logo
السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)

السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)

سودارسمنذ 2 أيام

في مشهد مهيب ومفارق، وقفت سيدة سودانية قد تكون في الخمسينات من عمرها، تكسوها ثياب الوقار السوداني، وتتحدث بحنق منضبط أمام حشد من النساء والأطفال والرجال معظمهم كبار في السن، في قلب قرية الخيرات المهدمة حديثا. كان الغضب يمور تحت جلد الكلمات، لكنه منظم، عقلاني، واعي بل أخلاقي وحكيم في جوهره وان اختلف البعض مع الموقف. تحدثت السيدة عن المفارقة الجارحة: أن من يُطلب منهم القتال باسم الوطن، يُحرمون من السكن فيه. وتقول، أن الجنود الذين يدافعون عن الدولة في الخطوط الأمامية، حينما يعودون سيجدوا بيوتهم مهدمة، وأطفالهم في العراء. كانت السيدة تقف بثقة، خلفها مبنى نصف مكتمل، وتحت ظله عشرات النساء والأطفال الرجال يجلسون في الأرض أو على كراسٍ بلاستيكية متناثرة، وعلى وجوههم علامات الغضب، الذهول، والانكسار.
https://www.assayha.net/wp-content/uploads/2025/05/فيديو-امراة-الخيرات.mp4
تلك السيدة لم تصرخ باسم قبيلة، بل باسم المواطنة، باسم العدالة، باسم سودان حر يليق بأبنائه الذين يُجلدون ثلاث مرات: مرة في ميدان المعركة، ومرة في ميدان الحياة، وثالثة في وجدان وطن لا يراهم. تحدثت عن "الدعامة"، الجنود القادمين من مناطق الهامش، الذين احتضنتهم العاصمة في أحيائها الشعبية دون أن يحملوا معهم شيئاً سوي (هويتهم العربية) تساءلت: لماذا لم تُهدم الأحياء الراقية التي سكنها الدعامة حينها، ولماذا لاتهدم الاحياء والبيوت التي يسكنها أبناء النخب؟ ولماذا يُعامل أبناءها هي، أبناء الهامش كغرباء؟ وهل لأنهم من مناطق يُنظر إليها دوماً بعين الشك والازدراء وانهم "عبيد" وقد قالتها مباشرة دون مواربة؟
هذه المفارقة التي تسكن جسد الدولة السودانية الحديثة، ليست غريبة عن التاريخ البشري، بل هي جزء من بنية عالمية من الجحود البنيوي تجاه المهمشين الذين يضحون في سبيل دول لا تعترف بإنسانيتهم. ونجد مرآة ساطعة لها في تجربة الأميركيين الأفارقة بعد الحرب العالمية الثانية. أولئك الذين قاتلوا في كل الجبهات، من نورماندي إلى صقلية، وساهموا في كسر آلة الفاشية والنازية في أوروبا، باسم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. لكنهم حين عادوا إلى وطنهم، امريكا لم يجدوا لهم فيه وطناً، بل وجدوا الأبواب مغلقة، والعنصرية مستمرة، والهياكل الاجتماعية مُصممة ضدهم.
جنود وحدات "توسكيجي"، أول وحدة طيران من السود في الجيش الأميركي، قاتلوا ببسالة، وحصلوا على أوسمة الشرف. لكنهم، عند العودة، مُنعوا من دخول المطاعم التي دخلها زملاؤهم البيض، ورفضت البنوك منحهم قروض السكن، ولم يستفيدوا من امتيازات قانون "جي آي" الذي منح المحاربين القدامى فرصاً في التعليم والملكية والرعاية الصحية. وكأن الوطنية كانت مشروطة باللون والانتماء العرقي.
إن قانون "جي آي بيل""
(G.I. Bill of Rights)
الذي صدر عام 1944، وُضع نظريًا لمكافأة الجنود الأميركيين، لكنه صُمم بطريقة حرمت غالبية السود من الاستفادة منه، خصوصاً في مجالات السكن والتعليم العالي. فقد قامت البنوك برفض منحهم القروض، وتواطأت معها إدارات التعليم والبلديات، وكانت الضمانات الفيدرالية تُرفض لمن يسكنون في أحياء السود. وهكذا، تكرّس نظام تمييزي، عنصري، أخفى نفسه خلف الأدوات البيروقراطية، كما تفعل الدولة السودانية اليوم حين تهدم قرى بأكملها دون قرارات قضائية، بل تحت ذريعة "الوجوه الغريبة" أو "محاربة التخريب" او "السكن العشوائي" او عقوبة لمن يعتقدوا انهم "تواطؤوا مع الدعم السريع"
كتب جيمس بالدوين، أحد أكثر الأصوات بلاغةً واحتجاجًا في أدب الأميركيين الأفارقة، في مقاله الشهير
"The Fire Next Time"
عن المفارقة الفاضحة التي تعصف بوجدان أي إنسان أسود قاتل من أجل دولة لا تعترف به مواطنًا كاملاً: "تطلب الدولة دمك في الحرب، لكنها لا تعترف بدموعك في السلم". لقد فهم بالدوين أن أخطر ما يمكن أن يُرتكب في حقّ المهمشين هو إقناعهم أن التضحية من أجل وطن لا يعترف بهم، تُعدّ بطولة، لا خيانة للذات!
إذا كنت تحارب من أجل الحرية في الخارج، فاسأل نفسك: "أين هي حريتي هنا؟" هكذا صاح مالكوم إكس، رافعًا إصبعه في وجه مؤسسة لا تعرف سوى القهر، ومتوجّهًا بكلماته مباشرة لأبناء جلدته الذين تورطوا – عن جهل أو اضطرار – في خدمة نظام عنصري. لم يكن ذلك سؤالًا شعريًا، بل كان نداءً سياسيًا، أخلاقيًا، وتحريضيًا بامتياز.
هذا السؤال لا يزال معلقًا، طافحًا بالمرارة، لكنه ليس بلا عنوان. هو اليوم يُطرح مجددًا، على أبناء البلاد الذين حملوا أعباء التاريخ، ودفعوا ثمن الانتماء في الهامش وفي الهضاب وفي السهول. هؤلاء الذين يلبسون زي الدولة، ويحملون سلاحها، يجدون أنفسهم أحيانًا في خنادق لا تخصهم، يُطلب منهم أن يصوبوا النار إلى صدور إخوانهم، بينما لا يجدون في مؤسسات الدولة ذاتها مكانًا يُشبههم أو يحميهم.
في لحظة كهذه، قد يبدو السؤال حول "الولاء" سؤالًا ثقيلًا ومربكًا، لكن التباس الولاء لا يعفي من ضرورة مساءلته. فهل يكون الانتماء لوطنٍ لا يعترف بك هو نوع من الوفاء؟ أم استسلامٌ لتاريخ يعيد إنتاج الإقصاء في ثوب الواجب؟ ليس القصد أن يُشهر المرء السلاح في وجه من كان معه بالأمس، بل أن يعيد النظر في أين يقف، ولماذا يقف، ولأجل من يقف.
إن أولئك الذين يتقدمون الصفوف اليوم، ليسوا مجرد جنود، بل مواطنون ذوو ذاكرة، يعرفون جيدًا أي القرى احترقت، وأي المدارس دُمرت، وأي الأمهات بكت أبناءها أمام الركام. وإذا كان الانضباط قيمة عسكرية، فإن الوعي قيمة أخلاقية لا تقل شأنًا. فلا يليق بمن يحمل بندقية أن يُسقط عقله معها، ولا يليق بمن يعرف الألم أن يُمارسه على غيره.
من هنا، يصبح السؤال الأخلاقي أكبر من مجرد موقع في الميدان؛ إنه سؤال عن الغاية، عن المعنى، عن الانحياز في لحظة الحقيقة. لا أحد يُنكر صعوبة الخيارات في زمن التشظي، لكن التاريخ لا يرحم من صمت أو تواطأ. فليس كل من يرفع الراية يمثل الوطن، وليس كل من يقف في صف الدولة يمثل العدالة!
جيمس بالدوين كتب: "أن تولد أسودًا في أميركا هو أن تكون في حالة غضب دائمة." واليوم، أن تولد هامشيًا في السودان هو أن تكون مُستباحًا دائمًا. لكن الغضب يجب أن يتحول إلى فعل. إلى تمرّد. إلى إعادة تموضع. إلى سحب البندقية من كتف الطغاة، وتوجيهها إلى من يستعبد الوطن.
لن يغفر التاريخ لمن قاتل في الجانب الخطأ، لا بحجّة الطاعة، ولا بدافع الفقر، ولا تحت ذريعة الانتماء. آن الأوان أن تعرفوا من أنتم، ولمن تقاتلون. فالسودان الجديد قادم، وهو لا يُبنى ببنادق المرتزقة، بل بوعي الأحرار، وبقرار الجنود الشجعان الذين يرفضون أن يُستخدموا كأدوات ضد أهلهم.
اسأل نفسك اليوم: هل بندقيتك تحمي أهلك أم تقتلهم؟ إن كانت الثانية، فقد خانتك البوصلة، وحان وقت العودة إلى الصف الصحيح من التاريخ.
المفارقة الأخلاقية في السودان، تماماً كما في الولايات المتحدة حينها، هي أن من يُطلب منهم القتال من أجل وحدة الوطن، يُنظر إليهم كمصدر تهديد داخل الوطن. تُستخدم شجاعتهم لتثبيت نظام لا يراهم شركاء بل أدوات. كما قالت السيدة في قرية الخيرات: "نحن لسنا عبيداً. نحن من حرر الوطن. وسنظل سودانيين، غصبا عن عين أي زول"
هذه الكلمات تشبه، في بلاغتها الأخلاقية، ما كتبته توني موريسون عن جدها الذي حارب في أوروبا، ثم عاد ليُمنع من التصويت. وهي ذات النبرة التي نسمعها في خطب مارتن لوثر كينغ، عندما تحدث عن "الشيك المرتجع" سلّمته أميركا لمواطنيها السود، دون رصيد من العدالة. كتب د. كينغ: "لقد أتينا إلى العاصمة لنصرف هذا الشيك، شيك الحرية، شيك العدالة، لكنه عاد إلينا غير قابل للصرف".
ومن جنوب أفريقيا، تكررت ذات المأساة: السود الذين قاتلوا ضمن القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، لم يُعترف بهم بعد الحرب، بل عادوا ليواجهوا قوانين الفصل العنصري (الأبارتايد) التي حرمتهم من السكن، من التعليم، من حق التصويت، بل من الحق في العيش بكرامة. وهكذا، يتكرر التاريخ ذاته: تستخدم الدولة أجساد المهمشين وقت الحرب، ثم تُقصيهم في السلم دون اكتراث لتضحياتهم وتضحيات اسرهم وذويهم.
تجارب مماثلة ظهرت في المستعمرات الفرنسية والبريطانية، حيث قاتل الجنود الأفارقة والهنود من أجل إمبراطوريات لم تعترف أبدًا بمواطنتهم الكاملة. في الجزائر ، مثلًا، قاتل آلاف الجزائريين مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، لكنهم قُتلوا أو سُجنوا لاحقًا عندما طالبوا بالمساواة والحرية. وتكررت هذه المفارقة في الفلبين ، وفي الكاريبي، حيث تم سحق المطالبات بالمساواة بعد التضحية.
إن التجربة السودانية تتقاطع بشكل أكثر فجاجة مع هذا الإرث، لأن الدولة السودانية الحديثة، ومنذ تأسيسها، استبطنت مفهوم المواطن من الدرجة الثانية، واستخدمت أدوات شتى لتكريس هذا التمييز: في الإعلام، في التعليم، في توزيع الثروة، وفي حرمان أهل الهامش من الحق في المدينة والحق في الأرض. و"الخيرات" ليست استثناء، بل نموذج كثيف لهذا المسار التاريخي. عندما يُقال لسكانها أن "وجوههم غير مرغوب فيها"، فذلك ليس سوى استمرار لنفس الخطاب الذي قيل لجنود توسكيجي، ولسكان هارلم، ولسود جنوب إفريقيا: أنتم أدوات عند الحاجة، عبء عند السلم.
إن المفارقة الكبرى في كل هذه التجارب، هي أن الحرب – بما تحمله من خطاب التضحية والوطنية – لم تُلغِ البنية العنصرية، بل كشفتها بشكل فج. فقد ظنت الدول أن باستطاعتها استخدام المهمشين في أوقات الشدة، ثم إعادتهم إلى الهامش بعد النصر. لكن التاريخ يُظهر أن هؤلاء العائدين من الجبهات، هم أنفسهم من قادوا الموجات الثورية الكبرى: من الحقوق المدنية في أميركا، إلى الانتفاضات في جنوب إفريقيا، إلى المقاومة المسلحة في الجزائر ، إلى ثورات الهامش في السودان.
إن ما جرى في قرية الخيرات ليس مجرد فعل محلي. هو مرآة لأزمنة قبيحة تكررت في التاريخ، حيث يلتقي التهميش بالبطولة، ولا يعترف الوطن بأبطاله إلا حين يموتون، لا حين يطالبون بحياة كريمة. في الخيرات، كما في هارلم، كما في سويتو، كما في القصبة، يقف الجنود المظلومون في مواجهة السؤال الجوهري: لمن يُرفع علم الوطن؟ ومن يحق له أن يقول "أنا من هذا البلد"؟
بالمنظور الجذري الذي تتبناه رؤية السودان الجديد، كما صاغتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ومنظور تحالف "تأسيس" الذي تبناها، لا تُفهم قضية المهمشين بوصفها مظلومية ظرفية أو معاناة أخلاقية فحسب، بل تُقرأ بوصفها نتاجًا لبنية اقتصادية – سياسية غير عادلة، أقامت دولة المركز على إقصاء الأغلبية وإدامة الاستغلال. وعليه، فإن إعادة بناء السودان لا تبدأ من المصالحة بين نخب الخرطوم ، بل من قلب الهامش، حيث تصعد أصوات جديدة، وتجارب مقاومة، وشروط مغايرة للتنمية والعدالة والكرامة.
إذا كان الأميركيون السود قد ساهموا في تحرير أوروبا من النازية ليُعادوا إلى أحياء مفصولة، وإن كان جنود جنوب إفريقيا قد دافعوا عن الإمبراطورية البريطانية ليُقصَوا بعدها في وطنهم، فإن المهمشين السودانيين – الذين يقاتلون الآن في الصفوف الأمامية، ويُستشهدون دون أن تُذكر أسماؤهم – هم من سيفرضون معادلة جديدة على هذا البلد ان وعوا الي من هو عدوهم الحقيقي. إنهم لم يعودوا عبيد ولاء لا يُكافَأ، بل حملة مشروع وطني صاعد، يريد أن يُعيد كتابة مفهوم العدالة التاريخية و التنمية من جذوره.
رؤية السودان الجديد للتنمية لا تنطلق من ضخ الأموال في مشاريع تجميلية فوقية، بل من اعتراف تاريخي بحقوق الناس في الأرض، في السلطة، في الموارد، وفي صناعة القرار. وهي رؤية تفكك ربط التنمية بالخضوع للمركز، وترى أن الأجسام السياسية والاجتماعية المنحازة للهامش – من الحركات المسلحة إلى الروابط القاعدية ومنظمات المجتمع المدني الحية – هي التي ستعيد توجيه البوصلة التنموية نحو ما يستحقه السودانيون فعلاً: تنمية عادلة، شاملة، ومؤسسة على الحقوق، لا على الامتيازات، و مستقبل السودان يجب ان يؤسس علي هذا.
لا بد إذًا من إعادة كتابة عقد المواطنة بما يجعله عقدًا للعدالة والكرامة والتنمية، لا عقدًا للطاعة والخضوع. لا بد من تفكيك الدولة القديمة التي جعلت من الانتماء الجغرافي أو العرقي شرطًا للعيش بكرامة، وبنت اقتصادًا ينزف من الأطراف ليصب في المركز. وكما قال فرانز فانون: "كل جيل، عليه أن يجد مهمته التاريخية، ويُنجزها أو يخونها".
جيل الخيرات، الذي رأى أمهاته يُهَنَّ، وبيوته تُهدم، وأحلامه تُسحق، لن يخون مهمته. بل سيبني وطنًا لا يقتل أبناءه، ولا يطردهم من أرضهم، ولا يحرمهم من الحياة التي يستحقونها. سيبني وطنًا تُوجَّه فيه التنمية حيث توجد الحاجات لا حيث يقيم الحكّام، وطنًا تُكرَّم فيه التضحيات لا تُجازى بالإهانة، وطنًا جديدًا بعد أن تُفكَّك المنظومة القديمة التي حوّلت الأغلبية إلى أدوات، واحتكرت الحداثة والثراء في أيدي قلة.
هذا هو منطق السودان الجديد: أن تصبح السلطة خادمة للتنمية، والتنمية خادمة للعدالة، والعدالة خادمة للكرامة الإنسانية، ولا شيء غير ذلك.
النضال مستمر والنصر اكيد.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عندما يكون "نزع السلاح" بداية لسردية سياسية جديدة
عندما يكون "نزع السلاح" بداية لسردية سياسية جديدة

Independent عربية

timeمنذ 9 ساعات

  • Independent عربية

عندما يكون "نزع السلاح" بداية لسردية سياسية جديدة

يناقش في هذه الأيام، اللبنانيون والعراقيون والسوريون والفلسطينيون والسودانيون واليمنيون، موضوع نزع السلاح من أيدي المنظمات والأحزاب والميليشيات المسلحة، وحصر السلاح واستخدامه أو احتكار العنف في يد الدولة. في زيارته الأخيرة إلى لبنان، ناقش الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع المسؤولين اللبنانيين موضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات الفلسطينية وخارجها في جميع أنحاء لبنان، وطلب من الفرقاء الفلسطينيين تسليمه للدولة اللبنانية. جرت عمليات تسليم للسلاح غير الشرعي في كثير من الدول خلال القرن الـ20 وفي القرن الحالي، لكنه في الآونة الأخيرة بات مطلباً واسعاً في معظم دول المشرق العربي وفي أنحاء أخرى من العالم. ويقوم المبدأ العالمي والإنساني لعمليات تسليم السلاح من الفصائل المسلحة إلى الدولة المركزية على إعادة السلطة للدولة كجهة وحيدة تمتلك "الشرعية" لاستخدام العنف، وغالباً ما تنشأ العملية لإنهاء مرحلة عمَّ فيها العنف والفوضى بعد فقدان الدولة قرار الحرب والسلم، أو في بداية عملية تحديد العدالة الانتقالية أو المصالحة بين فرقاء متخاصمين أو متحاربين. نزع السلاح مبدأ في الدولة المركزية بعد الحرب العالمية الأولى جردت معاهدة فرساي ألمانيا من أسلحتها الثقيلة، وأُنشئت لجنة تفتيش دولية لمراقبة التنفيذ. وكانت هذه أول مرة يُنزع فيها سلاح من دولة مهزومة عقاباً لها على إشعالها الحرب. وقد كانت عمليات نزع الأسلحة من الميليشيات والثوار والمقاتلين بعد تلك الحرب أسهل بكثير من مآسي الحرب العالمية الأولى، والتي لم تؤد إلى عدم إعادة ألمانيا تسلحها لتشعل الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بدورها بانتزاع سلاح ألمانيا واليابان بالكامل تحت إشراف الحلفاء، ثم تدميره وإلغاء الجيش برمته. إلا أن الحرب العالمية الثانية خلفت حرباً باردة بين المنتصرين وعلى رأسهم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وسميت باردة لأنها خيضت بجيوش دول أخرى صغيرة وضعيفة من العالم الثالث، وأدت إلى اشتعال حروب أهلية في بلدان كثيرة، وقيام الثورات، ونشوء حروب حدودية بين دول تتبع لهذا الطرف أو ذاك، مما دفع إلى الحاجة إلى اتفاقات مختلفة لنزع سلاح الفرقاء المتحاربين بالوكالة عن العملاقين في الدول الضعيفة والمنقسمة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ومن بين هذه الاتفاقات المعلنة، كان اتفاق الطائف المنعقد عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقد جاء في بعض نصوصه ما ينص على تسليم السلاح وحل الميليشيات، وقد سلمت معظم الأحزاب سلاحها، باستثناء "حزب الله" الذي احتفظ به تحت راية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وعاد موضوع نزع سلاح "حزب الله" اللبناني إلى الواجهة في هذه الآونة بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة ولبنان. وأدت هذه الحرب، من بين ما أدت إليه، إلى تدمير البنى التحتية المدنية والعسكرية للحزب، وإلحاق الضرر البالغ بقسم كبير من اللبنانيين على الصعيد الاقتصادي والصحي والاجتماعي، فارتفع الصوت المطالب بتسليم الحزب سلاحه إلى الدولة اللبنانية ليدخل في العمل السياسي المدني، ويترك موضوع حماية الحدود اللبنانية للجيش، ولا يزال تناول الموضوع لبنانياً يجري على قدم وساق. في العراق، أدى حل الجيش العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين إلى خلق فراغ أمني وعسكري كبير، مما فتح المجال واسعاً أمام تسلح الميليشيات السنية التي أطلقت على نفسها اسم "الصحوات"، والميليشيات الشيعية تحت اسم "الحشد الشعبي"، عدا عن تسلح قوات البشمركة الكردية. وعندما انطلقت المطالبة بنزع سلاح هذه الميليشيات وحصره بيد الدولة، دُمج بعض هذه الميليشيات رسمياً، من دون أن تحكم الدولة العراقية قبضتها فعلياً على السلاح. وكما في لبنان، لا يزال هذا الموضوع قيد النقاش والتداول في العراق بغية التوصل إلى حل نهائي يرضي جميع الفرقاء العراقيين، وتحديداً في ما يتعلق بسلاح "الحشد الشعبي"، بعد تشريع سلاح البشمركة في إطار دولة الحكم الذاتي في كردستان العراق، وتسليم "الصحوات" أسلحتهم بعد حروب كثيرة خاضها الجيش العراقي بمساندة "الحشد الشعبي" في مواجهتهم. سلاح ميليشيات ما بعد الحرب الباردة وخلال الحرب الباردة الناتجة من الحرب العالمية الثانية، جرت عمليات تسليم السلاح في فيتنام بعد انتهاء الحرب بانسحاب الجيش الأميركي وانتصار الشمال، ففُكك جيش الجنوب، وأجريت عمليات واسعة لتسليم شامل للسلاح، وأنشئت معسكرات لإعادة تأهيل أعضاء الميليشيات من الأطراف المتحاربة من أجل تنسيبهم إلى مؤسسات الدولة العسكرية. كذلك سُحب السلاح في صربيا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا بعد تفككها واشتعال الحروب العرقية والدينية، لكن نزع سلاح المجموعات القومية لم يحدث إلا بعد حرب دخل فيها حلف الناتو والقوات الدولية التي أشرفت على عمليات تسليم السلاح. وقد رفضت بعض الفصائل تسليم سلاحها وقاومت العملية، ثم ظهرت تنظيمات مسلحة صُفيت على مدى حرب امتدت أعواماً، قادتها جيوش "الناتو" في تلك الدول الصغيرة الناشئة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه. وفي كرواتيا والبوسنة وكوسوفو تمت عمليات نزع سلاح تحت إشراف قوات الأمم المتحدة (UNPROFOR)، وفرض اتفاق دايتون لعام 1995 في البوسنة تفكيك القوات المسلحة لكل طرف، وجُمعت كميات هائلة من الأسلحة من الجماعات الصربية والبوسنية والكرواتية تطبيقاً للاتفاق. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورثت دول مثل أوكرانيا وكازاخستان وبيلاروس ترسانات نووية، وهنا جرت عمليات نزع سلاح دمار شامل من أيدي حكومات لم تكن قد أنجزت بعد، واتفق عالمياً على منعها من امتلاك سلاح نووي، لذا نُقلت إلى روسيا لتفكيكها. أما في أفغانستان فقد توقف بعد انسحاب الجيش الأميركي المباغت برنامج "البدايات الجديدة" الذي أطلق عام 2003 لنزع سلاح الميليشيات ودمج المقاتلين السابقين. كانت الأمور تسير على خير ما يرام منذ طرد حركة "طالبان" من السلطة، ولكن استعادتها السلطات في الوقت الحالي بعد انسحاب الأميركيين أعادت مشكلة السلاح غير الشرعي ونزعه إلى الواجهة في تلك البلاد المنكوبة. في أفريقيا فشلت عمليات نزع السلاح في الصومال بسبب الانقسام القبلي، وكذلك بسبب تدخلات أجنبية تستفيد من وجود تلك المنظمات المسلحة، وعلى رغم نجاح عمليات نزع السلاح من الميليشيات في جمهورية أفريقيا الوسطى، فإن برامج تسريح المقاتلين لم ترافقها فرص عمل داخل بلدهم، فاضطروا إلى العمل في جيوش المرتزقة وفي المجموعات التي تؤجر المقاتلين مثل "فاغنر" و"بلاك ووتر". أما في رواندا وسيراليون وليبيريا فقد جرت عمليات لنزع سلاح الميليشيات، لكن ضعف الحكومات والجيوش النظامية، وكذلك الصراعات الإقليمية والدولية على أراضي تلك الدول، كانت دائماً تؤدي إلى ظهور جماعات مسلحة جديدة تعقد عمليات نزع السلاح التي كان من المفترض أن يشرف عليها برنامج الأمم المتحدة، بعدما انتقل هذا الملف من يد الاتحاد الأفريقي. وعمليات تسليم أو نزع السلاح لا تختصر بتسليم بندقية من هنا أو مدفع رشاش من هناك، بل هي إعلان عن نهاية سردية أو واقع سياسي معين، للدخول في بداية سردية سياسية أخرى. ولهذا فإن عمليات نزع السلاح غالباً ما تبوء بالفشل في الدول المنقسمة على نفسها، إذ لا يكون جميع الفرقاء مستعدين لطي صفحة من حياة بلادهم لبدء مرحلة جديدة. وقد يؤدي نزع السلاح في بعض الحالات إلى فراغ أمني تستغله جماعات مسلحة أخرى، كما حصل عندما حُل الجيش العراقي في أعقاب الغزو الأميركي. ويزيد عدم توفر فرص عمل للمقاتلين السابقين من احتمالية عودتهم إلى القتال، خصوصاً في الدول التي تفتقر حكوماتها إلى الموارد والقدرات اللازمة لتنفيذ برامج نزع السلاح المكلفة. الأمم المتحدة ونزع السلاح شهدت الأمم المتحدة تحولاً تدريجاً في طبيعة عملياتها في الدول الخارجة من النزاعات، منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بخاصة في ما يتعلق بدعم برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج للمقاتلين السابقين، فبعدما كانت مهام حفظ السلام تقتصر على الفصل بين الأطراف المتحاربة عبر خطوط وقف إطلاق النار، صارت تتناول الأمن وحقوق الإنسان وسيادة القانون وإجراء الانتخابات، وتحقيق الحوكمة الاقتصادية. هذه المقاربة الأوسع فرضت ضرورة التنسيق بين مختلف مكونات منظومة الأمم المتحدة، من إدارات ووكالات وصناديق وبرامج، لتفعيل استراتيجيات التعافي بعد الصراعات. وفي الأعوام الخمسة الأخيرة وحدها أدرجت بعثات حفظ السلام المتعددة الأبعاد في دول مثل بوروندي وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وهايتي وليبيريا والسودان، كذلك امتد دور الأمم المتحدة في هذا المجال ليشمل سياقات خارجة عن حفظ السلام التقليدي، منها أفغانستان وآتشيه في إندونيسيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر والصومال وأوغندا وجزر سليمان، وفي مارس (آذار) 2005 توسعت مجموعة العمل المشتركة لتضم 15 كياناً أممياً.

في خصوصية الهوية الجنوبية وآليات اليمننة.. قراءة في دراسة المحامي علي هيثم الغريب: الجنوب العربي مرجعية الأرض والهوية والتاريخ
في خصوصية الهوية الجنوبية وآليات اليمننة.. قراءة في دراسة المحامي علي هيثم الغريب: الجنوب العربي مرجعية الأرض والهوية والتاريخ

الأمناء

timeمنذ يوم واحد

  • الأمناء

في خصوصية الهوية الجنوبية وآليات اليمننة.. قراءة في دراسة المحامي علي هيثم الغريب: الجنوب العربي مرجعية الأرض والهوية والتاريخ

يُعدُّ المحامي علي هيثم الغريب من أبرز الذين تناولوا موضوع الهوية الجنوبية ومحاولات اليمننة التي تعرض لها، وذلك في مقالة بحثية مهمة نشرها أول مرة في صحيفة (عدن الغد)، في مطلع سنة 2014، ثم في مجلة (فنار عدن الثقافية)، الصادرة عن اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، وذلك بعنوان (الجنوب العربي مرجعية الأرض والهوية والتاريخ). في مستهل بحثه يعرّف علي هيثم الغريب الهوية على النحو الآتي: "الهوية امتداد للتاريخ والحضارة، وهي قيم وخصائص تمر في تفاعل ونمو وازدهار في إطار الجغرافيا الواحدة. والهوية تُعرَّف أيضا باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ مصيراً ووجوداً، حيث تشكل الهوية مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه، وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والثقافي". وفيما يتعل بخصوصية هوية الجنوب العربي كتب المحامي علي هيثم الغريب "كان الجنوب العربي قبل أن تحتله القوات العسكرية البريطانية في بداية عام 1839 مقسماً من الناحية الإدارية بين سلطنات ومشيخات؛ شأنه شأن الدول العربية كافة. حيث كانت تلك السلطنات والمشيخات تعيش داخل جغرافيا واحدة إدارةً وحدوداً وتاريخاً، ومستقلة عن محيطها العربي عموماً واليمني خصوصاً، شأنها في ذلك شأن محيطها العربي (عمان والسعودية واليمن والإمارات والكويت وقطر والبحرين)." ويؤكد الغريب "أن هوية الجنوب العربي ارتبطت بالجغرافيا والأرض والتاريخ والمذهب الواحد الذي عرفه الجنوب منذ الأحباش والفرس والرومان والهولنديين، ومروراً بثوراته المعروفة في القرن العشرين ضد الاستعمار البريطاني، وانتهاءً بأهم إنجاز للثورة الجنوبية المعاصرة في ستينيات القرن ذاته عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة سبعة قرارات دولية باسم الجنوب العربي (1963-1967م)". ويذكّرنا الغريب بالهجمات التي تعرض الجنوب العربي على مدى التاريخ لاحتلاله ومسخ هويته الجغرافية والثقافية. ومن تلك الهجمات "الغزوات التي تعرض لها من طرف جارته (الدولة القاسمية) قبل 500 عام، وهو مشروع استهدفه في وجوده الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحضاري والإنساني بشكل عام". ويرى الغريب أن "الوجود الواقعي لهوية الجنوب العربي يواجه إرادة المشروع اليمني الذي أراد أن يجعل من الجنوب وطناً بدون هوية ليتم تسليمه لهوية افتراضية ليس لها تاريخ، هي اليمن التي تأسست كدولة عام 1918/ 1922. والهوية اليمنية ما كان يمكن أن يحتاجها الشعب اليمني عام 1922 لولا خروج الأتراك بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية 1918م، التي استدعت مثل هذه الهوية لإنقاذ اليمن من الحروب المذهبية والتمزق القبلي. وقامت اليمن بحدود تلك الدولة، ورسمت مع الجنوب العربي حدودها الدولية، ووقعت مع سلاطين الجنوب عليها، مثلما وقعت مع المملكة العربية ترسيم الحدود عام 1934". ثمّ يتناول المحامي الغريب الآليات التي اتبعها اليمنيون ليمننة الجنوب العرب قبيل وبعد رحيل البريطانيين في 30 نوفمبر 1967، حيث يكتب "شارك اليمنيون الذين جاؤوا بعد الاستقلال (30 نوفمبر 1967م) بنشاط في مختلف الأحزاب والجمعيات النقابات العمالية في عدن؛ التي تشكلت في فترات التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني، وتبنوا أفكارها القومية والأممية غير الإصلاحية، وشعورهم بالانتماء لليمن انطبع بطابع خاص، طابع الانتماء إلى أرض ووطن محددين هو اليمن". ويربط الغريب إحدى آليات اليمننة، التي برزت تسمية الدولة الوليدة التي حلت محل حكومة اتحاد الجنوب العربي في 30 نوفمبر 1967 بتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني سنة 1978 قائلا: "تركت مسألة التنازل عن الهوية الجنوبية في تسمية الدولة الجنوبية الوليدة آثاراً قوية على الحركة الوطنية الجنوبية، وأشعرتها بعزلتها وسهل إضعافها أو التخلص منها. وأهم هذه الصدمات: التخلص من اسم "الجنوبية" (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) بعد الانقلاب على الرئيسين قحطان الشعبي وسالم ربيع علي، وانهيار الحكم الجنوبي الذي كان يجسد من خلال سلاطين الجنوب ومشايخه وأحزابه وتنظيماته السياسية التي لم تستطع الصمود أمام المد القومي والأممي في الجنوب. في تلك الظروف، انعقد المؤتمر التأسيسي للحزب الاشتراكي اليمني عام 1978م، ولأول مرة لم يشر المؤتمر إلى الهوية الجنوبية، كما طالب بالوحدة مع اليمن، بل دعا هذا المؤتمر لأول مرة إلى "تشكيل حكومة يمنية في الجنوب"؛ ولذلك فإنه بالإمكان اعتبار هذا المؤتمر نقطة الانطلاق العملية ليمننة الجنوب العربي". كما يرى الغريب أن تفاعل بعض الأصوات الخارجية مع تيار يمننة الجنوب العربي يرتبط في الحقيقة بتأييدها للأفكار القومية أو تخوفها منها، قهو يكتب: "مما لا شك فيه أن هوية (اليمننة) في الجنوب قد نشأت وتبلورت بفعل تفاعل عوامل خارجية، وتفاعلها مع عوامل داخلية، خاصة الهويات المضادة. وفي هذا الإطار. وكان تيار "اليمننة" ينطلق من نفس الأفكار القومية، ولكنه يصل إلى نتائج مختلفة معها؛ فكان يرى – انطلاقًا من أن اليمن مدعومة من الدول العربية والغربية - أن بقاء الجنوب جزءاً من اليمن سيجعل من المعقول الضغط من أجل نشر الثورة في الجزيرة العربية". ولكن اليمن (الجمهورية العربية اليمنية) ظلت محتفظة بهويتها ورافضة أن تعطي الجنوبيين العائشين في صنعاء وثيقة يمنية، أيام الحكم الملكي كان يطبع على جواز سفر المواطن الجنوبي ختم خاص بالجنوبيين (حامل هذا الجواز من أبناء الجنوب العربي)، وبعد ثورة سبتمبر 1962م كان نظام الجمهورية العربية اليمنية يمنح المواطن الجنوبي هوية "جنوبي مقيم". وظلت تلك الوثائق تستعمل في التعامل مع المواطنين الجنوبيين لتعني غير اليمنيين إلى عام 1990". ويرى الغريب أن الحراك الجنوبي يعدُّ تجسيدا حقيقيا لإرادة أبناء الجنوب في استعادة هويتهم، فهو قد شكل أول مسمار في نعش تيار اليمننة، ويضيف: "صار تيار اليمننة بعد انطلاقة الحراك الجنوبي السلمي في أضعف أحواله، وتراجعت برامجه السياسية الحزبية في الجنوب، لتستقر إما في سياسات نظام الاحتلال أو في سياسات أحزاب اللقاء المشترك اليمنية - وليس الجنوبية - فلم تكن هنالك مجابهة هامة بين الجنوبيين لشعارات الهوية الجنوبية، لا على الصعيد العملي، ولا حتى على الصعيد النظري أو السياسي. بل إن العديد من الحزبيين الجنوبيين المشهود لهم بوطنيتهم قد استجابوا للأمر الواقع، وانغمسوا فيه، واجتهدوا في تطويره ودفعه إلى الأمام. ويدل ذلك على ضبابية الوعي لدى أغلب المناضلين الجنوبيين، سواء كانوا حزبيين أو غير حزبيين، الذين لم تكن نضالاتهم السابقة متعارضة، بل كانت متقاطعة أحياناً ومترابطة أحياناً أخرى، مع النضالات القومية، إضافة إلى أنهم لم يمارسوا حكم أنفسهم بأنفسهم؛ ولذلك عندما احتل الجنوب عام 1994م من قبل اليمن، وعندما اشتدت وتيرة الحراك الثوري التحرري، كان - من جهة - يساورهم الشعور بأنهم يتنازلون عن حكم الحزب الاشتراكي للجنوب، و - من جهة أخرى - يساورهم شعور آخر بأن هويتهم وكيانهم فعلاً منفصل عن اليمن، وبالرغبة في الاستقلال، هوية لها عمقها التراثي، وامتيازاتها التاريخية، المادية منها والروحية". واختتم المحامي علي هيثم الغريب مقالته البحثية بالتمييز بين ثلاثة عوامل ساعدت على صمود مقاومة أبناء الجنوب التيار اليمننة ومحاولات دفن الهوين الجنوبية، حيث كتب: "رغم محاولات دفن الهوية الجنوبية خلال نصف قرن من الزمن، وهذا الركام فوقها، فإن وعي الجنوبيين بهويتهم الجنوبية لم يمت. وقد ساعد على بقاء هذا الوعي حيًّا ثلاثة مكونات: المكون الأول: التمييز وسوء المعاملة التي لقيها الجنوبيون النازحون إلى اليمن بحكم الصراعات الأيديولوجية في الجنوب، حيث كان الجنوبيون هم أكثر عرضة للتمييز. فقد كانوا، من الناحية القانونية، جنوبيين لهم كل حقوق الأجنبي، لا يحق لهم التوظيف في كل المجالات، وبخاصة في الجيش والأمن. لكن التمييز ضد الجنوبيين في صنعاء لم يدفعهم باتجاه البحث عن مدلولات سياسية يمنية، بل ظلوا متمسكين بتكويناتهم السياسية الجنوبية، وإحساسهم بجنوبيتهم، بل لم يطلبهم أحد من الحركات السياسية المعارضة للنظام في صنعاء، بل حددت لهم أماكن خاصة للعيش. المكوّن الثاني: بقاء وتنامي وعي الجنوبيين بأهمية التمسك بهويتهم عبر انتشار الوعي العام بين الجنوبيين. فالجنوبيون الذين فقدوا أملاكهم في الجنوب جراء السياسات الخاطئة، وفقدوا وظائفهم جراء الصراعات السياسية، لم يبق أمامهم إلا الغربة لكسب العيش. وهناك، ومن خلال العمل وانفتاح آفاقهم، والتقاء الجنوبيين من كافة مناطق الجنوب، بل ومن كثير من البلدان الأجنبية معاً في مؤسسة اقتصادية واحدة، وفي تعاون واحد، تعزز وعيهم بجنوبيتهم، رغم اختلاف البيئات التي يعيشون فيها. المكوّن الثالث: مواجهة الاحتلال اليمني بعد حرب 1994م، حيث إن احتلال اليمن للجنوب أنعش وعي الجنوبيين جميعاً بهويتهم الواحدة. وحتى الذين شاركوا بتسليم الجنوب عام 1990م أو الذين اشتركوا بحرب 1994م والذين قاسوا من حرب الإخوة في الجنوب طوال أعوام ما قبل إعلان مشروع الوحدة، اقتضت الضرورة مراجعة شاملة للماضي، حيث وجد الجنوبيون أنفسهم أمام عدوهم التاريخي وجهاً لوجه، يتعرضون للقتل والتدمير والانتقام الجماعي. وجاء التسامح والتصالح في 13 يناير 2006م في عدن تتويجاً لهذه المراجعة التاريخية، وأن الاحتلال اليمني يفرض عليهم المواجهة الجماعية. ونستطيع القول إن السنوات الأولى للحراك الجنوبي السلمي شهدت الإرهاصات الجدية الأولى لاستعادة الهوية الجنوبية، حيث بقيت فروع الأحزاب اليمنية في الجنوب متمسكة بالهوية اليمنية، وبعدد من الظواهر السياسية والمطالب الخاصة بها. وظلت اليمننة عائقًا أمام وحدة مكونات الحراك الثوري الجنوبي، التي عبرت عن نفسها عبر مؤسسات الاحتلال المختلفة والأحزاب اليمنية، ومع تصاعد الحراك الثوري استمر بعض تلك الفروع الحزبية في الجنوب، وعجز بعضها الآخر عن الاستمرار، وأصبح جزءاً من التاريخ. وإذا كانت الهوية الوطنية لمعظم الشعوب تبلورت على شكل دول؛ مثل ما هي عليه الحال في الدول العربية الحديثة، فإن الهوية الجنوبية تبلورت على شكل تاريخ كهوية عربية، ومقاومة مناضلة للغزاة الأجانب لإثبات الوجود في مواجهة إرادة الاجتثاث والنفي، مما يجعل منها هوية عربية أصيلة ونضالية في جوهرها. ولذلك كان التعبير الأقوى عن الهوية الوطنية الجنوبية منذ الغزوات البرتغالية والقاسمية، وضد الاستعمار البريطاني. وكانت أقوى تعبير عن الهوية؛ إلا أن الأفكار القومية والأممية قاومتها بشكل مطلق، وشككت بتعبيرها عن الهوية الجنوبية. أما بقية القوى السياسية الجنوبية التي كانت قائمة في ستينيات القرن الماضي، وإن أجمعت على ضرورة التمسك بالهوية الجنوبية؛ وتعارضت في الرؤية فيما بينها حول العديد من المسائل، ومنها شكل النظام السياسي واسم الدولة، فإنها لم تختلف على الهوية والكيان الجنوبي مهما اختلفت تسمياته. إن الشخصية الجنوبية أصبحت ضرورة دبلوماسية لمساعدة المجهود النضالي الدبلوماسي في المجالات الدولية، وأي خروج على مفهوم الهوية يعني بعثرة للجهد وتعطيلاً للوحدة الوطنية الجنوبية".

بوتين يريد وقف توسع "الأطلسي" شرقا ورفع العقوبات لإنهاء حرب أوكرانيا
بوتين يريد وقف توسع "الأطلسي" شرقا ورفع العقوبات لإنهاء حرب أوكرانيا

الأمناء

timeمنذ يوم واحد

  • الأمناء

بوتين يريد وقف توسع "الأطلسي" شرقا ورفع العقوبات لإنهاء حرب أوكرانيا

قالت ثلاثة مصادر روسية مطلعة إن شروط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا تتضمن الحصول على تعهد كتابي من قادة الغرب بوقف توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، وإلغاء جانب كبير من العقوبات المفروضة على موسكو. وعلى رغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر مراراً عن رغبته في إنهاء أعنف صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فقد أبدى إحباطاً متزايداً خلال الأيام الماضية حيال أفعال نظيره الروسي، وحذر أول من أمس الثلاثاء من أن الرئيس الروسي "يلعب بالنار" برفضه الانخراط في محادثات لوقف إطلاق النار مع كييف، في وقت تحقق فيه قواته مكاسب في ساحة المعركة. وبعد حديثه مع ترمب لأكثر من ساعتين الأسبوع الماضي، قال بوتين إنه وافق على صياغة مذكرة تفاهم مع أوكرانيا من شأنها أن تحدد معالم اتفاق سلام، بما في ذلك توقيت لوقف لإطلاق النار، وتقول روسيا إنها تعمل على صياغة نسختها من المذكرة، ولا يمكنها تقدير المدة التي سيستغرقها الأمر.وتتهم كييف والحكومات الأوروبية موسكو بالمماطلة، بينما تحقق قواتها تقدماً في شرق أوكرانيا.مستعد للسلام ولكن... وقال مصدر روسي كبير مطلع على طريقة تفكير كبار مسؤولي الكرملين، وطلب عدم الكشف عن هويته، "بوتين مستعد لصنع السلام، ولكن ليس بأي ثمن".وذكرت المصادر الروسية الثلاثة أن بوتين يريد تعهداً "كتابياً" من القوى الغربية الكبرى بعدم توسع حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة شرقاً، بما يعني رسمياً استبعاد قبول عضوية أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية السابقة.وأضافت المصادر أن روسيا تريد أيضاً أن تلتزم أوكرانيا بالحياد، وأن يجري رفع بعض العقوبات الغربية المفروضة عليها، والتوصل إلى حل لقضية الأصول السيادية الروسية المجمدة في الغرب، وتوفير حماية للمتحدثين بالروسية في أوكرانيا.وقال المصدر الأول إنه "إذا أدرك بوتين أنه غير قادر على التوصل إلى اتفاق سلام بشروطه الخاصة، فسيسعى إلى أن يظهر للأوكرانيين والأوروبيين من خلال الانتصارات العسكرية أن السلام غداً سيكون أكثر إيلاماً".وقال بوتين ومسؤولون روس مراراً إن أي اتفاق سلام يجب أن يعالج "الأسباب الجذرية" للصراع، وهو الاختصار الذي تستخدمه روسيا للإشارة إلى قضية توسع حلف شمال الأطلسي والدعم الغربي لأوكرانيا.أوكرانيا وسياسة "الباب المفتوح" وقالت كييف مراراً إنه لا ينبغي منح روسيا الحق في رفض تطلعاتها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وتقول أوكرانيا إنها بحاجة إلى أن يمنحها الغرب ضمانة أمنية قوية ذات صلاحيات لردع أي هجوم روسي في المستقبل.وقال حلف شمال الأطلسي في الماضي إنه لن يغير سياسة "الباب المفتوح" لمجرد أن موسكو تطالب بذلك، وأوردت وكالة "رويترز" في يناير (كانون الثاني) الماضي أن بوتين يشعر بقلق متزايد من التشوهات الاقتصادية في الاقتصاد الروسي في زمن الحرب، في ظل نقص العمالة وارتفاع أسعار الفائدة المفروضة للحد من التضخم، وانخفض سعر النفط، وهو حجر الأساس للاقتصاد الروسي، على نحو مطرد هذا العام.وحذر ترمب، الذي يفتخر بعلاقاته الودية مع بوتين ويعبر عن اعتقاده بأن الزعيم الروسي يريد السلام، من أن واشنطن قد تفرض مزيداً من العقوبات إذا تأخرت موسكو في جهود التوصل إلى تسوية، وألمح ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي يوم الأحد إلى أن بوتين "أصابه الجنون"، بعد أن شن هجوماً جوياً واسع النطاق على أوكرانيا الأسبوع الماضي. بوتين والفرصة السانحة وذكر المصدر الأول أنه إذا رأى بوتين فرصة تكتيكية سانحة في ساحة المعركة فسيتوغل أكثر في أوكرانيا، وأن الكرملين يعتقد أن البلاد قادرة على مواصلة القتال لسنوات، مهما فرض الغرب من عقوبات وضغوط اقتصادية.وقال مصدر ثان إن بوتين صار أقل ميلاً للتنازل عن الأراضي، وإنه متمسك بموقفه العلني بأنه يريد المناطق الأربع بالكامل التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا، وأضاف "بوتين شدد موقفه" إزاء تلك الأراضي.7 ألوية ألمانية في سياق متصل ذكرت ثلاثة مصادر لـ"رويترز" أن حلف الأطلسي سيطلب من ألمانيا توفير سبعة ألوية إضافية، أو ما يعادل نحو 40 ألف جندي لتعزيز دفاعات الحلف، وذلك وفق أهداف جديدة في شأن الأسلحة وأعداد القوات سيتفق عليها وزراء دفاع الدول الأعضاء الأسبوع المقبل.ويزيد الحلف بصورة كبيرة من أهدافه المتعلقة بالقدرات العسكرية، في ظل اعتباره روسيا تهديداً أكبر منذ شنها الحرب الشاملة ضد أوكرانيا في عام 2022.وصرح مسؤول عسكري كبير، طلب عدم كشف هويته، أن العدد المستهدف لإجمالي الألوية التي سيتعين على دول الحلف تقديمها في المستقبل سيرتفع إلى ما بين 120 و130 لواء. وأضاف المصدر أن هذا يعني زيادة بنحو 50 في المئة عن الهدف الحالي البالغ نحو 80 لواء، وقدر مصدر حكومي الهدف عند 130 لواء لجميع دول الحلف.وقال متحدث باسم وزارة الدفاع في برلين إنه لا يستطيع استباق القرارات التي سيتخذها وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي الأسبوع المقبل وزعماء الحلف في القمة المقرر عقدها نهاية يونيو (حزيران) المقبل، وأضاف "علاوة على ذلك، مخططات أهداف حلف شمال الأطلسي المتعلقة بالقوات والقدرات سرية لأسباب أمنية".ووصف حلف شمال الأطلسي أهداف القدرات الجديدة بأنها "طموحة"، لكنه لم يحددها كمياً.وقال مسؤول في الحلف رداً على طلب للتعليق، "تستند إلى القوات والموارد التي نحتاج إليها للردع والدفاع، بناء على خططنا الدفاعية الجديدة". تحد كبير وكانت ألمانيا وافقت في عام 2021 على تقديم 10 ألوية لحلف شمال الأطلسي بحلول عام 2030، ولديها حالياً ثمانية ألوية، وهي بصدد تشكيل لواء تاسع في ليتوانيا ليكون جاهزاً بدءاً من عام 2027.لكن في كل الأحوال سيكون إرسال 40 ألف جندي إضافي تحدياً كبيراً لبرلين، إذ تشير بيانات وزارة الدفاع إلى أن الجيش الألماني لم يحقق بعد هدفه بأن يضم 203 آلاف جندي المحدد عام 2018، ويعاني حالياً نقصاً في عدد القوات النظامية يبلغ نحو 20 ألف جندي.وفي العام الماضي، ذكرت "رويترز" أن حلف شمال الأطلسي سيحتاج ما بين 35 إلى 50 لواء إضافياً لتحقيق خططه الجديدة بالكامل للوقوف في وجه أي هجوم روسي، وأن ألمانيا وحدها ستضطر إلى مضاعفة قدراتها الدفاعية الجوية أربع مرات.لكن مصادر قالت إن أهداف الحلف الجديدة لا تعكس حتى الآن أي تدابير تتعلق بسحب القوات الأميركية من أوروبا، وهو احتمال يثير قلق الأوروبيين، نظراً إلى اعتماد خطط الحلف الدفاعية بصورة كبيرة على الأصول الأميركية."جرائم ضد الإنسانية" في الموازاة ذكر تقرير استقصائي أعده خبراء من الأمم المتحدة ونشر أمس الأربعاء أن الجيش الروسي ارتكب "جرائم ضد الإنسانية" و"جرائم حرب"، في إطار هجمات بطائرات مسيرة عدة لأشهر على مدنيين في منطقة خيرسون الأوكرانية. وتتهم لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعد الهجوم الروسي الواسع ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، القوات الروسية بمهاجمة المدنيين بصورة "منهجية".وتكتسي نتائج التحقيق أهمية خاصة بعد أن نفذت موسكو أخيراً ضربات جوية، بأكبر سرب من المسيرات والصواريخ البالستية منذ بدء هجومها، على مواقع أوكرانية مدنية من بينها العاصمة كييف. ويركز التقرير على منطقة خيرسون (جنوب)، إذ "ارتكبت هذه الأفعال بهدف أساس هو بث الرعب بين السكان المدنيين، في انتهاك للقانون الإنساني الدولي".وكشف التحقيق عن أنه منذ يوليو (تموز) الماضي، قام مشغلو الطائرات المسيرة العسكرية الروسية بضرب المدنيين واستهداف سيارات الإسعاف "بصورة منهجية" على الضفة اليسرى لنهر دنيبر. وأوضح التقرير أن "الصور لا تدع مجالاً للشك حيال نيتهم استهداف المدنيين"، وهو ما يشكل "جريمة حرب". وأضاف أن "تكرار مثل هذه الهجمات منذ أكثر من 10 أشهر، ضد عدد من الأهداف المدنية على مساحة شاسعة، يظهر أنها واسعة النطاق ومنهجية ومدبرة"، وبالتالي تشكل "جرائم ضد الإنسانية".وأشار إلى أن نشر مقاطع الفيديو في ذاته يعد "جريمة حرب وانتهاكاً لكرامة الأشخاص". ورأت اللجنة أن المسؤولين عن هذه الجرائم بإجبارهم آلاف الأشخاص على الفرار ارتكبوا أيضاً "جريمة ضد الإنسانية، تتمثل في دفع السكان إلى النزوح قسراً".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store