
الخبرة القتالية.. الندوب التي تصنع الإنتصارات
تُصدر عدة مراكز بحوث ومؤسسات أمنية تقديرات حول ترتيب القوة عند الجيوش على المستوى العالمي، ويتم الأخذ بعين الإعتبار العديد من العوامل، أبرزها كمية ونوعية الأسلحة ومدى تطورها وحداثتها، وعديد العناصر ومستوى التدريب وتوزيع القوات وإنتشارها في العالم، إضافةً إلى عوامل جيوستراتيجية وجيوسياسية محيطة ومؤثرة بهذه الجيوش، مثل الموقع والطبيعة الجغرافية والتحالفات العسكرية. تُهمل هذه التصنيفات عوامل أخرى قد تكون الأكثر أهمية في تحقيق النصر على أرض الواقع، ومن أبرز هذه العوامل الخبرة القتالية التي تصقل المهارات وتقوي غريزة الحياة عند الجندي والرتيب والضابط، فالجيش الذي لم يخض قتالاً حقيقيًّا لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه، وما التدريب إلا خطوة متواضعة لتعلم الآداء القتالي، ولكنه لا يُقارن بجحيم المعركة، فحين يدخل الجيش نار القتال يتعلّم المعنى الحقيقي للخوف، والصدمة، والمباغتة، والخسارة، والخيانة، بل وحتى الرحمة… تلك خبرة لا تُكتسب عبر المحاضرات ولا عبر المناورات، بل تُغرس في الروح غرساً من خلال الكثير من الخسارات التي تترك ندوباً في ذاكرة الجيوش لا يمكن نسيانها.
الجيوش العظمى في التاريخ لم تكن تعتمد فقط على العقيدة أو التكنولوجيا العسكرية، بل على الجنود الذين خبروا رائحة الدم، وحرارة النار، وصوت الموت وهو يمرّ بجوارهم، والخبرة القتالية تميّز بين الجندي الذي يطلق النار لأنه تلقّى تدريبًا، والجندي الذي يطلق النار لأنه يعرف قيمة الطلقة وأين ومتى ولماذا تُطلق. والخبرة تميِّز أيضاً بين القائد الذي يُعطي الأوامر ويتَّخذ القرار لانه يُطبِّق مفاهيم عسكرية أكاديمية تعلَّمها في قاعات المحاضرات، أو مارسها في المناورات التدريبية واستخدام المشبِّهات، والقائد الذي يأمر ويتَّخذ قراره لأنه خبير في المواقف وإستيعاب تفاصيل المعركة ومتطلباتها لحظة بلحظة، ويعرف أن الإبتكار ومفاجأة العدو والجرأة المحسوبة هي مفتاح الصمود والنصر، فالتدريب والمناورات لا تُخرج من الإنسان جانبه الوحشي أو النبيل، فقط القتال الحقيقي يفعل ذلك، عندما يتعرض لإحتمالات الموت في كل خطوة، ويطلق الرصاص ليقتل ويزيد من فرص حياته، فالمعارك مليئة بالغموض والمفاجآت حيث يتنافس الحظ مع القدر والحياة مع الموت، فالحظ يقف دائماً إلى جانب الشجعان، بينما يخطف الموت المتردد والجبان.
ينطبق هذا الشيء على الوحدات الكبرى وعلى الجيوش، فالوحدات التي خبرت القتال وخاضته بقوة وبعنف ولوقتٍ طويل، تصبح قدرتها على القتال والتكيف مع أي معركة أو حرب مستقبلية، أعلى بكثير من قدرة وحدات مماثلة لها في الجيش ذاته، كما أن الجيوش التي خاضت حروباً تحتفظ لنفسها بكثير من الأسرار والدروس والعبر في كل عثرة وفي كل نجاح حققته، فالخبرة القتالية ليست مجرد مهارة فردية، بل هي ذاكرة مؤسساتية تُبنى عبر تراكم المواقف والتجارب، والجيوش الخبيرة تملك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الظروف الرمادية التي تعجز فيها النماذج النظرية، وينسحب هذا الشيء على كافة مكونات هذه الجيوش من قوات برية وبحرية وجوية، وتعتبر القوات الخاصة هي الأكثر تفاعلاً وتأثُّراً بالخبرات المكتسبة، كونها تعيش اللحظات الحرجة وتقترب من الخطر وتلامسه في كافة مراحل مهامها، حيث تكون التوقيتات والمسافات من أهم الإعتبارات وأكثرها حراجة.
يمكن أن نصنِّف الجيوش وفقاً للخبرة القتالية لعدة فئات، والفئة الأولى هي 'الجيوش المجروحة-Scarred Armies' وهي تلك التي خاضت حروباً كبرى طويلة ضمن سلسلة متواصلة أو متقطعة، وطوَّرت عقيدتها القتالية بالدم والنار، سماتها سمعة تاريخية لا تٌضاهى، ذاكرة قتالية مؤسساتية، ضباط وجنود ميدانيون خاضوا معارك حقيقية، عقيدة عسكرية متميزة قادرة على التكيف السريع مع الواقع، قدرة على إمتصاص الصدمة وإستعادة المبادرة. ومن ابرز هذه الجيوش الجيش الروسي (خبرات في الشيشان، جورجيا، سوريا، أوكرانيا)
الجيش الأميركي (فيتنام، أفغانستان، العراق إضافةً إلى عمليات خاصة)، الجيش الإسرائيلي ( حروب متكررة على عدة جبهات منذ العام 1948).
الفئة الثانية هي 'الجيوش الميدانية- Field-Tested Armies' وهي جيوش خاضت معارك محدودة واظهرت كفاءة جيدة، سماتها خبرات مكتسبة عند بعض وحداتها، إشتباك مع العدو في بيئات محدودة، تمتلك تكنولوجيا عسكرية وتعتمد على تطبيق النظريات ولا تمتلك إبداع المعركة. من أبرز هذه الجيوش، الجيش البريطاني (جزر فوكلاند، العراق)، الجيش الفرنسي( عمليات الساحل الافريقي)، الجيش التركي (قتال محدود في سوريا والعراق وليبيا).
الفئة الثالثة هي 'الجيوش المحاكية-Simulated Armies'، وهي جيوش حديثة التدريب والتنظيم والتسليح، ولكنها لا تمتلك الخبرة القتالية ولم تعش صدمة الحرب، سماتها إلتزام بالتدريب والتعليم، إكتساب اسلحة حديثة، عقيدة عسكرية تقليدية غالباً مستوردة، آداء غير مضمون في ظروف حرب حقيقية. ومن الأمثلة على هذه الجيوش، الجيش الألماني، الجيش الياباني.
يبقى هناك جيوش الفئة الرابعة وهي 'الجيوش التمثيلية – Ceremonial Armies' ليست فعلياً بمستوى الجيوش الحديثة، وهي تؤدي مهام داخلية أكثر من إهتمامها بمهام الدفاع عن الوطن، سماتها بعض أو كل ما يلي: ضعف القدرات المادية، ضعف الروح القتالية، خلل في التجهيزات أو في التنظيم، فساد إداري، إرباك وغموض في العقيدة القتالية، وهنا نتحفظ عن ذكر أمثلة عن هذه الجيوش ولكن نؤكِّد أن هذا التصنيف يعني بالجاهزية الميدانية وخبرة القتال فقط، وهناك فرص لتنتقل هذه الجيوش من فئة إلى أخرى عند توافر الظروف التي تسمح لها باكتساب الخبرات القتالية أو بتغيير طبيعتها التنظيمية والمؤسساتية.
في زمن تزوير الحقائق وتحريف الروايات، حيث تفتعل البطولات عبر السياسة والإعلام، يبقى المقاتل المجروح في جسده أو في ضميره، آخر شكل من أشكال الحقيقة في هذا العالم، فالذي خاض القتال ونجا بجسده أو لم ينجُ، هو الشاهد الأول على المعنى الحقيقي للمعركة، للقوة، للضعف، وهو الوحيد الذي يحتفظ بضميره ووجدانه بالنسخة الأصلية من الحرب غير المحرَّفة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


دفاع العرب
منذ 13 ساعات
- دفاع العرب
لماذا تخشى أوروبا قمة ترامب-بوتين أكثر من أي شيء آخر؟ الجذور الخفية للعداء الأوروبي-الروسي
العقيد الركن م. ظافر مراد مع اقتراب قمة ترامب وبوتين، تتصاعد المخاوف في أوروبا ليس فقط من نتائج اللقاء، بل من الرسائل التي قد يحملها. هذا الخوف ينبع من تاريخ طويل من التوتر والعداء بين أوروبا وروسيا، مزيج من الخوف الاستراتيجي، الصراعات الجيوسياسية، والذكريات التاريخية التي لم تُمحَ. لا يقتصر الماضي فقط على ذكريات الحرب العالمية الثانية والإكتساح السوفياتي لأوروبا، ولا على ذكريات الحرب الباردة والرعب الذي كان قائمًا في القارة الاوروبية، بل يرتبط بشكلٍ أساسي بالعداء الأوروبي للكنيسة الأرثوذكسية، وهذا العداء يرتبط بالتوترات التاريخية والصراعات بين الغرب (وخاصة الكنيسة الكاثوليكية) والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. هذه التوترات لها جذور عميقة في الانقسامات الدينية والسياسية التي بدأت مع الانشقاق العظيم عام 1054، واستمرت عبر العصور مع تنافس الكنائس على النفوذ والسلطة. يتجاوز العداء الأوروبي لروسيا حدود السياسة والجغرافيا ليصل إلى جذور ثقافية وروحية عميقة. فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية تمثِّل حاضنة للهوية الروحية والثقافية لهذا البلد، ورمزًا يثير خوفًا وقلقًا لدى أوروبا الغربية التي ترى في هذه الحضارة نموذجًا مختلفًا ومنافسًا للنموذج الغربي القائم على الكاثوليكية والبروتستانتية. والكنيسة الأرثوذكسية ليست مجرد مؤسسة دينية، بل هي صمام أمان للهوية الروسية، لا سيما بعد إنتهاء الشيوعية، وهي تحافظ على الخصوصية الجديدة وعلى القيم التقليدية التي تتمسك بها، وتُبرز رفضًا للغربنة الثقافية والسياسية التي تُعتبر تهديدًا لخصوصية روسيا. وعبر التاريخ، تم استخدام الكنيسة الأرثوذكسية لتعزيز الشعور بالاستقلال الروحي والثقافي، وهذا ما يجعلها حجر زاوية في مقاومة النفوذ الأوروبي والغربي، والتي تطرح الحضارة الروسية كنموذج بديل يملك جذورًا حضارية وثقافية عميقة تعود إلى قرون مضت، متأثرة بالتراث السلافي والبيزنطي، وتمثل بديلًا أكثر عقلانية وأكثر محافظة على القيم الأخلاقية وفقًا لرأي السياسيين والفلاسفة الروس. هذا الإختلاف يفسر جزءًا هامًا من الخوف الاوروبي من توسع النفوذ الروسي، ليس فقط سياسيًا وعسكريًا، بل الأهم فكريًا وثقافيًا وأيديولوجيًا. فالغرب ينظر إلى روسيا كخصم لا يتوافق مع الحريات والقيم الليبيرالية والحداثة الغربية. لم ينفصل الصراع في أوكرانيا عن الخلفيات الدينية بين اوروبا وروسيا، فالمناطق الإنفصالية في الشرق الأوكراني يسكنها غالبية روسية تعتنق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وتتحدث اللغة الروسية، وقد ظهر استهداف كييف لهذه الكنيسة في أوكرانيا منذ بداية الأزمة، وكان أبرزها حالة دير كييف 'بيشيرسكايا لافرا' ، حيث تم طرد الرهبان هناك بعد إتهامهم بالترويج للدعاية الروسية، وهذا الدير يعتبر من أهم المراكز الروحية الأورثوذكسية في أوكرانيا والعالم، كما تم إخلاء بعض الكنائس التابعة للكنيسة الأورثوذكسية المرتبطة بموسكو بالقوة أو بأوامر قضائية. لا يمكن فهم التوتر بين أوروبا وروسيا من منظور الخلافات السياسية أو الاقتصادية فقط، بل يحتاج إلى قراءة عميقة في البُعد الثقافي والروحي الناتج عن إنقسام الكنيسة التاريخي والتباعد المستمر في التاريخ الحديث، حيث الكنيسة الأرثوذكسية والحضارة الروسية تلعبان دورًا مركزيًا في تعزيز الهوية الروسية ومقاومة الهيمنة الغربية. للعداء الأوروبي لروسيا أسباب أخرى عميقة ابرزها: تاريخ المواجهات والصراعات من غزو نابليون إلى الحربين العالميتين، وحقبة الحرب الباردة، حملت العلاقات الأوروبية-الروسية سمة الصراع والخصومة. هذه الذاكرة التاريخية لا تزال تؤثر على الفكر الاستراتيجي الأوروبي في مقاربة أمنه وخصوصيته الثقافية والإجتماعية حتى اليوم. الخوف من توسع النفوذ الروسي، فالأوروبيون يرون في روسيا منافسًا إقليميًا يسعى لاستعادة مكانته كقوة عظمى، ويخشون أن تؤدي تقاربات مثل قمة ترامب-بوتين إلى تحولات في موازين القوى قد تهمش أوروبا الاختلافات السياسية والأيديولوجية، فالأنظمة السياسية في أوروبا الغربية وروسيا تحمل رؤى متباينة حول الديمقراطية، حقوق الإنسان، ونظام الحكم، مما يزيد من فجوة الثقة ويغذي العداء. لماذا يخاف الأوروبيون من قمة ترامب-بوتين؟ يبدو واضحًا أن ترامب لا يعير إهتمامًا للسياسة الخارجية الأوروبية ولا لمصالحها الخاصة، فهو يُعطي الأولوية للملفات الإقتصادية التي تحقق مصالح الولايات المتحدة الاميركية، وهو يرفض تكبيل سعيه لتحقيق أهدافه بنظريات ومواقف تقليدية متعفنة لا تستطيع تجاوز العقد التاريخية، فترامب رجل جريء وبراغماتي من الدرجة الأولى، يدوس بإصرار على كل مخلفات التاريخ وعقده ويتجاوزها ساخرًا، وهو يريد تحقيق نتائج سريعة في هذه القمة، ويريد وقف الحرب والتوصل إلى إتفاق أو تحقيق بوادر إتفاق مع روسيا، والمستغرب أنه يفاوض بغياب المسؤولين الأوكرانيين والأوروبيين، وهذا يعكس تجاهله لهم وكأنه يريد مقاربة المسألة وسماع وجهة النظر الروسية بعيدًا عن الضجيج الأوكراني والأوروبي، فهل ينجح بوتين في إقناع ترامب بالرواية الروسية؟ وهل سيأخذ ترامب بالإعتبار الإنتصارات الروسية المحققة على الأرض والتي تكاد تشكل المشهد النهائي لهذه الحرب؟ في الوقت الذي تقيم فيه أوكرانيا ومن خلفها أوروبا إعتبارات هامة للكثير من القضايا الخاصة في هذا الصراع، يبدو أن ترامب وفي حديثة عن مسألة تبادل أراضٍ وتغيير خطوط المواجهات، وكأنه يلمح لفرض الواقع العسكري على الأوكرانيين والأوروبيين، مع الإصرار على فرض بعض التنازلات من الجانب الروسي في بعض المناطق ليكون الإتفاق مقبولًا، وفي المقابل، تريد روسيا الإحتفاظ بمعظم المناطق التي احتلتها، لا سيما تلك القريبة من سواحل البحر الاسود، لتحقيق إمتيازات جيوستراتيجية واكتساب نقاط قوة في هذا البحر. لا تبدو الظروف مؤاتية للأوكرانيين ولا للأوروبيين لفرض إرادتهم على اللقاء المرتقب وعلى عملية التفاوض، فالجيش الروسي يحقق إنتصارات يومية، وهو يتقدم بوتيرة ثابتة منذ زمن طويل، ولا خيار أمام الأوروبيين إلا بالدخول في المواجهة المباشرة مع الروس في حال رفضهم لأي إتفاق بين ترامب وبوتين. مع ذلك، لا يجب أن نحسم مسألة الإتفاق بين الزعيمين في قمة آلاسكا، فقد يقوم ترامب بقلب الطاولة على الروس والتصعيد ضد هذا البلد عسكريًا وإقتصاديًا في حال لم يعجبه الموقف الروسي، ولكن هذا الإحتمال يبدو ضعيفًا إلى حدٍ كبير. أما ماذا سينتج عن إي إتفاق محتمل بين ترامب وبوتين؟ فهذا سؤال يدور في أذهان معظم القادة وصناع القرار الأوروبيين، فهم يخشون من اتفاقات أو تفاهمات ثنائية قد تُهمش الدور الأوروبي في القضايا الأمنية والجيوسياسية، خاصة في مناطق مثل أوكرانيا وسوريا، وهذا سيضعف التحالفات الغربية، فالتقارب بين ترامب وبوتين يُنظر إليه على أنه قد يضعف الناتو والاتحاد الأوروبي، ويخلق تصدعات في التحالفات التقليدية التي تحكم النظام العالمي بعد الحرب الباردة. العداء الأوروبي لروسيا ليس مجرد قضية سياسية عابرة، بل هو جزء من بنية تاريخية وثقافية عميقة. القمة بين ترامب وبوتين تمثل بالنسبة لأوروبا لحظة توتر وقلق، خوفًا من فقدان النفوذ وتغييرات قد تعيد تشكيل النظام الدولي بطريقة قد لا تكون في مصلحة القارة الأوروبية، فهذه القارة وعلى الرغم من محاولة بناء قوة عسكرية وسياسية مستقلة، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق هذا الهدف، فقادتها يكتفون بالتصريحات ويبتعدون عن التنفيذ العملي، وهم يخشون فعلًا من المواجهة المباشرة مع روسيا ولا يجرؤون على الخوض فيها منفردين بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية، فجيوشهم ليس لديها الخبرة القتالية ومجتمعاتهم ترفض التورط في الحرب من أجل اوكرانيا، كما أن روسيا تستعد منذ زمن طويل لحرب محتملة مع الناتو، وهذه الحرب لن تقتصر على المواجهات التقليدية، فالضربات النووية التكتية أو الإستراتيجية هي العصا الغليظة التي ترفعها موسكو في وجه أوروبا.


دفاع العرب
منذ 5 أيام
- دفاع العرب
حروب الظل: كيف تسرق الجيوش الإلكترونية الحقيقة؟
العقيد الركن م. ظافر مراد الجيوش الإلكترونية هي وحدات رقمية متخصصة بالحرب السيبرانية، وحرب المعلومات، والتأثير النفسي، وتشمل فرق الهجوم السيبراني (اختراق، تعطيل، تدمير شبكات العدو). فرق الدفاع السيبراني (حماية البنية التحتية والشبكات العسكرية والمدنية). فرق العمليات النفسية الرقمية (توجيه الرأي العام وصناعة المزاج الجماهيري). تعتبر هذه الجيوش منظومة معقدة من خلايا سيبرانية هجومية ودفاعية، تعمل في العادة لصالح جهات سياسية حكومية أو غير حكومية، أو لصالح جهات أمنية أو حزبية، تعتمد على حسابات وهمية هائلة العدد، بهدف التأثير في الرأي العام وسرقة الحقيقة، وإستبدالها بمفاهيم وقناعات محرَّفة لتحقيق أهداف نهائية تتمثَّل بتعزيز 'الرواية السياسية' أو 'الرواية الأمنية والعسكرية'، وجعلها أكثر تصديقاً وأكثر جاذبية. ولا يكون الهدف الحقيقي إيصال المعلومات للجماهير، بل السيطرة على القاعدة الشعبية وتكريس مشروعية الموقف والوجود. وتلعب طبيعة المجتمع ودرجة صلابته أو تفككه الدور الأهم في فعالية هذه الجيوش وقدرتها على التأثير في الرأي العام. كما أن درجة الوعي والثقافة والعِلم تشكِّل المناعة ضد هجمات هذه الجيوش، والتي تستهدف الموالين والمحايدين أكثر بكثير من استهدافها لجماهير العدو أو الخصم. وتهاجم أو تدافع هذه الجيوش في مسرح إفتراضي مكون من عدد هائل من الحسابات الوهمية، بعضها يُمثِّل الموالين، وبعضها يمثل الخصوم، بحيث تلعب هذه الجيوش دور المؤجج للنقاشات لخلق مزاج إجتماعي عند فئة معينة، يتوافق ويدعم التوجه العام للسياسات والمواقف التي تتَّخذها الجهة المشغلة. تتألف الجيوش الإلكترونية من ناحية التنظيم الوظيفي من عدة مكونات أهمها: المحارب التقني: مهندس وخبير في خوارزميات مواقع التواصل الإجتماعي، يوجه الرسائل ويدير النقاشات المتناقضة، يعتمد على برامج وروبوتات وشبكات تتفاعل مع الحدث وتسجل آلاف المواقف وردات الفعل، أو ترسل إشارات أو معلومات لإغراق مواقع التواصل الإجتماعي بالتناقضات والمعلومات المضللة. المحارب النفسي: مختص بعلم النفس الإجتماعي وتحريك الغرائز الجماعية، يختار الموضوع والافكار والعبارات التي تفعل فعلها في المزاج الجماهيري، ويطلقها في وقت محدد وظروف معينة. المحارب الشعبي: وهو الشخص الذين يخوض الحرب االنفسية في المسرح الإفتراضي، وقد يكون تابع للجهة المشغلة أو من الذين وقعوا في فخ الحملة النفسية وينجر للخوض في النقاشات وردات الفعل التي قد تصل إلى حد أعمال عنف مسلحة. تنشط الجيوش الإلكترونية بشكلٍ كبير عند كل حدث هام أو تصريح أو موقف سياسي أو أمني، وهناك العديد من الإستراتيجيات التي تلجأ لها هذه الجيوش، ومن أبرز أساليب الخداع الإلكتروني: الراية المزيّفة (False Flag) حيث يتم إبتكار ونشر حدث وهمي أو إتهام كاذب، بشكل يتقاطع ويرتبط مع أحداث أو معلومات صحيحة، فيتم تصديق الخبر أو المعلومة، وتنتشر كالنار في الهشيم. هناك أيضاً إستراتيجية إغراق المنصات بكم هائل من المعلومات والصور والفيديوهات لتغطية الحقيقة ونزع الثقة عن كافة الاخبار المتداولة، حتى أحياناً يتم إتهام الجهة المشغلة نفسها بإنتهاكات فاضحة ولكن يتبين لاحقاً أنها غير صحيحة، لتتلبس موقف الضحية. أيضاً إستراتيجية اخرى تسمى 'البطل والشيطان' بحيث يتم تحويل الخصم إلى شرير مُطلق والصديق إلى بطل شجاع يقدم التضحيات. تعتبر إستراتيجة 'إستهداف المحرمات' عند البيئة الموالية، من أخطر الإستراتيجيات التي تُطلق في الشارع عنفاً غير محسوب لا يمكن السيطرة عليه، فتصبح المسألة قضية شعبية عادلة لا يمكن التخاذل فيها، ومن غير المقبول إتخاذ مواقف محايدة تجاهها، فتبدو وكأنها النفير العام الذي يُطلق الوحش داخل الإنسان. وفي العادة يتم إستخدام هذه الإستراتيجيات لشد العصب الديني، أو الطائفي أو الحزبي. وفي هذه الإستراتيجية يتم إستهداف 'الشعور بالإنتماء' و'الشعور بالأمان'، ومن خلال ذلك تأخذ ردات فعل الجماهير في الشارع، صور مختلفة في درجات العنف، فتتدرج من الإحتجاجات العنيفة، وصولاً إلى الثورة أو التمرد، وتعتمد إستراتيجية 'إستهداف المحرمات' على قاعدة أن 'إحساسك بالخطر أقوى من إحساسك بالمنطق'. مع كل معركة تخوضها الجيوش الإلكترونية، يتم قياس وعي الجماهير ودرجة تأثرها من خلال تقنية إسمها ' Social Sensing' أو قياس النبض الاجتماعي، ومن خلالها تُدرس درجات الوعي الإجتماعي بشأن قضية ما، ومدى المعرفة بتفاصيل هذه القضية، الإصطفافات والمواقف منها، والذاكرة الجماعية حين تُصبح القضية جزء من الحديث اليومي. ويحصل ذلك عن طريق تحليل الترندات والهاشتاغ ومدى تفاعل الجماهير من حيث العدد ومن حيث المدى الزمني. إضافةً إلى تحديد طبيعة التفاعل العاطفي تجاه الحدث، وأيضاً رسم خرائط التفاعل الجغرافي لتحديد المناطق المتفاعلة من تلك التي لا تتفاعل، وطبيعة هذا التفاعل سواء كان سلبي أو إيجابي أو محايد. وفي هذه الحالة يتم توجيه رسائل ومحتويات لإستهداف الفئات أو المناطق غير المتفاعلة لدفعها إلى المشاركة والإنخراط في ردات الفعل المطلوبة. من أبرز الأحداث العالمية التي فعلت فيها الجيوش الإلكترونية فعلها، الثورة الأوكرانية، الربيع العربي، الحرب الروسية -الأوكرانية، الحرب على غزة بعد عملية طوفان الأقصى، والأحداث الأخيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية. وما كان يحدث هناك عبارة عن تلاعب بالوعي العام، ونشر روايات بديلة أو محرَّفة لإقناع الداخل والخارج بعدالة القضية أو بأن النصر تحقق، أو بإظهار المظلومية بهدف كسب الرأي العام أو بهدف إستدعاء ردات فعل عنيفة في الشارع، أما من بادر إلى إنشاء أول جيش إلكتروني، فتشير المعلومات إلى أن الجيش الاميركي هو المبادر في ذلك، بينما تلتفت الأنظار نحو إيران الحائزة على أكبر مجموعة من الجيوش الإلكترونية التي توجِّه دعايتها السياسية المدعومة بعقيدتها الأيديولوجية، نحو عدد كبير جداً من مسارح العمليات والفضاءات الإلكترونية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية. بالتزامن مع الحروب والمعارك الشرسة التي تخوضها الجيوش المسلحة، يدور صراع آخر خلف الشاشات وفي الفضاء السيبراني وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، وطبيعة هذا الصراع تتمثَّل بتعزيز قوة الرواية ونشرها، لإشباع النهم الجماهيري بما يُرضي غرائزه وحاجاته النفسية والمعنوية، فإذا كان الجيش التقليدي يحتل الارض، فالجيش الإلكتروني يحتل الوعي، ومن تكون روايته أكثر تصديقاً يكسب الحرب في مجتمعه ولو انهزم في ساحات القتال. قد يتبادر إلى الذهن أن شركات صناعة الأمن والدفاع العالمية غير معنية بتجهيز وتعزيز قدرات الجيوش الإلكترونية، ولكن ذلك غير صحيح، فهذه الشركات اصبحت تمتلك الوعي الكامل حول أهمية هذا المجال، وهي تخوض فيه منذ فترة طويلة، وأبرز هذه الشركات ' Lockheed Martin' التي عملت بجهد في مجال الدمج بين الحرب الإلكترونية والسيبرانية وعمليات المعلومات(ECIW) لتحقيق التفوق التكنولوجي والسيطرة على طيف الترددات الكهرومغناطيسية. شركة 'Northrop Grumman' وهي رائدة في مجال الهجمات الإلكترونية المضادة (EW). شركة 'Raytheon Technologies' التي تطور أنظمة حرب إلكترونية وتدمج التشفير مع أنظمة نقل الترددات والمعلومات. شركة 'BAE Systems' التي لديها فرع مختص بالأنظمة الإلكترونية وتطوير حلول متقدمة للحرب الإلكترونية والإعلام الصناعي وأمان الإتصالات. في زمن الجيوش الإلكترونية، لم يعد الإنتصار مشهدًا مادياً على الأرض، بل قناعة وإيمان في العقول. قد تُهزم ميدانيًا… لكنك تربح الحرب إذا سرقت الحقيقة، والجيل القادم من الحروب لن يطلق رصاصة واحدة، بل سيجعل الشعوب تحتفل بخسارتها.


دفاع العرب
١٨-٠٧-٢٠٢٥
- دفاع العرب
الخبرة القتالية.. الندوب التي تصنع الإنتصارات
العقيد الركن م. ظافر مراد تُصدر عدة مراكز بحوث ومؤسسات أمنية تقديرات حول ترتيب القوة عند الجيوش على المستوى العالمي، ويتم الأخذ بعين الإعتبار العديد من العوامل، أبرزها كمية ونوعية الأسلحة ومدى تطورها وحداثتها، وعديد العناصر ومستوى التدريب وتوزيع القوات وإنتشارها في العالم، إضافةً إلى عوامل جيوستراتيجية وجيوسياسية محيطة ومؤثرة بهذه الجيوش، مثل الموقع والطبيعة الجغرافية والتحالفات العسكرية. تُهمل هذه التصنيفات عوامل أخرى قد تكون الأكثر أهمية في تحقيق النصر على أرض الواقع، ومن أبرز هذه العوامل الخبرة القتالية التي تصقل المهارات وتقوي غريزة الحياة عند الجندي والرتيب والضابط، فالجيش الذي لم يخض قتالاً حقيقيًّا لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه، وما التدريب إلا خطوة متواضعة لتعلم الآداء القتالي، ولكنه لا يُقارن بجحيم المعركة، فحين يدخل الجيش نار القتال يتعلّم المعنى الحقيقي للخوف، والصدمة، والمباغتة، والخسارة، والخيانة، بل وحتى الرحمة… تلك خبرة لا تُكتسب عبر المحاضرات ولا عبر المناورات، بل تُغرس في الروح غرساً من خلال الكثير من الخسارات التي تترك ندوباً في ذاكرة الجيوش لا يمكن نسيانها. الجيوش العظمى في التاريخ لم تكن تعتمد فقط على العقيدة أو التكنولوجيا العسكرية، بل على الجنود الذين خبروا رائحة الدم، وحرارة النار، وصوت الموت وهو يمرّ بجوارهم، والخبرة القتالية تميّز بين الجندي الذي يطلق النار لأنه تلقّى تدريبًا، والجندي الذي يطلق النار لأنه يعرف قيمة الطلقة وأين ومتى ولماذا تُطلق. والخبرة تميِّز أيضاً بين القائد الذي يُعطي الأوامر ويتَّخذ القرار لانه يُطبِّق مفاهيم عسكرية أكاديمية تعلَّمها في قاعات المحاضرات، أو مارسها في المناورات التدريبية واستخدام المشبِّهات، والقائد الذي يأمر ويتَّخذ قراره لأنه خبير في المواقف وإستيعاب تفاصيل المعركة ومتطلباتها لحظة بلحظة، ويعرف أن الإبتكار ومفاجأة العدو والجرأة المحسوبة هي مفتاح الصمود والنصر، فالتدريب والمناورات لا تُخرج من الإنسان جانبه الوحشي أو النبيل، فقط القتال الحقيقي يفعل ذلك، عندما يتعرض لإحتمالات الموت في كل خطوة، ويطلق الرصاص ليقتل ويزيد من فرص حياته، فالمعارك مليئة بالغموض والمفاجآت حيث يتنافس الحظ مع القدر والحياة مع الموت، فالحظ يقف دائماً إلى جانب الشجعان، بينما يخطف الموت المتردد والجبان. ينطبق هذا الشيء على الوحدات الكبرى وعلى الجيوش، فالوحدات التي خبرت القتال وخاضته بقوة وبعنف ولوقتٍ طويل، تصبح قدرتها على القتال والتكيف مع أي معركة أو حرب مستقبلية، أعلى بكثير من قدرة وحدات مماثلة لها في الجيش ذاته، كما أن الجيوش التي خاضت حروباً تحتفظ لنفسها بكثير من الأسرار والدروس والعبر في كل عثرة وفي كل نجاح حققته، فالخبرة القتالية ليست مجرد مهارة فردية، بل هي ذاكرة مؤسساتية تُبنى عبر تراكم المواقف والتجارب، والجيوش الخبيرة تملك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الظروف الرمادية التي تعجز فيها النماذج النظرية، وينسحب هذا الشيء على كافة مكونات هذه الجيوش من قوات برية وبحرية وجوية، وتعتبر القوات الخاصة هي الأكثر تفاعلاً وتأثُّراً بالخبرات المكتسبة، كونها تعيش اللحظات الحرجة وتقترب من الخطر وتلامسه في كافة مراحل مهامها، حيث تكون التوقيتات والمسافات من أهم الإعتبارات وأكثرها حراجة. يمكن أن نصنِّف الجيوش وفقاً للخبرة القتالية لعدة فئات، والفئة الأولى هي 'الجيوش المجروحة-Scarred Armies' وهي تلك التي خاضت حروباً كبرى طويلة ضمن سلسلة متواصلة أو متقطعة، وطوَّرت عقيدتها القتالية بالدم والنار، سماتها سمعة تاريخية لا تٌضاهى، ذاكرة قتالية مؤسساتية، ضباط وجنود ميدانيون خاضوا معارك حقيقية، عقيدة عسكرية متميزة قادرة على التكيف السريع مع الواقع، قدرة على إمتصاص الصدمة وإستعادة المبادرة. ومن ابرز هذه الجيوش الجيش الروسي (خبرات في الشيشان، جورجيا، سوريا، أوكرانيا) الجيش الأميركي (فيتنام، أفغانستان، العراق إضافةً إلى عمليات خاصة)، الجيش الإسرائيلي ( حروب متكررة على عدة جبهات منذ العام 1948). الفئة الثانية هي 'الجيوش الميدانية- Field-Tested Armies' وهي جيوش خاضت معارك محدودة واظهرت كفاءة جيدة، سماتها خبرات مكتسبة عند بعض وحداتها، إشتباك مع العدو في بيئات محدودة، تمتلك تكنولوجيا عسكرية وتعتمد على تطبيق النظريات ولا تمتلك إبداع المعركة. من أبرز هذه الجيوش، الجيش البريطاني (جزر فوكلاند، العراق)، الجيش الفرنسي( عمليات الساحل الافريقي)، الجيش التركي (قتال محدود في سوريا والعراق وليبيا). الفئة الثالثة هي 'الجيوش المحاكية-Simulated Armies'، وهي جيوش حديثة التدريب والتنظيم والتسليح، ولكنها لا تمتلك الخبرة القتالية ولم تعش صدمة الحرب، سماتها إلتزام بالتدريب والتعليم، إكتساب اسلحة حديثة، عقيدة عسكرية تقليدية غالباً مستوردة، آداء غير مضمون في ظروف حرب حقيقية. ومن الأمثلة على هذه الجيوش، الجيش الألماني، الجيش الياباني. يبقى هناك جيوش الفئة الرابعة وهي 'الجيوش التمثيلية – Ceremonial Armies' ليست فعلياً بمستوى الجيوش الحديثة، وهي تؤدي مهام داخلية أكثر من إهتمامها بمهام الدفاع عن الوطن، سماتها بعض أو كل ما يلي: ضعف القدرات المادية، ضعف الروح القتالية، خلل في التجهيزات أو في التنظيم، فساد إداري، إرباك وغموض في العقيدة القتالية، وهنا نتحفظ عن ذكر أمثلة عن هذه الجيوش ولكن نؤكِّد أن هذا التصنيف يعني بالجاهزية الميدانية وخبرة القتال فقط، وهناك فرص لتنتقل هذه الجيوش من فئة إلى أخرى عند توافر الظروف التي تسمح لها باكتساب الخبرات القتالية أو بتغيير طبيعتها التنظيمية والمؤسساتية. في زمن تزوير الحقائق وتحريف الروايات، حيث تفتعل البطولات عبر السياسة والإعلام، يبقى المقاتل المجروح في جسده أو في ضميره، آخر شكل من أشكال الحقيقة في هذا العالم، فالذي خاض القتال ونجا بجسده أو لم ينجُ، هو الشاهد الأول على المعنى الحقيقي للمعركة، للقوة، للضعف، وهو الوحيد الذي يحتفظ بضميره ووجدانه بالنسخة الأصلية من الحرب غير المحرَّفة.