
الطلاق.. عندما يتمزق "الميثاق الغليظ" ويهدد استقرار المجتمع!
◄ غياب وضوح الأدوار المالية لكل طرف يؤزِّم العلاقة
◄ السيابي: ضعف الوعي والمسؤولية وراء ارتفاع الطلاق
◄ النظيرية: الجفاف العاطفي وضعف مهارات التواصل يرفعان معدلات الطلاق
◄ أسماء سويد: غياب الحوار الفعّال وتدخل العائلة.. أبرز أسباب انهيار الحياة الزوجية
◄ الكلبانية: وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت نظرة النساء للانفصال
الرؤية- سارة العبرية
رغم أنَّ الطلاق إجراء لا حُرمة فيه في الشريعة الإسلامية، إلّا أنَّ تفشّي حالات الطلاق في المجتمع، يدُق ناقوس الخطر من المُهددات التي تجابه الاستقرار الاجتماعي، وتُنذر بعواقب قد لا يُمكن تحملها، وسط تحديات اجتماعية أخرى لا يغفل عنها أحد.
ويُؤكد عدد من المختصين أن ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع العُماني بات ظاهرة مُقلقة تستدعي وقفة جادة، مشيرين إلى أنَّ أسبابها لم تعد تقتصر على العوامل التقليدية؛ بل امتدت لتشمل جوانب نفسية وعاطفية واقتصادية واجتماعية، إلى جانب تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي وتراجع مهارات التواصل بين الأزواج.
وبينّوا- في حديثهم لـ"الرؤية"- أن الحلول تكمن في رفع الوعي الأسري، وتفعيل دور الإرشاد الزواجي، وتطوير التشريعات بما يُواكب المتغيرات الاجتماعية، مؤكدين أن التدخل المبكر يمكن أن ينقذ العديد من العلاقات من الانهيار.
أسباب قانونية
وقال المحامي عبدالعزيز بن محمد السيابي "إن قانون الأحوال الشخصية العُماني يحدد عدة أسباب يمكن لأحد الزوجين الاستناد إليها لطلب الطلاق، منها عدم النفقة؛ إذ نصت المادة (109) على أنَّه يجوز للزوجة طلب التطليق إذا امتنع الزوج عن الإنفاق عليها ولم يثبت إعساره، إضافة إلى الضرر والشقاق؛ حيث أكدت المادة (101) أنَّ لكل من الزوجين طلب التطليق إذا تعذر دوام العشرة بينهما لغياب المودة وحسن المعاشرة، وكذلك العلة، وفق المادة (98) التي تتيح لأحد الزوجين طلب التطليق إذا كان في الطرف الآخر علة عقلية أو عضوية يتعذر معها استمرار الحياة الزوجية سواء أصيب بها قبل العقد أو بعده.
وأوضح السيابي أنَّ القضايا المرتبطة بالطلاق تشهد ارتفاعًا ملحوظًا تؤكده الإحصاءات؛ حيث سجلت محافظة مسقط وحدها 1161 حالة طلاق للمواطنين في عام 2024 مقارنة بـ 859 حالة في 2023، مشيرًا إلى أنَّ أبرز العوامل وراء ذلك تتمثل في قلة الوعي بالحقوق والواجبات الزوجية، وانعدام المسؤولية، وانعدام الثقة بين الطرفين.
وبيّن أنَّ قانون الأحوال الشخصية يشترط توفر شروط معينة في الحاضن، وأن فقدان أحدها يسقط الحضانة حتى تعود تلك الشروط، مؤكدًا أن النفقة على الأبناء تمثل تحديًا ماليًا كبيرًا على المنفق سواء في تحديدها أو في طرق صرفها، لافتًا إلى أنَّ التطورات الاجتماعية المتسارعة تتطلب مرونة تشريعية لمواكبتها، إذ إنَّ جمود النصوص يحول دون تحقيق الغرض الذي وضعت من أجله.
ودعا السيابي الأزواج إلى تقوى الله في أنفسهم وأبنائهم، وصون ما وصفه الله بالميثاق الغليظ، وألا يجعلوا الطلاق إلا آخر الحلول، مؤكدًا إمكانية تجنب الانفصال عبر وسائل متعددة منها دور القاضي في إصلاح ذات البين وتقريب وجهات النظر، وهو ما ساهم في كثير من الحالات في عدول أحد الزوجين عن قرار التطليق وحماية الأسرة من التمزق.
المشاكل الزوجية
من جهتها، أكدت عائشة بنت عامر النظيرية أخصائية نفسية واستشارية علاقات أسرية أنَّ السنوات الأخيرة شهدت تحوّلًا واضحًا في طبيعة المشاكل الزوجية؛ حيث تراجعت الشكاوى التقليدية مثل العنف والخيانة والمشكلات المالية، وبرزت بقوة الأسباب النفسية والعاطفية، وفي مقدمتها الحرمان العاطفي وغياب الاحتواء والتقدير، ما يؤدي إلى فقدان الرابط العاطفي وظهور حالات "الانفصال العاطفي" رغم استمرار الحياة المشتركة.
وأوضحت أنَّ الشعور بالوحدة داخل العلاقة بات ظاهرة متكررة، إلى جانب تأثير القلق والاكتئاب غير المعالج على استقرار الزواج. كما أشارت إلى أنَّ ضعف الصبر والتفهم أصبح أكثر وضوحًا، مستشهدة بحالات تنتهي بالانفصال رغم غياب الإساءة المباشرة، وإنما بسبب الجفاف العاطفي.
وترى النظيرية أن ضعف مهارات التواصل يمثل جذرًا عميقًا للمشكلات؛ إذ يخلط كثير من الأزواج بين التعبير والاتهام، أو بين الإنصات والدفاع، ما يُغلق باب الحوار ويحوّل الخلافات البسيطة إلى أزمات كبرى.
وأضافت أنَّ الضغوط الاقتصادية، مثل البطالة وغلاء المعيشة والديون، تُفاقم التوتر الأسري، خاصة مع غياب وضوح الأدوار المالية، كما حذّرت من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي تُغذي المقارنات غير الواقعية وتفتح الباب أمام الخيانات الافتراضية، وصولًا إلى الانهيار الكامل للثقة.
ولفتت إلى وجود فجوة في وعي الشباب المُقبلين على الزواج؛ إذ يُختزل الارتباط في الرومانسية أو التوافق المادي، بينما تُهمل الجوانب النفسية مثل الصبر والمرونة وإدارة الخلاف. وأكدت أن تقليص هذه الفجوة يتطلب مقررات تعليمية حول الذكاء العاطفي، ومبادرات وطنية للتأهيل الزواجي، وخطابًا واقعيًا عبر المؤثرين الاجتماعيين.
التدخل المُبكر
وأشارت النظيرية إلى أنَّ التدخل المبكر في المشكلات الزوجية يحد بشكل ملحوظ من حالات الطلاق، إذ تُظهر الإحصاءات أن النسبة الأكبر في السلطنة تحدث خلال السنوات الخمس الأولى من الزواج.
ووجهت بتوصيات للأسر منها عدم التسرع في الحكم على أحد الطرفين، واحتضان الأبناء المتزوجين، وتعزيز ثقافة الحوار والمصالحة، وأيضا ربط عقد الزواج بدورة إلزامية للتأهيل، وتفعيل مراكز الاستشارات الأسرية قبل الوصول للمحاكم، وتأهيل أخصائيين نفسيين واجتماعيين للعمل داخل المحاكم الأسرية من جانبها، أكدت أسماء سويد مرشدة أسرية وأخصائية تعديل سلوك في المجال التربوي والزواجي، أن التواصل الصحيح بين الزوجين يمثل الأساس المتين لاستمرار العلاقة الزوجية، موضحة أن وجود لغة مشتركة، وتقبل كل طرف للآخر، والمرونة في التعامل مع تحديات الحياة الجديدة، كلها عناصر ضرورية للتكيف مع متغيرات الزواج.
وقالت "إن غياب الحوار الفعّال يؤدي إلى انفصال عاطفي، وشعور أحد الطرفين أو كليهما بالوحدة، كما أن ضعف القدرة على إدارة الانفعالات وتكرار الجدالات وفتح الملفات القديمة، إلى جانب غياب النضج النفسي والعاطفي، كلها عوامل نفسية تُسرع من انهيار العلاقة".
وأضافت أن المشكلات الاقتصادية تمثل سببًا رئيسيًا آخر؛ إذ يعاني بعض الأزواج من غياب الوعي المالي وعدم القدرة على وضع ميزانية للأسرة، فضلًا عن الأعباء الناتجة عن تكاليف الزواج الباهظة والديون التي تبدأ بها حياتهم المشتركة، مؤكدة "ضرورة الترشيد في طلب المهور".
أنماط الحياة
وعن العوامل الاجتماعية، أوضحت أنَّ السماح بتدخل العائلة من الطرفين في تفاصيل الحياة الزوجية، والفوارق التعليمية أو الثقافية بين الزوجين، من شأنها خلق فجوات في القيم والأهداف، كما حذرت من تأثير أنماط الحياة المبالغ في عرضها على وسائل التواصل الاجتماعي، مُعتبرة أنها تكشف خصوصيات الحياة الزوجية وتخلق صورة وهمية بعيدة عن الواقع المليء بالصراعات.
وأشارت إلى أن نسب الطلاق ارتفعت بين السنة الأولى والثالثة من الزواج، بسبب غياب القناعة بأنَّ "الزواج" يتطلب بذل الجهد للحفاظ عليه، لافتة إلى أن بعض التوجهات النسوية التي تدعو إلى مساواة غير متوازنة ساهمت في تعقيد العلاقة، خاصة حين ترفض الزوجة المساهمة في الأعباء المعيشية رغم عملها، أو تؤجل الإنجاب بدافع الاستقلالية المُطلقة.
وشددت على أنَّ المرأة مهما بلغت من مكانة أو مال أو تعليم، تبقى بحاجة إلى الرجل الذي يمنحها الدعم النفسي والعاطفي والجسدي، مؤكدة في الوقت نفسه أنَّ الإرشاد الأسري لم يعد رفاهية بل ضرورة، خاصة مع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الأفكار، وارتفاع معدلات الطلاق.
وفي ما يخص الحلول، دعت إلى تأسيس العلاقة الزوجية على قاعدة إيمانية أساسها مخافة الله، ومعرفة الحقوق والواجبات، إلى جانب امتلاك المهارات اللازمة لبناء زواج واعٍ وواضح الأهداف، كما شددت على أهمية إشاعة ثقافة "الاستمرارية" بدل النظر إلى الطلاق كحل أول، وذلك عبر تطوير العلاقة، وإشباع الاحتياجات، وممارسة التغافل والحكمة للحفاظ على المودة والرحمة بين الطرفين.
السوشال ميديا!
وترى منى بنت خلفان الكلبانية ممثلة وناشطة اجتماعية، تزايد حالات الطلاق في السلطنة مؤخرًا -خلال متابعتها المستمرة لما يُنشر في وسائل الإعلام والملاحظات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي-، مضيفة الواقع اليومي الذي نعيشه يمكن تحديد عدة أسباب تسهم في ارتفاع معدلات الطلاق في سلطنة عُمان، من أبرزها ضعف التفاهم بين الزوجين منذ البدايات الأولى وافتقاد مهارات التواصل والحوار البنّاء، والتسرع في اتخاذ قرار الزواج دون التعرف الكافي على الطرف الآخر أو دون التأكد من وجود توافق حقيقي في القيم والتطلعات، وتدخلات الأهل التي تكون أحيانًا غير موضوعية مما يزيد من تعقيد الخلافات بدلاً من المساهمة في حلها، والشك والغيرة المفرطة وغياب الثقة والاحترام المتبادل مما يؤدي إلى زعزعة استقرار العلاقة، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية المتزايدة مثل البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة التي تولد بيئة مشحونة بالتوتر داخل البيت، وانتشار الخيانات سواء الواقعية أو عبر العلاقات الإلكترونية في ظل الانفتاح الرقمي وغياب الوعي أو الرقابة الذاتية، وكذلك الزواج التقليدي المفروض دون قناعة أو رضا كامل من الطرفين ما يجعله هشًا وقابلًا للانهيار مع أول اختبار.
وحول تغيّر نظرة المجتمع وخاصة بين النساء تجاه قرار الطلاق وتأثير المنصات الرقمية، أوضحت الكلبانية أنَّ هناك تحولًا ملحوظًا في نظرة المجتمع نحو الطلاق، لا سيما بين الجيل الجديد من النساء؛ إذ بات يُنظر إليه في كثير من الحالات كخيار مسؤول يلجأ إليه أحد الطرفين حين تصبح الحياة الزوجية مرهقة نفسيًا أو غير آمنة.
وأشارت إلى أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي أدّت دورًا كبيرًا في هذا التحول؛ إذ أتاحت للنساء مساحة للتعبير عن تجاربهن وساعدت في نشر خطاب يدعو للاستقلالية وتمكين الذات، مما عزَّز الثقة بالنفس لدى كثير من النساء وشجعهن على اتخاذ قرارات مصيرية في الوقت المناسب، لكنها حذَّرت من أن بعض المحتوى المتداول بات يُبسط قرار الانفصال ويضخم التوقعات حول العلاقات ويصور الزواج الناجح على أنه خالٍ من المشاكل، وهو تصور غير واقعي يُضعف من قدرة البعض على التحمل أو إدارة الخلافات.
وتابعت قولها: "رغم وجود عدد من المبادرات والبرامج التوعوية التي تُقدَّر جهود القائمين عليها، سواء من جهات حكومية أو أهلية، إلا أنَّ حجم التحديات الراهنة يتطلب مستوى أعلى من العمل والاستجابة، مُشددة على أهمية التركيز على الجانب الوقائي من خلال إعداد الشباب نفسيًا وفكريًا للحياة الزوجية قبل الإقدام عليها، وتطوير المحتوى التوعوي بحيث يُقدم بلغة واقعية وجذابة تتماشى مع أسلوب تفكير الشباب مع استخدام المنصات الرقمية التي يتفاعلون معها يوميًا، وإدماج مفاهيم الحياة الأسرية والمهارات الاجتماعية في المناهج التعليمية، إضافة إلى توفير مراكز دعم واستشارات زوجية تقدم خدمات نفسية وقانونية بأسعار مقبولة لتكون خيارًا حقيقيًا بديلًا عن الطلاق".
وأضافت الكلبانية في رسالتها للزوجين قبل اتخاذ قرار الطلاق على أي زوجين وصلا إلى مفترق طرق أن يتمهلا قبل اتخاذ القرار؛ فالطلاق ليس خطأً دائمًا لكنه قرار مصيري لا ينبغي التسرع فيه، لأنه لا يمس طرفين فقط؛ بل يطال الأسرة والمجتمع بشكل أوسع، خاصة عندما يكون هناك أطفال، مشيرة إلى أهمية طرح السؤال بصدق: هل يمكن إصلاح الخلاف؟ وهل الطلاق هو فعلاً الحل أم مجرد هروب مؤقت من الواقع؟ وفي حال كان الخيار النهائي هو الانفصال، كيف يُمكن أن يتم بأقل ضرر نفسي واجتماعي ممكن لكل الأطراف؟ مؤكدة أنَّ الزواج لا يعني غياب المشاكل؛ بل يعني وجود شريكين قادرين على مواجهتها معًا بنضج ورحمة، وهذه القدرة هي التي تصنع العلاقة المتينة لا مجرد خلوها من الخلافات.
وبيّنت أنَّ الطلاق في سلطنة عُمان، كما هو الحال في مختلف المجتمعات، ليس مجرد حالة فردية؛ بل مرآة لتحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية يعيشها المجتمع، ورغم أنَّه قد يكون في بعض الأحيان ضرورة لا مفر منها، إلا أنَّ الأساس في بناء أسر قوية يبقى في التوعية المبكرة والتأهيل الجاد وتوفير منظومة دعم قادرة على احتواء الأزمات قبل أن تتفاقم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ ساعة واحدة
- جريدة الرؤية
هل أنت من الفرقة الناجية؟
بدر بن خميس الظفري @waladjameel تتسلل فكرة "الفرقة الناجية" إلى الوعي الجمعي كهَمْسٍ يثير القلق ويُغذِّي التساؤلات الوجودية؛ فهي فكرة تتجلى بأشكال مختلفة في نسيج المعتقدات الإنسانية، لتطرح سؤالًا جوهريًا: هل هناك طريق واحد فقط للخلاص، أم أن دروب النجاة تتعدد بتعدد الساعين إليها؟ في السياق الإسلامي، يتردد صدى هذه الفكرة بقوة، مستندة إلى حديث نبوي شريف يُعرف بـ"حديث الافتراق"، الذي يشير إلى أن الأمة ستفترق إلى 73 فرقة، كلها في النار إلّا واحدة. هذا الحديث، الذي بدا في ظاهره إخبارًا بسيطًا، تحوَّل عبر التاريخ إلى محور صراعات فكرية ومذهبية، وشكل أداة لتحديد الهوية الدينية والانتماء، وفي أحيان كثيرة، ذريعة للإقصاء والاحتراز. من الناحية العقدية، حَمَلَ حديث الافتراق دلالة حصرية للنجاة؛ حيث يشير إلى أن فرقة واحدة فقط هي التي ستنجو، وأن معيار النجاة هو التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهذا التفسير الصارم دفع كل فرقة وطائفة إسلامية إلى ادعاء أنها هي الفرقة الناجية، وأنها وحدها التي تملك الحقيقة المطلقة. مثلًا ابن تيمية يؤكد في "الفتاوى الكبرى" أن الفرقة الناجية هي أهل السُنة والجماعة، وأنهم يمثلون السواد الأعظم من الأمة، بينما الفرق الأخرى هي أهل البدع والأهواء. هذا التصور، وإن كان يهدف إلى الحفاظ على نقاء العقيدة، إلّا أنه أفرز واقعًا من الانقسامات الحادة؛ حيث تحولت الاختلافات الفقهية والعقدية إلى حواجز صلبة بين أبناء الأمة الواحدة. وقد تجلّى هذا الادعاء بالحصرية في مواقف الفرق الإسلامية الكبرى؛ فأهل السُنَّة والجماعة يرون أنفسهم الفرقة الناجية، والشيعة الإمامية تؤمن بأن النجاة مرتبطة بولاية أهل البيت، بينما يرى المعتزلة أن منهجهم العقلي هو الطريق الصحيح للخلاص، والإباضية بدورها ترى أنها على الحق. في المقابل، يطرح الإمام الغزالي في كتاب "المُنقِذ من الضلال" رؤية مختلفة؛ حيث يرى أن النجاة ليست حكرًا على فرقة معينة بالاسم؛ بل هي لمن اتبع المنهج الصحيح الذي يقود إلى معرفة الله والعمل الصالح. وفي السياق ذاته، يشير الفيلسوف ابن رشد في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" إلى أن الحقيقة واحدة، وأن الشريعة والفلسفة كلاهما يهدف إلى الوصول إليها، وأن الخلافات تنشأ من سوء التأويل أو عدم استخدام المنهج العقلي الصحيح. هذه الرؤى العقدية والفقهية تتشابك مع أبعاد فلسفية عميقة، حيث لم تقتصر فكرة النجاة على البعد الديني البحت؛ بل امتدت لتلامس قضايا الخلاص والتحرر من منظورات مختلفة. ابن سينا، على سبيل المثال، يقدم في كتابه "النجاة" مفهومًا للخلاص لا يقصد به الخلاص الديني بالمعنى الكلامي؛ بل النجاة من الجهل والوهم، مؤكدًا أن المعرفة هي السبيل الوحيد للتحرر. وفي الفلسفة الغربية، نجد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يبحث عن النجاة من الشك من خلال اليقين العقلي، كما يرى الفليسوف الفرنسي جان بول سارتر أن النجاة تكمن في التحرُّر من سوء النية والوجود الزائف، والعيش بأصالة. أما عالم النفس السويسري كارل يونغ، فيرى أن النجاة هي نجاة نفسية، تتحقق بالتحرر من الانفصال عن الذات وتحقيق التكامل النفسي. هذه المنظورات الفلسفية المتنوعة تنعكس بدورها على الواقع الاجتماعي؛ حيث كان لفكرة "الفرقة الناجية" أثرٌ بالغ في بناء الهوية الدينية والانقسام الطائفي؛ فكل جماعة سعت إلى ترسيخ هويتها من خلال التأكيد على أنها تمثل الحق المطلق، وأن الآخر هو الضال أو المُبتدِع. وقد أدى هذا التصور إلى تعزيز الانغلاق الديني، وصعوبة التعايش بين الفرق المختلفة، بل وفي بعض الأحيان، إلى نشوب صراعات عنيفة. ومن هنا يؤكد الدكتور محمد عمارة، الباحث في الفكر الإسلامي، في كتابه "الإسلام والتعددية" أن التعددية هي جوهر الإسلام، وأن مفهوم الفرقة الناجية يجب أن يُفهم في سياق أوسع لا يقصي الآخر. كما يشير الأستاذ رضوان السيد، في مقال نشر في مجلة الفكر العربي، إلى أن التفسيرات الحصرية لمفهوم الفرقة الناجية أدت إلى تضييق مساحات التسامح والتعايش، وخلقت بيئة خصبة للتطرف والإقصاء. وفي هذا السياق، يطرح الباحث العُماني خميس بن راشد العدوي، في ورقته البحثية "قراءة في فقه الفرقة الناجية"، رؤية نقدية مهمة، إذ يرى أن هذه الروايات قد تكون تأثرت بسياقات تاريخية وسياسية معينة، وأنها لا تُعبِّر بالضرورة عن جوهر الدين الذي يدعو إلى الوحدة والتآلف. كما يؤكد أن هذه الروايات قد استُغلت في بعض الأحيان لتغذية الصراعات المذهبية، ودفعت بالعديد إلى الغلو والإقصاء والتكفير؛ مما أوقع الأمة في فتنة عظيمة. ويخلُص العدوي إلى أن الأمة بحاجة إلى دراسة هذه الروايات بملاحظات موضوعية، لاستخلاص الفوائد منها، وتجنب الوقوع في الغلو والإقصاء. وبالنظر إلى الأديان الأخرى، نجد أن فكرة النجاة والخلاص ليست حكرًا على الإسلام؛ ففي اليهودية، يتجلى مفهوم "شعب الله المختار" و"بقية إسرائيل" كجماعة مختارة للنجاة. وفي المسيحية، يركز مفهوم الخلاص على الإيمان بالمسيح و"الكنيسة الأمينة" كطريق للنجاة. وفي البوذية، تسعى "السوترا" إلى تحقيق "النيرفانا" والتحرر من المعاناة. هذه المفاهيم، وإن اختلفت في تفاصيلها، إلا أنها تشترك في فكرة وجود طريق أو جماعة معينة للوصول إلى الخلاص. ومع ذلك، فإن التفسيرات الحديثة في هذه الأديان، كما في الإسلام، تتجه نحو فهم أكثر شمولية للنجاة، يركز على القيم الأخلاقية والسلوكية، وعلى التعايش والتسامح بين أتباع الديانات المختلفة. ويمكن القول إن فكرة "الفرقة الناجية"، وإن كانت تحمل في طياتها دلالات عقدية عميقة، إلّا أنها تحتاج إلى قراءة تحليلية ونقدية في سياق العصر الحديث؛ لأن التمسك بالتفسيرات الحصرية لهذه الفكرة قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام والانغلاق، بينما الفهم الأوسع الذي يركز على النجاة السلوكية والروحية، وعلى القيم المشتركة بين البشر، يمكن أن يفتح آفاقًا أرحب للتعايش والتسامح. فالنجاة الحقيقية قد لا تكمن في الانتماء إلى فرقة بعينها، بل في السعي الدائم نحو الحق والخير والجمال، وفي بناء جسور التواصل والتفاهم بين جميع البشر، على اختلاف معتقداتهم ومشاربهم. لذا.. فإنَّ إجابة السؤال "هل أنت من الفرقة الناجية؟" لا تكون في تحديد هوية جماعة؛ بل في عمق الالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة، وفي القدرة على احتضان التعددية، والبحث عن النجاة في رحاب واسعة تتسع للجميع. هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم، وكيف يمكننا أن نُحوِّل فكرة النجاة من مصدر للانقسام إلى دافع للوحدة والتعاون الإنساني.


جريدة الرؤية
منذ ساعة واحدة
- جريدة الرؤية
سالم الطويل.. عندما تعمى البصيرة
أحمد بن عيسى الشكيلي بين فينةٍ وأخرى تُطالعنا شبكات التواصل الاجتماعي بتُرّهات وخُزعبلاتٍ عديدة يسوقها وينعقُ بها أشخاصٌ وهبهم الله العقل، ولكن حرمهم نعمة إحسان استخدامه، ووهبهم الأعيُن فما أبصروا بها إلا ما وافق هواهم، ووهبهم الآذان فما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم فيها كي لا يسمعوا صوت الحق، فما عاد يفصل بينهم وبين الأنعام فاصل، بل هم أضلّ. مؤخرًا -وليست هي المرة الأولى- يعلو صوت من يُدعى سالم الطويل، متطاولًا بقبيح القول وبذيئه، وهو الذي يُنصِّب نفسه ويصنِّف شخصه على أنه من "العلماء الدعاة"، حسب زعمه، ولكن الواقع أن العلم ما وَجَد إليه سبيلًا، وبينه وبين الدعوة بون شاسع؛ فالدعوة إلى الله مقرونة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن كيف للسانٍ نتنٍ وفكرٍ ضحلٍ ضّال أن يحوز من الحكمة شيئًا يؤهله ليكون صاحب موعظةٍ حسنة. إنَّ عقدة النقص التي تكمن في نفس هذا المدعو سالم -وليته كان له من اسمه نصيب- يحاول أن يفكّ رباطها بأن يزجّ بعُمان ورموزها في بذيء قوله، وكأنه يحسب بأن ذلك هو السبيل الذي يبلغ به مبالغ أهل العلم، ويسمو به لمرتبتهم، وكأن المكانة تُبنى بانتهاك حُرمات الآخرين، بسبابهم وشتمهم وطردهم من رحمة الله، والتشكيك في عقيدتهم وإسلامهم؛ بل وتكفيرهم، وكأنه اطّلع الغيب فعرف المؤمن الحق، كما عرف نقيضه، وما قول سالم إلّا هذيان الخرِف، وما أشدّ خرفًا منه إلّا من صدَّقه واتّبع هواه، فأصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. سالم الطويل بلوثاته وخزعبلاته وتُرّهاته ليس أكثر من تلوّث صوتي مقيت، لا تتقبله أذن عاقل، ولا تصغي له أذن حكيم، ولا تتوق لسماعه أذن رشيد، فمن سار بين الناس يبث بذور الفتنة والشقاق، ويدعو لتكفير الآخر، ويتهمه بما ليس فيه بنعيقٍ وزعيق غير مبنيٍّ على حقائق مدروسة، فما هو إلّا مرآة للجهل؛ بل هو الجهل بعينه، ولو أنه -برغم الحقد الذي تكنّه نفسه لعُمان ورموزها- أعمل عقله قليلًا لتفنيد الحقائق، وأسهب في دراسة الواقع والبحث في المذهب الإباضي الذي يبدو من طرحه المُتكرِّر إنه يكنّ له ولأهله وعلمائه عداءً غير مبرر، وأمعن فيه وتاريخه وفكره كما أسهب في الشتم والسب والقذف لربما تبيّن له الخيط الأبيض من الأسود، ليس فيما يتعلق بعُمان والمذهب الإباضي فحسب؛ بل حتى فيما يتعلق بقضايا الأمة الإسلامية، ولعل أبرزها قضية غزة، ودفاع فصائل المقاومة فيها وعلى رأسها حماس عن أرضها وعرضها وشرف أهلها، في زمنٍ تخلّى فيه عنهم القريب قبل البعيد إلّا من رحم ربي. ليته قال من القول ما يكون شاهدًا له لا عليه، لعلّه يُثقّل به ميزانه، لكنه استخدام فكرًا بائدًا ينتقصُ فيه من جهاد أصحاب الأرض والحق، يُثبّط العزائم ليحوّل المسار لما يوافق هواه المُستمد من هوى بني صهيون، ولو أنه كان أحد المتجرِّعين لسموم الاحتلال والمنكوين بناره، لربما كان له من القول غير ذلك، ولكن الجرح ليس في جسده، والألم لا يشعر به إلّا من كابده، لذا دأب على الانتقاص من المقاومة ونعتها بما يراه الغازي المحتل، وما يسعى إليه في سبيل توسيع دائرة احتلاله وشرعنتها، وهو بذلك إضافة إلى كونه بوقًا يُنفَخ بما تريده آلة الاحتلال؛ فهو أداة من أدواته المُسخّرة للنخر في جسد هذه الأمة لتحقيق أجندات معيّنة تسعى لإخماد كل صوت يدعو للحق، والانتقاص من كل فكرٍ يرنو لإثباته، في الوقت الذي تعيش فيه أمتنا في أدنى درجات عزّتها، وتزداد فيه حاجتها إلى ما يوحّد صفّها، ويلمّ شملها، ويُعلي من شأنها، ويوقد عزائمها في سبيل استعادة كرامتها، والحفاظ على مقدراتها ومقدّساتها التي بات العدو الغاصب يعيثُ فيها فسادًا لا يردعه رادع، ولا يقوى على منعه مانع، والله غالبٌ على أمره. وعلى الرغم من كل الحقائق الماثلة للعيان؛ سواءً ما يتعلق بعُمان ومذاهبها، أو بالمقاومة وجهادها ضد المحتل، سيظل سالم غارقًا في نقصه ما دام بصره لا يتجاوز حدود موطئ قدمه، لا يتقبّل إلا رأيه ولا يتّكئُ إلا على فكره، ولا يسعى إلى أن يزيح الغشاوة من على عينيه، ولكن قبل إزالتها من عينيه فعليه أن يُنظِّف قلبه، ويفتح أبواب عقله، وإلا فما فائدة البصر إن كانت البصيرة عمياء!! إنَّ ما تلفّظ به بوق الفتنة سالم الطويل بلسانه، القصير بفكره، ليس بالأمر الجديد الذي يطال سلطنة عُمان ورموزها، فقد سبقه كثيرون من أبواق الفتنة والدمار الذين تُزعجهم عُمان بمواقفها المختلفة، سواءً كانت على الصعيد السياسيّ بمواقفها الواضحة والثابتة مع نصرة الحق والدعوة إليه، وما تمثّل في الشأن الفلسطيني مؤخرًا وخصوصًا ما يرتبط بحرب الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال الغاشم على قطاع غزّة وتنكيلها بأهلها وتعذيبهم وتجويعهم وغيرها من المُمارسات الوحشية التي لا تتوافق مع أي منهجٍ أو عرف أو قانون، وكذلك الحال في الموقف العُماني مع القضية اليمنية أو الإيرانيّة الذي ولّد الكثير من الغوغاء والاتهامات والتخوين لسلطنة عُمان وقيادتها وأهلها، أو من خلال مواقفها مع القضايا الإسلامية المختلفة التي يفترض أن تشغل بال كل مسلم غيور على إسلامه، ومحاولة الزج بكل ما من شأنه أن يفرّق وحدة الصف العُماني، أو يشتت نسيجها الاجتماعي، وهم جاهلون في الحقيقة بأن عُمان لم تركن لمذهب في يومٍ من الأيام على حساب وحدتها، ولن تركن على مذهب، لأن عمادها الإسلام، وفكرها كتاب الله، لا تُفرّق أهلها مذاهب، ولا يُشتِّت جمعهم مشايخ، ولا يدينون إلا للهِ. إنَّ اتحاد العُمانيين وثباتهم في الموقف هو ما يقضُّ مضجع الحاقدين، هو ما يغيظهم ويُشعل في دواخلهم نيران الحقد والضغينة، ويدفعهم لتكرار حملاتهم المسمومة ضد هذه البلاد وأهلها، لأن مع كل حملة شعواء يشنّها الحاقدون على سلطنة عُمان ينبري لها أبناء عُمان جميعهم، سنة وشيعة وإباضية، ينبرون لها لا مذهبيين؛ بل وطنيين؛ لأن ما يجمعنا على هذه الأرض أكبر من مذاهب وضعها البشر، يجمعنا حب الأرض، حب الوطن، حب عُمان، لأن الأرض هي ما تبقى، أما البشر أيًّا كانت مذاهبهم فهم راحلون. ورسالة أخيرة نقولها لسالم ومن ماثله، إننا تربَّينا في عُمان على أننا عُمانيون مسلمون، لم ننشأ على أرضها لنكون مذهبيين، رضعنا حُب عُمان من مسندم شمالًا إلى ظفار جنوبًا، تفيّأنا ظلالها، وارتوينا بمائها ولو كان ملحًا أُجاجًا، وأنِست أرواحنا بطيب هوائها، نفترشُ ترابها حريرًا ولو كان في لهيب صيفٍ قائظ، ما زعزع مكانتها في قلوبنا خطبٌ، ولا انتقص من قدرها في نفوسنا أحداثٌ ونوازل، هي الملاذُ والأمان، وعلى ما تربّينا عليه سنمضي لا يفرقنا قولك، ولا نكترثُ بك وأمثالك، والردُ عليك ليس لوضعك في مكانةٍ أكبر من حجمك، أو إنزالك منزلة تفوق قدرك، ولكن لتعلم وأمثالك أن عُمان ثابتة على النهج، وأن شعبها ماضون في سلمهم الاجتماعي، أجسادًا مختلفة تسكنها روح عُمان، مُتآخين مُتعاضدين مُتكاتفين لأجل أرض طيّبة لا تنبتُ إلا طيِّبًا، ولتعلم بأن القافلة ستمضي وإن نبحت الكلاب.


عمان اليومية
منذ يوم واحد
- عمان اليومية
جلالةُ السُّلطانِ المعظّم يعزي رئيس جمهورية غانا
جلالةُ السُّلطانِ المعظّم يعزي رئيس جمهورية غانا العُمانية: بعث حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- برقية تعزية ومواساة إلى فخامة الرئيس جون دراماني ماهاما رئيس جمهورية غانا الصديقة في وفاة وزيري الدفاع والبيئة والعلوم والتكنولوجيا والابتكار وعدد من المسؤولين في الحكومة الغانية إثر حادث تحطم مروحية عسكرية في منطقة أشانتي جنوب غانا. أعرب جلالة السلطان خلالها عن أسفه الشديد على هذا الحادث المؤلم، سائلًا الله تعالى أن يجنب هذا البلد الصديق شر الحوادث والكوارث، وأن يلهم أسر الضحايا الصبر والسلوان.