logo
قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

جريدة الرؤية٢٨-٠٧-٢٠٢٥
د. صالح بن ناصر القاسمي
منذ القدم، أولى العرب عناية خاصة بعلم الأنساب وتوثيقها، لما لها من أهمية في حفظ الروابط الاجتماعية ومعرفة الأصول والانتماءات. وقد أتى الإسلام مؤكدًا هذه الأهمية، كما في قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5). وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى ‌إلى ‌غير ‌أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام)، صحيح البخاري ومسلم.
وقد ارتبط علم الأنساب بتاريخ القبائل العربية، مما يجعل من الضروري لمن يتولى مهمة كتابة هذا التاريخ أن يتحلى بالموضوعية والحيادية، وأن يُعنى بالتدقيق والتمحيص، حتى يتمكن من الوصول إلى حقائق تاريخية تستند إلى دلائل راسخة ومعطيات موثوقة.
ومن القبائل التي حظيت باهتمام واسع في الدراسات التاريخية الحديثة، قبيلة القواسم، لما لها من علاقة وطيدة بأرض عُمان، ولما شكّله حضورها من تأثير على السواحل العُمانية.
وقد تناولت العديد من المصادر العربية والأجنبية نسب هذه القبيلة، ومواضع استقرارها، ودورها في تاريخ عُمان.
وفي هذا الصدد صدر في عام 2014م عن الدار العربية للموسوعات كتاب بعنوان (الفيصل القاسم في أصل القواسم) لمؤلفه الفاضل خلفان بن علي بن خلفان القاسمي، تناول فيه -بأسلوب علمي موثق- مختلف الآراء التي تناولت أصل قواسم عُمان ونسبهم، بالإضافة إلى تاريخ هجرتهم إلى عُمان ومواطن استقرارهم. ويُعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في بابه، لما تضمنه من عرض شامل وموضوعي لكافة الآراء المتداولة حول قواسم عُمان. ولمن يرغب في التوسع والاطلاع على التفاصيل، يُنصح بالرجوع إليه.
وقد أُهديت نسخة من الكتاب إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، باعتباره باحثًا تاريخيا، وقد تفضل سموه بالإشادة بالكتاب، موجّهًا رسالة شخصية إلى مؤلفه عبّر فيها عن شكره وتقديره لمؤلفه، وهي رسالة أطلعنا عليها المؤلف قبل عدة سنوات، ما يُعدّ ضمنيًا بمثابة إقرار بمحتوى الكتاب ومضمونه.
وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا الساحة الثقافية مؤلَّفًا جديدًا لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بعنوان "القواسم في عُمان"، ويقع في نحو ثلاثين صفحة، ونرغب هنا في تقديم قراءة أو تعليق موجز على هذا الإصدار.
بدايةً، لا يمكن حصر تاريخ القواسم في عُمان في هذه السطور القليلة، فهو تاريخ عريق وممتد، يزخر بالوقائع والشواهد التي تؤكد عمقه وأثره. وقد انتشر القواسم في معظم ولايات سلطنة عمان، ولا سيما في الولايات الساحلية، من ولاية شناص شمالًا حتى ولاية صور جنوبًا، فضلًا عن وجودهم الملحوظ في عدد من ولايات المنطقة الشرقية والداخلية، مثل بدبد وسمائل.
وقد تناول الشيخ الدكتور سلطان- حفظه الله- في حديثه جوانب من تاريخ القواسم، إلا أن تركيزه اقتصر على وجود القواسم في الجصة وسمائل دون التطرق إلى وجودهم في الولايات الأخرى، وهو ما يستدعي منا وقفة سريعة للتعليق والتوضيح.
ففيما يتعلق بوجود القواسم في الجصة، فإنه أقدم بكثير مما ورد في حديث الشيخ الدكتور سلطان، الذي أشار فيه إلى عام 1811م، بينما تثبت عدد من الأدلة والقرائن أن وجودهم في هذه المنطقة سابق لهذا التاريخ بكثير، وسنذكر فيما يلي بعض الدلائل التي تؤكد ذلك:
من بين ما يُستدل به على متانة العلاقة بين القواسم في عُمان -وأعني هنا القواسم القاطنين أرض عُمان الأم- والأسرة الحاكمة، أنهم ظلوا على الدوام تحت راية السادة البوسعيديين، بل وحتى من قبلهم في عهد اليعاربة. فلم يُعرف عنهم الدخول في أي صراع مع الحكام، بل كانوا في صفهم وشاركوا في معاركهم جنبًا إلى جنب. وقد أورد المؤرخ ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين (ص:416) موقفًا مشرفًا للقواسم خلال وقوفهم إلى جانب السيد سعيد بن سلطان في حربه ضد عمه قيس، حيث قال:
(وكان يومئذ القابض للسد سالم بن سلطان، ومعه رجال من جعلان من بني راسب والقواسم، وبعض رجال من بني جابر أهل طيوي، وبعض رجال من نخل من أصحاب مالك بن سيف اليعربي. أما سعيد بن سلطان فكان حينها في حصن بركاء. فلما اقترب قيس وقومه من السد، بادره بني راسب والقواسم بالهجوم، فاندلعت المعركة بينهم في وادي العدي، وقد قُتل فيها محمد بن ماجد، أمير بني راسب، وأمير القواسم، ولم يبق من قومهم إلا القليل، بعد أن أبلوا بلاءً حسنًا في القتال وأعطوا السيوف حقها. وبعد استشهاد القواسم وبني راسب، رجع سالم بن سلطان إلى مسقط).
هذا النص يؤكد بجلاء أن القواسم لم يكونوا خصوما أو خصما للسلطة في عُمان، بل كانوا من أوفى مناصريها، وخاضوا المعارك دفاعا عن شرعيتها وولاءً لحكامها.
الشاهد أن القواسم كان وجودهم في الجصة سابقا لذلك التاريخ، بل تشير المصادر إلى أن قواسم الجصة كانوا يشكلون إمارة يُوصَف شيخها بصفة "الأمير"، وقد أورد الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان (ص ٧٦) ما نصه: (ناهيك بقواسم الجصة، فقد كادوا يكونون حكومة مستقلة، وتقع الجصة شرقي مسقط، ولهم فيها آثار مهمة شاهدة على مجدهم).
والشاهد أيضا أن القواسم الذين سكنوا الجصة قد دوّنوا تاريخهم فيها، وهو تاريخ يسبق عهد السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- الذي بدأ حكمه في عام ١٨٠٦م واستمر حتى عام ١٨٥٦م، إذ نجد أن أحد علماء الشافعية من قبيلة القواسم، الذي سكن هو وأجداده الجصة، قد وُلد في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، أي في حدود عام 1790م، مما يؤكد أن أجداده استوطنوا الجصة قبل التاريخ الذي أورده الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو عام ١٨١١م.
ومن جانب آخر فإن المؤرخ ابن رزيق والذي دون سيرة السادة البوسعيديين لم يذكر أن السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- حارب القواسم في مدينة صور، والثابت أن القواسم في صور دارت بينهم وبين قبيلة الجنبة حرب وصادف أن عاد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي من الدرعية بعد أن احتجزه أمير الدرعية عن طريق ميناء صور، حيث ذكر عبدالله بن صالح المطوع، في كتابه الجواهر واللآلي في تاريخ عُمان الشمالي صفحة 76-78 في معرض الكلام عن خروج الشيخ سلطان بن صقر القاسمي وفراره من الدرعية عن آل سعود قال: (وقد تعرف أثناء قضاء مناسك الحج على رجال من قبيلة الجنبة من بلدة صور وكانت بينهم وبين القواسم عداوة وحروب ودماء فأحبوا أن تكون لهم عند القواسم يد إحسان فعرضوا على الشيخ سلطان أن يسافر معهم وضمنوا له الوصول)، إلى أن قال: (وعندما وصل الشيخ سلطان إلى صور التف حوله من بقي فيها من القواسم والجنبة وبالغوا في إكرامه ورجوه جميعا أن يتوسط بينهما ويعقد بينهما معاهدة صلح ويزيل الأحقاد فتعهد بذلك ووفى بما تعهد به).
ومما لا شك فيه أن التاريخ حينما يذكر قبيلة، فإنه يذكرها بمجموعها الكبير، لا بأسرة واحدة فقط. وعليه، فإن ما أورده الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي من أن جميع سكان الجصة هم من نسل صالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي، بعيد عن الواقع. فالثابت أن قبيلة القواسم التي سكنت الجصة تضم أسرًا عديدة معروفة ببيوتها وأفخاذها، وهم أدرى بأنسابهم.
وقد أشار الشيخ الدكتور سلطان كذلك إلى الشيخ مبارك بن عبدالله، وذكر أنه أعقب ولده محمد الذي انتقل إلى الشارقة، دون أن يتطرق إلى ابنيه الآخرين: علي بن مبارك، الذي لا يزال على قيد الحياة في سلطنة عُمان، وأحمد بن مبارك، الذي توفي دون أن يُعقب.
أما نسب الشيخ مبارك بن عبدالله، فهو: مبارك بن عبدالله بن علي بن راشد بن حميد بن سلطان بن خالد بن صقر بن عبد الله بن غانم بن غازي القاسمي.
وهو آخر شيخ في الجصة، وينتمي إلى فخذ أولاد غازي، ولا تربطه صلة نسب بصالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي الذي أشار إليه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي.
أما فيما يخص القواسم في سمائل، فقد ذكر الشيخ الدكتور سلطان القاسمي أنهم من نسل ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي من ابنه هلال. غير أن ناصرًا، وبحسب المصادر، لم يكن له من الذكور سوى ثلاثة أبناء فقط، وهم: إبراهيم، ومحمد، وماجد، وهم الذين وردت أسماؤهم في المشجرة القاسمية في دولة الإمارات، كما ذكرهم الشيخ سلطان القاسمي في كتابه التذكرة بالأرحام في الصفحة ٧١. وقد أشار إليهم أيضًا لوريمر في كتابه دليل الخليج، حيث ذكر أن ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي توفي في رأس الخيمة. وبناءً على ذلك، لا يوجد ما يثبت وجود نسل لهلال بن ناصر بن سلطان القاسمي بين قواسم سمائل.
وبناءً على ما سبق، يتبيّن جليًّا أن قبيلة القواسم في عُمان تُعدّ من القبائل العريقة والمنتشرة في مختلف ولايات السلطنة، وليس من المنطقي حصر وجودها في الجصة وسمائل أو نسبتها إلى شخص واحد فقط، فذلك لا يطابق الواقع ولا ينسجم مع حقائق التاريخ ولا يُقبله العقل.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وزراء الاجتماع
وزراء الاجتماع

جريدة الرؤية

timeمنذ 8 ساعات

  • جريدة الرؤية

وزراء الاجتماع

د. صالح بن ناصر القاسمي بعض اللقاءات التي تجمعك مع بعض القامات الفكرية، وما يدور في تلك اللقاءات من نقاشات، تجعلك تقف أمام مشاهد قلَّ أنْ تلاحظها بتلك الصورة، لولا احتكاكك بتلك العقول، التي حباها الله بميزة القراءة الناقدة المتفحصة والمتأنية قبل إطلاق تصوراتها المبنية على اقتناع بأفكارها تجاه القضايا المجتمعية. ولا شك أن تلك التصورات لم تكن ناتجة فقط عن عملية القراءة والمطالعة، بل هي نتيجة امتلاك عقلية نقية حباها الله بميزات استثنائية، تجعلها تفرز تصورات قابلة للفهم وهي أقرب للواقع، بحيث تمكن المتلقي من فهمها وتقبلها بصورة سهلة وبسيطة. نعم، كم هي ذات فائدة مثل تلك اللقاءات وما ينتج عنها من تنوير للعقول، واكتساب المعرفة التي ربما كانت أفضل من اكتسابها بطرق أخرى، وذلك لسهولة وبساطة التلقي، ولوجود تلك الكاريزما التي لديها القدرة على التأثير والإلهام. وفي أحد تلك اللقاءات دار النقاش حول ما الذي يجعل بعض الشخصيات تتمتع بمزايا وصفات إيجابية، وسمات أخلاقية، تميزهم عن الآخرين، بل تجعلهم محطة ومهوى لجذب قلوب واستحسان كل من يعرفهم ويخالطهم، ويحرص على اللقاء بهم، بل ويلجأ إليهم متى ما ضاقت بهم الأحوال. والسؤال المطروح: هل للبيئة تأثير في تكوين تلك الشخصيات؟ أم أن للجينات الوراثية تأثيرا في ذلك؟ وإذا كان للبيئة تأثير فلماذا لا تتشابه الشخصيات في المحيط الواحد؟ أسئلة جديرة بالتفكر -لا شك في ذلك- فمن المعلوم أن البيئة المحيطة ذات تأثير مباشر على تكوين شخصية الإنسان، ونعني هنا: البيئة بمعناها الطبيعي؛ أي الحياة على الشواطئ، والصحاري، والجبال، هذه البيئات التي تنعكس بشكل مباشر على شخصيات الناس التي تقطنها. ناهيك عن المؤثرات الأخرى مثل التعليم والثقافة العامة للمجتمعات في تلك البيئات. ما يعنينا هنا هو التأكيد على أن البيئة لها انعكاس مباشر على شخصية الإنسان، وذلك التأثير يظهر أثره على تصرفات وتعاملات الإنسان بحسب كل بيئة، مثل صفات الكرم، والأمانة، والتسامح، وتقبل الآخر، والصبر، وغيرها من الصفات، ولا شك أيضًا أن هناك صفات تُعد سلبية بحسب تقييم وتقدير المتعامل مع تلك الشخصيات. ومن خلال ذلك المعترك البيئي المادي، والموروث الثقافي والأخلاقي، تبرز على الساحات تلك النماذج من الشخصيات الإنسانية المميزة النادرة، وهو ما جعل أحد المحاورين يطلق عليها -وزراء الاجتماع- وهو مصطلح، وبحسب ما يتضح، أنه من إبداعات ذلك العقل الرائع، وهو في الحقيقة مصطلح استوقفني وشدني ووجدتني أخط هذه الأسطر لنتناوله ولو بشيء من التوضيح. ببساطة شديدة.. فإنَّ شخصيات وزراء الاجتماع هي تلك الشخصيات التي تتمتع بدماثة الأخلاق، وطيبة النفس، والكرم، والصبر، ونقاء الفطرة، وحسن العشرة، بالإضافة إلى امتلاك بشاشة الوجه، وطلاقة اللسان. مثل هذه الشخصيات، تجدها دائمًا حريصة كل الحرص على التواصل المجتمعي في المناسبات بشكل عام، مع حرصها على التواصل الفردي بشكل خاص، هذا التواصل الخالي من المصلحة الشخصية، والنفاق المجتمعي- كما يُطلق عليه- عند البعض. وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات محورية في مجتمعها، وتمثل محل جذب إليها دون تكلف أو حتى تعمد الجذب، وإنما هي فطرة وسجية لديها. وغالبًا ما تكون مثل هذه الشخصيات تتمتع بصفة الكرم والبساطة. هناك جانب آخر مضيء لهذه الشخصية، إنه جانب التسامح غير المتكلف مع الآخر، فهو لا يتوقف كثيرًا عند الأخطاء والزلات، فتجده يعاشر من أخطأ في حقه وكأن شيئًا لم يحدث، فيلاقيه بوجه طلق ويبدأه بالسلام والتحية، بل أحيانًا يبالغ في إكرام من أخطأ في حقه. وقد روى لي صاحب مصطلح "وزراء الاجتماع" عن قصة حدثت عند أصحاب إحدى تلك الشخصيات؛ حيث تنامى إلى مسمعه أن أحد الأشخاص تكلم في شخصه كلامًا مسيئًا، وما هي إلا أيام معدودة حتى وجه له دعوة لزيارته في منزله وكأن شيئًا لم يحدث بينهما، إنها الشجاعة الأخلاقية في أبهى صورها، والنفس النقية التي لا تعرف الحقد والضغينة. إنهم حقًا وزراء اجتماعيون بطبيعتهم، بثقلهم الأخلاقي، ولكون هذه المناصب -وزراء الاجتماع- من يتولاها هم أناس قليلون؛ فإنهم حقًا يستحقون هذه المناصب عن جدارة واستحقاق، فليس من السهولة في هذا الوقت المتسارع الأحداث، المليء بالآفات النفسية والأخلاقية، أن نجد مثل هؤلاء بكل سهولة، ومع هذا لا يخلو منهم مجتمع، تجدهم مثل النور الذي يُستضاء به في العتمة. ولعل أجمل ما يميز هؤلاء، أن وجودهم في المجتمع يشبه وجود الجذور العميقة للشجرة، تلك الجذور التي قد لا نراها، ولكنها تحفظ الشجرة من السقوط في وجه الرياح، وتغذيها بالماء حين تجف الأرض. إنهم يربطون الماضي بالحاضر، ويحافظون على الخيط الرفيع الذي يمنع القلوب من التباعد، ويصونون حرارة العلاقات الإنسانية وسط برودة الحياة المادية المتسارعة. وحين يرحلون، نشعر وكأن جزءًا من ملامح المجتمع قد غاب، لا لكونهم أشخاصًا عاديين، بل لأنهم كانوا يمثلون صمامات الأمان التي تهدئ النفوس، وتعيد التوازن حين تميل الكفة إلى الصخب أو الخصام. ألا يخطر على بالنا ونحن نتحدث عن مثل تلك الشخصيات آباؤنا وأجدادنا الذين كانوا على قدرٍ عالٍ من التسامح، وعلى مرتبةٍ رفيعة من الحكمة، ومكانةٍ مرموقة لم يكونوا يبحثون عنها؛ وإنما فرضت حضورها في المجتمع، وحظيت بما حظيت من احترامٍ وتقديرٍ في أوساط فئات المجتمع. والسؤال هنا: هل سيأتي زمن تختفي فيه مثل هذه الشخصيات من مجتمعاتنا؟ أم أن بيت الطين لا يخلو من الطحين؟ بحسب المثل السائر. إنَّ الخطوة الأولى التي ينبغي علينا الاهتمام بها، لكي نحافظ على وجود مثل هذه الشخصيات في مجتمعنا، بل وزيادة عددها، لإيماننا بأن هذه الشخصيات هي ميزان التوازن لمجتمعنا، أن نكرس اهتمامنا بغرس مبادئنا وقيمنا الأخلاقية في الناشئة، سواء في مدارسنا، وجامعاتنا، ومجالسنا العامة والخاصة، فمجتمعنا له تلك النكهة الخاصة به، والسمت الذي يشعرك بالاطمئنان والأمان. ونأمل أن يُصبح جميع أفراد مجتمعنا وزراء اجتماعيون؛ فليس ذلك على الله بعزيز. فبقدر ما تشرق الشمس فتمنح الأرض دفئها، يشرق هؤلاء في قلوبنا فيمنحونها سكينة وسلامًا، وبقدر ما يروي الغيم الحقول بالماء، يروون الأرواح بحسن الخلق وجميل العشرة، فإذا غابوا، بقي عبيرهم في الأفق شاهدًا أن النبل لا يزول، وأن الخير مهما تراجع، لا ينطفئ نوره أبدًا.

الوجدان الإنساني
الوجدان الإنساني

جريدة الرؤية

timeمنذ 6 أيام

  • جريدة الرؤية

الوجدان الإنساني

صالح بن ناصر القاسمي الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، التي تشكل شخصيته بناءً على تراكمات زمنية لتلك المشاعر، وهذه المشاعر إما أن تكون إيجابية أو سلبية، تلك الأحداث المؤثرة التي تختزل في الذاكرة الإنسانية، وهي بمثابة البوصلة العاطفية التي تتحكم بعلاقات الإنسان مع الآخر. وتلك المشاعر والأحاسيس هي التي نطلق عليها الوجدان، وبناءً عليه تتشكل ميول الإنسان واتجاهاته وتحالفاته، وكذلك تلك الترسبات ينتج عنها مخزون الحب والكره. وللتوضيح أكثر، فإن الوجدان هو مجموع المشاعر والانفعالات التي تسكن الإنسان، سواء كانت في وعيه أو في لا وعيه، وهو يمثل الجذر العاطفي الذي تتغذى منه مواقفه وعلاقاته وتصوراته. سؤال مهم دائمًا ما نسأله أنفسنا: لماذا نكره شخصًا بعينه، أو حتى شعبًا بعينه؟ والسؤال ذاته: لماذا نحب شخصًا أو شعبًا؟ الحب والكره لا ينتجان نتيجة موقف معين عابر، وإنما نتيجة مواقف متكررة استطاعت أن تتمكن منا ومن وجداننا بالمعنى الصحيح، وسيطرت على مشاعرنا وعواطفنا حتى أصبحنا لا نملك إلا أن ننجرف معها لنصل إلى اتخاذ موقف يحقق لنا الارتياح النفسي. وهنا لا بد من العودة إلى الطفولة، حيث نبدأ بتكوين مشاعر الحب والكره، فنحب من يقدم لنا أية خدمة، بل من يسدي إلينا الإحسان، فتجدنا نعشق الأم والأب اللذين يحتوياننا برعايتهما وحنانهما، نحب إخوتنا وأخواتنا الأكبر منا، الذين يقدمون لنا ذلك الحب النقي ويشملوننا بتلك العاطفة الصادقة، وفي تلك المرحلة تتعزز، بل وتنشأ الرابطة الأسرية التي تقوى مع مرور الزمن. وقد صوّر لنا القرآن الكريم قوة ومتانة تلك العلاقة عند معرض ذكر مشاهد يوم القيامة وانفراط عقد الرابط المتين الذي كان يجمع الأسرة، فقال تعالى: "يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" (عبس: 34–37). فالقرآن الكريم هنا يصوّر لنا أن كل أفراد الأسرة التي كانت تربطها تلك العلاقة القوية في الدنيا، ينشغل كل واحد من أفرادها بنفسه من هول مشهد يوم القيامة. وما يهمنا هنا أن نؤكد على مسألة تكوين الوجدان لدى الإنسان، الذي يبدأ معه من بداية ترعرعه ونشأته في كنف الأسرة، لينطلق بعد ذلك ويتوسع نطاق الوجدان، فيتفاعل مع ما حوله من تجارب ومؤثرات. نعم، فالحياة تزخر بالمواقف والتجارب المتنوعة التي تصقل شخصية الإنسان، وتضعه في مواجهة دائمة مع مشاعره وأحكامه، ليخوض تجاربه الإنسانية بحلوها ومرّها، بخيرها وشرّها، ويبدأ معه الوجدان بممارسة دوره وتأثيره على مجريات الأمور في حياة الإنسان، ويبدأ المخزون النفسي بتأثيره المباشر في حالات الحب والكره. وينبغي علينا هنا أن نعطي الوجدان درجة أعلى من تلك التي نطلق عليها الحالة المزاجية، فهذه الأخيرة إنما تكون مؤقتة بفترة زمنية محددة، وغالبًا ما تكون قصيرة مقارنة بالحالة الوجدانية التي أصبحت جزءًا من التكوين النفسي، بل العقلي، للإنسان. فالمزاج يتغير في ساعات، أما الوجدان فهو جزء من بنيان الشخصية وثابت في أعماقها، يؤثر في التفكير والسلوك دون أن نشعر أحيانًا. إذًا، فإن الوجدان الإنساني بهذا الوصف يرتبط بالروح ارتباطًا وثيقًا، وهو المحرك والمؤثر الأول في تحريك المشاعر، والمنسق مع العمليات العقلية التي تعطي الإنسان الخيارات المتاحة، ليتمكن عندها من اتخاذ القرار الذي يراه مناسبًا ويتفق مع الحالة الشعورية التي يوفرها المخزون الوجداني، ويعتمد على مدى قوة تأثير تلك الحالة. إن الأحاسيس الوجدانية هي خليط بين الحالة الشعورية الواعية، وبين تلك المختزلة في الشعور اللاواعي، فهي تتفاعل بسرعة ودقة متناهية تجعل الإنسان يقدم على اتخاذ قرار حاسم في لحظة مفصلية وتاريخية، نتيجة تفاعلات فكرية في الوجدان. في تلك اللحظة المفصلية عند اتخاذ القرار السريع، يكون الإنسان في لحظة إدراك تام لمشاعره الوجدانية، وهنا تتفاوت القدرات الإنسانية بناءً على مدى التفاعل الوجداني لكل إنسان، فهناك فروقات في القدرات لدى البشر، تعتمد على مدى تفاعلهم الوجداني، أو ما نستطيع أن نطلق عليه الذكاء الوجداني، أي قدرة الإنسان على إدراك مشاعره ومشاعر من حوله والتفاعل معها بوعي وفعالية. ومع امتداد تأثير الوجدان في حياة الفرد، يبرز تساؤل أكبر: هل هناك وجدان جمعي، أو أممي، أو حتى إنساني؟ لا شك أن الوجدان عام وشامل، فهناك الوجدان الجمعي الذي يمثل المجتمع، وهناك الوجدان الأممي الذي يمثل أمة من الأمم، وهناك وجدان أعم وأشمل يمثل الإنسانية، وهو يمثل هرم الأخلاق في سموّها وتجلياتها. فالمجتمعات إنما يتولد لديها وجدان عام نتيجة التجارب العامة التي مرّت بها، فالتاريخ الخاص بالمجتمعات إنما هو يمثل وجدانها، لذلك نجدها -أي المجتمعات- تتذكر المناسبات التي كانت لها علامات فارقة في مسيرتها، سواء كانت تلك المناسبات إيجابية أو سلبية، فالألم والفرح إنما يمثلان هنا الوجدان، الذي يعتبر القلب النابض للمجتمع، والذاكرة المرجعية لأفراده. ولعلنا نلاحظ -على سبيل المثال- كيف أن بعض الشعوب تعيش ذكرى نكبة أو نصر كما لو أنها حدثت بالأمس، لا لأنها لم تنس، بل لأن وجدانها ما زال محتفظًا بأثرها الحي. وكذلك الأمم لها وجدان، وهو أوسع وأشمل، على اعتبار اتساع الرقعة الجغرافية، وما يصاحبها من أحداث عظيمة، تصنع تاريخها وتمثل مبادئها وقيمها، وعلى اعتبار تنوع تلك الأحداث وما تنتجه من آثار ذات وقع عالٍ في حياة الأمم. فعلى سبيل المثال -وليس الحصر- لو أخذنا تاريخ الأمة الإسلامية، وما مرّت به من عملية تكوين وتأسيس، وما شملته من تنوع في الأعراق والأجناس، وما مرت به من حروب داخلية وخارجية، وما نتج عن كل ذلك من تاريخ وأحداث تجذّرت في داخلها، وصنعت لها وجدانًا لا زال يؤثر في قراراتها حتى اللحظة، والذي سوف يستمر تأثيره مستقبلًا. وكم شاهدنا الصراعات الفكرية لمجرد أن المجتمع شعر في لحظة أن أحد ركائزه أو معتقداته مهدد من قبل جهة ما، حينها يصحو الوجدان الذي يمثل الأمة، وينبري مدافعًا عن تلك الثوابت. ولا نغفل أيضًا عن ذلك الوجدان الذي يمثل الإنسانية، وهو هنا يمثل الأخلاق العالمية، مثل: الحرية، والكرامة، والعدالة، وحرية التعبير، وغيرها من المبادئ والقيم العالمية، التي لا تُختصر أو تُختصّ بمجتمع دون الآخر، فكثيرًا ما نجد العالم -الذي يعد نفسه عالمًا متحضرًا ومدنيًا- يرفع صوته عاليًا عند تعرض تلك القيم إلى التهديد أو الانتهاك، بغضّ النظر عن هوية ذلك المجتمع. ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: ما حدث من تعاطف عالمي عند رؤية صور أطفال الحروب أو الكوارث البيئية الكبرى، حيث ارتفعت أصوات الشعوب والمنظمات في وجه الظلم أو الإهمال، وهذا بحد ذاته تجلٍّ للوجدان الإنساني المشترك. ونستطيع أن نطلق على ذلك الوجدان الإنساني العالمي مصطلح الضمير الإنساني، الذي تعدّى حماية الإنسان ليشمل الحيوان، والبحار، والأشجار، والطير، لإيمانه بأن الإنسان معنيّ بحماية العالم الذي يعيش عليه، والذي ميّزه الله وخصّه وكفله بحمايته وعماراته. وفي الختام، فإننا مطالبون بأن ندرك ونعي أن الوجدان هو مسرح عمليات اتخاذ القرارات، وأن تلك القرارات إنما هي نتاج ذلك المخزون من المشاعر والأحاسيس التي تم تغذية الوجدان بها منذ بداية إدراكه. فلنتأمل مليًّا: ماذا أودعنا في وجداننا؟ وهل هو اليوم مرشدٌ لنا أم عبءٌ علينا؟ وهل نملك شجاعة إعادة تشكيله بما يليق بإنسانيتنا ووعينا؟

قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

جريدة الرؤية

time٢٨-٠٧-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

قراءة في كتاب "القواسم في عُمان" للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

د. صالح بن ناصر القاسمي منذ القدم، أولى العرب عناية خاصة بعلم الأنساب وتوثيقها، لما لها من أهمية في حفظ الروابط الاجتماعية ومعرفة الأصول والانتماءات. وقد أتى الإسلام مؤكدًا هذه الأهمية، كما في قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 5). وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى ‌إلى ‌غير ‌أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام)، صحيح البخاري ومسلم. وقد ارتبط علم الأنساب بتاريخ القبائل العربية، مما يجعل من الضروري لمن يتولى مهمة كتابة هذا التاريخ أن يتحلى بالموضوعية والحيادية، وأن يُعنى بالتدقيق والتمحيص، حتى يتمكن من الوصول إلى حقائق تاريخية تستند إلى دلائل راسخة ومعطيات موثوقة. ومن القبائل التي حظيت باهتمام واسع في الدراسات التاريخية الحديثة، قبيلة القواسم، لما لها من علاقة وطيدة بأرض عُمان، ولما شكّله حضورها من تأثير على السواحل العُمانية. وقد تناولت العديد من المصادر العربية والأجنبية نسب هذه القبيلة، ومواضع استقرارها، ودورها في تاريخ عُمان. وفي هذا الصدد صدر في عام 2014م عن الدار العربية للموسوعات كتاب بعنوان (الفيصل القاسم في أصل القواسم) لمؤلفه الفاضل خلفان بن علي بن خلفان القاسمي، تناول فيه -بأسلوب علمي موثق- مختلف الآراء التي تناولت أصل قواسم عُمان ونسبهم، بالإضافة إلى تاريخ هجرتهم إلى عُمان ومواطن استقرارهم. ويُعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًا في بابه، لما تضمنه من عرض شامل وموضوعي لكافة الآراء المتداولة حول قواسم عُمان. ولمن يرغب في التوسع والاطلاع على التفاصيل، يُنصح بالرجوع إليه. وقد أُهديت نسخة من الكتاب إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم إمارة الشارقة، باعتباره باحثًا تاريخيا، وقد تفضل سموه بالإشادة بالكتاب، موجّهًا رسالة شخصية إلى مؤلفه عبّر فيها عن شكره وتقديره لمؤلفه، وهي رسالة أطلعنا عليها المؤلف قبل عدة سنوات، ما يُعدّ ضمنيًا بمثابة إقرار بمحتوى الكتاب ومضمونه. وفي الآونة الأخيرة، طالعتنا الساحة الثقافية مؤلَّفًا جديدًا لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بعنوان "القواسم في عُمان"، ويقع في نحو ثلاثين صفحة، ونرغب هنا في تقديم قراءة أو تعليق موجز على هذا الإصدار. بدايةً، لا يمكن حصر تاريخ القواسم في عُمان في هذه السطور القليلة، فهو تاريخ عريق وممتد، يزخر بالوقائع والشواهد التي تؤكد عمقه وأثره. وقد انتشر القواسم في معظم ولايات سلطنة عمان، ولا سيما في الولايات الساحلية، من ولاية شناص شمالًا حتى ولاية صور جنوبًا، فضلًا عن وجودهم الملحوظ في عدد من ولايات المنطقة الشرقية والداخلية، مثل بدبد وسمائل. وقد تناول الشيخ الدكتور سلطان- حفظه الله- في حديثه جوانب من تاريخ القواسم، إلا أن تركيزه اقتصر على وجود القواسم في الجصة وسمائل دون التطرق إلى وجودهم في الولايات الأخرى، وهو ما يستدعي منا وقفة سريعة للتعليق والتوضيح. ففيما يتعلق بوجود القواسم في الجصة، فإنه أقدم بكثير مما ورد في حديث الشيخ الدكتور سلطان، الذي أشار فيه إلى عام 1811م، بينما تثبت عدد من الأدلة والقرائن أن وجودهم في هذه المنطقة سابق لهذا التاريخ بكثير، وسنذكر فيما يلي بعض الدلائل التي تؤكد ذلك: من بين ما يُستدل به على متانة العلاقة بين القواسم في عُمان -وأعني هنا القواسم القاطنين أرض عُمان الأم- والأسرة الحاكمة، أنهم ظلوا على الدوام تحت راية السادة البوسعيديين، بل وحتى من قبلهم في عهد اليعاربة. فلم يُعرف عنهم الدخول في أي صراع مع الحكام، بل كانوا في صفهم وشاركوا في معاركهم جنبًا إلى جنب. وقد أورد المؤرخ ابن رزيق في كتابه الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين (ص:416) موقفًا مشرفًا للقواسم خلال وقوفهم إلى جانب السيد سعيد بن سلطان في حربه ضد عمه قيس، حيث قال: (وكان يومئذ القابض للسد سالم بن سلطان، ومعه رجال من جعلان من بني راسب والقواسم، وبعض رجال من بني جابر أهل طيوي، وبعض رجال من نخل من أصحاب مالك بن سيف اليعربي. أما سعيد بن سلطان فكان حينها في حصن بركاء. فلما اقترب قيس وقومه من السد، بادره بني راسب والقواسم بالهجوم، فاندلعت المعركة بينهم في وادي العدي، وقد قُتل فيها محمد بن ماجد، أمير بني راسب، وأمير القواسم، ولم يبق من قومهم إلا القليل، بعد أن أبلوا بلاءً حسنًا في القتال وأعطوا السيوف حقها. وبعد استشهاد القواسم وبني راسب، رجع سالم بن سلطان إلى مسقط). هذا النص يؤكد بجلاء أن القواسم لم يكونوا خصوما أو خصما للسلطة في عُمان، بل كانوا من أوفى مناصريها، وخاضوا المعارك دفاعا عن شرعيتها وولاءً لحكامها. الشاهد أن القواسم كان وجودهم في الجصة سابقا لذلك التاريخ، بل تشير المصادر إلى أن قواسم الجصة كانوا يشكلون إمارة يُوصَف شيخها بصفة "الأمير"، وقد أورد الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان (ص ٧٦) ما نصه: (ناهيك بقواسم الجصة، فقد كادوا يكونون حكومة مستقلة، وتقع الجصة شرقي مسقط، ولهم فيها آثار مهمة شاهدة على مجدهم). والشاهد أيضا أن القواسم الذين سكنوا الجصة قد دوّنوا تاريخهم فيها، وهو تاريخ يسبق عهد السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- الذي بدأ حكمه في عام ١٨٠٦م واستمر حتى عام ١٨٥٦م، إذ نجد أن أحد علماء الشافعية من قبيلة القواسم، الذي سكن هو وأجداده الجصة، قد وُلد في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، أي في حدود عام 1790م، مما يؤكد أن أجداده استوطنوا الجصة قبل التاريخ الذي أورده الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو عام ١٨١١م. ومن جانب آخر فإن المؤرخ ابن رزيق والذي دون سيرة السادة البوسعيديين لم يذكر أن السلطان سعيد بن سلطان -رحمه الله- حارب القواسم في مدينة صور، والثابت أن القواسم في صور دارت بينهم وبين قبيلة الجنبة حرب وصادف أن عاد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي من الدرعية بعد أن احتجزه أمير الدرعية عن طريق ميناء صور، حيث ذكر عبدالله بن صالح المطوع، في كتابه الجواهر واللآلي في تاريخ عُمان الشمالي صفحة 76-78 في معرض الكلام عن خروج الشيخ سلطان بن صقر القاسمي وفراره من الدرعية عن آل سعود قال: (وقد تعرف أثناء قضاء مناسك الحج على رجال من قبيلة الجنبة من بلدة صور وكانت بينهم وبين القواسم عداوة وحروب ودماء فأحبوا أن تكون لهم عند القواسم يد إحسان فعرضوا على الشيخ سلطان أن يسافر معهم وضمنوا له الوصول)، إلى أن قال: (وعندما وصل الشيخ سلطان إلى صور التف حوله من بقي فيها من القواسم والجنبة وبالغوا في إكرامه ورجوه جميعا أن يتوسط بينهما ويعقد بينهما معاهدة صلح ويزيل الأحقاد فتعهد بذلك ووفى بما تعهد به). ومما لا شك فيه أن التاريخ حينما يذكر قبيلة، فإنه يذكرها بمجموعها الكبير، لا بأسرة واحدة فقط. وعليه، فإن ما أورده الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي من أن جميع سكان الجصة هم من نسل صالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي، بعيد عن الواقع. فالثابت أن قبيلة القواسم التي سكنت الجصة تضم أسرًا عديدة معروفة ببيوتها وأفخاذها، وهم أدرى بأنسابهم. وقد أشار الشيخ الدكتور سلطان كذلك إلى الشيخ مبارك بن عبدالله، وذكر أنه أعقب ولده محمد الذي انتقل إلى الشارقة، دون أن يتطرق إلى ابنيه الآخرين: علي بن مبارك، الذي لا يزال على قيد الحياة في سلطنة عُمان، وأحمد بن مبارك، الذي توفي دون أن يُعقب. أما نسب الشيخ مبارك بن عبدالله، فهو: مبارك بن عبدالله بن علي بن راشد بن حميد بن سلطان بن خالد بن صقر بن عبد الله بن غانم بن غازي القاسمي. وهو آخر شيخ في الجصة، وينتمي إلى فخذ أولاد غازي، ولا تربطه صلة نسب بصالح بن محمد بن صالح بن علي المالودي القاسمي الذي أشار إليه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. أما فيما يخص القواسم في سمائل، فقد ذكر الشيخ الدكتور سلطان القاسمي أنهم من نسل ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي من ابنه هلال. غير أن ناصرًا، وبحسب المصادر، لم يكن له من الذكور سوى ثلاثة أبناء فقط، وهم: إبراهيم، ومحمد، وماجد، وهم الذين وردت أسماؤهم في المشجرة القاسمية في دولة الإمارات، كما ذكرهم الشيخ سلطان القاسمي في كتابه التذكرة بالأرحام في الصفحة ٧١. وقد أشار إليهم أيضًا لوريمر في كتابه دليل الخليج، حيث ذكر أن ناصر بن سلطان بن صقر القاسمي توفي في رأس الخيمة. وبناءً على ذلك، لا يوجد ما يثبت وجود نسل لهلال بن ناصر بن سلطان القاسمي بين قواسم سمائل. وبناءً على ما سبق، يتبيّن جليًّا أن قبيلة القواسم في عُمان تُعدّ من القبائل العريقة والمنتشرة في مختلف ولايات السلطنة، وليس من المنطقي حصر وجودها في الجصة وسمائل أو نسبتها إلى شخص واحد فقط، فذلك لا يطابق الواقع ولا ينسجم مع حقائق التاريخ ولا يُقبله العقل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store