
حروب الظل: كيف تسرق الجيوش الإلكترونية الحقيقة؟
الجيوش الإلكترونية هي وحدات رقمية متخصصة بالحرب السيبرانية، وحرب المعلومات، والتأثير النفسي، وتشمل فرق الهجوم السيبراني (اختراق، تعطيل، تدمير شبكات العدو). فرق الدفاع السيبراني (حماية البنية التحتية والشبكات العسكرية والمدنية). فرق العمليات النفسية الرقمية (توجيه الرأي العام وصناعة المزاج الجماهيري). تعتبر هذه الجيوش منظومة معقدة من خلايا سيبرانية هجومية ودفاعية، تعمل في العادة لصالح جهات سياسية حكومية أو غير حكومية، أو لصالح جهات أمنية أو حزبية، تعتمد على حسابات وهمية هائلة العدد، بهدف التأثير في الرأي العام وسرقة الحقيقة، وإستبدالها بمفاهيم وقناعات محرَّفة لتحقيق أهداف نهائية تتمثَّل بتعزيز 'الرواية السياسية' أو 'الرواية الأمنية والعسكرية'، وجعلها أكثر تصديقاً وأكثر جاذبية. ولا يكون الهدف الحقيقي إيصال المعلومات للجماهير، بل السيطرة على القاعدة الشعبية وتكريس مشروعية الموقف والوجود. وتلعب طبيعة المجتمع ودرجة صلابته أو تفككه الدور الأهم في فعالية هذه الجيوش وقدرتها على التأثير في الرأي العام. كما أن درجة الوعي والثقافة والعِلم تشكِّل المناعة ضد هجمات هذه الجيوش، والتي تستهدف الموالين والمحايدين أكثر بكثير من استهدافها لجماهير العدو أو الخصم. وتهاجم أو تدافع هذه الجيوش في مسرح إفتراضي مكون من عدد هائل من الحسابات الوهمية، بعضها يُمثِّل الموالين، وبعضها يمثل الخصوم، بحيث تلعب هذه الجيوش دور المؤجج للنقاشات لخلق مزاج إجتماعي عند فئة معينة، يتوافق ويدعم التوجه العام للسياسات والمواقف التي تتَّخذها الجهة المشغلة.
تتألف الجيوش الإلكترونية من ناحية التنظيم الوظيفي من عدة مكونات أهمها:
المحارب التقني: مهندس وخبير في خوارزميات مواقع التواصل الإجتماعي، يوجه الرسائل ويدير النقاشات المتناقضة، يعتمد على برامج وروبوتات وشبكات تتفاعل مع الحدث وتسجل آلاف المواقف وردات الفعل، أو ترسل إشارات أو معلومات لإغراق مواقع التواصل الإجتماعي بالتناقضات والمعلومات المضللة. المحارب النفسي: مختص بعلم النفس الإجتماعي وتحريك الغرائز الجماعية، يختار الموضوع والافكار والعبارات التي تفعل فعلها في المزاج الجماهيري، ويطلقها في وقت محدد وظروف معينة. المحارب الشعبي: وهو الشخص الذين يخوض الحرب االنفسية في المسرح الإفتراضي، وقد يكون تابع للجهة المشغلة أو من الذين وقعوا في فخ الحملة النفسية وينجر للخوض في النقاشات وردات الفعل التي قد تصل إلى حد أعمال عنف مسلحة.
تنشط الجيوش الإلكترونية بشكلٍ كبير عند كل حدث هام أو تصريح أو موقف سياسي أو أمني، وهناك العديد من الإستراتيجيات التي تلجأ لها هذه الجيوش، ومن أبرز أساليب الخداع الإلكتروني: الراية المزيّفة (False Flag) حيث يتم إبتكار ونشر حدث وهمي أو إتهام كاذب، بشكل يتقاطع ويرتبط مع أحداث أو معلومات صحيحة، فيتم تصديق الخبر أو المعلومة، وتنتشر كالنار في الهشيم. هناك أيضاً إستراتيجية إغراق المنصات بكم هائل من المعلومات والصور والفيديوهات لتغطية الحقيقة ونزع الثقة عن كافة الاخبار المتداولة، حتى أحياناً يتم إتهام الجهة المشغلة نفسها بإنتهاكات فاضحة ولكن يتبين لاحقاً أنها غير صحيحة، لتتلبس موقف الضحية. أيضاً إستراتيجية اخرى تسمى 'البطل والشيطان' بحيث يتم تحويل الخصم إلى شرير مُطلق والصديق إلى بطل شجاع يقدم التضحيات.
تعتبر إستراتيجة 'إستهداف المحرمات' عند البيئة الموالية، من أخطر الإستراتيجيات التي تُطلق في الشارع عنفاً غير محسوب لا يمكن السيطرة عليه، فتصبح المسألة قضية شعبية عادلة لا يمكن التخاذل فيها، ومن غير المقبول إتخاذ مواقف محايدة تجاهها، فتبدو وكأنها النفير العام الذي يُطلق الوحش داخل الإنسان. وفي العادة يتم إستخدام هذه الإستراتيجيات لشد العصب الديني، أو الطائفي أو الحزبي. وفي هذه الإستراتيجية يتم إستهداف 'الشعور بالإنتماء' و'الشعور بالأمان'، ومن خلال ذلك تأخذ ردات فعل الجماهير في الشارع، صور مختلفة في درجات العنف، فتتدرج من الإحتجاجات العنيفة، وصولاً إلى الثورة أو التمرد، وتعتمد إستراتيجية 'إستهداف المحرمات' على قاعدة أن 'إحساسك بالخطر أقوى من إحساسك بالمنطق'.
مع كل معركة تخوضها الجيوش الإلكترونية، يتم قياس وعي الجماهير ودرجة تأثرها من خلال تقنية إسمها ' Social Sensing' أو قياس النبض الاجتماعي، ومن خلالها تُدرس درجات الوعي الإجتماعي بشأن قضية ما، ومدى المعرفة بتفاصيل هذه القضية، الإصطفافات والمواقف منها، والذاكرة الجماعية حين تُصبح القضية جزء من الحديث اليومي. ويحصل ذلك عن طريق تحليل الترندات والهاشتاغ ومدى تفاعل الجماهير من حيث العدد ومن حيث المدى الزمني. إضافةً إلى تحديد طبيعة التفاعل العاطفي تجاه الحدث، وأيضاً رسم خرائط التفاعل الجغرافي لتحديد المناطق المتفاعلة من تلك التي لا تتفاعل، وطبيعة هذا التفاعل سواء كان سلبي أو إيجابي أو محايد. وفي هذه الحالة يتم توجيه رسائل ومحتويات لإستهداف الفئات أو المناطق غير المتفاعلة لدفعها إلى المشاركة والإنخراط في ردات الفعل المطلوبة.
من أبرز الأحداث العالمية التي فعلت فيها الجيوش الإلكترونية فعلها، الثورة الأوكرانية، الربيع العربي، الحرب الروسية -الأوكرانية، الحرب على غزة بعد عملية طوفان الأقصى، والأحداث الأخيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية. وما كان يحدث هناك عبارة عن تلاعب بالوعي العام، ونشر روايات بديلة أو محرَّفة لإقناع الداخل والخارج بعدالة القضية أو بأن النصر تحقق، أو بإظهار المظلومية بهدف كسب الرأي العام أو بهدف إستدعاء ردات فعل عنيفة في الشارع، أما من بادر إلى إنشاء أول جيش إلكتروني، فتشير المعلومات إلى أن الجيش الاميركي هو المبادر في ذلك، بينما تلتفت الأنظار نحو إيران الحائزة على أكبر مجموعة من الجيوش الإلكترونية التي توجِّه دعايتها السياسية المدعومة بعقيدتها الأيديولوجية، نحو عدد كبير جداً من مسارح العمليات والفضاءات الإلكترونية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية.
بالتزامن مع الحروب والمعارك الشرسة التي تخوضها الجيوش المسلحة، يدور صراع آخر خلف الشاشات وفي الفضاء السيبراني وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، وطبيعة هذا الصراع تتمثَّل بتعزيز قوة الرواية ونشرها، لإشباع النهم الجماهيري بما يُرضي غرائزه وحاجاته النفسية والمعنوية، فإذا كان الجيش التقليدي يحتل الارض، فالجيش الإلكتروني يحتل الوعي، ومن تكون روايته أكثر تصديقاً يكسب الحرب في مجتمعه ولو انهزم في ساحات القتال.
قد يتبادر إلى الذهن أن شركات صناعة الأمن والدفاع العالمية غير معنية بتجهيز وتعزيز قدرات الجيوش الإلكترونية، ولكن ذلك غير صحيح، فهذه الشركات اصبحت تمتلك الوعي الكامل حول أهمية هذا المجال، وهي تخوض فيه منذ فترة طويلة، وأبرز هذه الشركات ' Lockheed Martin' التي عملت بجهد في مجال الدمج بين الحرب الإلكترونية والسيبرانية وعمليات المعلومات(ECIW) لتحقيق التفوق التكنولوجي والسيطرة على طيف الترددات الكهرومغناطيسية. شركة 'Northrop Grumman' وهي رائدة في مجال الهجمات الإلكترونية المضادة (EW). شركة 'Raytheon Technologies' التي تطور أنظمة حرب إلكترونية وتدمج التشفير مع أنظمة نقل الترددات والمعلومات. شركة 'BAE Systems' التي لديها فرع مختص بالأنظمة الإلكترونية وتطوير حلول متقدمة للحرب الإلكترونية والإعلام الصناعي وأمان الإتصالات.
في زمن الجيوش الإلكترونية، لم يعد الإنتصار مشهدًا مادياً على الأرض، بل قناعة وإيمان في العقول. قد تُهزم ميدانيًا… لكنك تربح الحرب إذا سرقت الحقيقة، والجيل القادم من الحروب لن يطلق رصاصة واحدة، بل سيجعل الشعوب تحتفل بخسارتها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


دفاع العرب
منذ 3 أيام
- دفاع العرب
حروب الظل: كيف تسرق الجيوش الإلكترونية الحقيقة؟
العقيد الركن م. ظافر مراد الجيوش الإلكترونية هي وحدات رقمية متخصصة بالحرب السيبرانية، وحرب المعلومات، والتأثير النفسي، وتشمل فرق الهجوم السيبراني (اختراق، تعطيل، تدمير شبكات العدو). فرق الدفاع السيبراني (حماية البنية التحتية والشبكات العسكرية والمدنية). فرق العمليات النفسية الرقمية (توجيه الرأي العام وصناعة المزاج الجماهيري). تعتبر هذه الجيوش منظومة معقدة من خلايا سيبرانية هجومية ودفاعية، تعمل في العادة لصالح جهات سياسية حكومية أو غير حكومية، أو لصالح جهات أمنية أو حزبية، تعتمد على حسابات وهمية هائلة العدد، بهدف التأثير في الرأي العام وسرقة الحقيقة، وإستبدالها بمفاهيم وقناعات محرَّفة لتحقيق أهداف نهائية تتمثَّل بتعزيز 'الرواية السياسية' أو 'الرواية الأمنية والعسكرية'، وجعلها أكثر تصديقاً وأكثر جاذبية. ولا يكون الهدف الحقيقي إيصال المعلومات للجماهير، بل السيطرة على القاعدة الشعبية وتكريس مشروعية الموقف والوجود. وتلعب طبيعة المجتمع ودرجة صلابته أو تفككه الدور الأهم في فعالية هذه الجيوش وقدرتها على التأثير في الرأي العام. كما أن درجة الوعي والثقافة والعِلم تشكِّل المناعة ضد هجمات هذه الجيوش، والتي تستهدف الموالين والمحايدين أكثر بكثير من استهدافها لجماهير العدو أو الخصم. وتهاجم أو تدافع هذه الجيوش في مسرح إفتراضي مكون من عدد هائل من الحسابات الوهمية، بعضها يُمثِّل الموالين، وبعضها يمثل الخصوم، بحيث تلعب هذه الجيوش دور المؤجج للنقاشات لخلق مزاج إجتماعي عند فئة معينة، يتوافق ويدعم التوجه العام للسياسات والمواقف التي تتَّخذها الجهة المشغلة. تتألف الجيوش الإلكترونية من ناحية التنظيم الوظيفي من عدة مكونات أهمها: المحارب التقني: مهندس وخبير في خوارزميات مواقع التواصل الإجتماعي، يوجه الرسائل ويدير النقاشات المتناقضة، يعتمد على برامج وروبوتات وشبكات تتفاعل مع الحدث وتسجل آلاف المواقف وردات الفعل، أو ترسل إشارات أو معلومات لإغراق مواقع التواصل الإجتماعي بالتناقضات والمعلومات المضللة. المحارب النفسي: مختص بعلم النفس الإجتماعي وتحريك الغرائز الجماعية، يختار الموضوع والافكار والعبارات التي تفعل فعلها في المزاج الجماهيري، ويطلقها في وقت محدد وظروف معينة. المحارب الشعبي: وهو الشخص الذين يخوض الحرب االنفسية في المسرح الإفتراضي، وقد يكون تابع للجهة المشغلة أو من الذين وقعوا في فخ الحملة النفسية وينجر للخوض في النقاشات وردات الفعل التي قد تصل إلى حد أعمال عنف مسلحة. تنشط الجيوش الإلكترونية بشكلٍ كبير عند كل حدث هام أو تصريح أو موقف سياسي أو أمني، وهناك العديد من الإستراتيجيات التي تلجأ لها هذه الجيوش، ومن أبرز أساليب الخداع الإلكتروني: الراية المزيّفة (False Flag) حيث يتم إبتكار ونشر حدث وهمي أو إتهام كاذب، بشكل يتقاطع ويرتبط مع أحداث أو معلومات صحيحة، فيتم تصديق الخبر أو المعلومة، وتنتشر كالنار في الهشيم. هناك أيضاً إستراتيجية إغراق المنصات بكم هائل من المعلومات والصور والفيديوهات لتغطية الحقيقة ونزع الثقة عن كافة الاخبار المتداولة، حتى أحياناً يتم إتهام الجهة المشغلة نفسها بإنتهاكات فاضحة ولكن يتبين لاحقاً أنها غير صحيحة، لتتلبس موقف الضحية. أيضاً إستراتيجية اخرى تسمى 'البطل والشيطان' بحيث يتم تحويل الخصم إلى شرير مُطلق والصديق إلى بطل شجاع يقدم التضحيات. تعتبر إستراتيجة 'إستهداف المحرمات' عند البيئة الموالية، من أخطر الإستراتيجيات التي تُطلق في الشارع عنفاً غير محسوب لا يمكن السيطرة عليه، فتصبح المسألة قضية شعبية عادلة لا يمكن التخاذل فيها، ومن غير المقبول إتخاذ مواقف محايدة تجاهها، فتبدو وكأنها النفير العام الذي يُطلق الوحش داخل الإنسان. وفي العادة يتم إستخدام هذه الإستراتيجيات لشد العصب الديني، أو الطائفي أو الحزبي. وفي هذه الإستراتيجية يتم إستهداف 'الشعور بالإنتماء' و'الشعور بالأمان'، ومن خلال ذلك تأخذ ردات فعل الجماهير في الشارع، صور مختلفة في درجات العنف، فتتدرج من الإحتجاجات العنيفة، وصولاً إلى الثورة أو التمرد، وتعتمد إستراتيجية 'إستهداف المحرمات' على قاعدة أن 'إحساسك بالخطر أقوى من إحساسك بالمنطق'. مع كل معركة تخوضها الجيوش الإلكترونية، يتم قياس وعي الجماهير ودرجة تأثرها من خلال تقنية إسمها ' Social Sensing' أو قياس النبض الاجتماعي، ومن خلالها تُدرس درجات الوعي الإجتماعي بشأن قضية ما، ومدى المعرفة بتفاصيل هذه القضية، الإصطفافات والمواقف منها، والذاكرة الجماعية حين تُصبح القضية جزء من الحديث اليومي. ويحصل ذلك عن طريق تحليل الترندات والهاشتاغ ومدى تفاعل الجماهير من حيث العدد ومن حيث المدى الزمني. إضافةً إلى تحديد طبيعة التفاعل العاطفي تجاه الحدث، وأيضاً رسم خرائط التفاعل الجغرافي لتحديد المناطق المتفاعلة من تلك التي لا تتفاعل، وطبيعة هذا التفاعل سواء كان سلبي أو إيجابي أو محايد. وفي هذه الحالة يتم توجيه رسائل ومحتويات لإستهداف الفئات أو المناطق غير المتفاعلة لدفعها إلى المشاركة والإنخراط في ردات الفعل المطلوبة. من أبرز الأحداث العالمية التي فعلت فيها الجيوش الإلكترونية فعلها، الثورة الأوكرانية، الربيع العربي، الحرب الروسية -الأوكرانية، الحرب على غزة بعد عملية طوفان الأقصى، والأحداث الأخيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية. وما كان يحدث هناك عبارة عن تلاعب بالوعي العام، ونشر روايات بديلة أو محرَّفة لإقناع الداخل والخارج بعدالة القضية أو بأن النصر تحقق، أو بإظهار المظلومية بهدف كسب الرأي العام أو بهدف إستدعاء ردات فعل عنيفة في الشارع، أما من بادر إلى إنشاء أول جيش إلكتروني، فتشير المعلومات إلى أن الجيش الاميركي هو المبادر في ذلك، بينما تلتفت الأنظار نحو إيران الحائزة على أكبر مجموعة من الجيوش الإلكترونية التي توجِّه دعايتها السياسية المدعومة بعقيدتها الأيديولوجية، نحو عدد كبير جداً من مسارح العمليات والفضاءات الإلكترونية، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية. بالتزامن مع الحروب والمعارك الشرسة التي تخوضها الجيوش المسلحة، يدور صراع آخر خلف الشاشات وفي الفضاء السيبراني وعلى مواقع التواصل الإجتماعي، وطبيعة هذا الصراع تتمثَّل بتعزيز قوة الرواية ونشرها، لإشباع النهم الجماهيري بما يُرضي غرائزه وحاجاته النفسية والمعنوية، فإذا كان الجيش التقليدي يحتل الارض، فالجيش الإلكتروني يحتل الوعي، ومن تكون روايته أكثر تصديقاً يكسب الحرب في مجتمعه ولو انهزم في ساحات القتال. قد يتبادر إلى الذهن أن شركات صناعة الأمن والدفاع العالمية غير معنية بتجهيز وتعزيز قدرات الجيوش الإلكترونية، ولكن ذلك غير صحيح، فهذه الشركات اصبحت تمتلك الوعي الكامل حول أهمية هذا المجال، وهي تخوض فيه منذ فترة طويلة، وأبرز هذه الشركات ' Lockheed Martin' التي عملت بجهد في مجال الدمج بين الحرب الإلكترونية والسيبرانية وعمليات المعلومات(ECIW) لتحقيق التفوق التكنولوجي والسيطرة على طيف الترددات الكهرومغناطيسية. شركة 'Northrop Grumman' وهي رائدة في مجال الهجمات الإلكترونية المضادة (EW). شركة 'Raytheon Technologies' التي تطور أنظمة حرب إلكترونية وتدمج التشفير مع أنظمة نقل الترددات والمعلومات. شركة 'BAE Systems' التي لديها فرع مختص بالأنظمة الإلكترونية وتطوير حلول متقدمة للحرب الإلكترونية والإعلام الصناعي وأمان الإتصالات. في زمن الجيوش الإلكترونية، لم يعد الإنتصار مشهدًا مادياً على الأرض، بل قناعة وإيمان في العقول. قد تُهزم ميدانيًا… لكنك تربح الحرب إذا سرقت الحقيقة، والجيل القادم من الحروب لن يطلق رصاصة واحدة، بل سيجعل الشعوب تحتفل بخسارتها.


دفاع العرب
١٨-٠٧-٢٠٢٥
- دفاع العرب
الخبرة القتالية.. الندوب التي تصنع الإنتصارات
العقيد الركن م. ظافر مراد تُصدر عدة مراكز بحوث ومؤسسات أمنية تقديرات حول ترتيب القوة عند الجيوش على المستوى العالمي، ويتم الأخذ بعين الإعتبار العديد من العوامل، أبرزها كمية ونوعية الأسلحة ومدى تطورها وحداثتها، وعديد العناصر ومستوى التدريب وتوزيع القوات وإنتشارها في العالم، إضافةً إلى عوامل جيوستراتيجية وجيوسياسية محيطة ومؤثرة بهذه الجيوش، مثل الموقع والطبيعة الجغرافية والتحالفات العسكرية. تُهمل هذه التصنيفات عوامل أخرى قد تكون الأكثر أهمية في تحقيق النصر على أرض الواقع، ومن أبرز هذه العوامل الخبرة القتالية التي تصقل المهارات وتقوي غريزة الحياة عند الجندي والرتيب والضابط، فالجيش الذي لم يخض قتالاً حقيقيًّا لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه، وما التدريب إلا خطوة متواضعة لتعلم الآداء القتالي، ولكنه لا يُقارن بجحيم المعركة، فحين يدخل الجيش نار القتال يتعلّم المعنى الحقيقي للخوف، والصدمة، والمباغتة، والخسارة، والخيانة، بل وحتى الرحمة… تلك خبرة لا تُكتسب عبر المحاضرات ولا عبر المناورات، بل تُغرس في الروح غرساً من خلال الكثير من الخسارات التي تترك ندوباً في ذاكرة الجيوش لا يمكن نسيانها. الجيوش العظمى في التاريخ لم تكن تعتمد فقط على العقيدة أو التكنولوجيا العسكرية، بل على الجنود الذين خبروا رائحة الدم، وحرارة النار، وصوت الموت وهو يمرّ بجوارهم، والخبرة القتالية تميّز بين الجندي الذي يطلق النار لأنه تلقّى تدريبًا، والجندي الذي يطلق النار لأنه يعرف قيمة الطلقة وأين ومتى ولماذا تُطلق. والخبرة تميِّز أيضاً بين القائد الذي يُعطي الأوامر ويتَّخذ القرار لانه يُطبِّق مفاهيم عسكرية أكاديمية تعلَّمها في قاعات المحاضرات، أو مارسها في المناورات التدريبية واستخدام المشبِّهات، والقائد الذي يأمر ويتَّخذ قراره لأنه خبير في المواقف وإستيعاب تفاصيل المعركة ومتطلباتها لحظة بلحظة، ويعرف أن الإبتكار ومفاجأة العدو والجرأة المحسوبة هي مفتاح الصمود والنصر، فالتدريب والمناورات لا تُخرج من الإنسان جانبه الوحشي أو النبيل، فقط القتال الحقيقي يفعل ذلك، عندما يتعرض لإحتمالات الموت في كل خطوة، ويطلق الرصاص ليقتل ويزيد من فرص حياته، فالمعارك مليئة بالغموض والمفاجآت حيث يتنافس الحظ مع القدر والحياة مع الموت، فالحظ يقف دائماً إلى جانب الشجعان، بينما يخطف الموت المتردد والجبان. ينطبق هذا الشيء على الوحدات الكبرى وعلى الجيوش، فالوحدات التي خبرت القتال وخاضته بقوة وبعنف ولوقتٍ طويل، تصبح قدرتها على القتال والتكيف مع أي معركة أو حرب مستقبلية، أعلى بكثير من قدرة وحدات مماثلة لها في الجيش ذاته، كما أن الجيوش التي خاضت حروباً تحتفظ لنفسها بكثير من الأسرار والدروس والعبر في كل عثرة وفي كل نجاح حققته، فالخبرة القتالية ليست مجرد مهارة فردية، بل هي ذاكرة مؤسساتية تُبنى عبر تراكم المواقف والتجارب، والجيوش الخبيرة تملك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الظروف الرمادية التي تعجز فيها النماذج النظرية، وينسحب هذا الشيء على كافة مكونات هذه الجيوش من قوات برية وبحرية وجوية، وتعتبر القوات الخاصة هي الأكثر تفاعلاً وتأثُّراً بالخبرات المكتسبة، كونها تعيش اللحظات الحرجة وتقترب من الخطر وتلامسه في كافة مراحل مهامها، حيث تكون التوقيتات والمسافات من أهم الإعتبارات وأكثرها حراجة. يمكن أن نصنِّف الجيوش وفقاً للخبرة القتالية لعدة فئات، والفئة الأولى هي 'الجيوش المجروحة-Scarred Armies' وهي تلك التي خاضت حروباً كبرى طويلة ضمن سلسلة متواصلة أو متقطعة، وطوَّرت عقيدتها القتالية بالدم والنار، سماتها سمعة تاريخية لا تٌضاهى، ذاكرة قتالية مؤسساتية، ضباط وجنود ميدانيون خاضوا معارك حقيقية، عقيدة عسكرية متميزة قادرة على التكيف السريع مع الواقع، قدرة على إمتصاص الصدمة وإستعادة المبادرة. ومن ابرز هذه الجيوش الجيش الروسي (خبرات في الشيشان، جورجيا، سوريا، أوكرانيا) الجيش الأميركي (فيتنام، أفغانستان، العراق إضافةً إلى عمليات خاصة)، الجيش الإسرائيلي ( حروب متكررة على عدة جبهات منذ العام 1948). الفئة الثانية هي 'الجيوش الميدانية- Field-Tested Armies' وهي جيوش خاضت معارك محدودة واظهرت كفاءة جيدة، سماتها خبرات مكتسبة عند بعض وحداتها، إشتباك مع العدو في بيئات محدودة، تمتلك تكنولوجيا عسكرية وتعتمد على تطبيق النظريات ولا تمتلك إبداع المعركة. من أبرز هذه الجيوش، الجيش البريطاني (جزر فوكلاند، العراق)، الجيش الفرنسي( عمليات الساحل الافريقي)، الجيش التركي (قتال محدود في سوريا والعراق وليبيا). الفئة الثالثة هي 'الجيوش المحاكية-Simulated Armies'، وهي جيوش حديثة التدريب والتنظيم والتسليح، ولكنها لا تمتلك الخبرة القتالية ولم تعش صدمة الحرب، سماتها إلتزام بالتدريب والتعليم، إكتساب اسلحة حديثة، عقيدة عسكرية تقليدية غالباً مستوردة، آداء غير مضمون في ظروف حرب حقيقية. ومن الأمثلة على هذه الجيوش، الجيش الألماني، الجيش الياباني. يبقى هناك جيوش الفئة الرابعة وهي 'الجيوش التمثيلية – Ceremonial Armies' ليست فعلياً بمستوى الجيوش الحديثة، وهي تؤدي مهام داخلية أكثر من إهتمامها بمهام الدفاع عن الوطن، سماتها بعض أو كل ما يلي: ضعف القدرات المادية، ضعف الروح القتالية، خلل في التجهيزات أو في التنظيم، فساد إداري، إرباك وغموض في العقيدة القتالية، وهنا نتحفظ عن ذكر أمثلة عن هذه الجيوش ولكن نؤكِّد أن هذا التصنيف يعني بالجاهزية الميدانية وخبرة القتال فقط، وهناك فرص لتنتقل هذه الجيوش من فئة إلى أخرى عند توافر الظروف التي تسمح لها باكتساب الخبرات القتالية أو بتغيير طبيعتها التنظيمية والمؤسساتية. في زمن تزوير الحقائق وتحريف الروايات، حيث تفتعل البطولات عبر السياسة والإعلام، يبقى المقاتل المجروح في جسده أو في ضميره، آخر شكل من أشكال الحقيقة في هذا العالم، فالذي خاض القتال ونجا بجسده أو لم ينجُ، هو الشاهد الأول على المعنى الحقيقي للمعركة، للقوة، للضعف، وهو الوحيد الذي يحتفظ بضميره ووجدانه بالنسخة الأصلية من الحرب غير المحرَّفة.


دفاع العرب
١٢-٠٧-٢٠٢٥
- دفاع العرب
الحرس الثوري الإيراني.. التوجه العقائدي في مواجهة التكنولوجيا
العقيد الركن م. ظافر مراد عاد الإمام الخميني في الأول من شباط من منفاه في فرنسا إلى العاصمة طهران وسط استقبال جماهيري اعتُبر أكبر حشد في تاريخ البلاد، ومنذ ذلك اليوم، تغيَّر كل شيء في إيران وانتصرت الثورة الإسلامية بعد إطاحة النظام الملكي، لتنتقل البلاد ولأول مرة في تاريخها من نظام ملكي دام لقرون إلى نظام جمهوري أُسِّس على نظرية 'ولاية الفقيه' من قبل الزعيم الديني آية الله الخميني، والذي أصدر في 5 أيار 1979، مرسوماً تَّم بموجبه تشكيل 'حرس الثورة الإسلامية'، أو وفقاً للتسمية الغربية 'IRGC-Islamic Revolutionary Guard Corps'. يُعتبر الحرس الثوري الإيراني، أحد أبرز مؤسسات جمهورية إيران الإسلامية، ويُعرف باللغة الفارسية باسم 'سباه باسدران إنقلابي إسلامي'، أو 'فيلق الحرس الثوري الإسلامي'. تأسَّس بأمر من مرشد الثورة الإيرانية روح الله الخميني 'لحراسة الثورة' ووصفه حينها بـ'الجيش العقائدي'، وللحرس الثوري نفوذ سياسي وامتدادات وحضور في قطاعات عديدة بالبلاد، منها الأمنية والإستخباراتية والصناعية والاقتصادية والثقافية والإجتماعية. تم إنشاء هذا الجهاز لحماية الثورة والنظام الجديد من التهديدات الداخلية والخارجية، ولا يُعتبر الحرس الثوري جزءًا من القوات المسلحة الإيرانية، فله قيادة مستقلة ويتلقى أوامره من المرشد الأعلى للجمهورية، ويقدم له تقاريره مباشرة ودون وسيط، وقد تطور مع الوقت ليصبح قوة كبيرة داخل البلاد، لها يد في كل القطاعات الحساسة والحيوية، ولها تأثير أساسي وحاسم في صناعة القرار، ويُقدَّر عدد أعضاء الحرس الثوري الإيراني بـ400 ألف عنصر مقاتل بين قوات برية وجوية وبحرية. ويُدير الحرس الثوري كيانين: الأول قوات شبه عسكرية تسمى 'الباسيج' تتكون من حوالي 100 ألف عنصر على الأقل من الرجال والنساء المتطوعين، ومن ضمنهم طلاب في الجامعات، ويتولى 'الباسيج' مهام التصدي للأنشطة التي توصف بالمناهضة للنظام بالداخل، كما يقوم بمهام اجتماعية ثقافية ذات بعد ديني تعبوي لتعزيز الانتماء للنظام وقيادته، بالإضافة إلى مهام أمنية تتعلق بشرطة الأخلاق ومكافحة الشغب والمظاهرات. وأما الكيان الثاني فهو 'فيلق القدس'، الذي قدرت تقارير إعلامية عدد أعضائه بـ 15 ألى 20 ألف مقاتل، وينفذ عملياته خارج الحدود الإقليمية لإيران. يتشكل الهرم التنظيمي للحرس الثوري من القائد الأعلى الذي يعينه الولي الفقيه ومرشد الثورة، ونائب القائد الأعلى، ورئيس الأركان الذي ينظم العلاقات بين القوى الخمس للحرس الثوري (القوة البرية لجيش حراس الثورة الإسلامية، والقوة الجوية والقوة البحرية وقوات المقاومة 'البسيج' و'فيلق القدس'. تلقى الحرس الثوري الإيراني ضربات مفاجأة وقوية جداً في الحرب مع إسرائيل، فقد فاجأت القوات الجوية الإسرائيلية إيران باستهدافها بغارات كثيفة ومتزامنة على مواقع ومنشآت وقيادات في الحرس الثوري، مسجِّلة خرقاً إستخباراتياً كبيراً ونجاحاً ساحقاً وغير مسبوق في تطبيق مفهوم 'الضربة الأولى'، مع فشل ذريع لوسائط الدفاع الجوي ولمنظومات الأمن والمعلومات في إيران. إلا أن إسرائيل في المقابل، تلقت أيضاً ضربات صاروخية مدمرة على مدنها مع فشل كبير في تحقيق الحماية من قبل دفاعاتها الجوية على الرغم من تكثيف هذه الدفاعات، والتي تم تعزيزها بمنظومات 'ثاد' الأميركية، حيث تغلبت الكمية على النوعية في هذه المواجهة. أثبتت إسرائيل من خلال النجاح في عملياتها العسكرية والإستخباراتية، والدقة غير المسبوقة في الإستهداف، والقدرة على تحديد متطلبات التدمير أو القتل لأي هدف مادي أو بشري أو حتى معنوى، انها كانت تدرك أن هذه المواجهة قادمة لا محالة، وهي على الأرجح بدأت بالتحضير لها منذ عملية طوفان الاقصى، والتي أبرزت فشلها الإستخباراتي، وعملت على إجراء تعديلات وتغييرات جذرية في منظومات الإستخبارات لديها، لا سيما في الوحدة 8200، وفي شبكات العملاء والجواسيس في الخارج، ومن خلال هذا التحضير تفوقت على خصومها في العديد من المجالات، واستفادت من الدعم العسكري والتكنولوجي العسكري المقدم لها من حلفائها الغربيين، إضافةً إلى نجاحها في تهيئة الظروف للتدخل الأميركي لضرب بعض المنشآت النووية، وتقديم الدعم اللوجستي والمعلومات في المكان والزمان الحرجين قبل وخلال هذه الحرب. إستعانت إسرائيل بتكنولوجيا متطورة جداً في عمليات الإستخبارات وجمع المعلومات، وكانت عملياتها اشبه بتدخل لقوات خاصة محترفة في عمق العدو، وهي عملت على اربع مسارات إستخباراتية كانت جميعها تصب في منظومة الدمج والتحليل للحصول على النتائج المطلوبة لدعم القرار وتصويبه، والمسار الأول يتعلق بإلتقاط الإشارات السلكية واللاسكية من خلال التنصت والإعتراض بإستخدام تقنيات متقدمة، واستطاعت من خلال ذلك الدخول إلى هواتف المستخدمين ونسخ كافة المعلومات المسجلة واستخدام الكاميرات فيها، المسار الثاني يتعلق بجمع الصور والفيديوهات عن الأهداف ذات القيمة العالية من مواقع ومنشآت، إضافةً إلى الأشخاص القياديين والعلماء، ليتسنى لها متابعتهم في كافة تنقلاتهم وأماكن تواجدهم من خلال مراقبتهم بالأقمار الإصطناعية والمسيرات وطائرات الإستطلاع وتتبع الشبكة الإجتماعية الخاصة بهم. أما المسار الثالث فتم عن طريق العملاء والجواسيس الذين عملوا في الداخل الإيراني وقدموا معلومات لا تقدر بثمن عن النشاطات الهامة، سواء داخل المنشآت النووية، أو في مواقع صناعة الصواريخ وتخزينها، وفي بعض المواقع العسكرية القيادية التابعة للحرس الثوري، أما المسار الرابع والأخير، فتم عبر إختراق الشبكات الإلكترونية الحكومية والعسكرية وحتى بعض الشبكات التابعة لبعض الوزارات والإدارات الحكومية المدنية، ونسخ كافة المعلومات الضروري، وإستخدامها في الحرب. لقد كانت حرب إسرائيل في الدرجة الأولى ضد الحرس الثوري وضد النخبة العلمية العاملة في الملف النووي، فعلى صعيد الحرس الثوري ارادت إسرائيل ضرب هيبته ومكانته العسكرية والإستخباراتية، وتوجيه ضربة معنوية بالتزامن مع إلحاق الخسائر المادية، وكان لافتا عدم إستهدافها للقطع البحرية العسكرية وبعض المنظومات الأخرى التابعة للجيش، أما بالنسبة للعلماء النووين الذين اغتالتهم ووصلت إليهم على الرغم من كافة تدابير الحماية، فهي ارادت فرض تهديد وجودي على أي شخص أو عالم قد ينخرط مستقبلاً في أي نشاط نووي تراه خطراً عليها. بعد أن انتهت الحرب بين إسرائيل وإيران ضمن إتفاق مبهم، لتستمر في غزة ولبنان واليمن، تُطرح تساؤلات حول أهداف السياسة الخارجية الإيرانية بعد هذا الإتفاق، فهل هو إتفاق فك إشتباك نهائي، أم هدنة مؤقتة، أم 'وقفة عملياتية' ستنتهي فجأة لتعود الحرب بصورة أكثر عنفاً وقوة، يحتاج شعب إيران وحلفاءها ومؤيديها إلى إجابات صريحة وواضحة على هذه التساؤلات، لا سيما في خضم فوضى التصريحات والمواقف المبهمة والمتناقضة من قبل أطراف الصراع.