
كتاب "آرون ناقد سارتر" يستعيد عصر أسياد الساحة الفكرية
يمثل كتاب بيرين سيمون-ناحوم ذروة الحوار الفلسفي الراقي بين سارتر وآرون. من هنا كان اهتمام مديرة الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية وأستاذة الفلسفة في المدرسة العليا للمعلمين التي أعدت للكتاب وقدمت له، رسم إطار هذه النقاشات وتسليط الضوء على راهنيتها. ذلك أن عمقها يظهر للقارئ مدى التقدير الذي كان يكنه آرون لرفيق دراسته ككاتب، ولو لم يتوقف عن مناقشة أطروحاته وتوجيه النقد للوجودية.
ولد ريمون آرون وجان بول سارتر في العام نفسه والتقيا على مقاعد الدراسة في المدرسة العليا للمعلمين في باريس، حيث توثقت عرى الصداقة بينهما، وحيث تعرفا على جورج كانغيليم ودانيال لاغاش وبول نيزان وجان كافاييس وسواهم. لكن منذ أواخر ثلاثينيات القرن الـ20 باعدت السبل الفلسفية بين الرجلين. فمع صعود نجم الأنظمة الشمولية، استشرف آرون اندلاع الحرب العالمية الثانية، في حين تطلع سارتر لأن يكون كاتباً كبيراً. وبرز كل واحد منهما على الساحة الفكرية الفرنسية، ولو اكتملت القطيعة بينهما في أوائل الخمسينيات، بعدما اختلفا في رؤيتهما للماركسية ومعنى التاريخ.
الجبهة السياسية
كتاب "آرون ناقد سارتر" (دار كالمان ليفي)
في الحرب الباردة، التزم آرون وسارتر خطوط الجبهة السياسية الجديدة من جهة انقسامها إلى اليمين واليسار وأنماط الالتزام بالحياة العامة. ففي حين جسد سارتر صورة الكاتب اليساري الثوري الملتزم بالاشتراكية والمنحاز لقضايا المظلومين ضد البرجوازية والمبرر لاستخدام العنف أحياناً، جسد ريمون آرون صورة الباحث اليميني الليبرالي والأستاذ الجامعي والكاتب الصحافي المستند إلى معارفه الأكاديمية في إصدار أحكامه المتزنة حول أسس الحكم الرشيد. ففي زمن سارتر وآرون، كانت الماركسية والشيوعية محور الجدل الفكري. وكان هاجس سارتر في "نقد العقل الجدلي" التوفيق بين الوجودية والماركسية. رد عليه آرون قائلاً إن الواجب الأول للماركسي الجديد البدء بتحليل المجتمعات الحديثة كما فعل ماركس مع رأسمالية القرن الـ19. وراء هذا الخلاف النظري، كانت مسألة العنف على المحك. فآرون، المدافع عن الديمقراطية الليبرالية، انتقد وهم التغيير الفوري من خلال العنف. وعندما اندلعت أحداث مايو (أيار) 1968، دان "ثورة غير موجودة"، فاتهمه سارتر بالتحجر البرجوازي. ورغم قطيعتهما الطويلة، جمعتهما سنة 1979 مبادرة مشتركة لدعم اللاجئين الفيتناميين، مما دفع الصحافة الفرنسية آنذاك للحديث عن بوادر مصالحة بين الرجلين.
لكن تباشير الاختلافات بين آرون وسارتر بدت تتوضح من خلال مسرى حياتهما. ففي حين رفض سارتر الوظيفة الجامعية وجائزة نوبل للآداب، تسلم آرون، الدقيق في تفكيره والمحترم للأعراف والتقاليد الأكاديمية، أرفع المناصب الجامعية.
ومما لا شك فيه أن آرون اعترف بعبقرية سارتر الأدبية و"خصوبة فكره" على مستوى "التنظير". لكنه كان في طليعة الذين تفكروا في الأحداث التاريخية. فقد كان من أوائل خريجي المدرسة العليا للمعلمين الذين عادوا إلى ألمانيا بعد أكثر من عقد على معاهدة فرساي، حيث درس ودرس في جامعتي كولونيا وبرلين بين الأعوام 1931 و1933 بينما كان يعمل على إنجاز أطروحة الدكتوراه. وكان لصعود النازية ومعاداة السامية دور في اختيار آرون التفكير في التاريخ، هو الذي عرف عن نفسه كـ"يهودي فرنسي".
سنة 1938 ناقش ريمون آرون أطروحته المعنونة "مقدمة في فلسفة التاريخ"، قبل أيام قليلة من ضم النمسا إلى ألمانيا النازية. بين فيها، خلافاً لهيغل وماركس، فإن التاريخ لا يسير وفق مسار حتمي، وأن السياسة فعل واع ودائم المخاطرة، وليست مجرد عملية تحكمها قوى عمياء تجعل من البشر دمى بين أيديها.
قضايا التاريخ
بينما لم تكن قضايا التاريخ والسياسة بالنسبة إلى سارتر تشكل موضوعاً محورياً في تلك الفترة. ففي دفاتر "الحرب الغريبة" التي كتبها خلال فترة تجنيده بين سبتمبر (أيلول) 1939 ويونيو (حزيران) 1940 في مقاطعة الألزاس أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي نشرتها دار غاليمار سنة 1983، اعترف سارتر بـ"لا مبالاته السياسية". ففي سنة 1933، عند وصول هتلر إلى السلطة، حل سارتر مكان آرون في المعهد الفرنسي في برلين، لكنه كان آنذاك أكثر انشغالاً بمسيرته الأدبية الناشئة وباكتشافه لفينومينولوجية هوسرل وهايدغر. وقد لعبت هذه القراءات دوراً حاسماً في تكوين فيلسوف الوجودية الذي نشر سنة 1943 كتابه "الوجود والعدم"، مستلهماً كتاب هايدغر "الوجود والزمان"، الذي اتبعه سنة 1946 بكتابه "الوجودية نزعة إنسانية"، وهو في الأصل محاضرة ألقاها سنة 1945 حدد من خلالها مبادئ فلسفته التي تؤكد أهمية الوجود الفردي الحر والاختيار والمسؤولية.
في سنواتهما الأولى في المدرسة العليا للمعلمين، أبرم جان بول سارتر وريمون آرون، بروح المزاح، ميثاقاً، أن يكتب الناجي منهما نعي الآخر في دليل خريجي المدرسة العليا في شارع أولم. لكن عقود القرن العاصف فرقت بينهما إلى حد أنه، عندما رحل سارتر سنة 1980، كتب آرون في صحيفة "الإكسبرس"، "إن الالتزام لم يعد قائماً". لم يكن هذا القول دليل على تحول الألفة إلى عداوة، بل كان بالأحرى إقراراً بالهوة التي حفرها التاريخ بين الرجلين. ذلك أن هذا التباعد العاطفي عكس في جوهره خلافاً فكرياً متنامياً بين المفكرين، اللذين أصبحا، مع مرور النصف الثاني من القرن الـ20، رمزين لمعسكرين فكريين متعارضين. رغماً عنهما، تحول آرون وسارتر إلى أبطال معركة فكرية استمرت 30 عاماً، مزقت الأوساط الفكرية الفرنسية من أربعينيات القرن الـ20 حتى منتصف سبعينياته.
سنة 1956 كتب ريمون آرون في أحد مقالاته، "لم تصمد أي صداقة في جيلنا أمام الخلافات السياسية، واضطر الأصدقاء إلى التغير معاً سياسياً كي لا يتفرقوا، وهذا أمر محزن، ولكن يمكن تفسيره". فقد عاش جيلهما الذي نجا من مجازر الحرب العالمية الأولى، أهوال صعود الأنظمة الشمولية في الثلاثينيات، وهزيمة عام 1940 والاحتلال النازي لفرنسا، ثم تواصلت المآسي مع الحرب الباردة وحركات إنهاء الاستعمار. وكانت الحرب الباردة وقضايا إنهاء الاستعمار هي التي حطمت صداقة سارتر وآرون.
حرب الجزائر
صحيح أن التاريخ الفكري الفرنسي في القرن الـ20 كان حافلاً بالانقسامات والسجالات حول الشيوعية كتلك التي دارت بين سارتر وكامو أثناء الحرب الباردة، ثم أثناء حرب الجزائر. لكن سارتر وآرون كانا من نفس الجيل ونشآ في بيئة فكرية واحدة، مما جعل دراسة مسيرتهما المتوازية بمثابة تحليل للعواصف الكبرى التي عصفت بالمشهد الفكري الفرنسي. ومع ذلك فإن تحليل العلاقة بين سارتر وآرون لا يقدم صورة عن تحولات المشهد الأيديولوجي فحسب، بل يكشف أيضاً عن حقيقة أن وهج أحدهما لم يكن يتزامن مع وهج الآخر. ففي وقت كان فيه جان بول سارتر في ذروة مجده، كان ريمون آرون مهمشاً، والعكس صحيح لاحقاً. هذا الاختلاف في البروز عكس تحولات السيطرة الأيديولوجية المتعاقبة على الساحة الفكرية الفرنسية. فقد لمع نجم سارتر لأعوام طويلة، حتى صار بإمكاننا الحديث عن "عصر سارتر"، أي العصر الذي عرف مرحلة سيطرة اليسار الفكري المتأثر بالماركسية، التي وصفها آرون عام 1955 بأنها مخدرة بـ"أفيون المثقفين".
عام 1945، وفي العدد الأول من مجلة "الأزمنة الحديثة"، نظر سارتر لـ"واجب الالتزام"، ليصبح نموذج المثقف اليساري التقدمي. ولكن مع أواخر السبعينيات، انقلبت الأدوار: تراجع نجم سارتر، في حين ازداد بريق آرون. لم يعد سارتر سوى صوت خافت، بينما بدا آرون، حتى بعد وفاته، وكأنه المنتصر في ميدان الفكر. في تلك الفترة، قال المدافعون عن سارتر عبارة شهيرة، "من الأفضل أن نكون مخطئين مع سارتر على أن نكون على صواب مع آرون"، هذه العبارة الغريبة أثارت لاحقاً حيرة المؤرخين لأنها قوضت مبدأ العقل الذي يفترض أن يكون معياراً أساسياً في الحكم على المثقفين.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عن أعمال آرون، فقد نظر إليها النقاد كمتجذرة في الواقع التاريخي دون السقوط في "وهم مسار التاريخ"، كما كتب هو نفسه في خاتمة مذكراته سنة 1983 قائلاً، "لو قرأ أحدهم في قادم الأيام ما أكتب، فسيرى حتماً تحليلات وتطلعات وشكوك رجل غارق في التاريخ". غير أن الأمر مختلف بالنسبة إلى سارتر. فقد وصفه الكاتب والشاعر والمؤلف المسرحي جاك أوديبيرتي بأنه "حارس ليلي على جميع جبهات الفكر"، عبارة يمكن أن تفسر بطريقتين: إما كإشادة بيقظته الدائمة أو كتهكم على انفصاله عن الواقع، بل وتيهه أحياناً في أحلام اليقظة.
باختصار، فكر آرون في التاريخ كما هو، بينما حلم به سارتر على ما ينبغي أن يكون. ومع ذلك إن الصراع بين سارتر وآرون عكس تقلبات المناخ الأيديولوجي في القرن الـ20 أكثر مما عكس مواقف ثابتة. فقد ظل آرون لفترة طويلة مهمشاً في الوسط الثقافي الذي كان يقدس سارتر. ثم مع بداية الثمانينيات، حدث نوع من "بعث" لأفكار كامو وآرون معاً، بينما بدأت أفكار سارتر بالتراجع. ورغم هذا التغير، لا ينبغي للباحث أن يسقط في السطحية الفكرية. ذلك أن كل الكتابات تظل دوماً خاضعة للتحليل والمناقشة.
اليوم، تحظى أعمال آرون باهتمام جديد، لا سيما مع إعادة نشر نصوصه حول سارتر التي جمعتها بيرين سيمون-ناحوم. فمع كتاب "آرون ناقد سارتر" تعود ذكرى عصر كان فيه المثقفون يتربعون كأسياد على الساحة الفكرية. لكن المعارك التي جمعت سارتر وآرون وكامو وميرلو بونتي وألتوسير وفوكو وليفي ستروس، لم يعد لها اليوم وجود. فقد حلت محلها الآراء المبعثرة في وسائل الإعلام، وغابت الشخصيات الكبرى القادرة على تقديم رؤى شاملة حول مصير العالم. بعد قراءة النصوص التي اختارتها معدة الكتاب، نشعر بخفة الحياة الفكرية الراهنة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المدينة
منذ 3 ساعات
- المدينة
300 كاتب فرنسي يصفون ما يجري في غزَّة بـ»الإبادة الجماعيَّة»
استنكر نحو 300 كاتب يكتبون بالفرنسيَّة، بينهم اثنان من الحائزين على جائزة نوبل للأدب هما آني إرنو، وجان ماري غوستاف لوكليزيو، ما وصفوه بـ»الإبادة الجماعيَّة» بحق سكان غزَّة، مطالبين بـ»وقف فوري لإطلاق النار».جاء ذلك في مقال نشرت نصَّه صحيفة «ليبراسيون» الفرنسيَّة، إذ أكَّد الكتاب فيه: «كما كان من الضروريِّ وصف الجرائم بحق المدنيِّين في 7 أكتوبر 2023 بأنَّها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانيَّة، تَجِب اليوم تسمية ما يجري بأنَّه إبادة جماعيَّة».وشدَّد المقال على ضرورة فرض عقوبات على إسرائيل، مع التأكيد على المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار يضمن العدالة والأمن للفلسطينيِّين.وضمَّت قائمة الموقعين عددًا من الكتاب الفائزين بجائزة غونكور الأدبيَّة من بينهم إيرفيه لو تيلييه، جيروم فيراري، لوران غوديه، بريجيت جيرو، ليلى سليماني، ليليدي سالفير، محمد مبوغار سار، نيكولا ماتيو، وإيريك فويار.


حضرموت نت
منذ 12 ساعات
- حضرموت نت
الرئيس العليمي يضع إكليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في موسكو
ضمن زيارته الرسمية إلى روسيا الاتحادية، قام رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد محمد العليمي، اليوم الأربعاء، بوضع إكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول بجوار جدار الكرملين في حديقة الكسندر بالساحة الحمراء في العاصمة الروسية موسكو. وعقب المراسم، شهد الرئيس العليمي عرضًا رمزيًا لحرس الشرف، تخلله عزف السلام الوطني للجمهورية اليمنية من قبل الفرقة الموسيقية العسكرية، في إطار تقاليد الاستقبال الرسمية التي تعكس متانة العلاقات بين البلدين. يعد الضريح من أبرز المعالم التذكارية في روسيا، وقد أُقيم في أواخر الستينات تخليدًا لصمود وتضحيات الجنود السوفيات في الحرب العالمية الثانية، وتجسيدًا للانتصار التاريخي على النازية. ويحتوي الضريح على رفات جنود مجهولين قضوا في معركة موسكو عام 1941، وقد نُقلت رفاتهم من مدينة سان بطرسبيرغ (ليننغراد سابقًا) إلى موقعهم بمحاذاة الجدار الغربي للكرملين. رافق رئيس مجلس القيادة الرئاسي خلال الزيارة عدد من المسؤولين اليمنيين، وهم، وزير الخارجية وشؤون المغتربين الدكتور شائع الزنداني ومستشار رئيس المجلس للدفاع والأمن الفريق محمود الصبيحي، ومستشار التنمية والإعمار المهندس عمر العمودي، ومستشار الشؤون الثقافية مروان دماج، وسفير اليمن لدى روسيا الاتحادية أحمد سالم الوحيشي. مباحثات مرتقبة مع القيادة الروسية وكان الرئيس العليمي قد وصل إلى موسكو يوم الثلاثاء في زيارة رسمية تلبية لدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان في استقباله بمطار فونكوفو نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، وسفير اليمن لدى موسكو أحمد سالم الوحيشي. وتأتي الزيارة في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث من المقرر أن يجري الرئيس العليمي مباحثات مع نظيره الروسي حول سبل تطوير التعاون المشترك، إلى جانب مناقشة تطورات الأزمة اليمنية وجهود إحلال السلام. كما تشمل أجندة الزيارة لقاءات مع عدد من كبار المسؤولين في مجلس الدوما والحكومة الروسية، وذلك في سياق توسيع مجالات الشراكة السياسية والاقتصادية. وفي تصريح لوكالة الأنباء اليمنية 'سبأ'، أعرب الرئيس العليمي عن تقديره للعلاقات التاريخية بين اليمن وروسيا، التي تعود إلى أكثر من قرن، مشيدًا بموقف موسكو الداعم للشرعية اليمنية وتطلعات الشعب اليمني في استعادة دولته ومؤسساته.

سودارس
منذ 14 ساعات
- سودارس
السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)
في مشهد مهيب ومفارق، وقفت سيدة سودانية قد تكون في الخمسينات من عمرها، تكسوها ثياب الوقار السوداني، وتتحدث بحنق منضبط أمام حشد من النساء والأطفال والرجال معظمهم كبار في السن، في قلب قرية الخيرات المهدمة حديثا. كان الغضب يمور تحت جلد الكلمات، لكنه منظم، عقلاني، واعي بل أخلاقي وحكيم في جوهره وان اختلف البعض مع الموقف. تحدثت السيدة عن المفارقة الجارحة: أن من يُطلب منهم القتال باسم الوطن، يُحرمون من السكن فيه. وتقول، أن الجنود الذين يدافعون عن الدولة في الخطوط الأمامية، حينما يعودون سيجدوا بيوتهم مهدمة، وأطفالهم في العراء. كانت السيدة تقف بثقة، خلفها مبنى نصف مكتمل، وتحت ظله عشرات النساء والأطفال الرجال يجلسون في الأرض أو على كراسٍ بلاستيكية متناثرة، وعلى وجوههم علامات الغضب، الذهول، والانكسار. تلك السيدة لم تصرخ باسم قبيلة، بل باسم المواطنة، باسم العدالة، باسم سودان حر يليق بأبنائه الذين يُجلدون ثلاث مرات: مرة في ميدان المعركة، ومرة في ميدان الحياة، وثالثة في وجدان وطن لا يراهم. تحدثت عن "الدعامة"، الجنود القادمين من مناطق الهامش، الذين احتضنتهم العاصمة في أحيائها الشعبية دون أن يحملوا معهم شيئاً سوي (هويتهم العربية) تساءلت: لماذا لم تُهدم الأحياء الراقية التي سكنها الدعامة حينها، ولماذا لاتهدم الاحياء والبيوت التي يسكنها أبناء النخب؟ ولماذا يُعامل أبناءها هي، أبناء الهامش كغرباء؟ وهل لأنهم من مناطق يُنظر إليها دوماً بعين الشك والازدراء وانهم "عبيد" وقد قالتها مباشرة دون مواربة؟ هذه المفارقة التي تسكن جسد الدولة السودانية الحديثة، ليست غريبة عن التاريخ البشري، بل هي جزء من بنية عالمية من الجحود البنيوي تجاه المهمشين الذين يضحون في سبيل دول لا تعترف بإنسانيتهم. ونجد مرآة ساطعة لها في تجربة الأميركيين الأفارقة بعد الحرب العالمية الثانية. أولئك الذين قاتلوا في كل الجبهات، من نورماندي إلى صقلية، وساهموا في كسر آلة الفاشية والنازية في أوروبا، باسم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. لكنهم حين عادوا إلى وطنهم، امريكا لم يجدوا لهم فيه وطناً، بل وجدوا الأبواب مغلقة، والعنصرية مستمرة، والهياكل الاجتماعية مُصممة ضدهم. جنود وحدات "توسكيجي"، أول وحدة طيران من السود في الجيش الأميركي، قاتلوا ببسالة، وحصلوا على أوسمة الشرف. لكنهم، عند العودة، مُنعوا من دخول المطاعم التي دخلها زملاؤهم البيض، ورفضت البنوك منحهم قروض السكن، ولم يستفيدوا من امتيازات قانون "جي آي" الذي منح المحاربين القدامى فرصاً في التعليم والملكية والرعاية الصحية. وكأن الوطنية كانت مشروطة باللون والانتماء العرقي. إن قانون "جي آي بيل"" (G.I. Bill of Rights) الذي صدر عام 1944، وُضع نظريًا لمكافأة الجنود الأميركيين، لكنه صُمم بطريقة حرمت غالبية السود من الاستفادة منه، خصوصاً في مجالات السكن والتعليم العالي. فقد قامت البنوك برفض منحهم القروض، وتواطأت معها إدارات التعليم والبلديات، وكانت الضمانات الفيدرالية تُرفض لمن يسكنون في أحياء السود. وهكذا، تكرّس نظام تمييزي، عنصري، أخفى نفسه خلف الأدوات البيروقراطية، كما تفعل الدولة السودانية اليوم حين تهدم قرى بأكملها دون قرارات قضائية، بل تحت ذريعة "الوجوه الغريبة" أو "محاربة التخريب" او "السكن العشوائي" او عقوبة لمن يعتقدوا انهم "تواطؤوا مع الدعم السريع" كتب جيمس بالدوين، أحد أكثر الأصوات بلاغةً واحتجاجًا في أدب الأميركيين الأفارقة، في مقاله الشهير "The Fire Next Time" عن المفارقة الفاضحة التي تعصف بوجدان أي إنسان أسود قاتل من أجل دولة لا تعترف به مواطنًا كاملاً: "تطلب الدولة دمك في الحرب، لكنها لا تعترف بدموعك في السلم". لقد فهم بالدوين أن أخطر ما يمكن أن يُرتكب في حقّ المهمشين هو إقناعهم أن التضحية من أجل وطن لا يعترف بهم، تُعدّ بطولة، لا خيانة للذات! إذا كنت تحارب من أجل الحرية في الخارج، فاسأل نفسك: "أين هي حريتي هنا؟" هكذا صاح مالكوم إكس، رافعًا إصبعه في وجه مؤسسة لا تعرف سوى القهر، ومتوجّهًا بكلماته مباشرة لأبناء جلدته الذين تورطوا – عن جهل أو اضطرار – في خدمة نظام عنصري. لم يكن ذلك سؤالًا شعريًا، بل كان نداءً سياسيًا، أخلاقيًا، وتحريضيًا بامتياز. هذا السؤال لا يزال معلقًا، طافحًا بالمرارة، لكنه ليس بلا عنوان. هو اليوم يُطرح مجددًا، على أبناء البلاد الذين حملوا أعباء التاريخ، ودفعوا ثمن الانتماء في الهامش وفي الهضاب وفي السهول. هؤلاء الذين يلبسون زي الدولة، ويحملون سلاحها، يجدون أنفسهم أحيانًا في خنادق لا تخصهم، يُطلب منهم أن يصوبوا النار إلى صدور إخوانهم، بينما لا يجدون في مؤسسات الدولة ذاتها مكانًا يُشبههم أو يحميهم. في لحظة كهذه، قد يبدو السؤال حول "الولاء" سؤالًا ثقيلًا ومربكًا، لكن التباس الولاء لا يعفي من ضرورة مساءلته. فهل يكون الانتماء لوطنٍ لا يعترف بك هو نوع من الوفاء؟ أم استسلامٌ لتاريخ يعيد إنتاج الإقصاء في ثوب الواجب؟ ليس القصد أن يُشهر المرء السلاح في وجه من كان معه بالأمس، بل أن يعيد النظر في أين يقف، ولماذا يقف، ولأجل من يقف. إن أولئك الذين يتقدمون الصفوف اليوم، ليسوا مجرد جنود، بل مواطنون ذوو ذاكرة، يعرفون جيدًا أي القرى احترقت، وأي المدارس دُمرت، وأي الأمهات بكت أبناءها أمام الركام. وإذا كان الانضباط قيمة عسكرية، فإن الوعي قيمة أخلاقية لا تقل شأنًا. فلا يليق بمن يحمل بندقية أن يُسقط عقله معها، ولا يليق بمن يعرف الألم أن يُمارسه على غيره. من هنا، يصبح السؤال الأخلاقي أكبر من مجرد موقع في الميدان؛ إنه سؤال عن الغاية، عن المعنى، عن الانحياز في لحظة الحقيقة. لا أحد يُنكر صعوبة الخيارات في زمن التشظي، لكن التاريخ لا يرحم من صمت أو تواطأ. فليس كل من يرفع الراية يمثل الوطن، وليس كل من يقف في صف الدولة يمثل العدالة! جيمس بالدوين كتب: "أن تولد أسودًا في أميركا هو أن تكون في حالة غضب دائمة." واليوم، أن تولد هامشيًا في السودان هو أن تكون مُستباحًا دائمًا. لكن الغضب يجب أن يتحول إلى فعل. إلى تمرّد. إلى إعادة تموضع. إلى سحب البندقية من كتف الطغاة، وتوجيهها إلى من يستعبد الوطن. لن يغفر التاريخ لمن قاتل في الجانب الخطأ، لا بحجّة الطاعة، ولا بدافع الفقر، ولا تحت ذريعة الانتماء. آن الأوان أن تعرفوا من أنتم، ولمن تقاتلون. فالسودان الجديد قادم، وهو لا يُبنى ببنادق المرتزقة، بل بوعي الأحرار، وبقرار الجنود الشجعان الذين يرفضون أن يُستخدموا كأدوات ضد أهلهم. اسأل نفسك اليوم: هل بندقيتك تحمي أهلك أم تقتلهم؟ إن كانت الثانية، فقد خانتك البوصلة، وحان وقت العودة إلى الصف الصحيح من التاريخ. المفارقة الأخلاقية في السودان، تماماً كما في الولايات المتحدة حينها، هي أن من يُطلب منهم القتال من أجل وحدة الوطن، يُنظر إليهم كمصدر تهديد داخل الوطن. تُستخدم شجاعتهم لتثبيت نظام لا يراهم شركاء بل أدوات. كما قالت السيدة في قرية الخيرات: "نحن لسنا عبيداً. نحن من حرر الوطن. وسنظل سودانيين، غصبا عن عين أي زول" هذه الكلمات تشبه، في بلاغتها الأخلاقية، ما كتبته توني موريسون عن جدها الذي حارب في أوروبا، ثم عاد ليُمنع من التصويت. وهي ذات النبرة التي نسمعها في خطب مارتن لوثر كينغ، عندما تحدث عن "الشيك المرتجع" سلّمته أميركا لمواطنيها السود، دون رصيد من العدالة. كتب د. كينغ: "لقد أتينا إلى العاصمة لنصرف هذا الشيك، شيك الحرية، شيك العدالة، لكنه عاد إلينا غير قابل للصرف". ومن جنوب أفريقيا، تكررت ذات المأساة: السود الذين قاتلوا ضمن القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، لم يُعترف بهم بعد الحرب، بل عادوا ليواجهوا قوانين الفصل العنصري (الأبارتايد) التي حرمتهم من السكن، من التعليم، من حق التصويت، بل من الحق في العيش بكرامة. وهكذا، يتكرر التاريخ ذاته: تستخدم الدولة أجساد المهمشين وقت الحرب، ثم تُقصيهم في السلم دون اكتراث لتضحياتهم وتضحيات اسرهم وذويهم. تجارب مماثلة ظهرت في المستعمرات الفرنسية والبريطانية، حيث قاتل الجنود الأفارقة والهنود من أجل إمبراطوريات لم تعترف أبدًا بمواطنتهم الكاملة. في الجزائر ، مثلًا، قاتل آلاف الجزائريين مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، لكنهم قُتلوا أو سُجنوا لاحقًا عندما طالبوا بالمساواة والحرية. وتكررت هذه المفارقة في الفلبين ، وفي الكاريبي، حيث تم سحق المطالبات بالمساواة بعد التضحية. إن التجربة السودانية تتقاطع بشكل أكثر فجاجة مع هذا الإرث، لأن الدولة السودانية الحديثة، ومنذ تأسيسها، استبطنت مفهوم المواطن من الدرجة الثانية، واستخدمت أدوات شتى لتكريس هذا التمييز: في الإعلام، في التعليم، في توزيع الثروة، وفي حرمان أهل الهامش من الحق في المدينة والحق في الأرض. و"الخيرات" ليست استثناء، بل نموذج كثيف لهذا المسار التاريخي. عندما يُقال لسكانها أن "وجوههم غير مرغوب فيها"، فذلك ليس سوى استمرار لنفس الخطاب الذي قيل لجنود توسكيجي، ولسكان هارلم، ولسود جنوب إفريقيا: أنتم أدوات عند الحاجة، عبء عند السلم. إن المفارقة الكبرى في كل هذه التجارب، هي أن الحرب – بما تحمله من خطاب التضحية والوطنية – لم تُلغِ البنية العنصرية، بل كشفتها بشكل فج. فقد ظنت الدول أن باستطاعتها استخدام المهمشين في أوقات الشدة، ثم إعادتهم إلى الهامش بعد النصر. لكن التاريخ يُظهر أن هؤلاء العائدين من الجبهات، هم أنفسهم من قادوا الموجات الثورية الكبرى: من الحقوق المدنية في أميركا، إلى الانتفاضات في جنوب إفريقيا، إلى المقاومة المسلحة في الجزائر ، إلى ثورات الهامش في السودان. إن ما جرى في قرية الخيرات ليس مجرد فعل محلي. هو مرآة لأزمنة قبيحة تكررت في التاريخ، حيث يلتقي التهميش بالبطولة، ولا يعترف الوطن بأبطاله إلا حين يموتون، لا حين يطالبون بحياة كريمة. في الخيرات، كما في هارلم، كما في سويتو، كما في القصبة، يقف الجنود المظلومون في مواجهة السؤال الجوهري: لمن يُرفع علم الوطن؟ ومن يحق له أن يقول "أنا من هذا البلد"؟ بالمنظور الجذري الذي تتبناه رؤية السودان الجديد، كما صاغتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ومنظور تحالف "تأسيس" الذي تبناها، لا تُفهم قضية المهمشين بوصفها مظلومية ظرفية أو معاناة أخلاقية فحسب، بل تُقرأ بوصفها نتاجًا لبنية اقتصادية – سياسية غير عادلة، أقامت دولة المركز على إقصاء الأغلبية وإدامة الاستغلال. وعليه، فإن إعادة بناء السودان لا تبدأ من المصالحة بين نخب الخرطوم ، بل من قلب الهامش، حيث تصعد أصوات جديدة، وتجارب مقاومة، وشروط مغايرة للتنمية والعدالة والكرامة. إذا كان الأميركيون السود قد ساهموا في تحرير أوروبا من النازية ليُعادوا إلى أحياء مفصولة، وإن كان جنود جنوب إفريقيا قد دافعوا عن الإمبراطورية البريطانية ليُقصَوا بعدها في وطنهم، فإن المهمشين السودانيين – الذين يقاتلون الآن في الصفوف الأمامية، ويُستشهدون دون أن تُذكر أسماؤهم – هم من سيفرضون معادلة جديدة على هذا البلد ان وعوا الي من هو عدوهم الحقيقي. إنهم لم يعودوا عبيد ولاء لا يُكافَأ، بل حملة مشروع وطني صاعد، يريد أن يُعيد كتابة مفهوم العدالة التاريخية و التنمية من جذوره. رؤية السودان الجديد للتنمية لا تنطلق من ضخ الأموال في مشاريع تجميلية فوقية، بل من اعتراف تاريخي بحقوق الناس في الأرض، في السلطة، في الموارد، وفي صناعة القرار. وهي رؤية تفكك ربط التنمية بالخضوع للمركز، وترى أن الأجسام السياسية والاجتماعية المنحازة للهامش – من الحركات المسلحة إلى الروابط القاعدية ومنظمات المجتمع المدني الحية – هي التي ستعيد توجيه البوصلة التنموية نحو ما يستحقه السودانيون فعلاً: تنمية عادلة، شاملة، ومؤسسة على الحقوق، لا على الامتيازات، و مستقبل السودان يجب ان يؤسس علي هذا. لا بد إذًا من إعادة كتابة عقد المواطنة بما يجعله عقدًا للعدالة والكرامة والتنمية، لا عقدًا للطاعة والخضوع. لا بد من تفكيك الدولة القديمة التي جعلت من الانتماء الجغرافي أو العرقي شرطًا للعيش بكرامة، وبنت اقتصادًا ينزف من الأطراف ليصب في المركز. وكما قال فرانز فانون: "كل جيل، عليه أن يجد مهمته التاريخية، ويُنجزها أو يخونها". جيل الخيرات، الذي رأى أمهاته يُهَنَّ، وبيوته تُهدم، وأحلامه تُسحق، لن يخون مهمته. بل سيبني وطنًا لا يقتل أبناءه، ولا يطردهم من أرضهم، ولا يحرمهم من الحياة التي يستحقونها. سيبني وطنًا تُوجَّه فيه التنمية حيث توجد الحاجات لا حيث يقيم الحكّام، وطنًا تُكرَّم فيه التضحيات لا تُجازى بالإهانة، وطنًا جديدًا بعد أن تُفكَّك المنظومة القديمة التي حوّلت الأغلبية إلى أدوات، واحتكرت الحداثة والثراء في أيدي قلة. هذا هو منطق السودان الجديد: أن تصبح السلطة خادمة للتنمية، والتنمية خادمة للعدالة، والعدالة خادمة للكرامة الإنسانية، ولا شيء غير ذلك. النضال مستمر والنصر اكيد.