
المملكة من البحر إلى العالم.. الموانئ بوابات القوة الناعمة
عندما بدأت السعودية في إعادة تعريف هويتها الاقتصادية ضمن رؤية المملكة 2030، لم يكن النفط وحده محل المراجعة، بل البحر أيضًا. فالموانئ، التي كانت لعقود مجرد بوابات للاستيراد والتصدير، باتت اليوم منصات استراتيجية لبناء النفوذ، وتوسيع آفاق التبادل التجاري، وتحقيق الريادة اللوجستية الإقليمية والدولية، موقع المملكة الجغرافي الفريد، المطل على البحر الأحمر من الغرب والخليج العربي من الشرق، لم يعد فقط ميزة جغرافية صامتة، بل أصبح أصلًا حيويًا يتم تفعيله عبر استثمارات في البنية التحتية، وتطوير المرافئ، وتعزيز التكامل بين البحر والبر والجو، في وقت تتسابق فيه دول العالم لتحسين مواقعها على خريطة التجارة العالمية.
من التصنيف إلى التفوق
بحلول عام 2024، حققت المملكة قفزة لافتة في التصنيف العالمي لحركة الحاويات، متقدمة إلى المرتبة الخامسة عشرة عالميًا وفق تصنيف (Lloyd's List)، وهذا الإنجاز لم يكن مصادفة، بل نتيجة سياسة استباقية وضعت فيها السعودية الموانئ في قلب استراتيجيتها الاقتصادية، حيث تجاوزت الحاويات المتداولة في بعض الموانئ أرقامًا غير مسبوقة، مثل ميناء جدة الإسلامي الذي تجاوز خمسة ملايين حاوية سنويًا، وميناء الملك عبدالعزيز في الدمام الذي اقترب من سقف 2.5 مليون حاوية، ولم يكن حجم الحاويات وحده معيار التقدم، بل سرعة المناولة، مستوى الرقمنة، تنوع الخدمات، ومرونة الربط مع الأسواق الدولية، كل ذلك شكل شبكة من النجاحات المتراكمة التي صنعت من الموانئ السعودية لاعبة رئيسية في معادلة التجارة العالمية.
جدة.. النجم البحري على ساحل الغرب
وعلى ضفاف البحر الأحمر، يمتد ميناء جدة الإسلامي كأكبر وأهم موانئ المملكة وأكثرها اتصالًا بالعالم، فهو يستقبل أكثر من نصف واردات المملكة، ويشكل رابطًا بحريًا بين آسيا وأوروبا، وتوسع الميناء في بنيته ومرافقه بوتيرة متسارعة، وشهد إدخال أنظمة ذكية للمناولة والتتبع؛ ما جعله اليوم من بين أكثر الموانئ كفاءة في المنطقة، وما يميز جدة ليس فقط سعته أو موقعه، بل قدرته على التكيّف مع متغيرات السوق، وتقديم خدمات متكاملة للخطوط الملاحية الكبرى، ما جعله نقطة جذب استراتيجية للسفن العملاقة، ومركزًا محوريًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية.
الدمام.. البوابة الشرقية ومفصل الربط البري
في الشرق، يشكّل ميناء الملك عبدالعزيز بالدمام الواجهة البحرية لمنطقة الرياض الصناعية والمالية، حيث يرتبط مباشرة بسكة حديدية تصل إلى العاصمة، ما يوفر نموذجًا متقدمًا للربط متعدد الوسائط. وقد دخل الميناء في شراكة استراتيجية مع شركة SGP السنغافورية، أحد أكبر مشغلي الموانئ عالميًا، في خطوة عززت الأداء التشغيلي ورفعت من مستوى الحوكمة التشغيلية، وبات الميناء اليوم منصة تصدير متكاملة للمنتجات الصناعية والبتروكيماوية، وقاعدة لوجستية تدعم القطاع غير النفطي في المملكة، وسط طموح لبلوغ سبعة ملايين حاوية سنويًا خلال العقد القادم.
رابغ.. من الحلم إلى المنافسة
وفي الرابغ، صعد ميناء الملك عبدالله كمشروع طموح يقوده القطاع الخاص، ليستحوذ على موقع متقدم في تصنيفات الأداء رغم حداثة عمره، حيث أصبح أحد أسرع الموانئ نموًا في المنطقة، مع خطط توسعية تتجاوز العشرين مليون حاوية، أما ميناء نيوم، فحكايته مختلفة، لأنه ليس مجرد ميناء، بل نموذج مستقبلي لمدينة بحرية تدار بأنظمة ذكية منذ اللحظة الأولى، ولاشك أنّ ربط ميناء نيوم بمنظومة التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر والذكاء الاصطناعي، يعكس تحوّلًا نوعيًا في مفهوم البنية التحتية البحرية، فالميناء هناك ليس مشروعًا قائمًا على الشحن فقط، بل مشروع تمكين حضاري لاقتصاد المستقبل.
من الورش إلى الخوارزميات
ولم تكن قفزة الموانئ السعودية ناتجة عن التوسعة الفيزيائية فحسب، بل عن التحوّل الذكي في طريقة إدارتها، ففي الدمام وجدة وغيرهما، تم إدخال أنظمة تحكم تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وشبكات اتصالات من الجيل الخامس، وأذرع آلية تتعامل مع الحاويات بقدرات مناولة تضاهي الموانئ الأوروبية والآسيوية الكبرى، ومع هذه التقنيات، أصبحت الكفاءة معيارًا، والبيانات محركًا، والتحوّل الرقمي أداة للتفوق، ما أعاد تعريف العلاقة بين الميناء والمستهلك، بين السفينة والمخزن، بين الحدود الوطنية والتدفقات العالمية.
بين الطموح والتحديات
لكن هذا النمو لا يخلو من التحديات، فمع ارتفاع حجم الحركة البحرية، تتزايد الحاجة إلى تأمين الحماية السيبرانية، وضمان استمرارية التشغيل في وجه الهجمات الإلكترونية أو الأعطال الكبرى، كما يطرح تغيّر المناخ تحديًا حقيقيًا لبعض الموانئ السعودية الساحلية، خاصة تلك المطلة على مناطق منخفضة مهددة بارتفاع مستوى البحر، وكل ذلك يتطلب سياسات استباقية، واستثمارات في البنية التحتية الوقائية، وتكاملًا بين القطاعات التقنية والبيئية والهندسية، لضمان بقاء الموانئ في موقع القوة لا الهشاشة.
الاقتصاد يبحر من جديد
اليوم، تلعب الموانئ دورًا متناميًا في دعم الاقتصاد غير النفطي، سواء عبر التوظيف، أو الصناعات اللوجستية، أو زيادة تدفق الصادرات الصناعية، أو استقطاب الشركات العالمية إلى المناطق الاقتصادية الخاصة المتاخمة للمرافئ، والموانئ لم تعد مجرد منشآت تشغيلية، بل باتت واجهات استراتيجية تجذب الاستثمار، وتخلق فرص العمل، وتختصر الزمن الجغرافي بين المنتج والمستهلك، إنها اليوم رموزٌ لتحول أوسع في اقتصاد الدولة، من ريعية تقليدية إلى شبكة متشابكة من الكفاءة والإنتاجية والربحية.
من البحر نبدأ
ولا يمكن فهم الطموح السعودي نحو الريادة الإقليمية والعالمية دون النظر إلى الموانئ باعتبارها المحور الصامت الذي يحرك العجلة، فالموانئ ليست مجرد أرصفة وسفن، بل مؤشرات على جدية الدولة في التحديث، وعلى استعدادها لبناء اقتصاد متنوع قادر على المنافسة، ومع ما تحقق في الأعوام القليلة الماضية، تبدو السعودية أقرب من أي وقت مضى لأن تتحول من دولة بحرية صامتة إلى قوة بحرية ناعمة، ترسم خرائط التجارة وتعيد ضبط بوصلتها لصالح المستقبل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 18 دقائق
- العربية
خبراء يوضحون أثر التصعيد الإسرائيلي الإيراني على قناة السويس
حالة من التوتر والقلق إقليمياً، بل وعالمياً أثارها التصعيد العسكري الإسرائيلي - الإيراني، خاصة في ظل التصعيد من قبل الطرفين، وأعلنت مؤسسات دولية وجود تأثير اقتصادي سلبي على اقتصادات العالم بسبب الصراعات المختلفة. لكن ما تأثير الحرب الإسرائيلية - الإيرانية على حركة الملاحة في قناة السويس المصرية؟. في هذا الشأن، قال الخبير العسكري والاستراتيجي المصري والمستشار في كلية القادة والأركان، اللواء أركان حرب أسامة محمود كبير، في تصريحات خاصة لـ "العربية.نت/الحدث.نت": "تأثرت إيرادات قناة السويس بشكل بالغ خلال العام المالي 2023/2024 خسرت ما يقارب من 7 مليارات دولار كنتيجة مباشرة لقيام الحوثيين باستهداف السفن التجارية المختلفة والعابرة بمضيق باب المندب من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، منذ نوفمبر 2023، الأمر الذي أدى تباعا إلى تناقص أعداد القطع البحرية التجارية العابرة للقناة بشكل عام سواء التي تتعامل مع إسرائيل أو غيرها خوفا من استهدافها العشوائي. وتابع الخبير العسكري "أنه في بداية مايو 2025 شنت القوات البحرية والجوية الأميركية عملية عسكرية ضد مواقع تمركز قيادات جماعة الحوثي وكذلك أماكن تكديس الوقود ومخازن الأسلحة والذخائر ما أسفر عن تأثيرات مادية محدودة لحقت بجماعة الحوثي التي في المقابل كثفت من استهداف القطع البحرية الأميركية بالبحر الأحمر التابعة لمجموعتي حاملتي الطائرات (دويت آيزنهاور وهاري ترومان) ما أجبر واشنطن على إيقاف عمليتها العسكرية والدخول في اتفاقية مباشرة مع الحوثيين تقضي بعدم استهداف السفن الأميركية ليعود الوضع كما كان قبل الهجوم الأميركي". خسائر نسبية ويرى الخبير العسكري المصري حسب تقديره الشخصي استمرار حالة تأثر الواردات المالية للقناة وكما هو في عام 2024. لكن أشار إلى أنه مع بداية الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي بدأت فجر الجمعة 13 يونيو والمتسارعة تداعياتها، أعلنت إيران يوم 14 يونيو أن احتمالية غلق مضيق هرمز وكذلك باب المندب وهو أمر وارد حدوثه بشكل كبير، مضيفاً "ففي التقدير هو ارتفاع نسبة خسائر واردات القناة بشكل نسبي وليس حادا كونه لن يتعدى (نظريا) نسبة 10 - 15% من نسبة الخسائر الحالية وبكل الأحوال لا يقارن بالخسائر التي ستلحق بدول العالم المستوردة للوقود والمشتقات النفطية من الدول المصدرة بمجلس التعاون الخليجي". كما قال إن هذا الأمر الذي يقلل من فرصة قيام إيران بتنفيذ الاغلاق تحسباً من ردود فعل دولية سلبية سريعة ومباشرة توجه ضدها ما يضعف موقفها سياسيا وتباعا عسكريا في حربها الدائرة مع إسرائيل في توقيت تحتاج فيه إيران لكل الدعم الدولي لاستمرار درء العدوان الإسرائيلي عليها. توقع بالتراجع من جانبه، قال الخبير الاقتصادي المصري، رئيس مركز العدل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية الدكتور كريم عادل، لـ "العربية.نت/الحدث.نت": مما لا شك فيه أنه من المتوقع أن تشهد إيرادات قناة السويس تراجعاً في حجم إيراداتها للعديد من الأسباب يأتي على رأسها تراجع حجم التجارة العالمية المتوقع وفقاً لتقديرات المؤسسات الدولية في ظل الاضطرابات العسكرية والتجارية، إضافة إلى الارتفاع المتوقع في تكلفة الشحن والتأمين على السفن والبضائع، وكذلك احتمالية تعطل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية للمواد الخام ومستلزمات الإنتاج، ومن ثم تراجع أعداد السفن المارة في قناة السويس. وأضاف: "وهو الأمر الذي كان يستوجب على الحكومة المصرية أن تسرع في تحويل هذا الممر الملاحي الهام من مجرد ممر ملاحي تقليدي لتحصيل رسوم العبور من السفن التجارية وناقلات النفط المارة إلى ممر لوجيستي خدمي متكامل، يوفر خدمات البناء والتطوير والصيانة للسفن التجارية العالمية، ويوفر خدمات التوريد والإمداد للسفن بأسعار تنافسية وجودة عالية، حتى تكون هناك استدامة في الإيراد من النقد الأجنبي". وتابع: "قناة السويس أحد أهم موارد الدولة المصرية من النقد الأجنبي، وتراجع إيراداتها سيتسبب في ضغوط على العملة الأجنبية ومن ثم ارتفاع الدولار الأميركي مقابل الجنيه المصري، في وقت تسعى فيه الدولة المصرية للوفاء بالالتزامات الخارجية والمتطلبات الداخلية والتي تتطلب المزيد من العملة الأجنبية".


مباشر
منذ 21 دقائق
- مباشر
تراجع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري 37 قرشاً بمنتصف تعاملات اليوم الاثنين
القاهرة - مباشر: تراجع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري في عدد من البنوك بنحو 37 قرشاً مع منتصف تعاملات اليوم الاثنين، مقارنةً بمستواه أمس. كان سعر الدولار مقابل الجنيه صعد بنحو 84 قرشاً بختام تعاملات أمس الأحد. سعر الدولار في بعض البنوك البنك الأهلي المصري: 50.19 جنيه للشراء، و50.29 جنيه للبيع، بتراجع 37 قرشاً للشراء والبيع. بنك مصر: 50.19 جنيه للشراء، و50.29 جنيه للبيع، بتراجع 37 قرشاً للشراء والبيع. بنك القاهرة: 50.19 جنيه للشراء، و50.29 جنيه للبيع، بتراجع 37 قرشاً للشراء والبيع. البنك التجاري الدولي: 50.18 جنيه للشراء، و50.29 جنيه للبيع، بتراجع 38 قرشاً للشراء والبيع. بنك البركة: 50.20 جنيه للشراء، و50.30 جنيه للبيع، بتراجع 35 قرشاً للشراء والبيع. بنك قناة السويس: 50.40 جنيه للشراء، و50.50 جنيه للبيع، بتراجع 16 قرشاً للشراء والبيع. حمل تطبيق معلومات مباشر الآن ليصلك كل جديد من خلال أبل ستور أو جوجل بلاي لمتابعة قناتنا الرسمية على يوتيوب اضغط هنا


أرقام
منذ 28 دقائق
- أرقام
أسمنت الجنوبية: نظرة على أداء المصانع التابعة للشركة والنتائج المالية خلال الربع الأول 2025
مصنع أسمنت المنطقة الجنوبية أسهمت هوامش الربحية لشركة "أسمنت الجنوبية" في تراجع الأرباح خلال الربع الأول 2025 قياسا بالربع المماثل والس