
غمار بابل
كان الشاعر جوزف صايغ يسمّي لبنان "الوطن المستحيل". والتسمية أبعد ما تكون عن الشعر، وأقرب ما تكون إلى الحقيقة، أو إلى المصيبة.
لبنان داء لا شفاء منه. مخدّر. شيء مثل الأفيون، أو الحشيشة. يشعل الحواس ويطفئ الوعي. بلد، له علم يرفرف بالبعض إلى السماء، ويمنعه البعض الآخر من الوقوف "للنشيد الوطني". قصة بلا نهاية. كليلة ودمنة، على ألف ليلة وليلة، على أمثولات جورج أورويل، على رباعيات الخيام، على حنكة المسيو "دو لافونتين".
وأنصحك أيضا بالإسكندر الكبير. وقبل أن تسأل لماذا هذا المقدوني الذي حمل العالم على قرنيه، ثم مات في الثانية والثلاثين، بعد حفلة أكل وشرب مع صديقه ميديو؟ دعني أجيب بأن ثمة سراً غريباً في عباقرة هذا الكون. دائماً يموتون في حوالى هذا العمر. المسيح يسوع كان في الثالثة والثلاثين. جبران خليل جبران أكبر قليلاً.
بعد العشاء الرهيب مع صديقه ميديوس، ظل أقوى رجل في العالم طوال أسبوعين، يبحث في جسده الفتي عن قوة تمكّنه من البقاء، كي يتمتع برؤية العالم في راحة يده. عبثاً. ولمّا أيقن جنرالاته أن النهاية تتخابث حول وسادته، وسألوه لمن يوصي بالخلافة؟ أجاب واهناً، "للأقوى". ربما من تلك الوصية اتخذ جان دو لافونتين أشهر لطائفه في حكاية "الذئب والحمل". منطق القوة.
لكن هل للقوة منطق؟ لا. لأنه يعقلها ويعوق هوسها. وهكذا في غياب المنطق، أو استحالته، يبقى الوطن مستحيلاً والدولة عصية.
لكن لا بد من الاستمرار في البحث، ولو على دروب اليأس والقنوط. وقد تجلى مدى وحشتها في استسلام كاتبنا سركيس نعوم لدعوة الفيدرالية الشائعة هذه الأيام، بديلاً من الاقتتال والسموم و"زوم" الحقد الذي يتجرعه اللبنانيون كل صباح مع عناوين الصحف، وكل مساء مع عناوين النشرة الإخبارية. وفي الحالتين تطل لغة بابل. اللغة التي لا يفهمها الناطقون، أو السامعون. وكلما أسيء فهمها، علا صراخها. والصراخ صمم.
خلال السقوط الطويل في الوطن والدولة، كان انهيار المجتمع الذي على غراره كنا نقيّم الإثنين، أو نحاول. غابت لغة التحيات وقيم الجوار، وتقاليد الألفة بكل وجوهها. وفي مثل هذه الفوضى التامة تضيع مقاييس الاستمرار ضمن كيان موحد تحكمه الرغائب المشتركة، وروح التبادل والتساوي، في الربح والخسارة.
الجميع ينادي الآن على الدولة. لكن كيف العثور عليها في بابل؟ ويزيد في الكارثة أننا مجرد فاصلة تضرب العالم أجمع. عندما نفيق كل يوم، أول ما نريد معرفته ما هي مفاجأة ترامب اليوم؟ هل كان يخيل اليك أن الرجل يبحث (بكل جديّة) عن وطن لأهل غزة في إفريقيا الشرقية؟ أين؟ في الصومال، في أوغندا، في كينيا، أين إذاً؟
فلننتظر صباح غد. أنا قررت بعد اليوم أن آخذ الرجل على محمل الجّد. عندما كنا يافعين كان يقال إن العالم يبحث لليهود عن دولة في أوغندا. أو البرازيل. أو في ارض إفريقية أخرى. الآن يبحثون عن مثل هذا الوطن للفلسطينيين. وإنه لعالم (برمّته) مستحيل، وليس فقط هذا الوطن الواقع، في غمار بابل!

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
٢٠-٠٣-٢٠٢٥
- النهار
غمار بابل
كان الشاعر جوزف صايغ يسمّي لبنان "الوطن المستحيل". والتسمية أبعد ما تكون عن الشعر، وأقرب ما تكون إلى الحقيقة، أو إلى المصيبة. لبنان داء لا شفاء منه. مخدّر. شيء مثل الأفيون، أو الحشيشة. يشعل الحواس ويطفئ الوعي. بلد، له علم يرفرف بالبعض إلى السماء، ويمنعه البعض الآخر من الوقوف "للنشيد الوطني". قصة بلا نهاية. كليلة ودمنة، على ألف ليلة وليلة، على أمثولات جورج أورويل، على رباعيات الخيام، على حنكة المسيو "دو لافونتين". وأنصحك أيضا بالإسكندر الكبير. وقبل أن تسأل لماذا هذا المقدوني الذي حمل العالم على قرنيه، ثم مات في الثانية والثلاثين، بعد حفلة أكل وشرب مع صديقه ميديو؟ دعني أجيب بأن ثمة سراً غريباً في عباقرة هذا الكون. دائماً يموتون في حوالى هذا العمر. المسيح يسوع كان في الثالثة والثلاثين. جبران خليل جبران أكبر قليلاً. بعد العشاء الرهيب مع صديقه ميديوس، ظل أقوى رجل في العالم طوال أسبوعين، يبحث في جسده الفتي عن قوة تمكّنه من البقاء، كي يتمتع برؤية العالم في راحة يده. عبثاً. ولمّا أيقن جنرالاته أن النهاية تتخابث حول وسادته، وسألوه لمن يوصي بالخلافة؟ أجاب واهناً، "للأقوى". ربما من تلك الوصية اتخذ جان دو لافونتين أشهر لطائفه في حكاية "الذئب والحمل". منطق القوة. لكن هل للقوة منطق؟ لا. لأنه يعقلها ويعوق هوسها. وهكذا في غياب المنطق، أو استحالته، يبقى الوطن مستحيلاً والدولة عصية. لكن لا بد من الاستمرار في البحث، ولو على دروب اليأس والقنوط. وقد تجلى مدى وحشتها في استسلام كاتبنا سركيس نعوم لدعوة الفيدرالية الشائعة هذه الأيام، بديلاً من الاقتتال والسموم و"زوم" الحقد الذي يتجرعه اللبنانيون كل صباح مع عناوين الصحف، وكل مساء مع عناوين النشرة الإخبارية. وفي الحالتين تطل لغة بابل. اللغة التي لا يفهمها الناطقون، أو السامعون. وكلما أسيء فهمها، علا صراخها. والصراخ صمم. خلال السقوط الطويل في الوطن والدولة، كان انهيار المجتمع الذي على غراره كنا نقيّم الإثنين، أو نحاول. غابت لغة التحيات وقيم الجوار، وتقاليد الألفة بكل وجوهها. وفي مثل هذه الفوضى التامة تضيع مقاييس الاستمرار ضمن كيان موحد تحكمه الرغائب المشتركة، وروح التبادل والتساوي، في الربح والخسارة. الجميع ينادي الآن على الدولة. لكن كيف العثور عليها في بابل؟ ويزيد في الكارثة أننا مجرد فاصلة تضرب العالم أجمع. عندما نفيق كل يوم، أول ما نريد معرفته ما هي مفاجأة ترامب اليوم؟ هل كان يخيل اليك أن الرجل يبحث (بكل جديّة) عن وطن لأهل غزة في إفريقيا الشرقية؟ أين؟ في الصومال، في أوغندا، في كينيا، أين إذاً؟ فلننتظر صباح غد. أنا قررت بعد اليوم أن آخذ الرجل على محمل الجّد. عندما كنا يافعين كان يقال إن العالم يبحث لليهود عن دولة في أوغندا. أو البرازيل. أو في ارض إفريقية أخرى. الآن يبحثون عن مثل هذا الوطن للفلسطينيين. وإنه لعالم (برمّته) مستحيل، وليس فقط هذا الوطن الواقع، في غمار بابل!


MTV
١٤-٠٢-٢٠٢٥
- MTV
شطب "الشطب"
الكلمات أو المفردات تشكل الإطار الذي يختزن الأفكار والمفاهيم، والتحكّم بها يسمح بالتحكّم بمدى اتساع أو ضيق الأفكار التي تتداولها العامة والنُخَب على السواء. ولأن الفكر لا يأتي من العدم بل ينطلق من معطيات ومفاهيم قائمة، فإن المفاهيم تعتبر المادة الأولية للتفكير، وبالمعنى نفسه تعتبر الكلمات والمفردات أيضًا المادة الأولية الأولى للتفكير. وبالتالي يعتبر التحكّم بها وتحديدها المسبق وسيلة شديدة الفعالية للتحكم بالحدود التي سوف تراوح بينها الأفكار والآراء المتعلقة بأي شأن من الشؤون، وبالتالي وسيلة فاعلة لحكم الشعوب والتحكم بخياراتها في إطارٍ من الحرية الظاهريّة. ولمن لا يعلم أهمية أو خطورة القواميس في صناعة السياسات والسيطرة على العقول والشعوب، عليه ربما قراءة رواية جورج أورويل '1984'. أهم ما بدأ يحصل في هذه المرحلة الانتقالية هو التغيير على صعيد المفردات والتعابير التي حكمت المرحلة السابقة. في السنوات الخمس الماضية سادت تعابير ومفردات تتعلق بالأزمة المالية أو الانهيار المالي الكبير، تمّ ضخّها بشكل منهجيّ ومركّز عبر جميع وسائل التأثير بما فيها الإعلام والتواصل وعلى ألسنة وعبر أقلام خبراء ومؤثرين وإختصاصيين، حتى استقرّت إلى حدّ كبير في العقول على المستوى الجماعي وأصبح بعضها لدى الرأي العام قدرًا لا يمكن دفعه أو على الأقل خطرًا محدقًا تصعب مجابهته. من تلك المفردات والعبارات القول بأن "الودائع طارت" أو تبخّرت، للقول بالتالي أن المطلوب هو البحث عن الطريقة القانونية التي تسمح عمليًا بتكريس "شطب" هذه الودائع جزئيًا على الأقل. وعبارة "الفجوة المالية" التي يُقصد بها المبلغ الإجمالي الذي يريد أطراف النظام التهرّب من الوفاء به لأصحاب الودائع، وعبارة "الخسائر" التي يراد منها القول بأن المبلغ الإجمالي المشار إليه قد تمّت خسارته وأصبح غير موجود وينبغي بالتالي الانتقال إلى مرحلة جديدة بعد "توزيع الخسائر". وتلازمت مع تلك العبارات عبارات أخرى تم ضخّها في الرأي العام كحلول للفجوة والخسائر المشار إليها. ولأنها معدّة لتكون حلولاً للمشكلة جاءت العبارات بظاهرٍ طابعهُ تقني علمي لكي تكون لها المفاعيل النفسية الأكبر في أذهان العامة، فكثر الحديث عن الـ hair cut و الـ capital control والـ bail in وغيرها. في مقابلته المتلفزة منذ أيام تناول رئيس الحكومة نوّاف سلام موضوع الودائع، وحين سُئل عمّا يقال عن شطب الودائع قال بأنه ما ينبغي فعله هو "شطب" عبارة "شطب الودائع" من التداول. وهذا القول يكتسي أهمية كبيرة لجهة توجّهات الحكومة الجديدة في التعامل مع الأزمة المالية والحلول التي سوف توضع لها، كما وعلى مستوى المفردات والتعابير التي تصنع الرأي العام والأفكار والقناعات. ذلك أنه لأول مرّة منذ بداية الأزمة بدأت عملية تصحيح المفاهيم عبر "شطب" التعابير التي سادت خلال السنوات الخمس وهذه البداية هي المدخل الصحيح للتأسيس للحلول العادلة التي تقوم على الحق وعلى التعامل معه على أنه أمر لا يمكن المساس به. لم يقتصر ما أدلى به رئيس الحكومة في إطار المفردات التعابير على الموضوع المالي بل تناول مواضيع ذات طبيعة تأسيسية تتصل بالنظام اللبناني نفسه وانحرافاته البنيوية، فكان الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف)، محور حديثه بما يحمل التوجهات المستقبلية في تقويم مسار الحياة العامة وعمل المؤسسات. في تلك النصوص التأسيسية الحلول للإشكاليات الراهنة المتصلة بزوال الاحتلال وبسط سيادة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية، وتصحيح مسار عمل السلطات الدستورية. وعليه يُتوقّع في المرحلة القادمة غياب الكثير من التعابير والمفردات التي كانت قد ارتبطت بتلك الإشكاليات ونتجت عنها.


النهار
١٤-١١-٢٠٢٤
- النهار
إيلون ماسك يسخر من مسؤول كبير في الناتو
هاجم إيلون ماسك، بعد تعيينه مستشاراً للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، مسؤولاً كبيراً في حلف شمال الأطلسي الأربعاء شكك خلال حديث عن التضليل الإعلامي في إدارته لنصة "إكس". وأكد الأدميرال الهولندي روب باور رئيس اللجنة العسكرية في حلف شمال الأطلسي، خلال مؤتمر لـ "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" أنه "يدعم بشدة حرية التعبير" لكنه لفت إلى أنه "ليس مقتنعاً بالضرورة بأن ما يفعله ماسك في إكس هو النهج الصحيح". وحذر من "التضليل والهجمات الإلكترونية التي تؤثر على الانتخابات"، مضيفاً أن شبكات التواصل الاجتماعي "تضخم كل ما تصنعه مجموعات من الروبوتات"، وهي حسابات مدعومة ببرامج كمبيوتر. وكتب إيلون ماسك ردّاً على مقطع فيديو لهذه التصريحات "لنعد أورويل إلى الخيال"، متّخذاً شعار ترامب المفضل "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" كنموذج. وأضاف "أمثاله يعتقدون أن (رواية) 1984 دليل تعليمات"، في إشارة إلى الرواية الديستوبية الشهيرة التي ألفها الكاتب البريطاني جورج أورويل وتتناول خصوصاً مواضيع الشمولية والمراقبة الجماعية لحرية التعبير. قبل شراء "تويتر" في العام 2022 الذي أصبح حالياً "إكس" تعهد ماسك أن "يهزم الروبوتات أو يموت محاولاً"، لكنه قلص في النهاية الفِرق المخصصة لذلك. وتناول باحثون ودراسات الانتشار الواسع للمعلومات الكاذبة، ولا سيما عن طريق الروبوتات، على منصة "إكس" خلال الحملة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.