
في الذكرى الأولى لاستشهاده.. إسماعيل هنية كما عرفته
لم يكن يخطر ببالي يومًا أن أكتب في رثاء الصديق والأخ إسماعيل هنية، "أبو العبد"؛ ذاك الذي كنت أراه أصغر من أن يُرثى، وأقرب إلى روح الحياة من أن يخطفه الموت بهذه الطريقة الفاجعة. لقد أصابت عملية اغتياله في طهران الجميع بالذهول، وأعادت مشاهد التغريبة الفلسطينية بكل ما فيها من جراح ونزيف ومآسٍ، فيما شيّعه الآلاف من رفاقه ومحبيه من إيران إلى قطر، حيث دُفن بين دعاء القلوب ودموع العيون.
في الذكرى الأولى لاستشهاده، أجدني أسترجع ما يقارب العقدين من الزمن قضيناها معًا في ميادين العمل السياسي والفكري والتنظيمي، جمعتنا تفاصيل كثيرة من المسؤولية اليومية والحوارات والمواقف التي تكشف عن معدن هذا الرجل وعمق تجربته وإنسانيته.
صفحات من الذاكرة
لم أعرف الشهيد إسماعيل هنية عن قرب قبل الانتخابات التشريعية عام 2006، لكن خطاباته خلال الحملة كانت لافتة؛ يمتلك حنجرة قوية وكاريزما خطابية تلامس وجدان الجماهير، خاصة في الأوساط الإسلامية التي تهتم بقوة البيان وبلاغة الطرح. فاز هنية، كما فازت حماس، بأغلبية مفاجئة، وتشكلت الحكومة العاشرة التي كنت أحد مستشاريها السياسيين، بتكليف مباشر منه، في لقاء جمعنا في القاهرة.
كان أبو العبد قريبًا من الجميع، هادئًا، مستمعًا جيدًا، وصاحب صدر رحب للحوار والتعدد. لم يكن رجل تصادم، بل رجل توازن، يسعى للتوفيق أكثر من فرض الرأي. تلك الروح التوافقية جعلته محبوبًا حتى عند خصومه، وكانت إحدى أبرز نقاط قوته.
القيادة بالكاريزما والمرونة
لم يكن هنية مجرد وجه إعلامي أو خطيب مفوه؛ بل كان سياسيًا حاذقًا، يتقن فن الإدارة واللعب ضمن تعقيدات المشهد الفلسطيني والإقليمي.
كان -رحمه الله- يدرك أن السياسة ليست شعارات بل توازنات، ولهذا سعى بذكاء إلى فتح قنوات الحوار مع العالم الخارجي، والتواصل مع الدبلوماسيين والسفراء، رغم التحريض المتواصل ضده وضد الحكومة من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
كنت أرافقه في كثير من هذه اللقاءات، وأشهد له ببساطة التعبير، ورشاقة العرض، وقدرته على نقل الرسائل بلغة يفهمها الغرب دون أن يفرّط في ثوابت القضية. لم يكن يخشى النقد الداخلي، وإن ضاق به أحيانًا، لكنه بقي ثابتًا على قناعته بأهمية الانفتاح السياسي والدبلوماسي.
وحدة لم تكتمل
كانت العلاقات بين أبو العبد وعدد من قيادات حركة فتح، وعلى رأسهم الرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان، علاقات قديمة تتجاوز حدود الخصومة السياسية. لقد ظل أبو العبد يرفض الانزلاق إلى القطيعة، ويحرص على "شعرة معاوية"، حتى في أشد الأوقات حرجًا بعد الانقسام عام 2007.
لم يُعرف عنه أنه أساء لخصومه، بل ظل متمسكًا بلغة الاحترام، محافظًا على ما تبقى من خيوط الوحدة الممكنة. ولكن الواقع الفلسطيني بانقسامه المعقّد لم يكن ليسمح بإصلاحٍ يسير، وقد باءت كل محاولاته -رغم إخلاصه- بالفشل، نظرًا لتشعب المصالح وتعقّد الحسابات.
مدرسة الاعتدال داخل الحركة
كان أبو العبد يمثل تيارًا معتدلًا داخل حركة حماس. وقد جلب عليه ذلك انتقادات المتشددين، خاصة مع ما كان يُكتب عني-كمستشار له- من توصيفات غربية مثل "الوجه الباسم لحماس" أو "الذي يهمس في أذن هنية". ورغم ذلك، كان يحتضن هذا التنوع داخل فريقه ويؤمن بأهمية تعدد الآراء.
وقد ساعدت تجربته كابن للمخيم وصاحب مسيرة طويلة في النضال والميدان في أن يوازن بين منطق القيادة وشعور القرب من الناس. لم تكن المناصب عنده تشريفًا، بل تكليفًا، ولهذا بقي قريبًا من الجميع، يحمل همّ الوطن والمخيم والقضية في قلبه، دون أن تغريه الأضواء أو يفسده الكرسي.
الإرث الذي تركه
لا يمكن الحديث عن مسيرة أبي العبد دون التوقف عند محطات رئيسة: توليه رئاسة الوزراء، ثم قيادة الحركة سياسيًا، وصولًا إلى تمثيلها على المستوى الإقليمي والدولي. لقد عرّف العالم بحماس بلغة جديدة، وأكسبها حضورًا لم تكن تحظى به من قبل.
فتح له خطاب الاعتدال أبواب العواصم العربية والإسلامية، واحتضنته القاهرة وتونس وقطر وتركيا، كما استقبله قادة الحركات الإسلامية والعلماء والدعاة باعتباره نموذجًا لحكم الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع. وحتى في الغرب، حيث الصورة مشوّهة، استطاع أن يكسر بعض الحواجز، رغم حملات "الشيطنة" التي لم تهدأ.
كلمة وداع
في عام على استشهاده، لا يسعنا إلا أن نذكره بما له لا بما عليه. ليس من باب المجاملة، بل اعترافًا بالفضل، واحترامًا لما قدمه من تضحيات وخدمة، وبذل دمائه من أجل القضية والوطن.
سيكتب التاريخ عن إسماعيل هنية أنه كان رجل وحدة، وأنه سعى -رغم كل المعوّقات- إلى تجاوز الانقسام. وستذكره الأجيال كقائد حمل همّ شعبه، وصبر على التجربة بكل ما فيها من تعقيد وضغوطات، دون أن يتخلى عن إنسانيته أو يُسقط البُعد الأخلاقي من العمل السياسي.
رحم الله الأخ الشهيد، وتقبله في الصالحين، وألحقنا به على خير، وجعل من ذكراه منارة يهتدي بها القادة الجدد في درب التحرر والكرامة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 9 ساعات
- جريدة الرؤية
ليل طويل
سارة البريكي Sara_albriki@ نستذكر الماضي الجميل ونُحلّق في سماء الذكريات، إلا أننا عندما نعود من حلقة الزمن، نجد أننا نعيش حياة مختلفة بصحبة ناس طيبين، أراد الله لنا ذلك، وأراد الله لنا الأفضل. عند إمعان النظر في أحوال الشعب الفلسطيني، الذي يعاني كثيرًا من جراء الحرب والظلم والألم، نجد أنهم في كوكب صغير مختلف، وما المواقف التي يعيشونها إلا دليل على قوة إيمانهم، وقوة إرادتهم، وقوة عظمتهم، فهم شعب عظيم لا تضاهيه الشعوب. إننا، وإذ نرى ما يحدث في غزة، لا نقف مكتوفي الأيدي، بل نُسهم بكل ما أوتينا من قوة وعزم لنصرتهم، سواء بجمع التبرعات المالية أو الغذائية، أو بعمل حملات تبرع لهم، والمشهد الحقيقي الذي نراه غاب عن وجدان العالم كله، إذ ما مرّ بهم لا يُحتمل ولا يُطاق. في الجانب الآخر من الليل، هناك آلاف المواطنين العمانيين الذين يبحثون عن وظيفة، ليحاولوا -ولو بالشيء اليسير- التبرع لإخوتهم في غزة وفي بلاد المسلمين المستضعفين، فالشباب متعبون مرّت أعمارهم وهم يحملون أملًا بأن يتم توظيفهم ليعيشوا حياة كريمة، ويساهموا في نهضة بلادهم. رأينا قبل أيام أن هناك وظيفة تبحث عن شاغر، تقدّم لها الآلاف في وقت الصيف والطقس الحار، مع هتافات بالرجاء والتمني بالنيل والحصول عليها، ولكن الحق المشروع أصبح من الصعب أن يكون متاحًا. تهافُت الآلاف على تلك الوظيفة، فهم يريدون أن يكونوا أشخاصا طبيعيين مثل الآخرين، كل فرد منهم يريد أن يمارس حقوقه الطبيعية في امتلاك مسكن، وفي الزواج، وفي الترفيه، إلا أن أوقاته ذهبت في مهب الريح باحثًا عن عمل. ليست كل الأصابع واحدة، وليس كل مسؤول يستحق الاستمرار في عمله ما دام لا يخدم المواطنين، وما دام يرى أن مصلحته هي الأهم، فهنا يجب أن نقف وقفة جادة، ووقفة مشرفة، حتى نُسهم في انقراض هذه الفئة التي تخدم نفسها فقط، والحديث طويل جدًا، والمقال لا يكفي للحديث.


عمان اليومية
منذ 9 ساعات
- عمان اليومية
جلالة السُّلطان المعظم يهنئ رئيس جمهورية كوت ديفوار
جلالة السُّلطان المعظم يهنئ رئيس جمهورية كوت ديفوار العُمانية: بعث حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه - برقية تهنئة إلى فخامة الرئيس الدكتور الحسن عبدالرحمن واتارا رئيس جمهورية كوت ديفوار، بمناسبة العيد الوطني لبلاده. تضمّنت تهاني جلالة السُّلطان الطيبة وأمنياته الخالصة لفخامة الرئيس بدوام التوفيق والسداد في قيادة شعب بلاده الصديق، وتحقيق المزيد من التطلعات والإنجازات.


جريدة الرؤية
منذ 11 ساعات
- جريدة الرؤية
البندقية سلاح حق ونزعها تسليم للطغيان
خالد بن سالم الغساني دعوات نزع سلاح المُقاومة ليست جديدة، إنِّها جزء من سرديات ومحاولات قديمة تهدف إلى إخضاع الشعوب وتجريدها من قدرتها على الدفاع عن نفسها، دعوات تُغلّف باستمرار بلافتات السلام والاستقرار، بينما تعمل على تكريس الهيمنة وإدامة الاحتلال. المقاومة ليست مجموعة من الأفراد يحملون السلاح ويناوشون العدو بين الحين والآخر ليوقعوا به أو يوقع بهم بعض الخسائر تتداولها وسائل الإعلام، ويقوم الخبراء والمحللون بتفسير أبعادها وما يترتب عليها، ويتناولها الطابور الخامس للنيل من عزيمة المقاومة وتهويل خسائرها وضعفها أمام عدو لا تمتلك قدراته ومقدراته، وبالتالي فإنها تسجل على أساس أنها مغامرات لا توصل سوى إلى مزيد من القتل والدمار، تليها دعوات إلى الاستسلام والإقرار بالهزيمة والتخلي عن أي شكل من أشكال الخروج على طاعة الاحتلال والعيش تحت ظله وسلطاته بعد نزع ما تبقى من كرامة وإرادة وشرف، إنها في المحصلة إرادة شعب يرفض الخضوع ويتمسك بحقه في الحياة الكريمة، وتمثل البندقية رمزاً لتلك الكرامة والصمود، لتقف فاصلاً في قلب الصراع بين الحق والطغيان. المطالبات بتسليم سلاح المقاومة دائماً ما تأتي من تلك القوى التي تحاول فرض رؤيتها السياسية، سواء كانت قوى خارجية تسعى للسيطرة أو أطراف داخلية تخدم أجندات ومصالح شخصية ولا تقترب بالمطلق مما يُمكن أن يكون في خدمة الشعب، أو تلامس مصالحه ووحدة وطنه وأراضيه. إنها تتجاهل السياق التاريخي والواقع الميداني والحياتي الذي أوجد المقاومة أصلاً. فالسلاح هنا لا يُمكن أن يكون غاية أو هدفاً لامتلاك أداة قمع لتحقيق مآرب ومبتغيات شخصية آنية وضيقة، إنه وسيلة حيوية وضرورية في غاية الأهمية لمواجهة الاحتلال والاستبداد أو أي شكل من أشكال الاستعمار. وعندما يُطالب المُقاوم بتسليم سلاحه، فإنَّ ذلك لا يعني سوى مطالبته بالتَّخلي عن قدرته على حماية نفسه وأرضه وعرضه، وهويته. إنها دعوة صريحة للاستسلام والخنوع، مُغلفة بوعود وهمية بالأمان والاستقرار، فأيُّ أمن بالله عليكم وأيُّ كرامة يمكن أن ينالها الفرد تحت حكم كيانٍ طاغٍ، قائم على النهب والتنكيل والقتل والتشريد؟! إن المقاومة الحقة، المؤمنة بوعد الله، والتي قدمت في طوال مسيرتها النضالية، الآلاف من الشهداء، والقائمة على الحق والإيمان بقدراتها ومشروعية نضالها، هذه المقاومة، أينما وجدت وعلى اختلاف أشكالها، لابد أنها تدرك جيداً أنَّ السلاح هو خط الدفاع الأمثل، الأول والأخير ضد الطغيان، وهو الضمانة الحقيقية لصنع النصر أمام عدوٍ لا يعرف سوى لغة القتل سبيلاً لبقائه. التاريخ يروي وبوضوح حكايا وقصص كثيرة عن ما يمكن أن يحدث حين تسلم الشعوب أسلحتها وما تواجهه بعد ذلك من الاضطهاد والتهميش والخسران. تجارب عديدة وغنية بالعبر، من فلسطين إلى غيرها من الأمم والشعوب التي قاومت، تؤكد أنَّ نزع السلاح لا يمكن أن يكون سوى مقدمة لتكريس السيطرة وإسكات صوت الحق وتسليم بالظلم والهوان. لذلك تمسك المقاومة الحقيقية، المؤمنة بقضيتها والمدركة لمعاني وتبعات اختياراتها؛ بسلاحها، ليس تعنتًا أو تهديدا لأحد، بل تعبير واعٍ عن إيمان راسخ لا يُمكن أن يتزعزع، بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، والانتزاع لا يتم سوى بالقوة. رفض المقاومة تسليم سلاحها ينبع من وعي عميق بالمسؤولية التي تحملها، والتي سقط من أجلها آلاف الشهداء، وضحى من أجلها وعانى ولا يزال شعبٌ كامل، فالسلاح في أيديها لا يمثل أداة للعنف العشوائي أو التهديد لأي طرف، إنه رمزٌ حقيقي للكرامة والعزةِ والإرادة، إنه الضمانة الوحيدة للحفاظ على توازن القوى في مواجهة عدو يمتلك كل إمكانيات التفوق العسكري والسياسي والإعلامي، لكنه لا يملك الإيمان بالعقيدة والحق اللذين يمتلكهما المقاوم ويقاتل حتى الموت من أجلهما. تدرك المقاومة بعد كل هذا الصراع الدامي والمدمر والمرير، أن تسليم السلاح يعني تسليم المستقبل، وأن الوعود بالسلام دون ضمانات حقيقية للعدالة، ليست سوى سراب قد خبرته في سياق نضالها الطويل وتضحياتها الجسيمة، فكيف يمكن لشعب يواجه الاحتلال وأقذر أنواع الظلم من كيان مغتصب وغاشم، أن يثق بدعوات نزع السلاح من أولئك الذين يدعمون الطغاة أو يستفيدون من استمرار الصراع؟!! أو من مجتمع دولي لم يستطع الحفاظ على وعوده أو الدفاع عن قراراته وجعلها أمرا واقعا لابد من التسليم به والخضوع لأجله؟!! وفي المقابل فإنَّ التمسك بالسلاح لا يعني رفض الحوار أو السعي للسلام، بل إنه شرط لسلام لا يُمكن أن يتم حين يكون الطرف الآخر ضعيفاً ومجرداً من كل وسائل مقاومته، وأبسطها سلاحه، فالمقاومة الحقيقية هي تلك التي تجمع بين امتلاكها لأدوات القوة وأدوات السلام، قدرتها على الجمع بين البندقية والكلمة. لأن السلام الذي يُبنى على الإذعان ليس سلامًا، إنه استسلام، والمقاومة لا يمكنها إلا أن ترفض هذا النوع من السلام المزيف، وتختار طريق الكرامة حتى لو كان صعباً وشاقًا، فالبندقية في يدها صوت للحق في وجه الطغيان، ورسالة للعالم بأنَّ الشعوب الحرة لا تقبل أن تُسلب إرادتها، إن سلبت أراضيها. إننا نؤمن بأن دعوات نزع سلاح المقاومة، مهما تعالت أصوات من ينادون بها أو يتبنونها، -مع حسن الظن بالبعض منهم- لا يمكن أن تنجح ما دام الظلم والقتل والتجويع والدمار والتشريد والاحتلال والاستيطان قائم. سيظل سلاح المقاوم تعبير عن إرادة لا تلين، وهو يدرك أنَّ التخلي عنه يعني التخلي عن الحلم بالحرية والعدالة. ولذلك ستبقى البندقية رمزًا للصمود، وستظل المقاومة متمسكة بها، لأنها تعلم أن الحق لا يُنتزع إلا بالقوة، وأن الطغيان لا يتراجع إلا أمام إرادة شعب مقاوم ويرفض الخضوع والخنوع.