
فيتنام وفلسطين... خمسون عاماً على انتصار تحقق وآخر سيتحقق
إيطاليا تلغراف
مصطفى البرغوثي
الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، طبيب وناشط وكاتب.
لم يعايش جيل الشباب الفلسطيني والعربي الحالي ما عايشه جيلنا من متابعة للنضال البطولي الذي خاضه شعب فيتنام من أجل حريته واستقلاله… أذكر تماماً ذلك اليوم، الأول من مايو/ أيار، قبل 50 عاماً، عندما شاهدنا هروب القوات الأميركية المعتدية، ومن معها من حلفائها، من مدينة سايغون، التي أصبح اسمها اليوم هوشي منه، على اسم مؤسّس نضال فيتنام وقائده ورئيس دولتها، وتركت خلفها، وهي تجرّ أذيال الخيبة، عملاءها وأعوانها غارقين في وحل عمالتهم وذلّهم بعد أن تخلت عنهم. وأمّا نحن الطلاب الفلسطينيين، فكان ذلك اليوم يوم انتصار لنا أيضاً، كما كان يوم انتصار لإرادة كل الشعوب المناضلة ولحركات التضامن العالمية، بمن فيها حركات أميركية مناهضة للعدوان على فيتنام في الولايات المتحدة نفسها، والتي شارك فيها قادة عظام، مثل مارتن لوثر كينغ الذي دفع حياته ثمناً لنضاله ووقوفه إلى جانب المظلومين.
لم تخُض فيتنام حرباً واحدة ضد الاستعمار في العصر الحديث، بل خاضت حربين ضد استعمارين، الاستعمار الفرنسي الذي كنسته من أرضها بعد معركة ديان بيان فو، عام 1954، ثم ضد الإمبريالية الأميركية بكل جبروتها العسكري لتحرّر جنوب فيتنام في الستينيات والسبعينيات.
صحيحٌ أن فيتنام استندت إلى دعم حليفيها، الصين والاتحاد السوفييتي، ولكن العامل الحاسم كان صمود الشعب الفيتنامي وبطولته، فقد قاتل وحده دفاعاً عن وطنه وعن حرّيته بالاستناد إلى دعم أحرار العالم. ولم تكن رحلة فيتنام من أجل الحرية طريقاً سهلاً، بل مليئة بالتضحيات والآلام. ولعلي أذكر هنا أرقاماً مذهلة لما تعرّض له ذلك الشعب الباسل.
صحيحٌ أن فيتنام استندت إلى دعم حليفيها، الصين والاتحاد السوفييتي، ولكن العامل الحاسم كان صمود الشعب الفيتنامي وبطولته
ألقى الأميركيون 14 مليون طن من المتفجرات على فيتنام، تركت 43 مليون حفرة في أرضها، بما في ذلك قنابل النابالم والمواد السامة، مثل مادة الأورانج، التي قضت على الزراعة وسبّبت أمراضاً خطيرة، منها السرطان وتشويه الأطفال للآلاف. كما ألقوا على فيتنام القنابل الزلزالية التي كانت تدمر كل ما هو حي في دائرة قطرها ثلاثة كيلومترات، وخرّبوا 43% من الأراضي الزراعية، وقصفوا 75% من القرى، بما في ذلك ثلاثة ملايين منزل وخمسمائة مستشفى وعيادة ومعابد وكنائس ومجمل البنية التحتية بما في ذلك الطرق والجسور والسكك الحديد.
وحاول المعتدون إحداث التخريب والتشويه الثقافي والمعنوي والاجتماعي، فنشروا نصف مليون جندي أميركي ومليوناً آخر من جنود دول حليفة أخرى، وعاثوا فساداً في المجتمع في جنوب فيتنام عشر سنوات، وفرضوا أسواق بغاء، ونشروا المخدّرات، وخلفوا، عند رحيلهم بعد هزيمتهم، نصف مليون امرأة ضحايا للابتزاز والاستعباد الجنسي، ونصف مليون طفل يتيم، ونصف مليون مدمن للمخدرات.
لم تستسلم فيتنام، ولم تقبل تجزئة وطنها إلى شمال وجنوب، ولم يتكئ أهل الشمال على انتصارهم على الفرنسيين، ولم يتخلوا عن الجنوب، بل واصلوا نضالهم لتحريره، وقدّمو أكثر من مليون شهيد في مسيرتهم الكفاحية. ويذكر المناضل والقائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد)، في مذكّراته 'فلسطيني بلا هوية'، أنه فوجئ عندما زار شمال فيتنام في أثناء الحرب بأنه لم يكن في عاصمتها هانوي سوى ثماني سيارات يستعملها أركان الدولة، والباقون يستعملون الدرّاجات، فكل الجهد وكل الطاقات كانت مسخّرة للنضال والكفاح، والقادة قبل الناس كانوا يتقشّفون لدعم احتياجات مقاومة شعبهم.
رمّمت فيتنام دمارَها، وأصلحت بعد انتصارها كل ما خرّبه المستعمرون، واليوم تنهض دولةً حرّة مستقلة موحدة وقوية اقتصادياً
رمّمت فيتنام دمارَها، وأصلحت بعد انتصارها كل ما خرّبه المستعمرون، واليوم تنهض دولةً حرّة مستقلة موحدة وقوية اقتصادياً يتسابق رجال الأعمال للاستثمار فيها، بل أصبحت الى جانب الصين من أقوى اقتصاديات آسيا، وأعادت بناء كل ما دمّره الأميركيون، بل طوّرت صناعة متفوّقة على المستوى العالمي.
لم يخضع قادة فيتنام للدعوات الانهزامية، التي كانت تقول لهم سنوات: أنتم تحاربون أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم ولا يمكن ان تنتصروا. ولم يسمحوا لآلامهم وأحزانهم أن تتغلّب على إرادتهم في الحرية والكرامة والنصر، لأنهم فهموا أن الخضوع يعني ذلاً أبدياً، وعبوديةً مستمرّة، وضياعاً ليس فقط لحرّيتهم وكرامتهم، بل أيضاً لوطنهم نفسه إلى الأبد.
والتاريخ مليء بالنموذجين، من خضعوا وهانوا فاختفوا من التاريخ البشري، ومن صمدوا وكافحوا وتحدّوا رغم معاناتهم وانتصروا في نهاية المطاف، كما فعلت شعوب فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا وغيرها… أكتب هذا ليوجّه إلى كل الذين يلومون الشعب الفلسطيني أينما كان، خصوصاً في غزّة الباسلة، على إصراره على مواصلة النضال والكفاح من أجل حريته وبكل وسيلة ممكنة. وردّاً على الذين يشكّكون في قدرة الشعب الفلسطيني المهدّد بالتطهير العرقي والإبادة، على الصمود والبقاء في وطنه، بعد أن أدرك أن البديل للصمود والبقاء والكفاح هو الزوال والفناء بصفته شعباً، وذلك بالضبط ما أدركه الشعب الفيتنامي من قبل، وما أدركه ثوار الجزائر الذين كانوا مثلنا يواجهون أيضاً استعماراً استيطانياً إحلالياً كذلك.
لا توجد كلمات يمكن أن تعبّر عن ألم امرأة ترى أطفالها يموتون جوعاً أو مرضاً أو قصفاً بقنابل المجرمين، أو عن ألم والد مثل إبراهيم أبو مهادي الذي فقد جميع أولاده الستة في لحظة قصف إجرامي واحدة، أو أن تصف مشاعر مُسعفين وأطباء ذهبوا ليعالجوا آلام الجرحى فوجدوا أنفسهم ضحايا للقتل، بل الدفن وهم أحياء. ولكن لا يملك أحد الحقّ الأدبي أو السياسي أو المعنوي للوم الضحية على ما يقوم به المجرمون ضدها، أو على مطالبة من يناضلون ضد القتل والموت والاضطهاد بالاستسلام… أما الشامتون بشعبهم وآلامه ومعاناته، ودعاة الهوان والاستسلام، فلن يكون مصيرُهم أفضل من مصائر الذين تخلى عنهم المستعمرون والإمبرياليون، عندما هزموا وفشلت مخطّطاتهم، وخابت مقاصدهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
٠٤-٠٥-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
فيتنام وفلسطين... خمسون عاماً على انتصار تحقق وآخر سيتحقق
إيطاليا تلغراف مصطفى البرغوثي الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، طبيب وناشط وكاتب. لم يعايش جيل الشباب الفلسطيني والعربي الحالي ما عايشه جيلنا من متابعة للنضال البطولي الذي خاضه شعب فيتنام من أجل حريته واستقلاله… أذكر تماماً ذلك اليوم، الأول من مايو/ أيار، قبل 50 عاماً، عندما شاهدنا هروب القوات الأميركية المعتدية، ومن معها من حلفائها، من مدينة سايغون، التي أصبح اسمها اليوم هوشي منه، على اسم مؤسّس نضال فيتنام وقائده ورئيس دولتها، وتركت خلفها، وهي تجرّ أذيال الخيبة، عملاءها وأعوانها غارقين في وحل عمالتهم وذلّهم بعد أن تخلت عنهم. وأمّا نحن الطلاب الفلسطينيين، فكان ذلك اليوم يوم انتصار لنا أيضاً، كما كان يوم انتصار لإرادة كل الشعوب المناضلة ولحركات التضامن العالمية، بمن فيها حركات أميركية مناهضة للعدوان على فيتنام في الولايات المتحدة نفسها، والتي شارك فيها قادة عظام، مثل مارتن لوثر كينغ الذي دفع حياته ثمناً لنضاله ووقوفه إلى جانب المظلومين. لم تخُض فيتنام حرباً واحدة ضد الاستعمار في العصر الحديث، بل خاضت حربين ضد استعمارين، الاستعمار الفرنسي الذي كنسته من أرضها بعد معركة ديان بيان فو، عام 1954، ثم ضد الإمبريالية الأميركية بكل جبروتها العسكري لتحرّر جنوب فيتنام في الستينيات والسبعينيات. صحيحٌ أن فيتنام استندت إلى دعم حليفيها، الصين والاتحاد السوفييتي، ولكن العامل الحاسم كان صمود الشعب الفيتنامي وبطولته، فقد قاتل وحده دفاعاً عن وطنه وعن حرّيته بالاستناد إلى دعم أحرار العالم. ولم تكن رحلة فيتنام من أجل الحرية طريقاً سهلاً، بل مليئة بالتضحيات والآلام. ولعلي أذكر هنا أرقاماً مذهلة لما تعرّض له ذلك الشعب الباسل. صحيحٌ أن فيتنام استندت إلى دعم حليفيها، الصين والاتحاد السوفييتي، ولكن العامل الحاسم كان صمود الشعب الفيتنامي وبطولته ألقى الأميركيون 14 مليون طن من المتفجرات على فيتنام، تركت 43 مليون حفرة في أرضها، بما في ذلك قنابل النابالم والمواد السامة، مثل مادة الأورانج، التي قضت على الزراعة وسبّبت أمراضاً خطيرة، منها السرطان وتشويه الأطفال للآلاف. كما ألقوا على فيتنام القنابل الزلزالية التي كانت تدمر كل ما هو حي في دائرة قطرها ثلاثة كيلومترات، وخرّبوا 43% من الأراضي الزراعية، وقصفوا 75% من القرى، بما في ذلك ثلاثة ملايين منزل وخمسمائة مستشفى وعيادة ومعابد وكنائس ومجمل البنية التحتية بما في ذلك الطرق والجسور والسكك الحديد. وحاول المعتدون إحداث التخريب والتشويه الثقافي والمعنوي والاجتماعي، فنشروا نصف مليون جندي أميركي ومليوناً آخر من جنود دول حليفة أخرى، وعاثوا فساداً في المجتمع في جنوب فيتنام عشر سنوات، وفرضوا أسواق بغاء، ونشروا المخدّرات، وخلفوا، عند رحيلهم بعد هزيمتهم، نصف مليون امرأة ضحايا للابتزاز والاستعباد الجنسي، ونصف مليون طفل يتيم، ونصف مليون مدمن للمخدرات. لم تستسلم فيتنام، ولم تقبل تجزئة وطنها إلى شمال وجنوب، ولم يتكئ أهل الشمال على انتصارهم على الفرنسيين، ولم يتخلوا عن الجنوب، بل واصلوا نضالهم لتحريره، وقدّمو أكثر من مليون شهيد في مسيرتهم الكفاحية. ويذكر المناضل والقائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد)، في مذكّراته 'فلسطيني بلا هوية'، أنه فوجئ عندما زار شمال فيتنام في أثناء الحرب بأنه لم يكن في عاصمتها هانوي سوى ثماني سيارات يستعملها أركان الدولة، والباقون يستعملون الدرّاجات، فكل الجهد وكل الطاقات كانت مسخّرة للنضال والكفاح، والقادة قبل الناس كانوا يتقشّفون لدعم احتياجات مقاومة شعبهم. رمّمت فيتنام دمارَها، وأصلحت بعد انتصارها كل ما خرّبه المستعمرون، واليوم تنهض دولةً حرّة مستقلة موحدة وقوية اقتصادياً رمّمت فيتنام دمارَها، وأصلحت بعد انتصارها كل ما خرّبه المستعمرون، واليوم تنهض دولةً حرّة مستقلة موحدة وقوية اقتصادياً يتسابق رجال الأعمال للاستثمار فيها، بل أصبحت الى جانب الصين من أقوى اقتصاديات آسيا، وأعادت بناء كل ما دمّره الأميركيون، بل طوّرت صناعة متفوّقة على المستوى العالمي. لم يخضع قادة فيتنام للدعوات الانهزامية، التي كانت تقول لهم سنوات: أنتم تحاربون أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم ولا يمكن ان تنتصروا. ولم يسمحوا لآلامهم وأحزانهم أن تتغلّب على إرادتهم في الحرية والكرامة والنصر، لأنهم فهموا أن الخضوع يعني ذلاً أبدياً، وعبوديةً مستمرّة، وضياعاً ليس فقط لحرّيتهم وكرامتهم، بل أيضاً لوطنهم نفسه إلى الأبد. والتاريخ مليء بالنموذجين، من خضعوا وهانوا فاختفوا من التاريخ البشري، ومن صمدوا وكافحوا وتحدّوا رغم معاناتهم وانتصروا في نهاية المطاف، كما فعلت شعوب فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا وغيرها… أكتب هذا ليوجّه إلى كل الذين يلومون الشعب الفلسطيني أينما كان، خصوصاً في غزّة الباسلة، على إصراره على مواصلة النضال والكفاح من أجل حريته وبكل وسيلة ممكنة. وردّاً على الذين يشكّكون في قدرة الشعب الفلسطيني المهدّد بالتطهير العرقي والإبادة، على الصمود والبقاء في وطنه، بعد أن أدرك أن البديل للصمود والبقاء والكفاح هو الزوال والفناء بصفته شعباً، وذلك بالضبط ما أدركه الشعب الفيتنامي من قبل، وما أدركه ثوار الجزائر الذين كانوا مثلنا يواجهون أيضاً استعماراً استيطانياً إحلالياً كذلك. لا توجد كلمات يمكن أن تعبّر عن ألم امرأة ترى أطفالها يموتون جوعاً أو مرضاً أو قصفاً بقنابل المجرمين، أو عن ألم والد مثل إبراهيم أبو مهادي الذي فقد جميع أولاده الستة في لحظة قصف إجرامي واحدة، أو أن تصف مشاعر مُسعفين وأطباء ذهبوا ليعالجوا آلام الجرحى فوجدوا أنفسهم ضحايا للقتل، بل الدفن وهم أحياء. ولكن لا يملك أحد الحقّ الأدبي أو السياسي أو المعنوي للوم الضحية على ما يقوم به المجرمون ضدها، أو على مطالبة من يناضلون ضد القتل والموت والاضطهاد بالاستسلام… أما الشامتون بشعبهم وآلامه ومعاناته، ودعاة الهوان والاستسلام، فلن يكون مصيرُهم أفضل من مصائر الذين تخلى عنهم المستعمرون والإمبرياليون، عندما هزموا وفشلت مخطّطاتهم، وخابت مقاصدهم.


إيطاليا تلغراف
٠٩-٠٣-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
لا تضيّعوا البوصلة في فهم الصراع مع الحركة الصهيونية
إيطاليا تلغراف مصطفى البرغوثي الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، طبيب وناشط وكاتب . في خضم الصراع الشديد الدائر على أرض فلسطين ومحيطها، تنشأ بين حينٍ وآخر اختلالات في فهم طبيعة الخصم الذي تواجهه شعوب المنطقة، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني. وبطبيعة الحال، يؤدّي الخلل المفاهيمي دائماً إلى اختلال السياسات وتشويشها، أو إلى ترويج أفكارٍ مضلّلة لتبرير الضعف في مواجهة التحدّيات. وحتى لا تضيع الرؤية الاستراتيجية، في خضم ردّات الأفعال التكتيكية والانفعالات العابرة والمؤقّتة، لا بد من إيضاح القواعد الأساسية التالية لفهم سلوك قادة إسرائيل والحركة الصهيونية عموماً. أولاً، ليست إسرائيل مجرّد كيان طارئ نتيجة ظروف تاريخية معينة، بل هي مشروع استعماري استيطاني إحلالي استند إلى فكرة تلمودية خيالية بأن فلسطين والأردن وأجزاء كبيرة من مصر وسورية ولبنان والعراق وشمال السعودية هي أرض إسرائيل الكبرى التي وعد الله اليهود بها منذ آلاف السنين، رغم أن عدداً قليلاً منهم لم يعش فيها سوى فترة قصيرة، ولا مكان في حدود 'إسرائيل الكبرى المتخيّلة' للشعب الفلسطيني أو لأي شعوبٍ أخرى. وهذا المشروع -الفكرة هو المرجع الأساس المستقر في أدمغة كل قادة الحركة الصهيونية، من يمينها إلى يسارها (إن وجد)، وهو الأساس الأيديولوجي لكل السياسات والممارسات والحروب الإسرائيلية. ثانياً، يخضع تنفيذ الفكرة لموازين القوى، ويحتمل حلولاً ووقفات مرحلية، تضطر خلالها إسرائيل والحركة الصهيونية إلى قبولها بحكم موازين القوى القائمة، مثل اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية أو اتفاقيات الهدنة المؤقتة. لكن جميع الوقفات والاتفاقيات المرحلية لا تُلغي، في أيِّ حال، المشروع الأساس المذكور، بل تخدم الوصول إلى أهدافه النهائية. ثالثاً، كان المشروع الصهيوني، ومنذ تباشيرانطلاقته المعاصرة الأولى، وما زال، مرتبطاً بالدول والمشاريع الاستعمارية الغربية التي رأت فيه الحليف الاستراتيجي الطبيعي للسيطرة على شعوب المنطقة (والشرق الأوسط عموماً) وثرواتها، ومنع تبلور قوة منظمة وموحّدة فيها، ورأى فيها مصدر القوة والإسناد الذي يستحيل بدونه تنفيذ المشروع الصهيوني وتحويله من فكرة إلى واقع. لم تكن الحركة الصهيونية قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل من دون كَلَال على تجنيد اليهود واستغلالهم في كل العالم وقد بدأ التفاعل بين الفكرة الصهيونية والقوى الاستعمارية منذ أيام نابليون بونابرت وحملته على المنطقة، وامتدّ عبر الغزل مع الإمبراطور الألماني، وحاول حتى مع الدولة العثمانية التي رفضته، لكن أعمق التحالفات التي نجحت وأقواها كانت مع الفكر الإنجيلي الصهيوني في بريطانيا، وبعد ذلك في الولايات المتحدة، والذي وجدت فيه الحركة الصهيونية ضالّتها وأقوى مصادر الإسناد والدعم المادي والفكري والأيديولوجي لها. ومنذ انطلاقتها، استمرّت الحركة الصهيونية في أداء دور استعماري وظيفي لخدمة المصالح الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة والعالم. وكانت الذراع الضاربة ومخلب الاستعمار البريطاني والفرنسي في عدوان عام 1956 ضد مصر وضد الثورة الجزائرية، وبعد ذلك عام 1967 لضرب حركة التحرّر العربية، وكانت الحليف الأكبر لنظام شاه إيران الديكتاتوري والمدرب لجهاز السافاك القمعي، وشاركت في اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة وتصفيته، وصارت أقرب حلفاء نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا… والقائمة تطول. رابعاً، رغم أن أجزاء مهمة من الحركة الصهيونية، خصوصاً في الثلاثينيات والأربعينيات، ارتدت لخدمة أغراضها عباءات يسارية، بحكم توازنات القوى العالمية في حينها، وميول فئات يهودية إلى الفكر اليساري بحكم تعرّضها للاضطهاد اللاسامي بوصفها أقليات في أوروبا، فإن الأيديولوجيا الصهيونية بقيت أساساً دينية أصولية، كما يشكل الفكر الصهيوني التلمودي المتعصّب والمتطرّف أحد أهم محرّكات سلوكها في هذه المرحلة، بل أصبحت الأحزاب الدينية الإسرائيلية المتطرّفة من أهم عناصر التأثير في السياسات الإسرائيلية وتوسّعها الاستيطاني ونزعتها العسكرية العدوانية. خامساً، لم تكن الحركة الصهيونية قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل من دون كَلَال على تجنيد اليهود واستغلالهم في كل العالم، وتجنّد حالياً أجزاء واسعة من الإنجيليين المتصهينين خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتستغل نفوذهم المالي والاقتصادي بالتحكّم في الانتخابات ونتائجها في الدول الغربية خصوصاً، وليس حصراً، وأبرز الأمثلة ما يفعله اللوبي الصهيوني في التأثير على الانتخابات التشريعية والرئاسية في الولايات المتحدة. سادساً، مع احتداد الصراع مع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، جرى تحوّل خطير في الحركة الصهيونية، التي اتسمت أيديولوجيّتها دائماً بالعنصرية المتطرّفة، نحو الفاشية. ولا يمكن تفسير الإبادة الجماعية التي نفّذت وتنفّذ في قطاع غزّة، ومشاريع التطهير العرقي الشامل للشعب الفلسطيني، وجرائم الحرب الأخرى، كالعقوبات الجماعية والتجويع، إلا بأنها نتاج فكر وسياسة فاشية خطيرة لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. ويتلاءم هذا التحوّل تماماً مع تحوّلات مشابهة في بلدان غربية أخرى نحو اليمينيّة العنصرية المتعصّبة والفاشية. المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني، وسلوك أطراف إقليمية كثيرة الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية سابعاً، ليس الاستيطان والتوسّع الاستيطاني الجاري في الضفة الغربية ظاهرة عابرة، أو مقتصراً على فئة متطرّفة، بل هو التطبيق الفعلي لكل المشروع الاستيطاني الذي يكرّر في الضفة الغربية بما فيها القدس ما فعله من توسع استيطاني وإعادة هندسة للواقع الجغرافي والديمغرافي في أراضي 1948. وهو يفعل الشيء نفسه في الجولان المحتل، وسينفذه في أي بقعة جغرافية يتمكّن من احتلالها والسيطرة عليها. ثامناً، الحركة الصهيونية وحكّام إسرائيل مستعدّون باستمرار لشن أشدّ الهجمات وأشرسها ضد كل من يقاوم مخطّطهم الأصلي، أياً كان شكل المقاومة، مسلّحاً أو شعبياً أو سلمياً، أو حتى بالفكر والكلام. وتُستخدم هذه الهجمات ليس فقط القوة والعنف المسلح، بل منظومات إعلامية وتحريضية ولوبيات، تأثيرها أقوى، في أحيانٍ كثيرة، من الأدوات العسكرية، لفرض هيمنة الرواية والسردية الصهيونية للصراع الجاري ولحشد الدعم والتأييد لإسرائيل والحركة الصهيونية، ولقمع القوى والحَراكات المؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني. وتمثل شيطنة الخصم وتشويه صورته ووسمه بالإرهاب أهم أدوات الحملات التي تشنّ ضد كل من يقاوم المشروع الصهيوني. وما نراه اليوم من تحريض وشيطنة لحركة حماس وقوى مقاومة أخرى، وعبر ذلك شيطنة الشعب الفلسطيني بكامله، مجرّد نموذج لسلوك تكرّر مع قوى أخرى في السابق. ولو خضعت 'حماس' وقبلت مثلاً باتفاق أوسلو واعترفت بإسرائيل، وقبلت التعايش مع الاحتلال والاستيطان، لاختلف السلوك الإسرائيلي تجاهها، ولكنه لن يضمن بقاءها أو بقاء الشعب الفلسطيني في فلسطين. وقبل 'حماس'، كانت حركة فتح وقوى فلسطينية أخرى ومنظمّة التحرير توصف بالإرهاب، بل ما زالت تصنّف في الكونغرس الأميركي إرهابية، لأنها كانت تشارك في مقاومة المشروع الصهيوني، والكل يذكر كيف صار الشهيد الراحل ياسر عرفات عنواناً للهجمات الصهيونية، رغم اتفاق أوسلو، ليكتشف لاحقاً أن الاتفاق كان فخّاً، وكيف صُنف الإرهابي الأكبر بعد أن مُنح جائزة نوبل للسلام، ثم حوصر وعُزل حتى جرى اغتياله. استمرّت الحركة الصهيونية في أداء دور استعماري وظيفي لخدمة المصالح الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة والعالم لا مجال هنا للتفصيل أكثر في شرح هذه القواعد الثماني المذكورة، ولكن لا غنى عن فهمها بعمق وإدراك مضمونها لكل من يريد أن يفهم، أو يتعامل أو يشارك في الصراع الوجودي الدائر في فلسطين والمنطقة. وما زالت المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني، وسلوك أطراف إقليمية كثيرة الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، التي قالت وفعلت كل ما يمكن فعله، ونفّذت كل ما أمكن تنفيذه من جرائم، لإيصال رسالتها أنه لا مكان لحلول وسط مع الشعب الفلسطيني، بل قضت على كل مشروع في ذلك الاتجاه، بما في ذلك اتفاق أوسلو الذي استخدمته مرحلياً لتغيير ميزان القوى لصالحها. ورغم أن عنوان الاستراتيجية المعلنة لحكام إسرائيل الحاليين، وكذلك قادة المعارضة الصهيونية، هو حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني وإنهاء وجوده على أرض فلسطين التاريخية. ويترافق وهم الحل الوسط مع وهم آخر، أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً في الصراع الدائر، رغم تأكيدها المتواصل، بالأفعال والأقوال، أنها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل. ولا يعني ذلك أن من غير الممكن الاستفادة أحياناً من فجوات وخلافات تكتيكية، تظهر بين حين وآخر بين إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن ذلك شيء واعتبار الأخيرة وسيطاً عادلاً شيء آخر. لا يوجد سوى تفسير واحد للتعلق بالأوهام التي ثبت مراراً عدم صحّتها، وهو عدم فهم الواقع في أحسن الأحوال، أو العجز، أو الخوف، أو التقاعس عن التصدّي للمهمّة التي لا بديل لها في الصراع الدائر، وهي تبنّي استراتيجية موحّدة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بمواجهة المشروع العدواني الصهيوني، بدل محاولة الاختباء العبثية من مواجهته ومواجهة آثاره المدمّرة.


إيطاليا تلغراف
٠٧-١١-٢٠٢٤
- إيطاليا تلغراف
كيف خدع جمال عبد الناصر جيلنا
إيطاليا تلغراف د.سمير شوقي نحن جيل الستينيات كبرنا في بيوت تضع فيها المذياع في أحسن مكان، و تلتف حول برنامج صوت العرب من إذاعة القاهرة و متابعة عنتريات 'الريس' و كنا نتطلع لجملة 'هنا القاهرة' و كأننا أمام طَقسٍ ديني مقدس ! . كانوا يصورون لنا جمال عبد الناصر كبطل مغوار لا يُشق له غبار، هو الذي طرد البريطانيين و سيرمي الصهاينة للبحر و سيوحد العرب تحت راية أحسن أمة أُخرِجت للناس. مع أن الرجل لم يكسب ولا معركة واحدة، كل معاركه خسرها و كانت قمة الذل والعار سنة 1967 حيث خسرت بسبب تخاذله عدة دول عربية أجزاء من أراضيها ليومنا هذا. كان خاسراً looser من الدرجة الأولى حتى أن اليمن السعيد هزمه و بهدل قواته. لكنه كان 'شي غيفارا' زمانه و 'غاندي' و حتى 'عمر المختار' في إعلامه .. إعلام البروباغاندا الرخيصة التي غسلت أدمغة آبائنا و لم تسلم منها أدمغتنا الصغيرة. كان الوالد رحمه الله يعلن حالة 'حذر التجول' بالبيت و الصمت المُطبق لما كان 'جمال زمانه' يلقي إحدى خطبه النارية. وهذا الحال كان يسري على الملايين. كنا مع نهاية كل خطاب نسرق السمع لمن يكبرونا سناً و هم مزهوون بقرب ساعة النصر. النصر الذي كانوا يتطلعون له حتى في ثنايا خطابات الهزيمة كغداة نكسة 67. كان العرب، و نحن معهم طبعاً، سُكارى بعالم افتراضي يختلف كلياً عن واقعٍ جعل منه 'الجمال المغوار' ريبرتواراً غنياً بالهزائم و النكسات. في ذات الحين، كان التعتيم مُطبقاً عن فرض القمع و دوس أبسط حقوق الإنسان و الإعتقال التعسفي و قد أفلح 'نظام جمال' في جمع الشيوعي و الإخواني في نفس الزنزانة و جعلهم يشتركون في الطعام الأسود و حصص التعذيب اليومية. كان التعذيب في زمانه وحشياً لدرجة لاتُصور و بطرق بدائية تزيد العذاب عذابات. لقد كانت أكبر إنجازاته أنه احتضن ( دون أن يدري) أكبر جاسوس مصري اشتغل لفائدة الصهاينة و كان ينقل أدق التفاصيل للعدو خاصة في فترة السادات. الجاسوس الدي كان يُجالس رؤساء الدول العربية و يحضر مؤتمرات القمة العربية و ينقل كواليسها للعدو. فالجاسوس لم يكن سوى زوج ابنة الريس جمال! اكتشفت متأخراً جداً بعد الإفراج عن آلاف الوثائق التي تؤرخ لفترة حُكم الغير مأسوفٍ عليه أنه تم النصب على جيلنا و أننا تعرضنا لأكبر 'كاميرا خفية' .. لكن و كما قال الفرنسيون؛ من الأفضل أن تصل متأخراً على أن لا تصل أبداً. و قبل فترة، كلما صادفت أحد أفلام الستينيات و شاهدت بعض مقاطع تلك البروباغندا ضحكت من أعماق قلبي و كأني أشاهد كوميديا سخيفة تذكرني كم كنا سذج. لمواليد مابعد الثمانينيات : تذكروا أن حينها لم يكن لا انترنيت ولا قنوات فضائية لا تعدد إذاعات .. و الصحف كانت متحزبة تنقل الاخبار فقط من زاوية مصلحتها. إيطاليا تلغراف