
"تجربة تايغا".. لم حاول السوفيات تفجير 250 قنبلة نووية بمكان واحد؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مناقشة أفكار تبدو غريبة اليوم، تتعلق باستخدام القنابل النووية ليس فقط للحرب، بل للبناء أيضا.
وقد سميت هذه المشروعات " بالانفجارات النووية السلمية"، وقد أُجريت حوالي 150 تجربة من هذا النوع بين عامي 1957 و1989 في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
وكانت التطبيقات متنوعة، شملت الحفر واسع النطاق لإنشاء الخزانات والقنوات والموانئ وتحفيز استخلاص النفط والغاز، وإنشاء تجاويف لتخزين النفط أو الغاز أو النفايات تحت الأرض، وإطفاء حرائق حقول الغاز، وإنتاج الطاقة عبر الفلوريدات المنصهرة تحت الأرض لإنتاج البخار للكهرباء، وتكسير خام النحاس والفوسفات تمهيدا للتعدين، وغيرها .
مشروع خاص جدا
ومن أشهر التجارب السوفياتية التي اعتمدت هذه الفكرة مشروع "تايغا"، حيث كان الاتحاد السوفياتي مهووسا بمشاريع البنية التحتية الضخمة التي تُظهر قوته الهندسية، وكان أحد هذه الأحلام بناء قناة تربط نهر بيتشورا في منطقة القطب الشمالي بنهر كاما، الذي يغذي نهر الفولغا، الشريان النهري الرئيسي لروسيا.
وكانت هناك أسباب اقتصادية وإستراتيجية مهمة، حيث سيُسهّل هذا المشروع نقل الموارد الطبيعية، كالأخشاب والفحم، من أقصى الشمال إلى وسط البلاد، وسيُوفّر طريقا مائيا أكثر ملاءمة للملاحة، وهو أمر مفيد خاصة مع تجمّد العديد من أنهار سيبيريا شتاء.
إلى جانب ذلك، كان لهذا المشروع قيمة عسكرية كامنة، إذ وفّر طريق نقل احتياطيا في حال تهديدات الناتو.
إعلان
لكن حفر مثل هذه القناة عبر تضاريس نائية ووعرة كان كابوسا من حيث التكلفة واللوجيستيات. وهنا جاء دور القنابل النووية، حيث قرر العلماء السوفيات في أوائل سبعينيات القرن الماضي، اختبار إمكانية استخدام الشحنات النووية لحفر قناة عن طريق تفجير التربة والصخور، وإذا نجح الاختبار ستستخدم 250 قنبلة نووية لحفر القناة.
الاختبار الأولي
اختير موقع الاختبار في مقاطعة كوستروما، بالقرب من قرية فاسيوكوفو، وهي منطقة هادئة مليئة بالغابات تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن موسكو.
ووُضعت 3 قنابل نووية تحت الأرض في خط مستقيم، بمسافة 165 مترا بين كل منها، بلغت قوة كل منها 15 كيلوطنا، أي ما يعادل تقريبا قوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما، ودُفنت القنابل تحت عمق 127 مترا من الأرض لمنع ظهور سحابة فطر مرئية أو انفجار على مستوى السطح، وسُميت هذه التجربة "تايغا"، في إشارة إلى الغابة الروسية الشاسعة التي نُفذت فيها.
وفي 23 فبراير/شباط 1971، فُجرت القنابل الثلاث في آنٍ واحد، اهتزت الأرض بعنف، وتشكلت حفرة هائلة، وأزاح الانفجار ملايين الأطنان من الأرض، تماما كما كان مُخططا له، وترك وراءه منخفضا يشبه الخندق، يبلغ طوله حوالي 700 متر وعمقه 30 مترا، ظل موجودا إلى الآن تحت اسم "البحيرة النووية"
ومن وجهة نظر فيزيائية، كان الاختبار ناجحا، فقد فعلت القنابل ما كان من المفترض أن تفعله بالضبط وهو إنشاء قناة.
ولكن، على الرغم من ذلك لم تسر الأمور كما هو متوقع، فقد تسربت مواد مشعة من الانفجارات إلى السطح وإلى الهواء، وتلوثت التربة والمياه والنباتات في المنطقة، كما انطلقت غازات مشعة من باطن الأرض عبر الشقوق والصدوع، وإلى جانب ذلك، فقد رصد أثر هذا الإشعاع في الدول المجاورة.
كما أن التفجير مثل خيبة أمل هندسية، فعلى الرغم من أن الانفجار أحدث حفرة كبيرة، فإن جدران الحفرة كانت غير مستقرة، والقاع غير مستوٍ، وجعلت التربة الصقيعية والمياه الجوفية في المنطقة من المستحيل مواصلة العمل فيها دون تعزيزات مكثفة.
وتسبب ما سبق في توقف المشروع، وأصبحت هذه الحفرة بمثابة تحفة فنية من حقبة الحرب الباردة، أشبه بنصب تذكاري لوقت اعتقدت فيه الحكومات أن القنابل النووية يمكن استخدامها كالجرافات.
تجارب حديثة
وفي عام 2009، جمع العلماء عينات من التربة والأشنيات (كائنات تعايشية تتكون من ترافق بين الطحالب الخضراء المجهرية وفطريات خيطية) من 6 مواقع مختلفة في منطقة "تايغا" للتجارب النووية، كان الهدف قياس كمية المواد المشعة التي لا تزال موجودة في البيئة بعد عقود من التجربة.
ووجد الباحثون بقايا الانشطار الناتج عن الانفجار النووي، مثل السيزيوم-137 واليوروبيوم-155، إلى جانب مواد مشعة أخرى مثل الكوبالت-60 والنيوبيوم-94 والبزموت-207.
وكانت نسبة هذه العناصر لا تزال كبيرة، فعلى سبيل المثال احتوى الموقع على ما يصل إلى 700 ضعف من السيزيوم 137 مقارنة بالمستويات الأساسية.
وكانت المفاجأة أنه حتى بعد مرور ما يقارب من 40 عاما من هذا التفجير، لا يزال الموقع يعاني من تلوث إشعاعي كبير، وخاصة في التربة.
إلى جانب ذلك، لاحظ العلماء أن العناصر المشعة انتقلت إلى الأنظمة البيولوجية -مثل الأشنات، التي خزنتها ضمن عملياتها الحيوية- مما يُظهر تعرضا بيئيا.
ولا تزال مستويات الإشعاع في الموقع أعلى بكثير من المعدل الطبيعي، ويجب توخي الحذر عند أي دخول أو استخدام للأراضي في المنطقة.
إعلان
بقايا الحرب الباردة
الأمر لم يقف عند تجارب الاتحاد السوفياتي، كان للولايات المتحدة نسخها الخاصة من هذه التفجيرات، ففي عام 1962، اختبرت الولايات المتحدة مفهوما مشابها في تجربة "سيدان" النووية في نيفادا، والتي أحدثت حفرة هائلة. ومثل تايغا، أنتجت غبارا إشعاعيا، واعتُبرت في النهاية فشلا في البناء.
والآن، توقفت إلى حد كبير التفجيرات النووية السلمية في كل العالم تقريبا، بدأ الأمر في عام 1996، حيث اعتمدت الأمم المتحدة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
وتحظر هذه المعاهدة جميع التفجيرات النووية، بما في ذلك التفجيرات النووية الشاملة، لأي غرض كان، ورغم عدم تصديق جميع القوى النووية عليها بعد، فإنها رسّخت القاعدة العالمية ضد أي تفجيرات نووية.
وتبقى هذه التجارب شاهدا على أن القنبلة النووية كانت دائما خطرا على البشرية، فقدرتها على الهدم والتلويث استثنائية، حتى في الجوانب السلمية.
ويرى العديد من العلماء في هذا النطاق أن تلك بالأساس هي المشكلة الأساسية حينما نتحدث عن احتمالات استخدام السلاح النووي، فهي بالفعل ضعيفة لأن امتلاك الكثير من الدول لهذه القدرة المدمرة يمنعها من استخدامها (خشية أن تستخدم ضدها)، إلا أن مجرد وجود احتمال ضعيف -لكنه مدمر للغاية- يظل خطيرا جدا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
"تجربة تايغا".. لم حاول السوفيات تفجير 250 قنبلة نووية بمكان واحد؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مناقشة أفكار تبدو غريبة اليوم، تتعلق باستخدام القنابل النووية ليس فقط للحرب، بل للبناء أيضا. وقد سميت هذه المشروعات " بالانفجارات النووية السلمية"، وقد أُجريت حوالي 150 تجربة من هذا النوع بين عامي 1957 و1989 في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وكانت التطبيقات متنوعة، شملت الحفر واسع النطاق لإنشاء الخزانات والقنوات والموانئ وتحفيز استخلاص النفط والغاز، وإنشاء تجاويف لتخزين النفط أو الغاز أو النفايات تحت الأرض، وإطفاء حرائق حقول الغاز، وإنتاج الطاقة عبر الفلوريدات المنصهرة تحت الأرض لإنتاج البخار للكهرباء، وتكسير خام النحاس والفوسفات تمهيدا للتعدين، وغيرها . مشروع خاص جدا ومن أشهر التجارب السوفياتية التي اعتمدت هذه الفكرة مشروع "تايغا"، حيث كان الاتحاد السوفياتي مهووسا بمشاريع البنية التحتية الضخمة التي تُظهر قوته الهندسية، وكان أحد هذه الأحلام بناء قناة تربط نهر بيتشورا في منطقة القطب الشمالي بنهر كاما، الذي يغذي نهر الفولغا، الشريان النهري الرئيسي لروسيا. وكانت هناك أسباب اقتصادية وإستراتيجية مهمة، حيث سيُسهّل هذا المشروع نقل الموارد الطبيعية، كالأخشاب والفحم، من أقصى الشمال إلى وسط البلاد، وسيُوفّر طريقا مائيا أكثر ملاءمة للملاحة، وهو أمر مفيد خاصة مع تجمّد العديد من أنهار سيبيريا شتاء. إلى جانب ذلك، كان لهذا المشروع قيمة عسكرية كامنة، إذ وفّر طريق نقل احتياطيا في حال تهديدات الناتو. إعلان لكن حفر مثل هذه القناة عبر تضاريس نائية ووعرة كان كابوسا من حيث التكلفة واللوجيستيات. وهنا جاء دور القنابل النووية، حيث قرر العلماء السوفيات في أوائل سبعينيات القرن الماضي، اختبار إمكانية استخدام الشحنات النووية لحفر قناة عن طريق تفجير التربة والصخور، وإذا نجح الاختبار ستستخدم 250 قنبلة نووية لحفر القناة. الاختبار الأولي اختير موقع الاختبار في مقاطعة كوستروما، بالقرب من قرية فاسيوكوفو، وهي منطقة هادئة مليئة بالغابات تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن موسكو. ووُضعت 3 قنابل نووية تحت الأرض في خط مستقيم، بمسافة 165 مترا بين كل منها، بلغت قوة كل منها 15 كيلوطنا، أي ما يعادل تقريبا قوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما، ودُفنت القنابل تحت عمق 127 مترا من الأرض لمنع ظهور سحابة فطر مرئية أو انفجار على مستوى السطح، وسُميت هذه التجربة "تايغا"، في إشارة إلى الغابة الروسية الشاسعة التي نُفذت فيها. وفي 23 فبراير/شباط 1971، فُجرت القنابل الثلاث في آنٍ واحد، اهتزت الأرض بعنف، وتشكلت حفرة هائلة، وأزاح الانفجار ملايين الأطنان من الأرض، تماما كما كان مُخططا له، وترك وراءه منخفضا يشبه الخندق، يبلغ طوله حوالي 700 متر وعمقه 30 مترا، ظل موجودا إلى الآن تحت اسم "البحيرة النووية" ومن وجهة نظر فيزيائية، كان الاختبار ناجحا، فقد فعلت القنابل ما كان من المفترض أن تفعله بالضبط وهو إنشاء قناة. ولكن، على الرغم من ذلك لم تسر الأمور كما هو متوقع، فقد تسربت مواد مشعة من الانفجارات إلى السطح وإلى الهواء، وتلوثت التربة والمياه والنباتات في المنطقة، كما انطلقت غازات مشعة من باطن الأرض عبر الشقوق والصدوع، وإلى جانب ذلك، فقد رصد أثر هذا الإشعاع في الدول المجاورة. كما أن التفجير مثل خيبة أمل هندسية، فعلى الرغم من أن الانفجار أحدث حفرة كبيرة، فإن جدران الحفرة كانت غير مستقرة، والقاع غير مستوٍ، وجعلت التربة الصقيعية والمياه الجوفية في المنطقة من المستحيل مواصلة العمل فيها دون تعزيزات مكثفة. وتسبب ما سبق في توقف المشروع، وأصبحت هذه الحفرة بمثابة تحفة فنية من حقبة الحرب الباردة، أشبه بنصب تذكاري لوقت اعتقدت فيه الحكومات أن القنابل النووية يمكن استخدامها كالجرافات. تجارب حديثة وفي عام 2009، جمع العلماء عينات من التربة والأشنيات (كائنات تعايشية تتكون من ترافق بين الطحالب الخضراء المجهرية وفطريات خيطية) من 6 مواقع مختلفة في منطقة "تايغا" للتجارب النووية، كان الهدف قياس كمية المواد المشعة التي لا تزال موجودة في البيئة بعد عقود من التجربة. ووجد الباحثون بقايا الانشطار الناتج عن الانفجار النووي، مثل السيزيوم-137 واليوروبيوم-155، إلى جانب مواد مشعة أخرى مثل الكوبالت-60 والنيوبيوم-94 والبزموت-207. وكانت نسبة هذه العناصر لا تزال كبيرة، فعلى سبيل المثال احتوى الموقع على ما يصل إلى 700 ضعف من السيزيوم 137 مقارنة بالمستويات الأساسية. وكانت المفاجأة أنه حتى بعد مرور ما يقارب من 40 عاما من هذا التفجير، لا يزال الموقع يعاني من تلوث إشعاعي كبير، وخاصة في التربة. إلى جانب ذلك، لاحظ العلماء أن العناصر المشعة انتقلت إلى الأنظمة البيولوجية -مثل الأشنات، التي خزنتها ضمن عملياتها الحيوية- مما يُظهر تعرضا بيئيا. ولا تزال مستويات الإشعاع في الموقع أعلى بكثير من المعدل الطبيعي، ويجب توخي الحذر عند أي دخول أو استخدام للأراضي في المنطقة. إعلان بقايا الحرب الباردة الأمر لم يقف عند تجارب الاتحاد السوفياتي، كان للولايات المتحدة نسخها الخاصة من هذه التفجيرات، ففي عام 1962، اختبرت الولايات المتحدة مفهوما مشابها في تجربة "سيدان" النووية في نيفادا، والتي أحدثت حفرة هائلة. ومثل تايغا، أنتجت غبارا إشعاعيا، واعتُبرت في النهاية فشلا في البناء. والآن، توقفت إلى حد كبير التفجيرات النووية السلمية في كل العالم تقريبا، بدأ الأمر في عام 1996، حيث اعتمدت الأمم المتحدة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. وتحظر هذه المعاهدة جميع التفجيرات النووية، بما في ذلك التفجيرات النووية الشاملة، لأي غرض كان، ورغم عدم تصديق جميع القوى النووية عليها بعد، فإنها رسّخت القاعدة العالمية ضد أي تفجيرات نووية. وتبقى هذه التجارب شاهدا على أن القنبلة النووية كانت دائما خطرا على البشرية، فقدرتها على الهدم والتلويث استثنائية، حتى في الجوانب السلمية. ويرى العديد من العلماء في هذا النطاق أن تلك بالأساس هي المشكلة الأساسية حينما نتحدث عن احتمالات استخدام السلاح النووي، فهي بالفعل ضعيفة لأن امتلاك الكثير من الدول لهذه القدرة المدمرة يمنعها من استخدامها (خشية أن تستخدم ضدها)، إلا أن مجرد وجود احتمال ضعيف -لكنه مدمر للغاية- يظل خطيرا جدا.


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
ارتفاع قياسي لتسرب الميثان من الوقود الأحفوري
رغم الجهود العالمية المتزايدة للحد من الانبعاثات، فإن تلوث غاز الميثان الناجم عن صناعة الوقود الأحفوري بقي قريبا من المستويات القياسية المرتفعة في عام 2024. وقد تزامنت هذه الزيادة مع مستويات هائلة في إنتاج النفط والغاز والفحم، وفقا لتحليل جديد. ويُشير التحليل الذي أصدرته وكالة الطاقة الدولية، إلى أن معالجة غاز الميثان لا تزال تمثِل إحدى أبسط وأسرع الطرق لتبريد الكوكب، ومع ذلك فإن التقدم بطيء. وحذر التقرير من أن العديد من البلدان لا تبلغ عن المعلومات الحقيقية عن تسربات غاز الميثان، وخاصة من البنية التحتية للطاقة مثل خطوط الأنابيب ومعدات الحفر والمواقع المهجورة. ويعدّ الميثان، المكون الرئيسي للغاز الطبيعي، مساهما رئيسيا في ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو أقوى بكثير من ثاني أكسيد الكربون في منع الحرارة من التسرب إلى الغلاف الجوي للأرض. ويأتي الميثان في المرتبة الثانية بعد ثاني أكسيد الكربون من حيث مساهمته في تغير المناخ. ولكن على عكس ثاني أكسيد الكربون، لا يبقى في الغلاف الجوي لقرون، بل يتحلل في غضون عقد تقريبا، مما يعني أن خفض انبعاثاته قد يحدث تحسنا سريعا في المناخ. ومع ذلك، لا تزال الحكومات تعجز عن الوفاء بوعودها. وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن انبعاثات الميثان الفعلية من قطاع الطاقة أعلى بنحو 80% مما تُبلغ عنه الدول للأمم المتحدة، وهو ما اعتبرته فجوة هائلة. ويشير تقرير الوكالة إلى أن قطاع الطاقة وحده مسؤول عن نحو ثلث إجمالي انبعاثات غاز الميثان الناتجة عن الأنشطة البشرية، كما أن جزءا كبيرا من تلك الانبعاثات ناجم عن تسرّبات غالبا ما تمر دون أن تلاحظ أو يبلّغ عنها. وقد تحدث أثناء الصيانة أو نتيجة لخلل في البنية التحتية وفي كثير من الحالات، يكون إيقافها بسيطا للغاية وبتكلفة معقولة. وتشير أحدث البيانات إلى أن تنفيذ برنامج الحد من انبعاثات غاز الميثان لا يزال أقل من الطموحات، وهو ما أكده المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول. ففي عام 2024، أطلق قطاع الوقود الأحفوري أكثر من 120 مليون طن من غاز الميثان، وهو ما يقرب من الكمية القياسية المسجلة في عام 2019. وتصدّرت الصين القائمة، ويعود ذلك أساسا إلى صناعة الفحم، وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية مدفوعة بتكثيف إنتاجها من النفط والغاز، تليها روسيا ثم تركمانستان. تعهدات كبيرة وتقدم ضئيل وحسب التقرير لا يتسرب غاز الميثان فقط من الحقول العاملة حاليا، بل أيضا آبار النفط القديمة المهجورة ومناجم الفحم التي تعد أيضا من الأسباب الرئيسية للانبعاثات. ويقول التقرير إن تم اعتبار هذه المصادر المنسية دولة، فإنها ستحتل المرتبة الرابعة من حيث أكبر مصدر لانبعاثات غاز الميثان، حيث كانت مسؤولة عن إطلاق 8 ملايين طن من غاز الميثان في العام الماضي وحده. وتتولى وكالة الطاقة الدولية رسم صورة أوضح لتلوث الميثان عبر تقنية الأقمار الصناعية، حيث يقوم أكثر من 25 قمرا صناعيا بمسح الكرة الأرضية بحثا عن أعمدة الميثان. ويمكنها اكتشاف التسربات فور حدوثها، حتى في المناطق النائية. ويأتي نحو 40% من الميثان من مصادر طبيعية كالأراضي الرطبة. أما الباقي، وخاصة من الزراعة والطاقة، فيمكن السيطرة عليه، ويتفق العلماء على أن الميثان الناتج عن الوقود الأحفوري هو الأسهل معالجةً. وتعهدت أكثر من 150 دولة بخفض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% بحلول عام 2030. وحددت العديد من شركات النفط والغاز أهدافا لعام 2050، ولكن حتى الآن كان التقدم الفعلي مخيبا للآمال. وتقول وكالة الطاقة الدولية إن خفض انبعاثات الميثان من الوقود الأحفوري قد يمنع نحو 0.1 درجة مئوية من ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي بحلول عام 2050. وذكر التقرير أن "هذا من شأنه أن يكون له تأثير هائل، مماثل للقضاء على جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الصناعة الثقيلة في العالم بضربة واحدة". ويمكن عمليا للتقنيات الحالية خفض 70% من انبعاثات غاز الميثان في قطاع الطاقة، ولكن عمليا يفي 5% فقط من إنتاج النفط والغاز العالمي الحالي بمعايير انبعاثات غاز الميثان القريبة من الصفر. ويشير مركز أبحاث الطاقة "إمبر" إلى أنه من أجل تحقيق أهداف صافي الانبعاثات الصفري، يجب خفض انبعاثات الميثان الناتجة عن الوقود الأحفوري بنسبة 75% بحلول عام 2030. وفي ظل مساع دولية للحد من أضرار المناخ، يُعدّ خفض انبعاثات الميثان أمرا بديهيا، ولكن ما لم تأخذ الحكومات والصناعة المرتبطة بالوقود الأحفوري هذا الأمر على محمل الجد وفي أقرب وقت، فإن فرصة تجنب أسوأ آثار الاحتباس الحراري ستظل تضيق، حسب التقرير.


الجزيرة
١١-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
مسبار فضائي سوفياتي يسقط على الأرض.. ما أخطار "نفايات الفضاء"؟
مرت حادثة سقوط المسبار السوفياتي "كوسموس 482" على الأرض بسلام وأمان، كما كان متوقعا، لكنها كانت مناسبة للتحذير من خطر متزايد اسمه "النفايات الفضائية". أطلق الاتحاد السوفياتي عام 1972 مسباره الذي صمم للهبوط على كوكب الزهرة في إطار السباق الفضائي مع أميركا إبان حقبة الحرب الباردة، لكن عطلا في الصاروخ الذي حمله أدى إلى فشل المهمة، مما تركه عالقا في مدار بيضاوي حول الأرض لأكثر من نصف قرن. وخلال الـ10 أيام الماضية، كان هناك اهتمام عالمي بعودته للأرض، وذلك بعد أن كشفت محطات تتبع الحطام الفضائي حول العالم اقترابه من اخترق الغلاف الجوي للأرض، وسقط السبت العاشر من مايو/أيار الجاري فوق المحيط الهندي غرب جاكرتا بإندونيسيا، دون أن يتسبب في أي أضرار تذكر، كما كان متوقعا، وفقا لوكالة الفضاء الروسية روسكوزموس. ورغم أن كل التوقعات كانت تشير إلى سيناريو السقوط الآمن لهذا المسبار، فإن الاهتمام بهذا الحدث يعكس قلقا مستمرا بشأن الأخطار التي قد يشكلها هذا النوع من الحطام الفضائي على البشر. حطام متنوع الأحجام والمركبات الفضائية القديمة أحد أنواع الحطام الفضائي، الذي يضم أيضا أي جسم صناعي تم إطلاقه إلى الفضاء ولم يعد قيد الاستخدام، مثل قطع ناتجة عن عمليات انفصال الصواريخ عن الأقمار الاصطناعية أو التصادم بين الأقمار الاصطناعية. وتقدر وكالة الفضاء الأوروبية أن هناك 54 ألف جسم فضائي يزيد حجمه على 10 سنتيمترات، و 1.2 مليون يتراوح حجمه بين 1 سم و10 سم، و140 مليون جسم يتراوح حجمه بين 1 مم و1 سم. ويقول الدكتور أحمد مجدي، أستاذ مساعد علوم وتكنولوجيا الفضاء بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، وعضو فريق مشروع إنشاء المحطة المصرية لرصد الحطام الفضائي والأقمار الاصطناعية في تصريحات خاصة للجزيرة نت: "لم يتحول المسبار السوفياتي إلى هذا الحجم الصغير، الذي يزيد من فرص السقوط في أكثر من مكان حول العالم، وذلك بسبب مواصفات خاصة في تصنيعه، لكنها مناسبة جيدة للتحذير من خطورة الحطام الأصغر". وعلى عكس حطام الصواريخ الذي يتفتت وينتشر على مناطق واسعة، فإن "كوزموس 482" مصنوع من التيتانيوم ومصمم لتحمل حرارة الدخول للغلاف الجوي لكوكب الزهرة، لذلك كان سقوطه كجسم واحد متوقعا، مما يقلل من خطر تناثر الحطام على مناطق مأهولة. وقبل السقوط، كشفت مؤسسة "إيروسبيس كو أوبريشن" الأميركية -المعنية بتعزيز التعاون في مجالات الفضاء والطيران بين الحكومات والشركات وجهات البحث العلمي- عن أن احتمال إصابة أي فرد على الأرض بسبب هذا المسبار تكاد تكون معدومة، وتقدر بمعدل 0.4 في كل 10 آلاف، وهي نسبة تُعد آمنة عالميا، إذ تبقى احتمالية أن يُصاب شخص بصاعقة أكبر بكثير من أن يتعرض لإصابة بسبب سقوط "كوزموس 482". لماذا كان "كوسموس 482" مختلفا؟ ومع ارتفاع معدل الخطر في مناسبات أخرى لاختراق الحطام الفضائي للغلاف الجوي للأرض، وذلك بسبب احتمالات تفتته لقطع صغيرة، فإن الواقع يشير إلى أنه حتى مع تلك المعدلات، فإن حوادث تضرر البشر من سقوط هذا الحطام الفضائي محدودة للغاية. وتاريخيا، لا توجد سوى حادثة واحدة أصابت فيها قطعة من الحطام الفضائي شخصا بشكل مباشر، وكان ذلك عام 1997 في أوكلاهوما بالولايات المتحدة، وعرفت باسم "حادثة لوتي وليامز"، وكانت القطعة صغيرة وخفيفة، بحجم اليد تقريبا، وتبين أنها جزء من خزان صاروخ "دلتا 2″، وهو نظام صواريخ أميركي متوسط الحمولة، استخدمته وكالة ناسا وسلاح الجو الأميركي لإطلاق الأقمار الصناعية والمهمات الفضائية بين عامي 1989 و2018، ولم تُصب لوتي بأي أذى يُذكر، واقتصر الأمر على صدمة خفيفة. أما الحادثتين الأخريين، فكانتا عام 2022 حين سقطت أجزاء كبيرة نسبيا من صاروخ "فالكون 9″، التابع لشركة "سبيس إكس الأميركية، مثل ألواح حرارية وهياكل معدنية، في منطقة نائية في أستراليا، ولم يصب أحد، لكن كان هناك قلق من حجم وسرعة القطع. وفي عام 2020، سقط جزء من صاروخ صيني "لونج مارش فايف بي" غرب أفريقيا، وأصابت بعض الشظايا المعدنية الضخمة قرى بساحل العاج، ورغم الأضرار المادية (تدمير بعض المنازل)، فلم تُسجل إصابات بشرية. والتفسير العلمي لندرة حوادث الارتطام، رغم تقرير وكالة الفضاء الأوروبية الذي يشير لكثرة الحطام الفضائي، هو أن "معظم سطح الأرض غير مأهول، إذ إن نحو 71% مغطى بالمحيطات، وحتى على اليابسة، توجد مساحات شاسعة غير مأهولة بالسكان (كالصحارى، والغابات، والجبال)"، كما يوضح مجدي. ويضيف: "لكن هناك مخاوف من أنه مع تزايد الأنشطة الفضائية قد يتجاوز عدد الحطام الإحصائية التي أشارت لها الوكالة الأوروبية، وهو ما يزيد من احتمالات وصوله للمناطق المأهولة". ويرتبط بهذا الخطر تحد آخر، وهو أنه عندما تعود الأجسام الفضائية (مثل الصواريخ أو أجزاء الأقمار الصناعية) إلى الأرض بطريقة غير مُتحكم بها، فإنها قد تمر عبر الأجواء التي تستخدمها الطائرات المدنية، مما يشكل خطرا -وإن كان ضئيلا- بوقوع اصطدام. وتشير دراسة لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" -نشرتها دورية "ساينتفيك ريبورتيز" في يناير /كانون الثاني الماضي- إلى أنه في المناطق ذات الكثافة الجوية العالية جدا (مثل المطارات الكبرى) هناك احتمال بنسبة 0.8% سنويا أن تتأثر هذه الأجواء بسقوط جسم فضائي غير مُتحكم به. ويرتفع هذا الاحتمال إلى 26% سنويا في المناطق الجوية الأوسع ولكن لا تزال مزدحمة، مثل شمال شرق الولايات المتحدة، وشمال أوروبا، والمدن الكبرى في منطقة آسيا والمحيط الهادي. والمعضلة التي تواجه السلطات هي أنه إذا أغلقت السلطات المجال الجوي مؤقتا خلال عملية دخول جسم فضائي غير متحكم به، فإنها تقلل خطر الاصطدام، لكن في المقابل، تؤدي هذه الإغلاقات إلى تأخيرات مكلفة اقتصاديا في حركة الطيران، لذلك، تقف السلطات أمام معضلة: هل تحمي السلامة وتغلق المجال الجوي؟ أم تتجنب الخسائر الاقتصادية وتتركه مفتوحا؟ والحل المثالي هو التأكد من أن كل عمليات العودة إلى الأرض تتم بشكل مُتحكم فيه، وتوجيهها إلى المحيط، لكن الدراسة تعترف بأنه حل غير واقعي بسبب وجود أكثر من 2300 جسم صاروخي حاليا في المدار ستعود جميعها بشكل غير مُتحكم فيه يوما ما. والنتيجة أنه ستستمر هذه المخاطر لعقود قادمة، وستظل سلطات الطيران المدني تواجه قرارات صعبة في كل مرة يحدث فيها سقوط غير مُتحكم به لجسم فضائي. تأثيرات خارج حدود الأرض وبالإضافة لهذه الأخطار، هناك خطران آخران للحطام الفضائي، يتجاوزان نسبة حدوث أخطار إصابة البشر على الأرض والطائرات المدنية في المجال الجوي، إذ يتعلقان بالتأثير السلبي المحتمل للحطام على رواد الفضاء والأقمار الاصطناعية. ويقول مجدي إن "أحد الأخطار الرئيسية المرتبطة بالحطام الفضائي هو التصادمات التي قد تحدث مع الأقمار الاصطناعية العاملة، وهذه التصادمات لا تسبب فقط أضرارا مباشرة للأجهزة الفضائية، بل تؤدي إلى توليد مزيد من الحطام". ووفقا للوكالة الأوروبية للفضاء ، تم تسجيل أكثر من 650 حادثة تفكك أو تصادم أو انفجار أو حادثة شاذة أخرى في المدار منذ بداية عصر الفضاء في عام 1957، ومن بين هذه الحوادث، وقعت 7 تصادمات مؤكدة بين أقمار صناعية أو أجسام فضائية أخرى، مما أدى إلى توليد كميات كبيرة من الحطام الفضائي. وأحد أبرز هذه التصادمات وقع في فبراير/شباط 2009، عندما اصطدم القمر الصناعي الأميركي العامل "إيريديوم 33" بالقمر الصناعي الروسي غير النشط "كوزموس 2251" على ارتفاع 789 كيلومترا فوق سيبيريا، و أسفر هذا التصادم عن تدمير كلا القمرين الصناعيين وتوليد أكثر من 1800 قطعة من الحطام القابل للتتبع. بالإضافة إلى ذلك، تشير التقديرات إلى أن هناك نحو 12 تصادما صغيرا يحدث سنويا في المدار، مما يعكس التحديات المتزايدة في إدارة حركة المرور الفضائية. والتأثيرات خارج حدود الأرض تشمل أيضا المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها رواد الفضاء، ويشير تقرير لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" عام 2022 إلى أن هناك خطرا متزايدا على رواد الفضاء بسبب الحطام الفضائي. ووفقا للتقرير، فإن أكثر من 100 مليون قطعة بحجم حبة الملح، يمكن أن تثقب بدلة الفضاء، وأكثر من 500 ألف قطعة بحجم كرة زجاجية، كبيرة بما يكفي للتسبب في أضرار للمركبات الفضائية، وخاصة خلال عمليات السير في الفضاء. إدارة الحطام الفضائي وللتعامل مع خطر الحطام الفضائي، فإن البداية تبدأ من تحسين الرقابة والإنذار المبكر، عبر التوسع في إنشاء محطات رقابة الحطام الفضائي، ومنها أكبر محطة في الشرق الأوسط، ستبدأ عملها في مصر قريبا، بتعاون مصري صيني. ويقول مجدي، وهو عضو في مشروع إنشاء هذه المحطة، إن "هذه المحطات تمثل جزءا من أنظمة الإنذار المبكر التي تتيح تحديد موقع الحطام وتحذير المشغلين حول أي تهديدات محتملة". ويضيف أنه "بعد رصد التهديدات عبر محطات تتبع الحطام، ستسعى وكالات الفضاء للتعامل معها، باستخدام تقنيات يجري تطويرها بهدف إزالة هذه القطع من المدار، فعلى سبيل المثال، تطور ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، روبوتات فضائية تستخدم تقنيات مثل الشبكة أو الرمح، لالتقاط القطع الفضائية، ثم سحبها إلى المدارات المنخفضة حيث يمكن أن تدخل الغلاف الجوي وتتفكك". وإلى أن تثبت تقنيات إدارة الحطام الفضائي فعاليتها، فإن سقوط "كوسموس 482″، رغم أنه مر بسلام، فقد قرع جرس إنذار لمجتمع الفضاء الدولي، مفاده أنه: "إذا كان خطر إصابة البشر على الأرض بالحطام الفضائي منخفضا جدا في الوقت الراهن، فإن الاستمرار في تجاهل هذه المسألة قد يؤدي إلى سيناريوهات أكثر خطورة في المستقبل، سواء على الأرض أو في الفضاء نفسه".