
نسخة منك في المستقبل ستتوسل إليك: لماذا لا نستمتع بلحظاتنا الحاضرة؟
لم تكن العبارة هذه المرة ذات طابع سياسي يتعلق بالصراعات التي تشهدها منطقتنا أو الحروب التي تخلف عشرات القتلى، بل كانت رسالة صامتة تلامس أزمة إنسانية نعيشها جميعاً دون أن نشعر بها: أزمة الغفلة عن اللحظة الراهنة.
جاءت الرسالة في مقطع فيديو أثناء تصفح حسابي على إنستغرام، كُتب فيها: "هناك نسخة منك بعد 10 سنوات من الآن، ستتوسل إليك للاستمتاع بما أنت فيه أكثر قليلاً".
وبينما ننشغل بالسعي وراء طموحات المستقبل وتسلق جبال الأهداف القادمة، هناك جزء منا ينزف من الحنين لما فقدنا من لحظات جميلة لم ننتبه لها حينها.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على أزمة هادئة يعيشها كثيرون من دون وعي، ونرصد كيف تحولت الحياة اليومية إلى سباق متواصل، ونناقش لماذا ننسى أن الحاضر - رغم بساطته - قد يكون أجمل ما نمتلكه.
"لم أكن أعلم أني كنت أعيش أفضل سنواتي"
تقول زينة، 37 عاماً، في مقابلة مع بي بي سي: "ضيعت سنوات وأنا أحاول أن أكون أفضل، ونسيت أنني كنت بخير أصلاً".
وعندما سألناها عن أسباب ذلك، أوضحت أنها كانت تركز كثيراً على مظهرها ووزنها في سنوات العشرينات، وكانت تشعر دائماً بأنها غير كاملة. لكنها اليوم، عند مراجعة صورها القديمة، ترى أنها كانت قاسية على نفسها إلى حد كبير.
أما رائد، 43 عاماً، يقول لبي بي سي: "كنت أشتكي دائماً من ضغط العمل، وأتمنى لو يمكنني تغيير وظيفتي. الآن وبعد أن فقدت عملي، صرت أفتقد تلك الأيام بكل تفاصيلها، حتى زحمة الطريق صباحاً".
ويضيف: "لم أكن أعلم أني كنت أعيش أفضل سنوات حياتي".
كان أحمد، وهو أب لطفلين في منتصف الأربعينات، يتمنى في سنوات سابقة أن يكبر أطفاله سريعاً ليقتنص هدوءه ووقته الخاص. لكن بعد أن دخل أطفاله مرحلة المراهقة وبدأوا بالانشغال عنه، تغيّرت نظرته تماماً.
يقول: "كنت أضيق بصراخهم، بأسئلتهم المتكررة، وبالفوضى التي يملؤون بها البيت. الآن أشتاق لأيامهم الأولى، لأصواتهم، ولعشوائية حديثهم. أدركت متأخراً أن تلك الفوضى كانت أجمل ما في حياتي".
تُظهر قصص زينة، رائد، وأحمد كيف يعي كثيرون، بعد مرور الوقت، قيمة لحظات كانت تبدو عادية أو مزعجة حينها، ويرى مختصون نفسيون أن هذه الحالات تبرز كيف يتملكنا الحنين لما فات، وغالباً ما ندرك قيمة الحاضر بعد فوات الأوان.
لكن لماذا نميل إلى تجاهل اللحظة الراهنة والانشغال بما قبلها أو بعدها؟ وهل هناك سبب نفسي يجعل "الآن" يبدو دائماً أقل أهمية من "لاحقاً" أو "سابقاً"؟
يجيب الدكتور نواف الرفاعي، وهو إخصائي إرشاد نفسي تحدثت إليه بي بي سي: "من وجهة النظر النفسية والعصبية، يميل الإنسان بشكل طبيعي إلى ما يُعرف بـ 'السفر الذهني'، حيث يقضي جزءاً كبيراً من يقظته متنقلاً بين أحداث الماضي وتوقعات المستقبل. هذه العملية ترتبط بنشاط داخلي في الدماغ يُسمى 'الشبكة الافتراضية'، وهي المسؤولة عن التأمل والتخطيط، لكنها تتحول عند بعض الأشخاص إلى مصدر دائم للشرود والتشتت".
ويضيف: "العقل لا يرى السكون على أنه راحة، بل كخطر أو تهديد، فيدفعنا نحو التفكير الزائد والمقارنة والقلق. لكن لحظة الشفاء تبدأ حين نُعيد علاقتنا مع هذا الهدوء، ونتعلم كيف نكون حاضرين من دون مقاومة".
بحسب الرفاعي، فإن من يعانون من صعوبة التواجد في الحاضر، ليسوا غافلين، بل "منشغلون معرفياً بشكل مفرط"، ويعتقدون أن التفكير المكثف سيقودهم إلى حلول، لكنه في الحقيقة يبعدهم عن أي شعور بالرضا أو الإنتاجية.
"الاستمتاع بالحاضر ليس مجرد رفاهية"
قصة روان، 34 عاماً، تعكس جانباً آخر من الأزمة، فهي رفضت عرض زواج في سنتها الأخيرة من دراسة الماجستير، قبل خمس سنوات، لأنها أرادت التركيز على دراستها وتأسيس مستقبلها الأكاديمي.
كانت ترى أن الزواج في ذلك الوقت سيشتت انتباهها ويؤخر طموحاتها، بحسب ما تقول لبي بي سي.
لكن بعد التخرج، لم تعد الفرص كما كانت، ولا الشخص نفسه بقي في حياتها. تقول اليوم: "كنت أظن أن الوقت المثالي سيأتي لاحقاً، لكنه لم يأتِ. ربما كان يجب أن أوازن، بدلاً من تأجيل كل شيء".
حالة روان، تُظهر كيف يمكن أن يؤدي التفكير المستقبلي المفرط إلى تفويت فرص الاستمتاع بالحاضر وبناء حياة متكاملة، بحسب ما يفسّره مختصون نفسيون لبي بي سي.
ففي دراسة أطلقها الأمريكي جون كابات-زين، والمعروف برائد الحركة العصرية لليقظة الذهنية عام 1994، ركز على أهمية العيش في اللحظة الحالية كوسيلة لتحسين الصحة النفسية وتقليل التوتر.
ويشرح كابات-زين كيف أن إدراك اللحظة الراهنة بدون إصدار أحكام أو انغماس في التفكير الزائد يساعد الأفراد على مواجهة الضغوط اليومية بشكل أكثر فعالية، مما ينعكس إيجابياً على حالتهم النفسية.
تُظهر الدراسة أن ممارسة تقنيات اليقظة الذهنية، مثل التأمل والوعي التام بما يحدث حولنا وداخلنا، تُمكن الأشخاص من تحسين جودة حياتهم عبر تعزيز الشعور بالرضا والسلام الداخلي.
كما تؤكد أن الاستمتاع باللحظة الحاضرة ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة نفسية تعيننا على تجاوز القلق والاكتئاب المرتبطين بالتفكير المستمر في الماضي أو المستقبل.
شبكات التواصل: سباق المقارنات اللامرئي
وفي زمن تتقاطع فيه الحياة اليومية مع لحظات العرض الرقمي، لم تعد المقارنة بحاجة إلى جهد. كل ما تحتاجه هو تمرير الإصبع على الشاشة.
يقول الرفاعي، وهو معالجٌ نفسيّ، إن وسائل التواصل الاجتماعي تُغذّي ما يُعرف بالمقارنة الاجتماعية التصاعدية، إذ يقارن الناس واقعهم بلحظات مُنتقاة ومُفلترة من حياة الآخرين، أو حتى من نسخ قديمة "أفضل" من أنفسهم. وهذا يفعّل مناطق في الدماغ مرتبطة بالألم الاجتماعي والشعور بعدم الكفاية، بحسب تعبيره.
ويشرح الرفاعي أن عدد الإعجابات وعدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي يهدِم التقدير الذاتي الداخلي.
ويوضح: "اللحظات الجميلة لم تعد تُعاش، بل تُجهّز للنشر. الناس يتسابقون لنشر اللحظة بدل أن يعيشوها، وتتحول المتعة إلى عرض، والإنجاز إلى واجهة"، بحسب الرفاعي.
ويضيف: "أذكّر مرضاي دائماً أن المقارنة تسرق الفرح، لكن التحرير الانتقائي، بمعنى اختيار ما نظهره فقط، يسرق الواقع. وهذه بيئة خصبة لزرع فجوة دائمة بين ما نشعر به، وما نظن أنه يجب أن نشعر به".
في الأسطر الأخيرة من هذا التقرير تمرين بسيط قد يغيّر نظرتك للحظة الراهنة - لعبة قصيرة لا تحتاج لهاتف أو إنترنت، فقط حواسك الخمسة، وقلب حاضر، فأكمل القراءة.
في السياق، تقول صفاء الرمحي، وهي صحافية استقصائية ومدربة كفاءات إعلامية، إن ما يبدو لنا عشوائياً على شبكات التواصل ليس بريئاً كما نظن، فـ"الخوارزميات تضع كل منا داخل ما يُعرف بفقاعة ترشيح، حيث تتغذى على تفاعلاتنا وعمليات بحثنا السابقة، لتُقدّم لنا محتوى يُفترض أنه يهمّنا أو يشبهنا".
لكن المشكلة، بحسبها، أن هذا "الشبه" قد يتحوّل إلى مرآة مشوّهة. فالفلاتر لا تقتصر على الصور، بل تطال نوع القصص التي تُعرض؛ إنجازات متكررة، أجسام مثالية، رحلات فاخرة، لحظات تبدو منزوعة من همّ الحياة اليومية.
وتشرح: "تستهدفنا الخوارزميات بالمزيد من هذا المحتوى إذا أبدينا تفاعلاً بسيطاً معه، كأنها تغذّي شعوراً داخلياً بأننا متأخرون عن الركب، أو أن وتيرة حياتنا بطيئة".
وتشبّه الرمحي هذا التأثير بقولها: "كأنك تمشي على قدميك بينما تمر السيارات من حولك بسرعة فائقة. تشعر حينها أنك لا تتحرك، رغم أنك في الواقع تسير".
وتُحذّر من تأثير هذا التعرّض المستمر على الصورة الذاتية، لا سيما وأن معظم الناس يتصفحون هذه المنصات قبيل النوم، وهي لحظة حساسة تترسّخ فيها الصور والمقارنات في الذاكرة.
وعن المحتوى المثالي والمُفلتر، ترى الرمحي أنه أحد أبرز أسباب الشعور بعدم الكفاية، إذ أن "المنصات الرقمية اليوم تُقدّم أدوات سهلة ومغرية لتعديل كل شيء، من ملامح الوجه إلى لون السماء. وهذا يُغري المستخدمين بأن يظهروا دوماً في أفضل حالاتهم، حتى لو كانت بعيدة عن الواقع" كما تقول.
لكن الخطر، كما تراه، ليس فقط بما نُظهره، بل بما نخفيه. فـ"الخوف من الحكم أو الرفض يجعل الناس يخشون مشاركة لحظاتهم العادية أو لحظات الضعف. فتتحوّل المنصات إلى مسرح كبير نؤدي فيه أفضل نسخة من أنفسنا، بينما نخفي حقيقتنا خلف الكواليس".
وتضيف: "هذا كله يُعيد برمجة وعينا تدريجياً، فيبدو لنا أن الجميع يعيشون حياة كاملة، ونحن وحدنا العاديون، المتأخرون، الناقصون".
هل أنت جاهز للدخول في تحدي اللحظة؟
في نهاية حديثه مع بي بي سي، يوجّه الرفاعي، وهو معالجٌ نفسي، دعوة بسيطة للقارئ - لكنها قد تكون نقطة تحوّل حقيقية:
"ابدأ بأصغر مهمة ممكنة. جرّب فقط أن تركز على شيء واحد لمدة خمس دقائق. اشرب القهوة، ولا تفعل أي شيء آخر. راقب حرارتها في يدك، طعمها، رائحتها. امشِ ولا تفكّر، بل راقب حركة قدميك. هذا ما نسميه أحادية المهمة".
ويضيف: "في الجلسات، ندرب الناس على التوقف عن التحقق من إشعارات الهاتف، وعلى مراقبة رغبة المقارنة، لا إلغائها. هذه ليست محاربة للعقل، بل تدريب له على التوجيه. راجع نظامك الرقمي: من تتابع؟ من يضيف لك؟ تذكّر أن جهازك العصبي لم يُخلق للأداء المستمر، بل ليعمل ويرتاح. تذكر دائماً أنك إنسان".
ويختم بنصيحة سهلة التطبيق لكنها قوية الأثر:
"جرب حيلة الـ90 ثانية. حين يغمرك التوتر، أوقف كل شيء وتنفس ببطء لمدة 90 ثانية. هذه هي المدة التي يحتاجها الجسم لتفريغ هرمونات التوتر. الأمر يشبه إعادة تشغيل الهاتف، لكنها لدماغك".
أنت الآن تُنهي قراءة هذا التقرير، ولكن قبل أن تُغادر ها هي "لعبة الحواس الخمسة"، كما يريدنا الرفاعي أن نطبقها، فلنلعبها معاً:
"الخدعة العلمية هنا هي نقل تركيزك من دماغ القلق إلى دماغ الإحساس، حيث يكمن الحضور الحقيقي"، بحسب الرفاعي.
أما عن وسائل التواصل؟ فالحل ليس الحذف فقط، بل كشف الزيف، كما يؤكد الرفاعي: "تابع حساباً واحداً فقط وستدرك أن الحياة فوضوية، وليست مثالية كما يصوّرونها. ضع مؤقّتاً، وقلّل وقت التصفح تدريجياً. اسأل نفسك دائماً: هل هذا المحتوى يبنيك، أم يسرقك؟".
في النهاية، اللحظة التي تهملها اليوم، قد تكون ذكرى غالية غداً، فلا تدعها تمر دون أن تعيشها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


BBC عربية
منذ 13 ساعات
- BBC عربية
ما الذي يجعل كأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية حدثًا مهما يتجاوز الرياضة والترفيه؟
تشهد الرياضات الإلكترونية في جميع أنحاء العالم نمواً كبيراً، مدفوعاً بزيادة عدد المشاهدين وفرص الرعاية والشعبية المتزايدة للألعاب التنافسية بين الفئات السكانية المتنوعة، في الوقت الذي تحولت فيه هذه الألعاب إلى هوس حقيقي لعشرات الملايين من الشباب في مختلف أنحاء العالم. وتستضيف المملكة العربية السعودية خلال يوليو/تموز الجاري ولمدة سبعة أسابيع، النسخة الثانية من كأس العالم للرياضات الإلكترونية، وهو أكبر حدث تنافسي في تاريخ الألعاب، إذ يجمع نخبة بطولات الألعاب الإلكترونية تحت مظلة واحدة، ويُقام سنوياً في العاصمة السعودية الرياض. وفي نسخة 2025، يرتقي الحدث إلى مستوى غير مسبوق، من خلال التنافس في 24 من أهم الألعاب وأكثرها جماهيرية، بمشاركة 2000 لاعب من 100 دولة، يتنافسون على أكبر مجموع جوائز مالية على الإطلاق في تاريخ الرياضات الإلكترونية، ويبلغ أكثر من 70 مليون دولار وفق ما أعلنته اللجنة المنظمة. واستقطب الحدث العام الماضي، 500 مليون مشاهدة عبر الإنترنت، وشهد حضوراً جماهيرياً تجاوز 2.6 مليون شخص حسبما أعلن المنظمون. الرياضات الإلكترونية وتعزيز الاقتصادات الإقليمية ويفتح كأس العالم للرياضات الإلكترونية آفاقاً جديدة أمام الشركات المحلية والإقليمية للاستفادة من هذه الفرصة الاقتصادية الضخمة، كما أنه يوفر منصة مثالية للمبدعين لعرض مواهبهم وإبداعاتهم أمام جمهور عالمي واسع. وتشكل البطولة منصة حيوية لدعم المبدعين والمطورين المحليين، إذ تُقدم لهم فرصاً غير مسبوقة للنمو والابتكار. فمن خلال التعاون مع شركات الألعاب العالمية واستضافة البطولات الكبرى، يتمكن المطورون المحليون من اكتساب خبرات جديدة وتطوير مهاراتهم التقنية، كما يمكنهم الاستفادة من الدعم المالي والاستثماري لتعزيز مشاريعهم وتحقيق نمو مستدام. هل تكون الرياضات الإلكترونية بمثابة "نفط السعودية الجديد"؟ ويُعد قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية واحداً من 13 قطاعاً يتم إعطاؤها الأولوية ضمن رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تنويع اقتصاد المملكة التي تعد الدولة الأكثر تصديرا للنفط على مستوى العالم وتعتمد عليه بشكل رئيسي في اقتصادها. ومن بين الأهداف، أن تصبح المملكة مركزاً عالمياً للألعاب والرياضات الإلكترونية، إذ تتقدم الرياض بخطوات ثابتة نحو هذا الهدف بفضل سلسلة من المشاريع الاستباقية، والاستثمارات الذكية عبر المنظومة، واستضافة بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية التي تعتبر أحد هذه المشاريع. وتُعد المملكة أول دولة في العالم تطلق استراتيجية وطنية للألعاب الإلكترونية، بهدف خلق 39,000 وظيفة جديدة وزيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2030. ويُمثّل كل من كأس العالم للرياضات الإلكترونية ومؤتمر الرياضة العالمية الجديدة، بداية حقبة جديدة للألعاب والرياضات الإلكترونية، ليس فقط على مستوى المملكة العربية السعودية، بل على الصعيد العالمي، إذ فتح الحدثان التاريخيان آفاقاً واسعة لنمو قطاعي الرياضة والترفيه، ووضعا المملكة في صدارة الدول الرائدة في هذا المجال. ويقول الخبير الاقتصادي صبري ناجح لبي بي سي، إن "أي مسابقة يصل فيها حجم الجوائز إلى ملايين الدولارات، ستجذب دون شك الملايين من المتسابقين، لكنها أيضا تحقق الملايين، هذا ما يحدث في سوق الألعاب الإلكترونية حالياً، كونها تخطت مسألة الرفاهية والتسلية إلى مصدر دخل للكثيرين". ويضيف أنه "على الصعيد العالمي، هناك بطولة Fortnite World Cup بجوائز تخطت قيمتها 30 مليون دولار، وبطولة Dota 2 International بجوائز بلغت 40 مليون دولار، وبطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 في الرياض بمجموع جوائز 70 مليون دولار". وفي عام 2022 بلغ حجم سوق الألعاب الإلكترونية العالمية 235 مليار دولار (بحسب تقديرات مؤسسة «نيوزو» Newzoo المتخصصة في إحصاءات الألعاب الإلكترونية). وبحسب الموقع المتخصص في الإحصاءات «ستاتيستا»، استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بالنصيب الأكبر من سوق الألعاب الإلكترونية في العالم خلال عام 2022، بإيرادات وصلت إلى 55 مليار دولار من خلال 156 مليون مستخدم. في المقابل، بلغت إيرادات الصين التي تحمل لقب «عاصمة ألعاب الفيديو» 44 مليار دولار خلال العام 2022، رغم أن عدد اللاعبين فيها تجاوز 714 مليون شخص. ويوضح ناجح أنه "من هذه القاعدة تنطلق المنافسات بين الشركات والدول للحصول على حصة سوقية من هذه السوق الضخمة. ومن هنا جاءت منطقة الشرق الأوسط أو السعودية تحديداً في مقدمة الدول الناشئة للحصول على حصة سوقية من خلال المسابقات التي تنتجها وترعاها. ولك أن تتخيل أن أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية قد وصل إلى أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم". ويوضح صبري ناجح أن متوسط العائد السنوي عن كل مستخدم في سوق ألعاب الفيديو، ارتفع من 58.9 دولار في عام 2019، إلى 80.18 دولار في عام 2022، مع توقعات بارتفاع العائد إلى قرابة 100 دولار هذا العام (وفق تقديرات نيوزوو). ويواصل ناجح: "هذه الأرقام تنقل المنافسة الاقتصادية إلى الواقع الافتراضي، خاصة وسط مساع بكين إلى إدراج الرياضات الإلكترونية لتكون ضمن الألعاب الأولمبية، ومن المتوقع أن تزداد الأرباح حينها إلى مستويات قد تتخطى قطاعات اقتصادية تقليدية". ويختم الخبير الاقتصادي بأن الألعاب الإلكترونية هي ابتكارات أولاً، من خلال تشجيع الشباب للدخول في قطاع التكنولوجيا الذي يرسم مستقبل الاقتصادات، ثم فرصة اقتصادية حقيقية، من خلال التسابق على حصة سوقية من قطاع الألعاب الإلكترونية، ولها أيضا أبعاد اجتماعية أخرى حيث يمكنك استخدام القطاع في تسويق بلادك، إذ تضمن وصول الهدف التسويقي إلى ما يقرب من 3 مليارات شخص حول العالم". انطلاق كأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية يثير انقسامات بسبب المثليين هل تنجح السعودية في توظيف الألعاب الإلكترونية لتعزيز نفوذها الاقتصادي؟ ومن الناحية الاقتصادية، يُتوقع أن يكون للبطولة تأثير كبير على السياحة والاقتصاد المحلي في السعودية، وقد تؤدي إلى جذب استثمارات إضافية في قطاع الرياضات الإلكترونية، وزيادة حركة السياحة الدولية. كما سيكون لها تأثير اجتماعي إيجابي من خلال توسيع قاعدة المشاركين والمشاهدين في الرياضات الإلكترونية، وهو ما سيعزز من تفاعل الشباب السعودي مع هذه الرياضات. وكأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية هو حدث ينتظره الملايين من عشاق الألعاب حول العالم، إذ تعكس استضافة المملكة لهذه البطولة رؤيتها في استثمار التكنولوجيا وتعزيز مكانتها كمركز عالمي للرياضات الإلكترونية. ومع جوائز ضخمة، وتقنيات متقدمة، ومشاركة واسعة من اللاعبين الدوليين، فإن هذه البطولة ستكون محطة هامة في تاريخ الرياضات الإلكترونية، وستسهم في دفع عجلة النمو لهذا القطاع الحيوي في المنطقة والعالم. هل نعيش لحظة ولادة ثقافة إلكترونية جديدة؟ وتعتبر كأس العالم للرياضات الإلكترونية (EWC) حدثاً رياضياً سنوياً بارزاً، واحتفالاً عالمياً بالمنافسات النخبوية وشغف الرياضات الإلكترونية. وتتميز البطولة بنظام فريد يُعرف بـ "التجميع النقطي" عبر الألعاب Cross Gaming. وأصبح حفل افتتاح كأس العالم للرياضات الإلكترونية أكثر إثارة مع انضمام المغني الأمريكي بوست مالون، أحد عشاق الألعاب منذ فترة طويلة، وسيمزج العرض الحي الذي سيقدّمه خلال حفل الافتتاح في 10 يوليو/تموز بين أنغامه الشهيرة والاحتفال بثقافة الألعاب على أكبر مسرح تنافسي في العالم. ويمتلك بوست مالون، الفنان العالمي الحاصل على 9 شهادات ألماسية، جذوراً عميقة في مجتمع الألعاب والرياضات الإلكترونية، حيث يشارك في ملكية فريق OpTic Gaming، ويبث ألعاب Call of Duty: Warzone و PUBG و Hunt: Showdown على منصة تويتش، كما تعاون مع مطوري الألعاب في فعاليات داخل اللعبة، من بينها تعاونه الأخير مع لعبة Apex Legends. ويقول ميك مكابي الرئيس التنفيذي للعمليات في مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية لبي بي سي، إن "الرياضات الإلكترونية أصبحت قوة ثقافية عالمية، حيث تلتقي الموسيقى بالسرد القصصي والمنافسة لصناعة لحظات لا تُشاهد فقط، بل تُحس". وأضاف أنه "مع افتتاح البطولة بعرض لبوست مالون، نحن نخلق نغمتنا الخاصة، و هويتنا المميزة، بلغة عالمية توحّد الجماهير وتشكّل المستقبل الثقافي للرياضات الإلكترونية". ما هي كأس العالم لكرة القدم الإلكترونية التي فاز بها سعوديان؟ ماذا وراء إطلاق السعودية لكأس العالم للألعاب الإلكترونية؟ رؤية اقتصادية أم إعادة تشكيل ثقافي؟ وكان ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قد أبدى اهتماماً بالغاً بتطوير قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية، مؤكداً أهمية هذا القطاع في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030. وفي إطار تعزيز هذا القطاع، أعلن بن سلمان عن استراتيجية مجموعة سافي للألعاب الإلكترونية (Savvy Games Group)، التي تمثل عنصراً رئيسياً فيما وصفها بـ"الاستراتيجية الطموحة" لتحويل المملكة إلى مركز عالمي لقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول عام 2030، وتتبع المجموعة صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) الذي يترأسه ولي العهد. وتشمل الاستراتيجية ضخ استثمارات تبلغ قيمتها 142 مليار ريال سعودي في أربعة برامج تغطي مختلف أنواع الاستثمارات وعمليات الاستحواذ، ومنها تخصيص مبلغ 50 مليار ريال للاستحواذ على أفضل شركات نشر الألعاب وتطويرها، لتصبح شريكاً استراتيجياً فعالاً. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى إنشاء 250 شركة ألعاب محلية، وتوفير 39,000 وظيفة، وزيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2030. لماذا تراهن الرياض على مؤتمر الرياضة الجديدة لتغيير قواعد اللعبة؟ وبالتزامن مع كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025، يُقام مؤتمر "الرياضة العالمية الجديدة" كحدث رئيسي تنظمه مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية. ويهدف المؤتمر إلى أن يكون منصة استراتيجية تجمع بين قادة الصناعة المبدعين، وصناع القرار لاستكشاف الفرص الاقتصادية الهائلة التي يقدمها قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية. ويمثل المؤتمر فرصة ذهبية للصناعات الإقليمية للاستفادة من النمو السريع لقطاع الرياضات الإلكترونية. ومن خلال جلسات النقاش وورش العمل، سيتم تسليط الضوء على كيفية تطوير البنية التحتية المحلية ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات المتعلقة بالرياضات الإلكترونية. ما هي أبرز المسابقات في كأس العالم للرياضات الإلكترونية ؟ ومن المقرر أن تشهد بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية تنافساً قوياً في مجموعة من الألعاب الإلكترونية الشهيرة التي تحظى بقاعدة جماهيرية كبيرة في 24 لعبة من فئات متنوعة. ومن بينها: الألعاب التنافسية (FPS)، والموبا، والقتال الفردي، والرياضة الافتراضية، والاستراتيجية الرقمية بما فيها الشطرنج. هل يتحول الترفيه إلى اضطراب نفسي؟ متخصصون يحذرون من الوجه الخفي للألعاب الإلكترونية ظاهرة الهوس بالألعاب الإلكترونية بين فئة الشباب لا تحدث من فراغ، بل ترتبط بعدة عوامل نفسية وسلوكية حيث تعتمد معظم الألعاب الإلكترونية الحديثة على نظام المكافأة الفورية، وهو ما يحفّز إفراز هرمون الدوبامين في الدماغ، المسؤول عن الشعور بالمتعة. وتقول الاختصاصية النفسية الأردنية شذى عبدالجليل لبي بي سي، إن "أسباب هوس الشباب بالألعاب الإلكترونية متعددة، منها الشعور بالفراغ الداخلي والشعور بالوحدة وحب الاستكشاف والفضول وتأثير الأصدقاء. فكلما كان وقت الفراغ أكثر كلما زاد الهوس بالألعاب الإلكترونية". وتتابع الاختصاصية: "أيضاً من أهم أسباب الهوس بالألعاب الالكترونية، الرغبة في الهروب من والواقع وعدم الرضا عنه، فالألعاب الإلكترونية عالم خيالي به أحداث كثيرة ومثالية نوعا ما، وربما يكون الأمر نوعاً من التفريغ الانفعالي حيث يقوم الشخص بتفريغ انفعالاته ومشاعره المكتومة ومنها الغضب في الألعاب الإلكترونية". وتوضح عبد الجليل أن "الهوس بالألعاب الإلكترونية هو تعبير عن حاجة نفسية، فربما يلجأ الشباب إليها لعجزهم عن تحقيق احتياجاتهم في الواقع، بسبب رفض الأهل لبعض المشاعر والسلوكيات مثلاً، فيتم التعبير عنها وتفريغها في الألعاب الإلكترونية وربما يكون لها اثار نفسية غير جيدة على الشباب". وتختتم شذى حديثها: "من أجل التخفيف من الهوس بالألعاب الإلكترونية، لابد من إيجاد أنشطة أخرى بديلة يكون التعلق بها أخف، وشغل وقت الفراغ بصورة أكثر إيجابية، والتعبير عن المشاعر أكثر، فهذا يساعد على عدم التعلق بالألعاب الإلكترونية أو إدمانها".


BBC عربية
منذ يوم واحد
- BBC عربية
نسخة منك في المستقبل ستتوسل إليك: لماذا لا نستمتع بلحظاتنا الحاضرة؟
كانت عبارة قصيرة، كأنها خبر عاجل، دفعتني لتعديل جلستي والتركيز على شاشة هاتفي، أعدت قراءتها أكثر من خمس مرات في محاولة لفهم معناها. لكنها في كل مرة كانت تفتح أمامي عشرات الأسئلة التي تدور في ذهني. لم تكن العبارة هذه المرة ذات طابع سياسي يتعلق بالصراعات التي تشهدها منطقتنا أو الحروب التي تخلف عشرات القتلى، بل كانت رسالة صامتة تلامس أزمة إنسانية نعيشها جميعاً دون أن نشعر بها: أزمة الغفلة عن اللحظة الراهنة. جاءت الرسالة في مقطع فيديو أثناء تصفح حسابي على إنستغرام، كُتب فيها: "هناك نسخة منك بعد 10 سنوات من الآن، ستتوسل إليك للاستمتاع بما أنت فيه أكثر قليلاً". وبينما ننشغل بالسعي وراء طموحات المستقبل وتسلق جبال الأهداف القادمة، هناك جزء منا ينزف من الحنين لما فقدنا من لحظات جميلة لم ننتبه لها حينها. في هذا التقرير، نسلط الضوء على أزمة هادئة يعيشها كثيرون من دون وعي، ونرصد كيف تحولت الحياة اليومية إلى سباق متواصل، ونناقش لماذا ننسى أن الحاضر - رغم بساطته - قد يكون أجمل ما نمتلكه. "لم أكن أعلم أني كنت أعيش أفضل سنواتي" تقول زينة، 37 عاماً، في مقابلة مع بي بي سي: "ضيعت سنوات وأنا أحاول أن أكون أفضل، ونسيت أنني كنت بخير أصلاً". وعندما سألناها عن أسباب ذلك، أوضحت أنها كانت تركز كثيراً على مظهرها ووزنها في سنوات العشرينات، وكانت تشعر دائماً بأنها غير كاملة. لكنها اليوم، عند مراجعة صورها القديمة، ترى أنها كانت قاسية على نفسها إلى حد كبير. أما رائد، 43 عاماً، يقول لبي بي سي: "كنت أشتكي دائماً من ضغط العمل، وأتمنى لو يمكنني تغيير وظيفتي. الآن وبعد أن فقدت عملي، صرت أفتقد تلك الأيام بكل تفاصيلها، حتى زحمة الطريق صباحاً". ويضيف: "لم أكن أعلم أني كنت أعيش أفضل سنوات حياتي". كان أحمد، وهو أب لطفلين في منتصف الأربعينات، يتمنى في سنوات سابقة أن يكبر أطفاله سريعاً ليقتنص هدوءه ووقته الخاص. لكن بعد أن دخل أطفاله مرحلة المراهقة وبدأوا بالانشغال عنه، تغيّرت نظرته تماماً. يقول: "كنت أضيق بصراخهم، بأسئلتهم المتكررة، وبالفوضى التي يملؤون بها البيت. الآن أشتاق لأيامهم الأولى، لأصواتهم، ولعشوائية حديثهم. أدركت متأخراً أن تلك الفوضى كانت أجمل ما في حياتي". تُظهر قصص زينة، رائد، وأحمد كيف يعي كثيرون، بعد مرور الوقت، قيمة لحظات كانت تبدو عادية أو مزعجة حينها، ويرى مختصون نفسيون أن هذه الحالات تبرز كيف يتملكنا الحنين لما فات، وغالباً ما ندرك قيمة الحاضر بعد فوات الأوان. لكن لماذا نميل إلى تجاهل اللحظة الراهنة والانشغال بما قبلها أو بعدها؟ وهل هناك سبب نفسي يجعل "الآن" يبدو دائماً أقل أهمية من "لاحقاً" أو "سابقاً"؟ يجيب الدكتور نواف الرفاعي، وهو إخصائي إرشاد نفسي تحدثت إليه بي بي سي: "من وجهة النظر النفسية والعصبية، يميل الإنسان بشكل طبيعي إلى ما يُعرف بـ 'السفر الذهني'، حيث يقضي جزءاً كبيراً من يقظته متنقلاً بين أحداث الماضي وتوقعات المستقبل. هذه العملية ترتبط بنشاط داخلي في الدماغ يُسمى 'الشبكة الافتراضية'، وهي المسؤولة عن التأمل والتخطيط، لكنها تتحول عند بعض الأشخاص إلى مصدر دائم للشرود والتشتت". ويضيف: "العقل لا يرى السكون على أنه راحة، بل كخطر أو تهديد، فيدفعنا نحو التفكير الزائد والمقارنة والقلق. لكن لحظة الشفاء تبدأ حين نُعيد علاقتنا مع هذا الهدوء، ونتعلم كيف نكون حاضرين من دون مقاومة". بحسب الرفاعي، فإن من يعانون من صعوبة التواجد في الحاضر، ليسوا غافلين، بل "منشغلون معرفياً بشكل مفرط"، ويعتقدون أن التفكير المكثف سيقودهم إلى حلول، لكنه في الحقيقة يبعدهم عن أي شعور بالرضا أو الإنتاجية. "الاستمتاع بالحاضر ليس مجرد رفاهية" قصة روان، 34 عاماً، تعكس جانباً آخر من الأزمة، فهي رفضت عرض زواج في سنتها الأخيرة من دراسة الماجستير، قبل خمس سنوات، لأنها أرادت التركيز على دراستها وتأسيس مستقبلها الأكاديمي. كانت ترى أن الزواج في ذلك الوقت سيشتت انتباهها ويؤخر طموحاتها، بحسب ما تقول لبي بي سي. لكن بعد التخرج، لم تعد الفرص كما كانت، ولا الشخص نفسه بقي في حياتها. تقول اليوم: "كنت أظن أن الوقت المثالي سيأتي لاحقاً، لكنه لم يأتِ. ربما كان يجب أن أوازن، بدلاً من تأجيل كل شيء". حالة روان، تُظهر كيف يمكن أن يؤدي التفكير المستقبلي المفرط إلى تفويت فرص الاستمتاع بالحاضر وبناء حياة متكاملة، بحسب ما يفسّره مختصون نفسيون لبي بي سي. ففي دراسة أطلقها الأمريكي جون كابات-زين، والمعروف برائد الحركة العصرية لليقظة الذهنية عام 1994، ركز على أهمية العيش في اللحظة الحالية كوسيلة لتحسين الصحة النفسية وتقليل التوتر. ويشرح كابات-زين كيف أن إدراك اللحظة الراهنة بدون إصدار أحكام أو انغماس في التفكير الزائد يساعد الأفراد على مواجهة الضغوط اليومية بشكل أكثر فعالية، مما ينعكس إيجابياً على حالتهم النفسية. تُظهر الدراسة أن ممارسة تقنيات اليقظة الذهنية، مثل التأمل والوعي التام بما يحدث حولنا وداخلنا، تُمكن الأشخاص من تحسين جودة حياتهم عبر تعزيز الشعور بالرضا والسلام الداخلي. كما تؤكد أن الاستمتاع باللحظة الحاضرة ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة نفسية تعيننا على تجاوز القلق والاكتئاب المرتبطين بالتفكير المستمر في الماضي أو المستقبل. شبكات التواصل: سباق المقارنات اللامرئي وفي زمن تتقاطع فيه الحياة اليومية مع لحظات العرض الرقمي، لم تعد المقارنة بحاجة إلى جهد. كل ما تحتاجه هو تمرير الإصبع على الشاشة. يقول الرفاعي، وهو معالجٌ نفسيّ، إن وسائل التواصل الاجتماعي تُغذّي ما يُعرف بالمقارنة الاجتماعية التصاعدية، إذ يقارن الناس واقعهم بلحظات مُنتقاة ومُفلترة من حياة الآخرين، أو حتى من نسخ قديمة "أفضل" من أنفسهم. وهذا يفعّل مناطق في الدماغ مرتبطة بالألم الاجتماعي والشعور بعدم الكفاية، بحسب تعبيره. ويشرح الرفاعي أن عدد الإعجابات وعدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي يهدِم التقدير الذاتي الداخلي. ويوضح: "اللحظات الجميلة لم تعد تُعاش، بل تُجهّز للنشر. الناس يتسابقون لنشر اللحظة بدل أن يعيشوها، وتتحول المتعة إلى عرض، والإنجاز إلى واجهة"، بحسب الرفاعي. ويضيف: "أذكّر مرضاي دائماً أن المقارنة تسرق الفرح، لكن التحرير الانتقائي، بمعنى اختيار ما نظهره فقط، يسرق الواقع. وهذه بيئة خصبة لزرع فجوة دائمة بين ما نشعر به، وما نظن أنه يجب أن نشعر به". في الأسطر الأخيرة من هذا التقرير تمرين بسيط قد يغيّر نظرتك للحظة الراهنة - لعبة قصيرة لا تحتاج لهاتف أو إنترنت، فقط حواسك الخمسة، وقلب حاضر، فأكمل القراءة. في السياق، تقول صفاء الرمحي، وهي صحافية استقصائية ومدربة كفاءات إعلامية، إن ما يبدو لنا عشوائياً على شبكات التواصل ليس بريئاً كما نظن، فـ"الخوارزميات تضع كل منا داخل ما يُعرف بفقاعة ترشيح، حيث تتغذى على تفاعلاتنا وعمليات بحثنا السابقة، لتُقدّم لنا محتوى يُفترض أنه يهمّنا أو يشبهنا". لكن المشكلة، بحسبها، أن هذا "الشبه" قد يتحوّل إلى مرآة مشوّهة. فالفلاتر لا تقتصر على الصور، بل تطال نوع القصص التي تُعرض؛ إنجازات متكررة، أجسام مثالية، رحلات فاخرة، لحظات تبدو منزوعة من همّ الحياة اليومية. وتشرح: "تستهدفنا الخوارزميات بالمزيد من هذا المحتوى إذا أبدينا تفاعلاً بسيطاً معه، كأنها تغذّي شعوراً داخلياً بأننا متأخرون عن الركب، أو أن وتيرة حياتنا بطيئة". وتشبّه الرمحي هذا التأثير بقولها: "كأنك تمشي على قدميك بينما تمر السيارات من حولك بسرعة فائقة. تشعر حينها أنك لا تتحرك، رغم أنك في الواقع تسير". وتُحذّر من تأثير هذا التعرّض المستمر على الصورة الذاتية، لا سيما وأن معظم الناس يتصفحون هذه المنصات قبيل النوم، وهي لحظة حساسة تترسّخ فيها الصور والمقارنات في الذاكرة. وعن المحتوى المثالي والمُفلتر، ترى الرمحي أنه أحد أبرز أسباب الشعور بعدم الكفاية، إذ أن "المنصات الرقمية اليوم تُقدّم أدوات سهلة ومغرية لتعديل كل شيء، من ملامح الوجه إلى لون السماء. وهذا يُغري المستخدمين بأن يظهروا دوماً في أفضل حالاتهم، حتى لو كانت بعيدة عن الواقع" كما تقول. لكن الخطر، كما تراه، ليس فقط بما نُظهره، بل بما نخفيه. فـ"الخوف من الحكم أو الرفض يجعل الناس يخشون مشاركة لحظاتهم العادية أو لحظات الضعف. فتتحوّل المنصات إلى مسرح كبير نؤدي فيه أفضل نسخة من أنفسنا، بينما نخفي حقيقتنا خلف الكواليس". وتضيف: "هذا كله يُعيد برمجة وعينا تدريجياً، فيبدو لنا أن الجميع يعيشون حياة كاملة، ونحن وحدنا العاديون، المتأخرون، الناقصون". هل أنت جاهز للدخول في تحدي اللحظة؟ في نهاية حديثه مع بي بي سي، يوجّه الرفاعي، وهو معالجٌ نفسي، دعوة بسيطة للقارئ - لكنها قد تكون نقطة تحوّل حقيقية: "ابدأ بأصغر مهمة ممكنة. جرّب فقط أن تركز على شيء واحد لمدة خمس دقائق. اشرب القهوة، ولا تفعل أي شيء آخر. راقب حرارتها في يدك، طعمها، رائحتها. امشِ ولا تفكّر، بل راقب حركة قدميك. هذا ما نسميه أحادية المهمة". ويضيف: "في الجلسات، ندرب الناس على التوقف عن التحقق من إشعارات الهاتف، وعلى مراقبة رغبة المقارنة، لا إلغائها. هذه ليست محاربة للعقل، بل تدريب له على التوجيه. راجع نظامك الرقمي: من تتابع؟ من يضيف لك؟ تذكّر أن جهازك العصبي لم يُخلق للأداء المستمر، بل ليعمل ويرتاح. تذكر دائماً أنك إنسان". ويختم بنصيحة سهلة التطبيق لكنها قوية الأثر: "جرب حيلة الـ90 ثانية. حين يغمرك التوتر، أوقف كل شيء وتنفس ببطء لمدة 90 ثانية. هذه هي المدة التي يحتاجها الجسم لتفريغ هرمونات التوتر. الأمر يشبه إعادة تشغيل الهاتف، لكنها لدماغك". أنت الآن تُنهي قراءة هذا التقرير، ولكن قبل أن تُغادر ها هي "لعبة الحواس الخمسة"، كما يريدنا الرفاعي أن نطبقها، فلنلعبها معاً: "الخدعة العلمية هنا هي نقل تركيزك من دماغ القلق إلى دماغ الإحساس، حيث يكمن الحضور الحقيقي"، بحسب الرفاعي. أما عن وسائل التواصل؟ فالحل ليس الحذف فقط، بل كشف الزيف، كما يؤكد الرفاعي: "تابع حساباً واحداً فقط وستدرك أن الحياة فوضوية، وليست مثالية كما يصوّرونها. ضع مؤقّتاً، وقلّل وقت التصفح تدريجياً. اسأل نفسك دائماً: هل هذا المحتوى يبنيك، أم يسرقك؟". في النهاية، اللحظة التي تهملها اليوم، قد تكون ذكرى غالية غداً، فلا تدعها تمر دون أن تعيشها.


BBC عربية
منذ 2 أيام
- BBC عربية
لم يظهر فيها المُذيع، كيف كانت أول نشرة أخبار تلفزيونية لبي بي سي؟
من الصعب تخيّل العالم اليوم بدون تغطية إخبارية تلفزيونية على مدار الساعة، في وقت يبدو فيه العديد من المذيعين البارزين مرهقين بعد ليلة كاملة من التغطية المتواصلة لحرب أو انتخابات في مكان ما على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن خدمة التلفزيون كانت تعمل منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن بي بي سي كانت مترددة في السماح للتلفزيون بمنافسة الإذاعة كمصدر لنقل الأخبار. وبعد نقاش طويل، تقرر تقديم نشرة إخبارية تلفزيونية مسائية، لكن دون أن يظهر مذيعو الأخبار أمام الكاميرات. بدأت نشرة بي بي سي الإخبارية التلفزيونية في 5 يوليو/ تموز من عام 1954، من خلال برنامج "الأخبار والنشرة المصورة"، وقد بدأت النشرة بملخص للأخبار، مرفق بخرائط وصور ثابتة. وجاءت هذه الخطوة بعد سنوات من الاعتماد على الإذاعة المسموعة كوسيلة رئيسية لنقل الأخبار، وتزامنت مع تطورات تقنية ومجتمعية فرضت نفسها على صناعة الإعلام البريطاني والعالمي. ولم تكن تلك الخطوة معزولة عن السياق العام الذي عاشته بريطانيا بعد الحرب، فقد كانت البلاد تشهد تحولات اقتصادية وسياسية عميقة، وبدأ التلفزيون يأخذ مكاناً متزايداً في الحياة اليومية للناس، خاصة بعد أن قررت الحكومة دعم التوسع في البث التلفزيوني ليصل إلى مختلف الأقاليم. وقد أدركت بي بي سي أن عليها أن تتماشى مع هذه التحولات، لكنها في الوقت نفسه كانت حريصة على الحفاظ على طابعها الرسمي الرصين، الذي عُرفت به منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي. وفي أول نشرة تلفزيونية، قدّم قارئا الأخبار، ريتشارد بيكر وجون سناغ، النشرة دون أن يظهرا على الشاشة، حيث كان يُعتقد أن ظهورهما قد يشكل مصدر تشتيت للمشاهد، كما كان المسؤولون في بي بي سي يخشون من أن يؤدي ظهور المذيعين إلى تشخيص الأخبار وربطها بشخصيات محددة، مما قد يضعف الحيادية التي لطالما حرصت عليها بي بي سي. وقال المذيع في بي بي سي حينها ريتشارد بيكر: "كل ما فعلته في ذلك البرنامج الأول، في الساعة 7:30 مساءً يوم 5 يوليو/تموز 1954، هو أنني قلت: ها هو موجزمصور للأخبار، سيتبعه أحدث فيلم عن الأحداث في الداخل والخارج. لم يكن من المفترض أن نُرى ونحن نقرأ الأخبار لأنهم كانوا يخشون أن نلوث تيار الحقيقة النقي بتعابير وجه غير مناسبة". وأضاف: "تراجعت الإدارة عن هذا القرار في عام 1955 وسمحت لمذيعي الأخبار التلفزيونية بالظهور على الشاشة، وتمت تجربتي أنا وكينيث كيندال في موجز منتصف الليل، حيث كان يُأمل ألا يشاهدها الكثير من الناس". وفي الواقع، ارتبط تغير موقف بي بي سي من ظهور مذيعي نشرة الأخبار على الشاشة مع انطلاق قناة "آي تي في" التجارية في عام 1955، التي كسرت احتكار بي بي سي للبث التلفزيوني، وبدأت في تقديم نشرات إخبارية تتضمن مذيعين يظهرون على الشاشة ويتحدثون مباشرة إلى الجمهور، مما زاد من الضغوط على بي بي سي لتحديث نهجها. وكانت القصة الرئيسية في أول نشرة أخبار في تلفزيون بي بي سي تدور حول محادثات هدنة تُعقد في هانوي في فيتنام، بعد انتهاء حرب الهند الصينية الأولى، التي استمرت لعقد كامل بين عامي 1946 و1956. أما ثاني أبرز أخبار النشرة، فكان حول تحركات القوات الفرنسية في تونس قبيل موافقة رئيس الوزراء الفرنسي بيير منديس فرانس على منح البلاد الاستقلال. أما الفقرة الأخيرة من برنامج "الأخبار والنشرة المصورة"، فقد خُصصت لأفلام النشرة المصورة، في حين اختُتمت النشرة القصيرة بتقرير عن نهاية نظام تقنين المواد التموينية بعد الحرب العالمية الثانية. مشكلات وصعوبات وفي بدايته، تعرض البرنامج الذي استغرق 20 دقيقة لانتقادات شديدة. وفي ذلك الوقت، لم يكن إنتاج نشرة أخبار تلفزيونية مهمة سهلة، فقد كانت التقنية المستخدمة بدائية نسبياً، والمونتاج يتم يدوياً باستخدام شرائط الأفلام السينمائية، مما كان يستغرق وقتاً طويلاً، كما أن نقل المواد من مراسلي الهيئة في الخارج كان يتطلب إرسال الأشرطة بالبريد الجوي، مما تسبب في تأخير نقل الأخبار الدولية، ومع ذلك، كانت النشرة الأولى علامة فارقة، إذ مثّلت أول محاولة منظمة لتقديم الأخبار بصورة مرئية منتظمة للجمهور البريطاني. وقد اعترف المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي في ذلك الوقت، السير إيان جاكوب، بأن هناك مشكلات مبدئية صاحبت إطلاق برنامج "الأخبار والنشرة المصورة". وقال جاكوب إن "تقديم الأخبار على التلفزيون ليس أمراً سهلاً على الإطلاق، فالكثير من الأخبار الرئيسية يصعب تقديمها بصرياً، ولذلك نواجه تحدياً في تقديم الأخبار بنفس المعايير التي أرستها الهيئة في بثها الإذاعي". ومع ذلك، راهن جاكوب على أن "هذه بداية لشيء نعتبره بالغ الأهمية للمستقبل". وقد كتب مدير الأخبار، تاهو هول، في مجلة راديو تايمز عن الصعوبات المتعلقة بالحصول على أفلام إخبارية، حيث كانت تعتمد غالباً على الطائرات وتخضع لقيود الجمارك، وأعرب عن أمله في أن يأتي يوم تتوفر فيه المواد المصورة بشكل شبه فوري. انتشار كبير ورغم البداية المتعثرة، شهدت الأخبار التلفزيونية نمواً ملحوظاً وانتشاراً كبيراً، فبحلول عام 1955، تضاعف وقت بثها، وأدى إدخال ظهور المذيعين على الشاشة إلى زيادة شعبيتها تدريجياً. وقد أثبتت الأخبار التلفزيونية قيمتها الحقيقية عام 1956، حين أدخلت مشاهد لأزمتَي السويس والمجر إلى منازل الناس. وهكذا، وعلى الرغم من التذمر الأولي من البرنامج، بدأ عدد متزايد من الناس في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين يُقبلون على مشاهدة التلفزيون، مما دفع الهيئة إلى زيادة محتواها الإخباري، ولم تتراجع منذ ذلك الحين. ومع استقرار التلفزيون وبدء جذب جمهور واسع، توسعت التغطية الإخبارية لتصبح جزءًا لا يتجزأ من الجدول اليومي، وأصبح بيكر وزملاؤه وجوهاً مألوفة على الشاشة. وبالإضافة إلى تقديمهم للأخبار الوطنية، تناوبوا على استضافة برنامج الشؤون الإقليمية في لندن "تاون آند أراوند" بينما كان بيكر يقدم نشرة خاصة مساء الأحد موجهة للصم وضعاف السمع. وفي ستينيات القرن الماضي مع أزمة الصواريخ الكوبية وحرب فيتنام، أصبحت نشرة بي بي سي أكثر نضجاً من حيث الشكل والمضمون حيث بدأت بي بي سي في استخدام اللقطات المصورة بشكل أكثر فاعلية، وأدخلت الخرائط التوضيحية ، كما بدأت في اعتماد ترتيب أكثر وضوحاً للأخبار من حيث الأهمية. وفي عام 1964، أُطلق أول برنامج إخباري متكامل بعنوان "نيوز روم"، وكان يقدم الأخبار من استوديو مخصص مع مذيعين محترفين، وأصبح بمثابة النموذج الذي تبنته بي بي سي على مدى العقود اللاحقة. تغيير النهج وفي عام 1981، قررت بي بي سي إعادة التفكير في نهجها تجاه نشرات الأخبار التلفزيونية. فحتى ذلك الحين، كان العديد من مذيعي الأخبار، مثل بيكر، يُختارون من صفوف الممثلين الطموحين. وكانت الفكرة الجديدة هي منح الدور للصحفيين ذوي الشهرة الكبيرة، الذين سيكونون أكثر انخراطاً وتفاعلاً من خلال إجراء بعض المقابلات بأنفسهم. وتولى جون همفريس وجون سيمبسون تقديم النشرة الرئيسية في الساعة التاسعة مساءً، بينما قدّم بيكر فقرة قصيرة في الساعة السادسة مساءً، وبعد بضعة أشهر، قرر التخلي عن هذا الدور تماماً. وحول رؤيته للصفات المطلوبة في مذيع الأخبار التلفزيوني، وصف ريتشارد بيكر نهجه الشخصي في مذكراته الصادرة عام 1966 بعنوان "ها هي الأخبار"، وقال: "أحاول أن أتخيل شخصين أو ثلاثة جالسين حول المدفأة في المنزل، ما سيصل إليهم هو نقل هادئ للحقائق، مع إظهار ثقة هادئة، ثقة دون غرور، تحفظ دون جمود، وودّ دون مبالغة في الألفة، وهناك، في مكان ما، يكمن ذلك التوازن المراوغ". وأضاف:"نحن ننتمي إلى ذلك النوع الغريب من رجال التلفزيون الذين يُدفع لهم فقط ليتحدثوا إلى الآخرين، من المفترض أن الأمر ليس صعباً، لكن كلما مارسته، أدركت كم هو صعب فعلًا، إنها حرفة مليئة بالتناقضات". واليوم، أصبحت النشرات الرئيسية على قناة بي بي سي 1 مدعومة بقناة الأخبار المستمرة، التي تقدم تغطية حية وآنية على مدار الساعة، إلى جانب خدمات إخبارية متاحة عبر الإنترنت والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية. وتحتل أخبار بي بي سي مكانة خاصة في قلوب المشاهدين، لا سيما بسبب بعض الهفوات الطريفة التي تُعرض أحياناً على الهواء.