logo
مفهوم "السياسة الصناعية" وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

مفهوم "السياسة الصناعية" وموسم العودة إلى فريدريك لِست Friedrich List

الميادينمنذ 2 أيام

لم يستفز الاستراتيجيين الأميركيين شيءٌ مثل مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة عشرية أطلقت سنة 2015 أيضاً لتطوير عشرة قطاعات تصنيعية صينية، من بينها الذكاء الاصطناعي والروبوتات المتقدمة، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والسيارات العاملة بغير الوقود الأحفوري، والتكنولوجيا الزراعية، وهندسة الفضاء الجوي، والخامات الاصطناعية الجديدة، والمعدات الكهربائية المتقدمة، والطب الحيوي الناشئ، والبنية التحتية للسكك الحديد المتطورة، والهندسة البحرية عالية التقنية.
تُعد هذه الخطة نموذجاً رائداً لما يُسمى "السياسة الصناعية" (Industrial Policy)، وهي تدخّل الدولة بصورة استراتيجية للارتقاء نوعياً بالاقتصاد، وخصوصاً في مجال تطوير التصنيع. وهذا يعني كمياً زيادة حصة التصنيع، ولا سيما المتقدم منه، من الناتج المحلي الإجمالي.
في حالة الصين سنة 2015، كان ذلك يعني الانتقال من التصنيع الخفيف، مثل المنتجات الاستهلاكية البسيطة، كالألبسة والأحذية، المعتمدة على انخفاض أجور العمال، والتي تدر قيمة مضافة منخفضة، إلى تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70% في القطاعات عالية التقنية، والتي تدر قيمة مضافة مرتفعة، سنة 2025، على أن تصل الصين إلى موقع مهيمن فيها في الأسواق الدولية مع مجيء سنة 2049، في الذكرى المئة لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
وتُعد القطاعات عالية التقنية مفتاحية لتحقيق نقلة نوعية في ما يسمى "الثورة الصناعية الرابعة"، أي تكامل الحوسبة السحابية والبيانات الكبيرة والذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الناشئة في التصنيع المتقدم وفي سلاسل إمداد منتجاته دولياً. ويمكن هنا، لمن يهمه الأمر، مراجعة مادة "نقد مفهوم الثورة الصناعية الرابعة".
لدى ألمانيا واليابان خطط تطوير تصنيعية أيضاً. لكن شيئاً لا يضاهي خطة "صنع في الصين 2025"، في حجمها، ومدى التحول الذي راحت تحدثه في موقع الصين في التكنولوجيا المتقدمة، وفي موقع الاقتصاد الصيني دولياً. وهي خطة استفزت الغرب الجماعي إلى حدٍ جعل المسؤولين الصينيين يصفونها بأنها "غير رسمية"، و"ليست أكثر من طموح"!
بدأ تجاهل الصين الرسمية للخطة منذ عام 2018 فعلياً، مع الاستمرار في تنفيذها تحت عناوين أخرى. وفي افتتاح مؤتمر الشعب القومي سنة 2019، أعلى هيئة حاكمة في الصين، تجاهل شي جين بينغ خطة "صنع في الصين" تماماً، وهي من الحالات القليلة التي يتعمد فيها الحكام تجاهل إنجاز عملاق كي يمضوا في مراكمته بهدوء وسلام، بدلاً من اصطناع إنجازات وهمية حيث لا يوجد شيء.
وإذا كان توسع الصين في مبادرات مثل "الحزام والطريق"، وتوقيعها اتفاقيات تجارة حرة مع المزيد والمزيد من البلدان، توسعاً أفقياً في مديات الجغرافيا السياسية، وكان آخرها، الأسبوع الفائت، الإعلان عن تطوير اتفاقية التجارة الحرة مع الدول العشر لمنظومة "آسيان"، شريك الصين التجاري الأول عالمياً ككتلة إقليمية، إلى النسخة "3.0".
وإذا كان انخراط الصين الحاسم في إنشاء مصارف دولية مثل "بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية"، و"بنك التنمية الجديد"، وغيرهما، والدفع باتجاه وضع اليوان كأحد خيارات العملات الدولية، ومحاولة زيادة مشاركة الصين في المؤسسات الاقتصادية الدولية القائمة، مثل صندوق النقد الدولي، كسراً لاحتكار الغرب الجماعي لمفاصل المالية الدولية، وبالتالي تعديلاً لموازين العلاقات الاقتصادية الدولية.
فإن مشروع "صنع في الصين 2025" يمثل توسعاً عمودياً متمحوراً على الذات من أجل تطوير الاقتصاد الصيني جذرياً عبر الانتقال به إلى مستويات أعلى تقنياً. وثمة تقرير في "بلومبرغ"، في 26/5/2025، بأن الصين تعكف الآن على إعداد الجزء التالي لخطة "صنع في الصين 2025"، تحت عنوان بعيد عن تلك التسمية، كجزء من التحضيرات لإطلاق الخطة الخمسية المقبلة مع بداية سنة 2026. وتركز الخطة الجديدة، في ما تركز عليه، على تطوير الآلات المنتجة للرقائق الإلكترونية المتقدمة.
يشير تقرير مهم في موقع "مجموعة روديوم" الأميركية، في 5/5/2025، تحت عنوان (هل كانت خطة "صنع في الصين 2025" ناجحة؟)، إلى أن "الغموض المتزايد بشأن القدرات التكنولوجية الصينية، مدفوعاً بمتطلبات الأمن القومي، يعقد الجهود المبذولة لتقييم وضعها المستقبلي ومسارها بصورة كاملة. تبدو الشركات الصينية، على الرغم من ذلك، في وضع جيد لتحقيق تقدمٍ كبيرٍ في العديد من قطاعات التكنولوجيا المتقدمة في إطار برنامج "صنع في الصين 2025"، بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية، والأجهزة الطبية، والروبوتات".
يضيف التقرير: "علاوةً على ذلك، فإن ريادة الصين في الذكاء الاصطناعي – وهو مجال لم يكن في الأصل جزءاً من خطة "صنع في الصين 2025"، لكنه الآن يبدو مهيأً لتحويل أنظمة الابتكار والتصنيع العالمية – تختزن إمكانية تقليل الحواجز أمام الابتكار في التصنيع وتمكين الصين من تحقيق اختراقات مستقبلية".
ليصل تقرير "روديوم" إلى الآتي: "تشير هذه التطورات إلى أن مسار الصين في الريادة التكنولوجية قد يتسارع في السنوات المقبلة، مع تأثيرات واسعة النطاق عبر الصناعات العالمية".
يأتى تجاوز الخط الأحمر هنا من اقتحام الصين لمواطن قوة الشركات متعدية الحدود، وبالتالي من الإخلال بمصادر نفوذ الإمبريالية العالمية.
فالغرب الجماعي يمكن أن يتساهل مع التصنيع في الجنوب العالمي عندما يتعلق الأمر بالصناعات الخفيفة منخفضة الأجور أو الملوثة للبيئة أو الاستخراجية، وبما لا يخلّ بالتقسيم الدولي للعمل، أما عندما يحاول قطب رئيس خارج منظومته أن يمسك بالحلقات العليا للتصنيع المتقدم، وبصورة مستقلة عنه، فإن ذلك يدعوه إلى قرع طبول الحرب، لأن التكنولوجيا والتصنيع المتقدم ليسا محايدين، على الرغم من محاولة الصين الوصول إليهما بصفة مهنية محايدة، وغير أيديولوجية، ومن دون رفع رايات الثورة العالمية على طريقة ماو تسي تونغ.
اتبعت الولايات المتحدة، بدورها، "سياسة صناعية" تبلورت في ظل إدارة بايدن في خطة عملاقة لتقديم دعم حكومي وحوافز للاستثمار في البنية التحتية وأشباه الموصلات والتصنيع الصديق للبيئة. وتجلت خطة إدارة بايدن تلك في "قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف" لعام 2022، والذي كرس 1.2 تريليون دولار لتشجيع الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية.
جمد ترامب الإنفاق على ذلك القانون عندما عاد إلى الحكم بأوامر تنفيذية، مع أنه أُقِر رسمياً من طرف الكونغرس، والموضوع عالقٌ في المحاكم الآن. واستعاض ترامب عن ذلك بآلية الرسوم الجمركية، والتي تمثل استمراراً لما بدأه في فترته الأولى، إضافةً إلى مزيج من التخفيضات الضريبية لتشجيع القطاع الخاص، وإلغاء التنظيم، ولا سيما قوانين المسؤولية الاجتماعية وحماية البيئة، والحمائية، مع الاستعداد لتقديم الدعم الحكومي لحالات بعينها مثل بناء السفن.
29 أيار 08:53
26 أيار 08:30
وجدت الردة الأميركية عن أصولية السوق الحرة، منذ حملة ترامب الانتخابية سنة 2016، تأصيلاً لها في ألكسندر هاملتون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية. وضع هاملتون كراساً قدمه كتقرير للكونغرس سنة 1791 بعنوان "تقرير بشأن المصنوعات" دعا فيه إلى سياسة صناعية تقوم على فرض رسوم جمركية معتدلة على المستوردات توجه عائداتها إلى دعم التصنيع محلياً، وإلى دعم تطبيقات العلوم والتكنولوجيا في مناحي الاقتصاد الأميركي كافة.
للعلم، لا توجد دولة صناعية متقدمة، من غرب أوروبا إبان الثورة الصناعية إلى النمور الآسيوية في القرن العشرين، لم تحمِ صناعاتها الناشئة، ولم تنخرط فيها الدولة بنشاط في سياسة صناعية ترتقي باقتصادها نوعياً.
ولا يوجد إنسان مثقف في العالم لم يسمع بطرفي نقيض في الفكر الاقتصادي، آدم سميث من جهة، وكارل ماركس من جهة أخرى، لكنّ قلةً قليلة سمعت أو قرأت عن المفكر الاقتصادي الألماني فريدريك لِست Friedrich List، الذي توفي سنة 1846.
كان لِست صاحب "المدرسة التاريخية في علم الاقتصاد"، ورائد النظرية القومية في الاقتصاد السياسي، وداعية تبني الدولة "سياسة صناعية"، وأحد أهم المفكرين الألمان الداعمين لمشروع بِسمارك لتوحيد ألمانيا بـ"الحديد والدم"، على حد قول بِسمارك.
كان لِست في زمانه، إلى جانب كارل ماركس، أحد عالمي الاقتصاد الأكثر ترجمةً من الألمانية إلى الإنكليزية، لكنّ هيمنة المشروع الإنكليزي على الفضاء الأوروبي تجلت في مجال الفكر الاقتصادي بإطاحة البعد الاجتماعي لدى ماركس، والقومي لدى لِست، لمصلحة الخط البراغماتي الفردي الذي تجلى في مفهوم الإنسان (الفرد) الاقتصادي Homos Economicus الذي يحقق مصلحته الفردية بعقلانية.
وكان تجاهل ماركس والماركسيين لأعمال فريدريك لِست، أحد أهم أسباب نشوء ثغرة كبيرة في الفكر الماركسي عندما تعامل مع كل مجتمع رأسمالي كنسخة طبق الأصل عن كل مجتمع رأسمالي آخر يحكمها الصراع الطبقي، بغض النظر عن التفاوت في مستويات التطور الاقتصادي-الاجتماعي، الأمر الذي يفسح مجالاً للصراعات بين الأمم عندما تحاول الأمم الرأسمالية الأكثر تطوراً أن تسيطر على الأمم الأخرى، أو عندما يخل صعود الصاعد بموازين القوى ويحاول إعادة صياغة المنظومة الدولية بناءً على معطيات موازين القوى الجديدة.
كانت تلك الثغرة الكبيرة سبباً رئيساً في الحاجة إلى نشوء المذهب اللينيني في الماركسية، والذي يتضمن، فيما يتضمنه، فكرة صراع المستعمرات وأشباه المستعمرات مع المراكز الإمبريالية. ولم يكن لينين وحده من أمسك بذلك الخيط الجوهري في تفسير عالمنا المعاصر، كما تجلى ذلك في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، بل سبقه إلى ذلك نيقولاي بوخارين وروزا لوكسمبورغ وكارل ليبخنت في مجلدات خاصة بهم عن مفهوم الإمبريالية جاء كتاب لينين تتويجاً لها.
للأمانة، وجدت مسودة مقالة غير منشورة لكارل ماركس، من سنة 1845، ينقد فيها "النظام القومي للاقتصاد السياسي"، درة أعمال فريدريك لِست، من منظور فلسفي، يهمشه فيها تماماً، ويعده تعبيراً عن تعفن البورجوازية الألمانية. وقد أعاد السوفيات نشر تلك المسودة سنة 1971.
كما أن المدرسة النمساوية في علم الاقتصاد، التي أصبحت أحد محركات المذهب النيوكلاسيكي في علم الاقتصاد، والتي كتب روادها بالألمانية، ومنهم كارل منجر، وبوم بوفريك، وفون ويزر، كانت معادية بشدة للمدرسة التاريخية والقومية التي مثلها لِست. لا تُحسب أعمال مفكري المدرسة النمساوية إذاً على "الأيديولوجيا الألمانية" (وهو عنوان كتاب لماركس وإنجلز وضعاه في ربيع 1846، ولم يجد ناشراً آنذاك، حتى نشره السوفيات للمرة الأولى سنة 1932).
لكنّ تجاهل ماركس لفريدريك لِست يبقى ثغرة في منهجه، إذ إن تجاهل حقيقة الوجود القومي، وطريقة انتشاره، وكثافتها عبر الجغرافيا، وموازين القوى الناشئة عن ذلك الانتشار، والتحولات التي تطرأ عليه نتيجة عوامل داخلية أو خارجية، كانت أحد أهم محركات الصراع السياسي عبر التاريخ.
كما أن المدرسة النمساوية التي نشأت سنة 1871، عشية توحيد ألمانيا، مثلت ردةً فكرية على الأيديولوجيا الألمانية (التاريخية الجمعية، في مقابل النزعة البراغماتية الفردية)، لأن الصراع المحتدم بين مقاطعة بروسيا والنمسا في القرن الـ 19 على قيادة الفضاء الألماني كان من المحتم أن يجد تعبيره في فضاء الاقتصاد السياسي حتى لا يجتاح الألمانُ النمسا فكرياً.
ولا تختلف ردة المدرسة النمساوية على فكر فريدريك لِست كثيراً عن الفرق بين مشروع الداهية النمساوي ميترنيخ من جهة، الذي سعى إلى الحفاظ على الأمر الواقع في أوروبا القرن 19، ومشروع بِسمارك، من جهةٍ أخرى، الذي سعى إلى قلبه.
المهم أن لِست كان خصماً فكرياً عنيداً لآدم سميث، وكان يرى في نشوء الوحدة القومية شرطاً ضرورياً، غير كافٍ، لتقدم التصنيع، إذ لا بد من تبني الدولة لمشروع التصنيع وتعبئة كل طاقات المجتمع، ومن ضمنها القطاعان العام والخاص، لتحقيقه. وكان لِست مناهضاً لهيمنة السلعة البريطانية التي دعا إلى مواجهتها بالرسوم الجمركية، مع إبقاء الباب مفتوحاً لاستيراد التكنولوجيا المتقدمة من بريطانيا.
ركز لِست في كتاباته على الفروق بين السلوك الاقتصادي للفرد، الذي يستند إليه الفكر النيوكلاسيكي، والسلوك الاقتصادي للأمة، الذي نظّر له لِست. ويبقى هذا الخيط منطلقاً ضرورياً لنقض خط العولمة والمؤسسات الاقتصادية الدولية في عالمنا المعاصر، وهو السؤال المركزي في الفلسفة السياسية في عالمنا المعاصر: أيهما أولى، مصلحة الجماعة أم مصلحة الفرد؟
انظروا مثلاً إلى ما يرد به لِست على دعوة آدم سميث للتجارة الحرة غير المقيدة بالتدخل الحكومي بين الأمم:
"لو ترك الإنكليز كل شيء على حاله – "دعه يعمل، دعه يمر"، كما توصي المدرسة الاقتصادية السائدة – لكان التجار الألمان في ستيل يارد لا يزالون يمارسون تجارتهم في لندن، ولكان البلجيكيون لا يزالون يصنّعون القماش للإنكليز. كانت إنكلترا ستظل مزرعة أغنام لعائلة هانزارد، تماماً كما أصبحت البرتغال كرماً للنبيذ المصدر إلى إنكلترا، وظلت كذلك حتى أيامنا هذه، بفضل حيلة دبلوماسي ماكر. في الواقع، من المرجح للغاية أنه من دون سياستها التجارية، الحمائية للغاية، لم تكن إنكلترا لتتمكن من تحقيق مثل هذا القدر الكبير من الحرية الفردية والبلدية التي تمتلكها الآن، لأن مثل هذه الحرية هي ابنة الصناعة والثروة."
انكشف "الطابق" إذاً عندما وجد الغرب أن العولمة لا تسير وفقاً لمصلحته، فبدأ يعود أدراجه إلى "النظام القومي في الاقتصاد السياسي"، أي بدأ يعود إلى فريدريك لِست. لكنها عودة متأخرة، لأن الصين اخترقت العولمة أصلاً استناداً إلى ذلك النظام. ويبدو أنها، بخطتها الصناعية الجديدة، على وشك أن تحقق اختراقاتٍ مدهشةً في مجالي التصنيع المتقدم والتكنولوجيا المتطورة. لكنْ، كما هو قانون التاريخ، لن يحدث الانقلاب في موازين القوى من دون احتكاكات وصراعات حادة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"فورين أفيرز": ترامب يقتل الابتكار الأميركي.. والصين تجني الفوائد
"فورين أفيرز": ترامب يقتل الابتكار الأميركي.. والصين تجني الفوائد

الميادين

timeمنذ ساعة واحدة

  • الميادين

"فورين أفيرز": ترامب يقتل الابتكار الأميركي.. والصين تجني الفوائد

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تراجع دور الولايات المتحدة في الابتكار مقابل صعود الصين كمنافس عالمي، ويركّز على الأسباب الداخلية لهذا التراجع في السياسات الأميركية، مما يمنح الصين فرصة لتعزيز هيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف: خلال الأشهر القليلة الماضية، تبلورت خطة محكمة لضمان هيمنة الصين على المنافسة الاقتصادية العالمية. المفارقة أنّ مهندسي هذه الخطّة الرئيسيين ليسوا قادة الصين، بل هم سياسيون أميركيون. أيضاً، تخفيضات ميزانيات إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية، تقوّض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرّك الرئيسي لنموّها الاقتصادي. كما هي السياسات المعادية للهجرة تعوق على الشركات والصناعات والجامعات الأميركية جذب أفضل المواهب والأفكار من جميع أنحاء العالم والاستفادة منها لتعزيز ازدهار أميركا، تضاف إليها التهديدات الجامحة بالتعريفات الجمركية والقيود المفروضة على سلاسل التوريد الأجنبية التي ترعب المستثمرين، الذين يتمسّكون برؤوس أموالهم، ويبحثون عن فرص جديدة بعيداً عن الفوضى. وفي غضون ذلك، تزداد قدرة الصين التنافسية في المجالات والقطاعات نفسها التي تعوق الولايات المتحدة فيه تقدّمها. تحتاج واشنطن إلى إعادة اكتشاف قيمة الابتكار. يعتمد كلّ مجال من مجالات النموّ الاقتصادي المستقبلي التي تستعد الولايات المتحدة لريادته، مثل برمجيات الذكاء الاصطناعي، والتنقيب عن النفط والغاز، والروبوتات، وإنتاج السيارات الكهربائية، وكلّها ابتكارات يستحيل رعايتها من دون دعم موثوق وطويل الأجل من الحكومة الفيدرالية. ولقد كان كلا الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، ينظران في الماضي إلى الاستثمار في قطاع التعليم والتدريب والابتكار والعلوم، كأمر أساسي لازدهار البلاد المستقبلي. أمّا اليوم، فلا يدرك أيّ من الطرفين هذه المعاني، أو يدافع عنها بوضوح. وبدلاً من ذلك يتبنّى الحزبان سياسات حسنة النية، ولكنّها مضلّلة وتهدف إلى قطع اعتماد الولايات المتحدة على الصين كي يضربا بكين معاً، ممّا يدفع بقية العالم نحو اعتماد أكبر على الصين. سوف يفشل عزل الاقتصاد الصيني عن الغرب. وليس أمام واشنطن خيار سوى المشاركة في اقتصاد معولم لم يعد بإمكانها السيطرة عليه من جانب واحد. لقد أنفقت الولايات المتحدة عقوداً وتريليونات الدولارات لبناء أفضل نظام وبيئة ابتكار في العالم، وهو يشكّل المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية والعسكرية للبلاد. بمعنى أنّ تجريد الولايات المتحدة من هذه الميزة، بينما تسعى الصين إلى بناء جهاز ابتكار ينافسها سيكون انتحارياً. ميزة الاقتصادات الشابة أنّه يتوفّر لها ثراء في طرق النموّ. حيث يقوم بعضها بحشد أعداد هائلة من العُمّال ذوي الأجور المنخفضة في الحقول والمصانع، بينما يستغلّ آخرون الموارد الطبيعية. وبمجرّد أن ينضج الاقتصاد، لا توجد سوى وصفة واحدة يمكن الاعتماد عليها للنموّ المستدام، هي الابتكار. ونظراً لأنّ العمالة والموارد الطبيعية أصبحت أكثر ندرة وأكثر تكلفة، فإنّ الابتكار يجعل من الممكن القيام بالمزيد بموارد أقلّ. ومنذ الحرب العالمية الثانية، كان ربع النموّ الاقتصادي الأميركي على الأقلّ مدفوعاً بالابتكارات التي تجعل من الممكن للاقتصاد نشر رأس المال والعمالة بشكل أكثر فعّالية. يعتبر الاقتصاد الأميركي مثالاً رئيسياً على كيفيّة تغيّر وصفات النموّ بمرور الوقت. ففي القرنين الـ18 و الـ19، نمت البلاد عن طريق قطع الأشجار واحتلال الأراضي الغربية، وحشد أعداد هائلة من العمّال من ضمنهم المهاجرون والمستعبدون في الحقول الزراعية ثمّ المصانع. وحين ضمرت أسعار الأراضي والعمالة الرخيصة والعمالة بحلول أواخر القرن الـ19، بدأ الابتكار في ملء الفراغ، وبعدها تحرّك الاقتصاد الأميركي نحو الصناعة. كذلك، ساهمت الابتكارات مثل شبكات الطاقة الكهربائية، التي حُسّنت من خلال عقود من الاستثمار المدعوم غالباً بتمويل حكومي، في توسيع الناتج الصناعي للولايات المتحدة. ومع تحوّل الاقتصاد لاحقاً للتركيز على الخدمات التي تمثّل اليوم نحو 80% من الناتج الاقتصادي الأميركي، حافظت الابتكارات الثورية في مجال الحوسبة على قدرة البلاد على المنافسة، على سبيل المثال لا الحصر. إنّ طرق الابتكار لتشكيل الاقتصادات معقّدة بطبيعتها. لكن، يمكن القول إنّ نظام الابتكار الناجح يحتوي دائماً على 3 عناصر رئيسية، أهمّها تأسيس وتغذّية مجموعة من الأفكار الجديدة. فلقد تسيّدت الولايات المتحدة الابتكار لعقود، بسبب دعمها الفيدرالي الهائل للأبحاث، خاصّة خلال الحرب العالمية الثانية. كما أنّ أموال الدعم من قبل الجامعات البحثية والمختبرات الوطنية والمعاهد، تولّد هي الأخرى الابتكارات للشركات الإنتاجية التي تدعم بدورها النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية. كذلك هو تدخّل القطاع الخاصّ لتكملة التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير، تحديداً في صناعات مثل التكنولوجيا الحيوية والحوسبة، لكنّ الابتكارات الأكثر تحوّلاً في الولايات المتحدة على مدى الـ80 عاماً الماضية لطالما اعتمدت على التمويل الحكومي بوصفها كانت الفاعل الأكثر استمرارية ومصداقيّة، واستعداداً لتحمّل المخاطر من أجل المنفعة العامّة. ولقد نجح نظام التمويل الفيدرالي بشكل جيد، ووجّه موارد الحكومة الهائلة برؤية مستقرّة نسبياً. إضافة إلى أنّ الحكومة أثبتت التزامها بمعقولية في تحديد أفضل طريقة لتخصيص هذه الموارد. وحتّى مع الاختلاف بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" حول الحجم المثالي للحكومة ودورها، رأى كلاهما قيمة هائلة في دعم الابتكار. وعلى سبيل المثال حين حاولت إدارة ريغان تقليص الإنفاق الحكومي، احتفظت بالدعم الفيدرالي للبحث والتطوير من دون تغيير إلى حدّ كبير. وعندما اقترح الرئيس ترامب خلال إدارته الأولى ميزانيات من شأنها أن تنزع التمويل عن البحث والتطوير، أعاد المشرّعون الديمقراطيون والجمهوريون معاً الأموال، وأبقوا على نظام الابتكار في البلاد سليماً. لكن، يبدو أنّ استمرار الدعم الفيدرالي للابتكار أقلّ احتمالاً خلال مدّة إدارة ترامب الثانية. ولقد اختار الجمهوريون الاصطفاف مع الرئيس لتقليص حجم الإنفاق الحكومي وخفض الميزانيات، من ضمنها الابتكار. ويبدو أنّ الديمقراطيين الذين يترنّحون من خسارتهم الانتخابات، ويهتمّون أكثر بأولويّات التمويل بخلاف العلوم والبحوث. وفي الأشهر القليلة الماضية فقط مع عدم وجود أيّ رقابة من الكونغرس، انخفض التمويل الفيدرالي للابتكار إلى الدرك الأسفل. كذلك أنهت إدارة ترامب نحو ألف منحة تقدّمها المعاهد الوطنية للصحّة، وهي أهمّ مموّل للأبحاث الطبّية الحيوية في البلاد، مع توقّع المزيد من ذلك في المستقبل. إنّ التخفيضات شديدة لدرجة أنّ مختبرات البحوث البيولوجية المموّلة فيدرالياً تقوم بالقتل الرحيم للحيوانات المستخدمة للتحقّق في مسائل جديرة بالاهتمام مثل سلامة الأدوية الجديدة، وآثار التلوّث على العمّال. كما شهدت بعض الجامعات البحثية الرائدة في البلاد استهداف تمويل أبحاثها الفيدرالية لأسباب لا علاقة لها بعملها. اليوم 10:49 اليوم 08:35 لم تتعرّض فوضى تمويل الابتكار والأبحاث وحدها فقط للخطر، بل طالت على نحو خاصّ المكوّن الرئيسي الثاني للنظام وهم الناس. وأيّ عالم هو مشروع غارق في الأمل، ويتميّز بتأجيل تعويضه إلى وقت متأخّر، فيقضي العالم النموذجي بعد حصوله على درجة البكالوريوس من 4 إلى 6 سنوات أخرى في التدريب وتحضير رسالة الدكتوراه، تليها بضع سنوات من العمل بأجر منخفض. وعلى الرغم من الافتقار إلى الحوافز المالية قصيرة الأجل، فإنّ العديد من أفضل العقول في العالم يسعون إلى العلوم لأنّ تدريبهم المهني يؤهّلهم للدراسات البحثية المتقدّمة التي تُغطّى ماليّاً إلى حدّ كبير من خلال المنح والجامعات. لكن عندما تنضب المنح، يجفّ أيضاً بئر الأشخاص الموهوبين الذين يسعون إلى الابتكار. ومنذ أواخر شباط/فبراير الماضي، اضطرت الجامعات والمختبرات الحكومية غير المتأكّدة من تمويلها المستقبلي لتسريح العمّال. لقد وقع معظم عبء عدم اليقين هذا على عاتق العلماء الشباب، حيث يلوح الآن الاحتمال الكارثي لجيل ضائع من العلماء في البلاد. كما أنّ عداء الحكومة للأجانب وخاصّة الصينيين، هو ما يضخّم الخسارة، لأنّ نجاح نظام الابتكار الأميركي يعتمد بشكل كبير على المواهب المستوردة لأداء الكثير من العمل الميداني الأساسي في العلوم الحديثة. بينما لا تنتج المدارس الثانوية والجامعات الأميركية ما يكفي من العلماء والمهندسين الناشئين لتزويد نظام الابتكار في البلاد بالكامل، وللحفاظ على التفوّق البحثي للولايات المتحدة، يجب على البلاد جذب المواهب الأجنبية. مثلاً في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو هناك نحو 5% من الطلاب الجامعيين، و25% من طلاب الماجستير في الهندسة، و45% من الطلّاب المسجّلين في برامج الدكتوراه في الهندسة ليسوا مواطنين أميركيين. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، ينحدر نحو نصف طلّاب الدراسات العليا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من دول أخرى، وفي الهندسة، يوجد ضعف عدد طلّاب الدراسات العليا الأجانب مقارنة بالمواطنين الأميركيين والمقيمين الدائمين. يحتاج نظام الابتكار الأميركي إلى أفضل المواهب الأجنبية، وحتّى وقت قريب، كان يحصل عليها. وفي عام 2023 صنّفت دراسة أجرتها منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الولايات المتحدة المكان الأكثر جاذبية لطلاب الجامعات الأجانب للدراسة. ومن بين جميع الطلاب الدوليين المتخرّجين في العالم، يأتي 15% إلى الولايات المتحدة، وهي أكبر حصّة من أيّ بلد في العالم. ولقد كانت الصين أهمّ مورد للولايات المتحدة للمواهب العلمية. وعلى مدى العقد الأوّل من القرن الجاري كان في كلّ عام هناك نحو 400,000 طالب صيني في الولايات المتحدة، ومعظمهم يدرسون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بمقابل 12000 من العلماء والمهندسين الأميركيين الشباب درسوا في الصين في كلّ عام في الفترة ذاتها. وعلى الرغم من أنّ انتشار جائحة كورونا قلّل من هذه الأرقام بعد العام 2010، إلّا أنّ 300,000 طالب صيني لا يزالون يدرسون حالياً في الجامعات الأميركية في كلّ عام. ومع ذلك، هناك بالفعل علامات على أنّ هذا التبادل الحيوي آخذ في النضوب. على سبيل المثال، تتراجع الأبحاث المشتركة في العلوم والهندسة بين العلماء الأميركيين والصينيين ببطء عن ذروتها منذ العام 2020. كذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تقليل اعتمادها على المواهب الصينية. كما أنّ أيّ سوق، يعتمد بإفراط على أيّ مورد واحد يعتبر وصفة لانعدام الأمن دائماً. لكنّ الأمر سيستغرق جيلين لإعادة التوازن وتعويض مساهمة الطلّاب الصينيين في الأبحاث الأميركية. وفي الوقت نفسه، كثرت مضايقات المواطنين الصينيين ومن ضمنهم العلماء، على حدود الولايات المتحدة وفي الجامعات، ممّا أدّى بالعائلات الصينية إلى أن تكون أكثر حذراً عند إرسال أطفالها إلى الولايات المتحدة للدراسة. وسيكون هذا التردّد كارثة للجامعات البحثية الأميركية، وهدية لمنافسة جامعات اللغة الإنكليزية عالية الجودة مثل أستراليا وكندا وهولندا والمملكة المتحدة، حيث يتبنّى كلّ من منافسيها وشركائها سياسات جديدة لجذب العلماء الأجانب مثل تعزيز التوظيف وتأشيرات الشركات الناشئة. وفي غضون ذلك، تجهد فيه إدارة ترامب للحدّ من تسجيل الطلّاب الدوليين في الجامعات الأميركية. العنصر الرئيسي الثالث لنجاح نظام الابتكار هو الوصول إلى الأسواق الكبيرة. ولأنّ الابتكار يسعى إلى تعزيز الإنتاج بإنفاق أقلّ، فإنّه يستفيد باستمرار تقريباً من حجم الإنتاج، حيث توفّر الأسواق الكبيرة فرصاً أكبر للأبحاث والإبداع الذي يُحسّن المنتجات من خلال تراكم الخبرة. وفي تكنولوجيا الطاقة النظيفة مثلاً كانت عولمة الأسواق حافزاً للتطوّر. وقد ساعدت الابتكارات المبكّرة في مجال الطاقة الشمسية، بدعم من الولايات المتحدة واليابان في سبعينيات القرن الماضي في تقليل الاعتماد على النفط المستورد من خلال جعل الطاقة الشمسية قابلة للتطبيق باحتراف. وفي العقد الأوّل من هذا القرن أدّى دعم الحكومة الألمانية التي كانت حريصة على خفض الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة المستوردة وبناء صناعات محلّية مع خفض الانبعاثات، إلى توليد سوق كبير للطاقة الشمسية. ومع نموّ الأسواق الألمانية والعالمية أصبحت ابتكارات الألواح شمسية أفضل. ثم انتقلت ريادة صناعة الطاقة الشمسية إلى الصين، حيث استطاعت الابتكارات الهائلة في التصنيع خفض التكاليف بشكل أكبر، وساعدت على جعل الطاقة الشمسية أكثر تنافسية مع الفحم والغاز. وعلى مدى عقود سمح هذا النهج العالمي للألواح الشمسية، التي كانت في السابق تكنولوجيا هامشية، بأن تصبح أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء في العديد من الأماكن. ولكن كما جسّدت صناعة الطاقة الشمسية فوائد للأسواق العالمية، لكنّها كشفت عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه الحمائية الوطنية بالابتكار التكنولوجي. فارتفاع الرسوم الجمركية واختناقات سلاسل التوريد، الناتجة جزئياً عن سياسات التجارة الفوضوية ترفع تكاليف الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة. ورغم أنّ سياسات نقل الطاقة إلى الداخل قد تسهم في النهاية بزيادة إنتاج الطاقة الشمسية في البلاد، إلّا أنّه حتّى عام 2023، كان نحو 80% من المعدّات المستخدمة في مشاريع الطاقة الشمسية الأميركية مستوردة بمعظمها من الصين. يخشى المستثمرون الآن الإلغاء التعسفي لمشاريعهم. ففي نيسان/أبريل الفائت، أوقفت إدارة ترامب مشروع طاقة الرياح البحرية لشركة إكوينور العملاقة للطاقة في نيويورك، والذي تمّت الموافقة عليه سابقاً. وبعد شهر، تراجعت عن القرار بعد ضغوط مارستها على ولاية نيويورك للموافقة على مشروع خطّ أنابيب غاز طبيعي غير ذي صلة. لكن كان الضرر الذي لحق بمصداقية العقود الأميركية قد وقع بالفعل. فالطاقة النظيفة تعتمد على الاستثمار. وهذه المخاطر التي يتعرّض لها المستثمرون تفسّر سبب تأجيل أو تجميد نصف المشاريع المخطّط لها لبناء مصانع تكنولوجيا الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة. قد تستطيع المعارضة السياسية والقانونية المتصاعدة فرض التراجع عن العديد من سياسات الإدارة الأميركية الأكثر ضرراً. لكنّ الرسالة إلى بقية العالم واضحة في المجالات جميعها، ومن ضمنها البحوث والابتكار عن أن الحكومة الأميركية أصبحت فجأة أقل موثوقية بكثير. وهذا ما ألهم الحكومات الأوروبية للتعامل مع هذا الواقع بعدد لا يحصى من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي، وسياسة الطاقة الخضراء الأقلّ تكلفة، والاتّفاقيات التجارية التي تتيح الوصول إلى أسواق جديدة، وكلّها ستجعل القارّة ذات قدرة تنافسية أكبر. بينما تقوم الولايات المتحدة بتقويض نظام الابتكار الخاص بها، تواصل الصين نهجها. وبدءاً من تسعينيات القرن الماضي تبنّت بكين استراتيجية ابتكار تهدف إلى تحويل اقتصادها. ومنذ عام 2000 زادت إنفاقها الإجمالي على البحث والتطوير بمعدّل الضعف. ويتدفّق جزء كبير من هذا الاستثمار من خلال المؤسّسات المرتبطة بالدولة، ولكنّ دور القطاع الخاصّ قد ازداد أيضاً. وحين تجمع مصادر التمويل العامّ والخاصّ معاً، تظلّ الولايات المتحدة أكبر منفق في العالم على البحث والتطوير، لكنّ الصين تستعدّ للتقدّم عليها. وفي العام الجاري يمكن أن يتجاوز إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير إنفاق الولايات المتحدة للمرّة الأولى. مع أنّه في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم تكن البرامج الجامعية الصينية تحتلّ المرتبة الأولى في أيّ مجال رئيسي من مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. أمّا اليوم، ووفقاً لتصنيفات مجلّة "يو أس نيوز آند وورلد ريبورت" الأميركية، فإنّ 8 من أفضل 10 برامج هندسية في العالم موجودة في الصين. والآن يظهر العلماء الصينيون انحيازهم لمستقبل دراساتهم العليا في الوطن لا في الخارج، كما كان قبل عقدين حيث قرابة 95% من طلاب الدراسات العليا الصينيين الذين درسوا في الجامعات الأميركية وحصلوا على أوّل وظيفة لهم في الولايات المتحدة. أمّا اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة إلى قرابة 80%، ومن المرجّح أن تنخفض أكثر وربّما بسرعة. يعود الصينيون إلى بلد خضع اقتصاده لضبط دقيق لتحويل الابتكار إلى إنتاج. ولطالما انتقد المحلّلون الصين لتركيزها على تحسين العمليات في إيجاد طرق أكثر كفاءة لاستخدام الروبوتات في خطوط الإنتاج وابتكار مفاهيم جديدة كلّياً. لكنّ هذه الابتكارات في العمليات ساهمت في تحويل مصانع السيارات والبطّاريات الصينية إلى شركات رائدة عالمياً في هذه الصناعة، كما حدث تماماً عندما بدأت صناعة الطاقة الشمسية في الصين بالازدهار. كما أنّ هذه الإنجازات التي لا تحظى بالثناء الكافي، تؤدّي دوراً رئيسياً في زيادة إنتاجية الاقتصاد، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل ندرة العمالة الماهرة وارتفاع تكلفتها في الصين. علاوة على ذلك، تمثّل هذه الإنجازات أيضاً حجر الأساس لتقنيات أكثر ثورية. مثلاً، يعتبر مصنّعو المحطات النووية الصينيون روّاداً عالميين في تحسين العمليات التي تمكّن من بناء مفاعلات نووية بتكلفة منخفضة، على الرغم من أنّ الابتكارات الأصلية لمعظم المفاعلات التجارية الصينية تعود إلى الولايات المتحدة. والآن تبني الصين مفاعلات أكثر من كلّ دول العالم مجتمعة من خلال تطبيق هذه الابتكارات على نطاق واسع. واتّضح أنّ الاقتصاد لا يهتمّ بمن كان أوّلاً، بل يهتم أكثر بمكان بناء التقنيات والاستمرار. من المؤكّد أنّ طفرة البحث والتطوير في الصين تواجه رياحاً معاكسة. ولكي يحدث الابتكار تحوّلاً حقيقياً في البلاد، يجب أن يكون الاقتصاد الأوسع في حالة جيدة. لذلك، تسعى بكين إلى اعتماد إصلاحات لخفض ديون الاقتصاد الصيني الهائلة وفائض طاقته الإنتاجية، من خلال تحقيق استقرار سوق العقارات الوطني، الذي أدّت تعثراته إلى تأكّل ثقة المستهلك. ومع ذلك، فإن المسارات المتباينة للصين والولايات المتحدة واضحة. نقله إلى العربية: حسين قطايا.

"تايم": كيف يُعزز ازدهار السيارات الكهربائية في الصين صعودها التكنولوجي؟
"تايم": كيف يُعزز ازدهار السيارات الكهربائية في الصين صعودها التكنولوجي؟

الميادين

timeمنذ ساعة واحدة

  • الميادين

"تايم": كيف يُعزز ازدهار السيارات الكهربائية في الصين صعودها التكنولوجي؟

مجلة "تايم" الأميركية تنشر تقريراً يتناول الصعود الصيني السريع في صناعة السيارات الكهربائية، من خلال استعراض شامل لنموذج شركة "نيو" كمثال على الابتكار والتفوّق الصناعي، ويضع هذا الصعود في سياق عالمي يشمل التكنولوجيا، الاقتصاد، والسياسة الدولية. أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية: في ورشة شركة "نيو" للتصميم في ضواحي شنغهاي، ينشر المهندسون كتلاً من الطين على إطار من الألومنيوم لسيارة يؤسّس متنها الأساسي. ثمّ تقوم ذراع آلية مزوّدة بإزميل ميكانيكي ينحت سلسلة من الأخاديد في الطين، وينسخ رسوم التصميم، وينعّم الأسطح الخشنة بجهد ومثابرة، قبل لصق رقائق الألومنيوم فوق المجسّم المعدني الأنيق المظهر للسيارة، حين تعرض في فناء مضاء بنور الشمس حيث يدقّق في كلّ منحنى وخطّ. ويصف المدير الأوّل للشركة كولين فيبس الذي عمل سابقاً لمدّة 12 عاماً لدى شركة "كاديلاك" الأميركية، عمل هؤلاء بالإبداع الفني والحرفية المهنية التي تتطلّب عملاً مكثّفاً للغاية. ومنذ تأسيسها في عام 2014، حصلت "نيو شنغهاي للتصميم" على 9800 براءة اختراع عالمية، وأكثر ما يثير الإعجاب هو نشر الشركة لتقنية تبديل بطّاريات السيارات الكهربائية، التي تسمح بتغيير البطّارية الفارغة بأخرى مشحونة بالكامل في 3 دقائق فقط في أكثر من 3000 محطّة في جميع أنحاء الصين وأوروبا. كما تنتج الشركة أيضاً البطّاريات الأطول مدى عالمياً بقطع مسافة تزيد عن 650 ميلاً بشحنة واحدة، بينما الرقم القياسي الذي حقّقته شركة "تسلا" هو 402 ميل. كذلك، تحتوي سيارات "نيو" الكهربائية على زجاج أمامي ثنائي فريد في العالم الذي يعرّض البيانات من منظورين منفصلين في خطّ رؤية السائق مباشرة. كذلك تتميّز كلّ طرازاتها بأوّل نظام قيادة (متجانس يعمل بنظام القيادة بالسلك)، حيث يوجّه العجلات من دون عمود توجيه مادّي. كذلك كانت سيارات "نيو" الرياضية عند إطلاقها في عام 2016 أسرع سيارات كهربائية في العالم، حيث تجاوزت سرعتها 194 ميلاً في الساعة وحطّمت الأرقام القياسية في حلبة سباق ألمانية شهيرة. ويقول الرئيس التنفيذي للشركة ويليام لي، إنّ "الابتكار يخلق القيمة، ويساعدنا على البقاء وسط المنافسة الشرسة، سواء في الصين أو في جميع أنحاء العالم". يذكر أنّ "نيو" هي مجرّد إحدى الشركات من مجموعة كبيرة من العلامات التجارية الصينية والتي تهيمن اليوم على سوق السيارات الكهربائية عالمياً. ولقد شكّل ذلك صعوداً هائلاً، خاصّة أنّه في عام 2001 كان عدد سيارات الركّاب في الصين أقلّ من 10 ملايين سيارة لسكانها البالغ عددهم 1.2 مليار نسمة. وهذا يعني سيارة واحدة فقط لكلّ 128 شخصاً، بالمقابل كانت السوق الأميركية في عام 1911 بهذا المستوى، أي بعد 3 سنوات من إنتاج هنري فورد أوّل سيارة من طراز "تي". ولكن بحلول عام 2009، أصبحت الصين أكبر سوق للسيارات في العالم. وبعد أن كانت الصين مستورداً صافياً للسيارات في عام 2020، أصبحت اليوم تصدّر السيارات إلى الخارج أكثر من أيّ دولة أخرى. وقد قفزت صادراتها من سيارات الركاب بنسبة 20% تقريباً في عام 2024 أي نحو 4.9 ملايين سيارة. وفي الوقت نفسه، انخفضت واردات السيارات إلى الصين من ذروة بلغت 1,24 مليون سيارة في عام 2017 إلى 705 آلاف سيارة فقط في العام الماضي. ومن المتوقّع أن تستحوذ شركات صناعة السيارات الصينية على ثلث السوق العالمية بحلول عام 2030، وفقاً لشركة "أليكس بارتنرز". وفيما يتعلّق بالسيارات الكهربائية، تستحوذ الصين بالفعل على ما يقرب من ثلثي المبيعات العالمية بنحو 62%. تباع السيارات الكهربائية الصينية الجديدة حالياً في 6 دول أوروبية بالإضافة إلى "إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة. وحالياً تحتلّ شركة "بي واي دي" الصينية مرتبة أكبر شركة سيارات كهربائية في العالم بلا منازع. ولديها فروع في أكثر من 70 دولة، وتتفوّق مبيعاتها على مبيعات "تيسلا" عالمياً للربع الثاني على التوالي، وبينما سلّمت تيسلا 336,681 سيارة حول العالم خلال الفترة من كانون الثاني/يناير إلى آذار/مارس الماضي، بانخفاض قدره 13% على أساس سنوي، سلّمت "بي واي دي" 416,388 سيارة، بزيادة قدرها 38%. لا يزال الأميركيون يجهلون كلّ هذا إلى حدّ كبير. وفي عهد الرئيس جو بايدن فرضت رسوم جمركية بنسبة 100% على واردات السيارات الكهربائية الصينية، ثمّ زاد الرئيس ترامب رسوماً إضافية بنسبة 25% على جميع السيارات الأجنبية. ولهذا الأمر عواقب سلبية على تبنّي السيارات الكهربائية في ما يسمّى بالموطن الروحي للسيارات كون نصف الأميركيين مهتمّين بالانتقال إلى السيارات الكهربائية، وفقاً لاستطلاعات رأي جديدة، كما أنّ ذلك يؤثّر في الجهود العالمية لمكافحة تغيّر المناخ. يقول بول غونغ رئيس أبحاث السيارات الصينية في بنك يو بي إس للاستثمار، "يمكن للمستهلكين في الولايات المتحدة قيادة سيارات أفضل، واستهلاك بنزين أقلّ، وإنفاق أقلّ على الصيانة، وهذا سيكون مفيداً أيضاً لتغيّر المناخ، ومن المؤسف أنّ العالم ليس بالقدر نفسه من الخضرة والازدهار بسبب الحمائية الجمركية والأوضاع الجيوسياسية. ولا شكّ في أنّ حواجز الاستيراد تثير مخاوف جدية، بينما الولايات المتحدة وحلفاؤها يتّهمون سياسات الصين أنّها تقدّم دعماً هائلاً لصناعاتها ممّا يتسبّب في زيادة الطاقة الإنتاجية ومزاحمة المنافسين. ووفقاً لـ"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" وهو مركز أبحاث من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن، بلغ إجمالي الدعم الحكومي الصيني لصناعة السيارات الكهربائية في البلاد نحو 230.9 مليار دولار من 2009 إلى 2023. وفي تموز/يوليو الماضي فرض الاتحاد الأوروبي أيضاً تعريفة مؤقّتة لمكافحة الدعم تصل إلى 37.6% على السيارات الكهربائية الصينية، ممّا دفع بكين إلى رفع الرسوم الجمركية على لحم الخنزير الأوروبي والبراندي كردّ انتقامي. ومنذ نحو 3 أشهر رفعت كندا التعريفة الجمركية على استيراد السيارات الكهربائية الصينية إلى 100%. ويكمن الخطر بالنسبة للولايات المتحدة في أنّ هذه المزايا ستسمح للصين قريباً أيضاً بالسيطرة على صناعات مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي والحوسبة الكمية والروبوتات التي تشبه البشر، وتعتبر السيارات الكهربائية محور هذه الأهداف. تقول الباحثة إيلاريا مازوكو، "هذه أكثر بكثير من مجرّد مركبات تعمل بالبطاريات، فالتحوّل التكنولوجي ينطوي على الكثير من معالجة البيانات، ومن الذكاء الاصطناعي المدمج في النظام، والتآزر الذي يوفّر مسارات للتقدّم في التقنيات الأخرى. إنّ صعود الصين لم يقلق الغرب في البداية، بل على العكس من ذلك. فقد حصدت كفاءة التصنيع الصينية منقطعة النظير مليارات الدولارات للشركات الأميركية. وقد اعتبرت حقيقة أنّ دولة شيوعية ظاهرياً كانت تحاول تجربة النظام الرأسمالي يعتبر أمراً محبّباً، بل وجذّاباً، ناهيك عن كون ذلك يشكّل دليلاً على أنّ النظرية الاقتصادية الليبرالية قد انتصرت في النهاية. فالدولة بعد كلّ شيء، كانت تمثّل سوقاً عملاقة ومتنامية للصناعة الأميركية. كلّ ذلك كان على حاله إلى أن بدأت الصين في التقدّم. وعلى الرغم من ترحيبها بمطاعم ماكدونالدز ومقاهي ستاربكس وتشجيعها لأذكى أبنائها على صقل عقولهم في الجامعات الغربية، إلّا أنّ بكين حافظت على سيطرتها الصارمة على الاقتصاد، بينما كانت تستحوذ على الخبرات الأجنبية بمهارة. واليوم تمتلك الصين حصّة 27.5% من إجمالي مبيعات السيارات العالمية، أي أكثر من الولايات المتحدة والهند واليابان مجتمعة. ومع ذلك، فإنّ إلقاء اللوم ببساطة على الدعم الحكومي في إتقان الصين لصناعة السيارات الكهربائية هو أمر اختزالي. وسواء تعلّق الأمر بالهواتف الذكية أو الألواح الشمسية أو الجيل الخامس، تجمع الصين مراراً وتكراراً بين دعم الدولة وحجم السوق المحلّية التنافسية الشرسة للسيطرة على التكنولوجيا التحويلية، وتستفيد من سلاسل التوريد القوية للمكوّنات عالية الجودة ومنخفضة التكلفة لتسويق التكنولوجيا في الأسواق الخارجية. كما يوفّر صعود الصين في مجال السيارات الكهربائية نافذة على الصراعات المستقبلية بين أكبر اقتصادين في العالم حول الابتكارات التي ستحرّك الثورة الصناعية الرابعة. وقد سهّلت الحكومة الصينية هذا الصعود من خلال السماح لشركات السيارات الأجنبية بدخول السوق الصينية فقط من خلال شريك محلّي، بالإضافة إلى ما يمكن تسميته بالحصاد الحاذق للملكية الفكرية. وبمثابة سياسة حمائية تقليدية قد نجحت مع الصين. والشركات الصينية تجتذب المهندسين والمديرين التنفيذيين من شركات تصنيع أوروبية وأميركية عريقة، بينما تشتري منافسيها الأجانب بالجملة. كذلك باعت شركة فورد "الأميركية" ملكية شركة "فولفو" السويدية لشركة "جيلي" الصينية مقابل 1.8 مليار دولار في عام 2010. وفي عام 2017، اشترت "جيلي" أيضاً شركة "لوتس" البريطانية العريقة للسيارات الرياضية. يقول الرئيس والمدير التنفيذي لشركة "لوتس" لأوروبا وآسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط وأفريقيا دان بالمرّ،" قبل نحو 15 عاماً، لم تكن المنتجات الصينية قادرة على المنافسة عالمياً، وهذا أقلّ ما يقال. لكن كان بالإمكان رؤية الطاقة والحماس للاستثمار في هذه الصناعة، وقد تعلّموا جيداً، وهم الآن روّاد في العديد من المجالات". ولا تزال "لوتس" تحتفظ بمنشأة واحدة فقط لتصميم وإنتاج المركبات في المملكة المتحدة، بينما جميع سياراتها الكهربائية من طرازي إليتر وإيميا تصنع في ووهان، المعروفة بأنّها مركز ظهور جائحة كورونا، حيث مصنعها بقيمة 1,1 مليار دولار الذي افتتح في عام 2022، ينتج 150 ألف سيارة سنوياً. يقول فرانك بورنوا عميد كلية الأعمال الدولية الصينية الأوروبية في شنغهاي، "في السابق، كان الناس يأتون إلى الصين لمجرّد تحسين وصولهم بشكل أفضل إلى السوق الصينية، أمّا الآن فيأتون إلى الصين لتحسين عملياتهم، والذكاء الاصطناعي يدفع ذلك إلى الأمام بالفعل. اليوم 10:49 اليوم 09:05 يواجه صانعو السياسة في الولايات المتحدة صعوبة في التوفيق بين هذا النموذج الجديد، كما يتّضح من شكاوى نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس لقناة "فوكس نيوز" في أوائل نيسان/أبريل الماضي، من "أنّنا نقترض المال من الفلاحين الصينيين لشراء الأشياء التي يصنعونها". ولكن بينما نشأ الجيل الأوّل من روّاد الأعمال الصينيين في فقر، لكنهم كانوا سعداء بكسب عيشهم من المنتجات المقلّدة الرخيصة، فإنّ خرّيجي التكنولوجيا اليوم نجوا من الحرمان الذي تعرّض له آباؤهم، وهم يتوقون إلى شيء أكثر جدوى. تقول غريس شاو المديرة السابقة في "علي بابا" والمستشارة في تكنولوجيا المعلومات التي تنشر أخبار الذكاء الاصطناعي، "في السابق، كان الصينيون سعداء بتقليد الآخرين فقط لتجنّب الجوع، أمّا الآن، فهم يسعون إلى الشعور بالمسؤولية". بينما تبرّر واشنطن نجاحات الصين الأخيرة إلى الدعم الحكومي لصناعتها، إلّا أنّ هذا ليس سوى جانب واحد من القصّة. فعندما تحدّد الحكومة المركزية في بكين قطاعاً ما لإعطائه الأولوية، تقدّم حكومات المدن والمقاطعات فوراً حوافز في سباق محموم لتأسيس شركة محلّية رائدة. وهذا يولّد التدفّق الهائل من السيولة كفقاعة تضخّم القيم بشكل مصطنع، وتشجّع اللاعبين الكبار على ولوج السوق. ولكن في عام 2020، كانت شركة "تيسلا" هي الشركة الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية المدعومة حكومياً في الصين، حيث حصل مستهلكوها على 325 مليون دولار في التخفيضات الضريبية، بالإضافة إلى 82 مليون دولار كمنح لبناء مصنعها العملاق في شنغهاي. وفي تلك الأثناء بلغت القيمة السوقية لشركة "نيو" الذروة بنحو 96.57 مليار دولار في العام 2021، أي ضعف قيمة شركة "جنرال موتورز". ومع ذلك، فإنّ المنافسة بين المناطق والمصنّعين لا هوادة فيها. وفي عام 2023 أغلقت نحو 52 ألف شركة ذات صلة بالسيارات الكهربائية في الصين. ومع انفجار فقاعة السيارات الكهربائية، انخفضت قيمة شركة "نيو" إلى 7,53 مليارات دولار فقط، على الرغم من شحنها رقماً قياسياً من السيارات بلغ 221,970 مركبة في العام الماضي. ولكنّ تلك الشركات التي خرجت سالمة من هذا الانهيار هي شركات رشيقة ومرنة من الناحية التكنولوجية، ومتمتّعة بالشجاعة اللازمة للازدهار. فشركة "بي واي دي" على سبيل المثال، توظّف مهندسين أكثر من إجمالي عدد موظّفي شركة "تسلا". ومؤخّراً كشفت النقاب عن بطارية سيارة كهربائية يمكن شحنها في خمس دقائق فقط. يقول غونغ، "لا يمكن تخيّل مثل هذه المنافسة الشديدة في أي سوق رئيسية أخرى". ومن الأمثلة على ذلك مصنع "نيو" في مقاطعة آنهوي، الذي تصل طاقته الإنتاجية السنوية إلى 300 ألف وحدة سنوياً، ويمكنه تسليم سيارات مصمّمة بشكل خاصّ بالكامل من بين 3,5 ملايين سيارة بمواصفات محدّدة في غضون 10 أيام. ربّما تكون شركة "فورد" رائدة في مجال خطوط التجميع، إلّا أنّ "نيو" تمتلك مصفوفة تجميع بارتفاع 6 طوابق وعرض 5، حيث يمكن تركيب هيكل السيارة في أيّ اتّجاه، وبمجرّد تثبيتها على الأرض تنقل المركبات الآلية الموجّهة بالذكاء الاصطناعي كلّ هيكل بين 940 روبوت لحّام. والأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو أنّ العمل بدأ في المصنع في نيسان/أبريل 2021، وبدأ الإنتاج الضخم بعد 17 شهراً فقط وهو جدول زمني نادر في الولايات المتحدة. والأهمّ من ذلك أنّ شركات تصنيع السيارات التقليدية وشركات الطاقة الجديدة في الصين تتعامل مع عملية الإنتاج بشكل عكسي. فبدلاً من التركيز على الألواح والمحاور والمحامل في السيارة، تنظر "نيو" أوّلاً إلى بنية الجهد العالي مثل البطاريات ومجموعة الطاقة وما إلى ذلك. تليها بنية الجهد المنخفض مثل الحوسبة الرقمية. يقول جوناثان راينر مدير تجربة المركبات في شركة "نيو" الذي انضم إلى الشركة بعد 14 عاماً من العمل في شركتي (جاكوار _لاند روفر)، "نحن نربط القطع الميكانيكية مع بعضها ومع البرمجيات والقدرات الحديثة اليوم، أصبح ما كان صعباً بالنسبة للشركات القديمة أمراً سهلاً نسبياً اليوم". إنّ دخول البرمجيات في القلب النابض للإنتاج يعني أنّ السيارات الكهربائية الحديثة تختلف عن سابقاتها التي تعمل بالبنزين. حتّى لو كنت قد اشتريت سيارة "نيو" أو "بي واي دي" أو "لوتس" قبل بضع سنوات، فإنّ نظام السيارة يتمّ تحديثه بشكل دائم مثل الهاتف الذكي تماماً. وهذا يعني أيضاً أنّ التقنيات الأساسية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي التي تصقل باستمرار يمكن تطبيقها في العديد من المجالات المجاورة. يقول الرئيس التنفيذي لشركة "نيو" إنّ الذكاء الاصطناعي، "هو عامل تمكين مهمّ جداً لمنتجات سياراتنا، وساعدنا على تحسين تجربة المنتج والقدرة التنافسية الشاملة". خارج مبنى مكاتب في حيّ بودونغ بشانغهاي، كانت سيارة أجرة روبوتية بيضاء من إنتاج شركة "بوني إيه آي"، وهي شركة سيارات ذاتية القيادة مقرّها غوانزو، تدور ببطء حول ردهة المدخل قبل أن تتوقّف أمامي. وبمجرّد صعودي على متنها، انطلقت السيارة بقيادة ذاتية في جولة لمدّة 20 دقيقة في الحيّ الذي غمرته الأمطار، متجنّبة درّاجات التوصيل والشاحنات المتوقّفة، وتتحرّك بسلاسة بين المارّة وتلتزم بإشارات المرور. يقول جيمس بينغ، الرئيس التنفيذي للشركة المصنّعة، "من الناحية الاستراتيجية، لدينا طموح كبير للانطلاق عالمياً، لأنّ احتياجات التنقّل مطلوبة في كلّ مكان. كما ينبغي أن يكون استخدام التكنولوجيا لإحداث تأثير مجتمعي إيجابي. بالطبع، تمتلك الولايات المتحدة أيضاً سيارات أجرة آلية. وأنجزت شركة "وايمو" المملوكة لشركة "ألفابت" 4 ملايين رحلة مدفوعة الأجر لسيارات الأجرة ذاتية القيادة في عام 2024 في فينيكس وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، ومع ذلك لا تزال المنافسة بسيطة في هذا المجال. كذلك حصلت شركة "زوكس" المدعومة من "أمازون"، على التصاريح اللازمة لنقل الركاب في فوستر سيتي بكاليفورنيا في العام الماضي. وكانت شركة "تسلا" قد أعلنت منذ عام 2016، إنها على بعد عام تقريباً من إطلاق سيارة أجرة ذات قيادة ذاتية، بينما صرّح الرئيس التنفيذي إيلون ماسك مؤخراً بأنّ سيارة سايبركاب ستكون جاهزة بحلول عام. ومن أبرز اللاعبين الذين خرجوا من هذا المجال، حين باعت شركة "أوبر" أعمالها في هذا القطاع في عام 2020 بعد حادث تصادم مميت. وتخلّت شركة "فورد" عن حصّتها في شركة مطوّرة لسيارات الأجرة الآلية بعد ذلك بعامين. وفي عام 2023، أوقفت "جنرال موتورز" جميع عملياتها في القطاع ذاته، على الرغم من ضخ 10 مليارات دولار بالفعل، بعد حوادث التصادم التي أدّت إلى تعليق تراخيص السيارات الآلية القيادة في ولاية كاليفورنيا. في حين أنّ الموجة الأخيرة من حوادث السيارات ذاتية القيادة في الصين لم تقلّل من الدعم الرسمي، إلّا أنّ الحكومة في 17 نيسان/أبريل الفائت حظرت كلمة ذاتية القيادة من إعلانات السيارات. وبالمقارنة، تعمل شركة "بوني" بالفعل في 30 مدينة في 9 دول مع غيرها من الشركات الصينية الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية وجميعها تتنافس على حصّة في السوق بدعم حكومي صريح. واعتباراً من العام الماضي أصدرت سلطات الأمن العام الصينية 16 ألف ترخيص اختبار للمركبات ذاتية القيادة، وتمّ فتح 20 ألف ميل من الطرق في جميع أنحاء البلاد للاختبار. يرى بينغ أنّ الفرق يكمن في أنّه بينما يصعب الحصول على التراخيص في الصين في البداية، فإن الحكومة ستدعمها بالكامل بمجرد الحصول عليها، يقول، "في الولايات المتحدة الحصول على رخصة سهل. لكن إذا تعرّضت لحادث وكان السبب خطأك، فستفرض عليك غرامة باهظة. وبدلاً من تعزيز شركائها المحلّيين، تهدف الاستراتيجية الوطنية الأميركية إلى إبطاء منافسها الرئيسي من خلال تشديد ضوابط التصدير. ومع ذلك، تلحق الصين بالركب. ففي قطاع أشباه الموصلات، وهو قطاع حيوي تتصدّره الولايات المتحدة حالياً، أفادت التقارير أنّ شريحة الذكاء الاصطناعي من شركة "هواوي" تحقّق أداء يصل إلى 60% في مهامّ الاستدلال مقارنة بأحدث شريحة من شركة "إنفيديا" الأميركية، بينما احتوت طرز شركة "نيو" السابقة على 4 شرائح من "إنفيديا". ويقول بورنوا عن ذلك "إنّ نقص أشباه الموصلات تحديداً هو ما يدفع الصين إلى تطوير أشباه الموصلات الخاصّة بها بشكل أسرع. يتواصل الإقبال على نقل هيمنة السيارات الكهربائية إلى قطاعات أخرى. فقد أثارت الروبوتات البشرية، التي أنتجتها شركة "يونيتري" ومقرها هانغتشو، ضجّة في المنازل في جميع أنحاء الصين عندما ظهرت وهي تحرّك مراوحها الزخرفية وترقص في حفل رأس السنة القمرية المرموق الذي أقامته هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمي الصيني. لقد كان عرضاً مذهلاً لصناعة الروبوتات المزدهرة في الصين، وقد سجّل أكثر من 190 ألف شركة ذات صلة بهذه الصناعة العام الماضي، مع تسجيل 44 ألف شركة أخرى منذ بداية عام 2025، وفقاً لشركة البيانات "كيشا تشا". كذلك هو الحال مع المركبات الكهربائية والذكاء الاصطناعي، حيث أعطت بكين الأولوية للروبوتات التي تشبه البشر باعتبارها "منتجات ثورية". وفي عام 2023، أصدرت وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية " أم آي آي تي" توجيهات التنمية الصناعية التي حدّدت هدفها المتمثّل في إنتاج الروبوتات البشرية على نطاق واسع بحلول عام 2025 لبناء نظام بيئي صناعي تنافسي عالمي من المتوقّع أن يصل إلى 43 مليار دولار بحلول عام 2035. السيارات الكهربائية هي المفتاح الرئيسي، وما يقرب من 70% من مكوّناتها قابلة للتبديل، وهذا هو السبب في أنّ شركات صناعة السيارات الصينية من ضمنها شركات "بي واي دي، وشاومي، وشيري، وجي إيه سي موتور، وهواوي، و"سايك، وشيبنغ موتورز"، جميعها منخرطة في سوق الروبوتات أيضاً. وفي مؤتمر الشعب الوطني في شهر آذار/مارس الماضي، وهو البرلمان الصيني السنوي، اقترح رئيس مجلس إدارة شركة "إكس بينغ"، هيو شياو بنغ، سياسات داعمة للروبوتات التي تشبه البشر، على غرار تلك التي تتمتّع بها السيارات الكهربائية، معتبراً أنّ الصناعة لديها إمكانات نموّ مماثلة على مدى العقدين المقبلين. تكتسب الصين أيضاً أرضيّة في ما يعرف بـ"اقتصاد الارتفاع المنخفض" في صناعة سيارات الأجرة الجوية المستقلّة، وتوصيل الطائرات من دون طيار، وما إلى ذلك. ومنذ نحو 3 أشهر أصدرت وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية والجهات التنظيمية للطيران المدني والنقل، خطّة لمدّة 6 سنوات لهذا القطاع، وكشفت عن اللوائح المتعلّقة بالرسوم الجوّية، ورخص الطيارين، وتأسيس مناطق تجريبية حيث يمكن أن تطير المركبات الكهربائية ذات الإقلاع والهبوط العمودي في بيئات المدن الفعلية. وكان قد أشار تقرير عمل الحكومة لنواب الشعب لعام 2025 إلى هذه الصناعة المستقبلية كإحدى أولويات الدولة، حيث مرّة أخرى توفّر صناعة السيارات الكهربائية في الصين العمود الفقري، ولديها البنية التحتية الأساسية الجاهزة بالفعل لصناعة المركبات ذات الارتفاع المنخفض. كما أنّ سلسلة الإمداد لدى الصين هي نفسها المستخدمة في السيارات الكهربائية. بالطبع، ليست الأمور كلّها إيجابية بالنسبة للصين. فالبلاد تواجه العديد من التحدّيات الاقتصادية، بما في ذلك الانكماش، والديون المتزايدة للحكومات المحلّية، وضعف إنفاق المستهلكين، وانخفاض قيم العقارات، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، و"القنبلة السكانية الموقوتة". كما أنّ الإطار التنظيمي للصين وخاصّة قواعدها الصارمة بشأن نقل البيانات، تعتبر غير مقبولة بالنسبة للشركاء الأجانب. وفي أيلول/سبتمبر الماضي أصدرت غرفة التجارة الأوروبية في الصين ورقة موقف تضمّنت أكثر من 1000 توصية لتحسين بيئة الأعمال. كما أنّ هناك التأثير غير المعروف حتّى الآن لحرب تجارية مع الولايات المتحدة، حيث أرسلت الصين في العام الماضي 14,7% من صادراتها، التي تقدّر قيمتها بـ 438,9 مليار دولار إلى الولايات المتحدة الماضية في عزل نفسها. لكن، الصين أيضاً لديها فرصة ذهبية لإعادة ضبط علاقات التجارة مع بقية العالم. منذ أشهر قليلة بعد هجوم ترامب العالمي في رفع التعريفات الجمركية، بدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ حملة دبلوماسية في جنوب شرق آسيا، حيث أعلن أنّ الحرب التجارية لا يوجد فيها فائزون، كما أنّ الحماية التجارية لا تؤدّي إلى أيّ مكان. تماماً كما حفّزت ضوابط التصدير الابتكار المحلّي، فإنّ الحرب التجارية التي تشنّها الولايات المتحدة تراها الشركات الصينية إيجابية. ويقول مازوكو من (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية)، إنّ مستوى التوقّعات منخفض من أن تظهر الولايات المتّحدة كشريك أكثر موثوقية هذه الأيام. لقد كنّا هنا من قبل. أصبحت المملكة المتحدة أكبر قوّة اقتصادية في العالم في القرنين الـ 18 والـ 19، من خلال ميزتها الأولى في التصنيع. ولقد اعتمدت الولايات المتحدة هذه التقنيات، وسرعان ما أصبحت من خلال أسواقها الأكبر وقدراتها التصنيعية الهائلة، الرائدة عالمياً في كلّ من الابتكارات وتسويقها. والسؤال هو ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على النجاة من حرب تجارية تهدّد بتقليص أسواقها بشكل كبير، وفي الوقت نفسه تقوّض تطوير التقنيات الأساسية من خلال وقف تمويل الجامعات ومؤسسات البحوث، بينما تنتج الصين بالفعل ضعف عدد منشورات أبحاث الذكاء الاصطناعي الذي يشهد له في الولايات المتحدة وفقاً لتقرير حديث. الصين تقترب من تصدّر الابتكار وتتمركز بين أفضل 6 من أصل 10 في الصناعات المستقبلية كافة. وإذا كانت المركبات الكهربائية نذير شؤم، فقد تكون أيام أميركا في تصدّر طليعة الصناعة التكنولوجية باتت معدودة. نقله إلى العربية: حسين قطايا.

الصين رفضت مزاعم الولايات المتحدة
الصين رفضت مزاعم الولايات المتحدة

LBCI

timeمنذ 6 ساعات

  • LBCI

الصين رفضت مزاعم الولايات المتحدة

رفضت الصين مزاعم الولايات المتحدة بأنها انتهكت اتفاقًا لخفض الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم. وكانت بكين وواشنطن قد اتفقتا الشهر الماضي على خفض مؤقت ومتبادل للرسوم الجمركية التي تثقل كاهل الطرفين لمدة 90 يومًا عقب محادثات بين كبار مسؤوليهما في جنيف. لكن وزير التجارة الأميركيّ هوارد لوتنيك قال لبرنامج "فوكس نيوز صنداي" بأن بكين "تبطئ تنفيذ الاتفاق". وقالت وزارة التجارة الصينية في بيان إنّ "الصين ترفض بشدة هذه الاتهامات غير المعقولة". لكن وزارة التجارة الصينية أكدت أنّها "ثابتة في حماية حقوقها ومصالحها وصادقة في تطبيق الاتفاق". ولفتت إلى أنّ واشنطن "فرضت على التوالي عددا من الإجراءات التقييدية التمييزية ضد الصين"، مشيرة إلى ضوابط تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي وإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة. وحضت الصين "الولايات المتحدة على ملاقاتها في منتصف الطريق وتصحيح أفعالها الخاطئة فورا والتمسك بشكل مشترك بالاجماع الذي تم التوصل اليه في محادثات جنيف التجارية".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store