة. أطفال تُنتزع أرواحهم من بين الركام، نساء يصرخن بحثا عن فلذات أكبادهن، وشعب بأكمله يقف وحيدا في وجه آلة عسكرية لا ترحم. وفي المقابل، كانت هناك محاولة منظمة لجعل العالم يصمّ آذانه، ويحوّل وجهه إلى الجهة الأخرى، بإسم الفن، وبإسم 'الحياد'. لكن الحياد أحيانا يكون أقبح الوجوه. الحياد حين يُطلب من إعلامي أن لا يذكر الدم، أن لا يدين القتل، أن لا يعكّر أجواء الغناء بذكر الحقيقة، هو ليس حيادا… بل تواطؤ. اتحاد البث الأوروبي (UER) كان واضحا في تهديده: إذا تحدثت RTVE مجددا عن المجازر في غزة أثناء بثّ اليوروفيزيون، ستواجه بعقوبات مالية صارمة. لقد أرادوا حفلا نقيا من 'السياسة'، لكنه كان حفلا ملطخا بالصمت المذنب، حيث يصفّق الجمهور لأغان عابرة، بينما تُقصف أحياء بأكملها في غزة، ودولة الاحتلال تصعد على المسرح كما لو أنها حملت آلة موسيقية لا طائرات مسيّرة. ومع ذلك، لم تصمت RTVE كليا. امتثلت للصيغة القانونية، لكنها رفضت أن تُطفئ ضميرها. اختارت أن تقول كلمتها، لا عبر تعليق صوتي،بل عبر مشهد بصري قاتم وأبدي. اختارت أن يكون احتجاجها صامتا لكن موجعا، مثل صمت أم فلسطينية فقدت أولادها ولم يبق لها سوى النظر إلى السماء. وما جعل هذا الموقف أكثر نبلاً هو أنه لم يأت من بلد عربي، ولا من قناة محسوبة على تيارات النضال، بل من قناة رسمية أوروبية، تموَّل من ضرائب مواطنيها، وتعرف جيدا أن هذه الخطوة قد تفتح عليها أبواب العتاب والضغوط، وربما أكثر. الرسالة كانت واضحة: إذا كان ممنوعا علينا أن نقول الحقيقة، فسوف نكتبها على الشاشة، ونجعل المشاهدين يرونها رغما عن الجميع. مجالس RTVE المهنية بدورها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل أدانت محاولات تكميم أفواه الصحفيين، وأكدت أن المذيعين الإسبان الذين أشاروا سابقا إلى المجازر في غزة، مارسوا حقهم وواجبهم في نقل ما يحدث في العالم، لا ما يُراد لنا أن نراه فقط. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف تحوّل مهرجان الغناء إلى ساحة مواجهة أخلاقية؟ الجواب ليس في الحدث نفسه، بل في السياق. حين يُستخدم الفن لتبييض صورة دولة تقتل، ويُمنع الحديث عن الضحايا بحجة 'الاحتفال'، تصبح المنصات الفنية أخطر من المنصات الحربية، لأنها تُخدر الشعوب، وتُزين المجرم، وتمنح الشرعية للمحتل. وإذا كان الفن تعبيرا عن إنسانية الإنسان، فإن تغييب القضية الفلسطينية من هذه المنصات هو نفي للإنسانية ذاتها. قد لا تغيّر شاشة سوداء مجرى التاريخ، لكنها كافية لفضح التواطؤ، ولتذكير الجمهور أن هناك من يموت في مكان ما، بينما تُرفع أعلام الاحتلال على منصات النفاق الدولي. وربما، بعد سنوات، حين يُكتب تاريخ هذه المرحلة، سيُقال إن الفلسطينيين لم يكونوا وحدهم، بل كان هناك دائما صوت يتسلل من شاشة سوداء، منسجما مع وجعهم، ولو لحظات. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٠٢-٠٤-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
الجزائر تسقط طائرة من ورق!
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي من قال إن الجغرافيا لا تُحدث ضجيجا؟ خذ الجزائر مثلا، كلما اشتعلت النيران في جوارها، هرولت لتلتقط رماد المعركة وتنفخ فيه حتى يظن المارّون أنها تخوض حربا عالمية ثالثة! آخر صيحة في هذا 'الكرنفال العسكري' كانت بيانا من الجيش الجزائري يزف فيه 'بُشرى إسقاط طائرة مسيرة دخلت عمق البلاد بكيلومترين'. لكن، ويا للمفارقة، جبهة 'تحرير أزواد' سبقتهم إلى الإعلان والاحتفال، ونشرت الحطام والصور والفيديوهات، بل وزينته بعلم مالي! فما كان من الجزائر إلا أن أخرجت طبلة الإعلام الرسمي لتقرعها: 'نحن أسقطناها!'… ولو بعد حين. إنه مشهد لا يخلو من الكوميديا السوداء: دولة بمليارات في ميزانية الدفاع، جيش يُسوّق نفسه كـ'الأقوى في إفريقيا'، لكنه لا يفرّق بين طائرة تسقط في أرض الجيران وبين طموح استعراضي يليق بمهرجانات السيرك السياسي. وليس هذا أول 'نزال خيالي' تخوضه الجزائر. ألم نرها في عام 2021، وهي تعلن -بملامح منتفخة- عن إسقاطها طائرة مغربية مسيرة، ليتبين لاحقا أنها طائرة تصوير مدنية كانت تحلق في سماء تندوف لنقل مشاهد من مخيمات البوليساريو؟ بل إن 'المقاتلة' المزعومة آنذاك كانت تحمل شعار 'DJI'، المعروف لدى العرسان أكثر من العسكر! وفي مشهد آخر لا يُنسى، أعلنت الجزائر في 2022 عن تفكيك 'شبكة تجسس مغربية إسرائيلية فرنسية'، قالت إنها اخترقت مؤسسات الدولة! لكنّ التفاصيل اختفت كما ظهرت، ليظل العنوان الكبير وحده يتراقص في نشرات الأخبار. وحتى في كرة القدم، لم تسلم الجزائر من عادة الركوب على ظهر الموجة، حينما ادعت أن المغرب منع طائرتها من السفر للمشاركة في بطولة، متناسية أن الطيران ليس نزهة في باحات العداء السياسي. إن ما نراه اليوم هو محاولة مستمرة لبناء 'أسطورة عسكرية من ورق'، تُبنى على بيانات فضفاضة وتصريحات مرتعشة، والهدف؟ إقناع الداخل بأن البلاد ما زالت 'قوية صامدة' رغم زلازل الاقتصاد والتفكك الإقليمي. إن جبهة 'تحرير أزواد' –وليس الجيش الجزائري– هي من أثبت أنها تتحكم في سماء الشمال المالي. ومع ذلك، تواصل الجزائر سلوكها المفضل: لحاق الشجاعة بعد انتهائها، وتسويق النصر بعد انطفاء ناره. الجزائر تركب حصانا ورقيا، مدهونا بألوان الحنين إلى زمن بن بلة وبومدين، لا حبا في التاريخ بل تمسكا بخطاب بائد بُني على العداء للمغرب وتغذية أوهام الزعامة الإقليمية، وهي شعارات استهلكها الزمن ولم تعد تقنع حتى أبناء الداخل. أما المغاربة، فيكتفون من مواقعهم بمتابعة هذا العرض الساخر، لأنهم يعرفون جيدا الفرق بين الطائرات الورقية والطائرات القتالية… وبين الجيش المحترف والجيش المهووس بالبروباغندا. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٠٢-٠٤-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
حين تبكي الولادة ظلما... مستشفى يتحول إلى سوق نخاسة!
إيطاليا تلغراف عبد القادر الفرساوي في زاوية من زوايا مستشفى الزموري بالقنيطرة، وبين صرخات ألم الولادة ودعوات أمهات يتشبثن بالحياة، اختلطت الدموع بالذل، وتحوّلت بعض أروقة قسم التوليد إلى فضاء موحش لا يرحم، حيث لا قيمة للآدمية، ولا كرامة للفقير، ولا توقير للمسن، ولا رأفة بصراخ الوليد قبل أن يلتقط أول أنفاسه. في ذلك الصباح، لم تكن 'ف.ج' تتوقع أن صراخها المخنوق من وجع المخاض سيُقابل بوجه جامد وقلب بارد. كانت تحمل بطاقة 'راميد' بيد، ودموع الرجاء في الأخرى، لكن الممرضة كانت لها عيون لا ترى سوى (الزرقالاف)، الورقة ذات الألفين درهم، ولسان لا ينطق إلا بلغة: 'من لم يدفع، فلينتظر… وقد لا يجد من يلتفت إليه'. لم تكن المأساة حالة شاذة، بل واقعا تتكرر فصوله في صمت، حتى قررت أسرة إحدى المريضات أن تكسر حاجز الخوف وتبلغ عن الحادثة. اتصلوا بالرقم الأخضر، وكان ذلك الاتصال كصرخة في صحراء، لعلها تجد آذاناً لا تطلب رشوة قبل أن تستمع. وهكذا تم نصب كمين بإشراف النيابة العامة، ووقع من كان يبيع الألم ويقبض على وجع الناس، في حالة تلبس! المشهد لم يكن مسرحا، بل كان واقعة موثقة، حارس أمن خاص وممرضة داخل قسم التوليد يتقاسمان 'الرشوة' وكأنها أجر إضافي على المعاناة، يطلبان مالاً مقابل تقديم أبسط حق إنساني، هو الرعاية الصحية. أين ضمير هؤلاء؟ كيف يغمض الموظف عينيه أمام أُم تتوسل ألا تفقد جنينها؟ بأي قلب يقف حارس ليمنع الدخول إلا بورقة نقدية؟ وأين هي قيم الرحمة حين تتحول لحظات الولادة من حدث يملؤه الرجاء إلى كابوس يتطلب رشوة كي يبدأ؟ الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان ثمنت يقظة النيابة العامة، وأشادت باحترافية رجال الأمن، ولكنها، مثلنا جميعا، وقفت مشدوهة أمام عمق الجرح: مستشفى جديد يُفترض فيه أن يكون ملاذا، فإذا به يتحول إلى ساحة ابتزاز، حيث تباع الخدمة الطبية كسلعة، وتُؤخر العناية حتى تدفع 'الثمن'. إنه لأمر مؤلم أن تبكي الأمهات من الألم… ثم تبكين من الذل! أن تتأخر الممرضة عن مريضة في نزيف، لأنها منشغلة بعدّ النقود! أن يُستدعى الطبيب فقط إن أظهرت أنك ابن أحد أو جيبك ممتلئ! القضية ليست فقط في اعتقال اثنين، بل في هذا التراكم المؤلم من السلوكيات التي تُهين المواطن في لحظات ضعفه. إن المرض لا يعرف الانتظار، والكرامة لا تُقايض. والمستشفى ليس سوقا، بل بيتا للرحمة. الآن، ونحن نتابع هذه القضية، لا نطلب فقط المحاسبة، بل نريد تطهيرا كاملا لهذه الفئة التي أساءت إلى الشرف المهني، وإعادة الاعتبار لكل مريض أُهين، ولكل أمّ دُفعت لتدفع! نريد مستشفى لا يطلب رشوة، بل يسأل: 'كيف حالك؟' قبل أن يسأل عن أي شيء آخر. فهل سيأتي اليوم الذي لا تُدفع فيه الرشوة كي يولد طفل بكرامة؟ هل سيُنظر إلى الفقير كإنسان، لا كفرصة للابتزاز؟ ننتظر الجواب من وزارة الصحة… ومن ضمائرهم إن بقي فيها شيء حي. إيطاليا تلغراف