logo
ثوابت المملكة المغربية بين الحقيقة والوهم - إيطاليا تلغراف

ثوابت المملكة المغربية بين الحقيقة والوهم - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف٢٨-٠٧-٢٠٢٥
إيطاليا تلغراف
الدكتور محمد عوام
باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة.
منذ سنوات ونحن نسمع بثوابت المملكة المغربية، والتي حددت في العقيدة الأشعرية، والمذهب الفقهي المالكي، والمذهب الصوفي على طريقة الجنيد، وهي ما عبر عنها العلامة ابن عاشر رحمه الله في منظومته (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) بقوله:
فِي عَقْدِ الأشعري وفِقْهِ مَالِكِ وَفِي طَرِيقِةِ الْجُنَيْدِ السَّالِكِ
هذه الثوابت الدينية، أو على حد تعبير أستاذنا العلامة أحمد الريسوني حفظه الله 'الاختيارات الدينية'، هي ما جرى عليه علماء المغرب، وسلاطينه لمدة تزيد عن اثنتي عشرة قرنا، ولقيت قبولا حسنا، حتى ألفينا العلماء ينافحون عنها، ويرسخونها في الناس. فاستقرت بذلك في الوسط العلمائي والمجتمعي.
على أن هذه الثوابت لم يكن تداولها محصورا في المساجد، يلوك بها الوعاظ والخطباء ألسنتهم، ويتفنون في تطريز وتدبيج الحديث عنها، بتنميق الكلمات، واختيار الألفاظ الطنانة والعبارات، وإنما كانت هذه الثوابت محل نظر القضاة في قضائهم، والمفتين في فتاويهم، وحديث العلماء في مجالسهم ومناظراتهم. كما عليها تنشأ الأجيال في المدارس، والمساجد، وعلى رأس ذلك جامعة القرويين. وباختصار كانت هذه الثوابت عمدة الدولة المغربية في كل شؤونها، وما يتعلق بها، ولم تكن في يوم من الأيام محنطة، يتبرك بها، وتردد مثل ترانيم الكنائس.
والذي ساعد على تجميد هذه الثوابت، أو على الأقل محاصرتها هو دخول الاستدمار (الاستعمار) الفرنسي، الذي أخذ على عاتقه، محاربة الإسلام، والسعي في طمس هوية المغرب الدينية، ومحاصرة التعليم العتيق والأصيل، واعتباره القرويين الصندوق الأسود، على حد رؤية الجنيرال الفرنسي ليوطي. ثم استمر الحال على هذا المنوال، لا سيما عندما أزيحت الشريعة عن الحكم، واستبدلت القوانين الوضعية بها، التي دبجها في بداية الأمر فنيون فرنسيون على حد تعبير العلامة علال الفاسي رحمه الله في مقدمة كتابه (دفاع عن الشريعة)، وهو شاهد على هذه الحقبة من تاريخ المغرب. قال رحمه الله: 'وفي المغرب لم يكن يخطر ببال أحد المناضلين الأولين، أن القانون الذي وضعه الفرنسيون لمقاصد استعمارية، سيصبح المتحكم في كل النشاط الإسلامي في المغرب…
ولم يكن يخطر ببال جلالته (محمد الخامس)، ولا ببالنا نحن أعضاء لجنة التدوين (تدوين الفقه الإسلامي حتى يكون القانون الرسمي للدولة)، الذين شرفهم جلالته بتعيينهم لأداء هذه المهمة، أن عملنا سيقتصر على مجرد الأحوال الشخصية. والدليل على ذلك أننا اشتغلنا في قسم الأموال، بعد إنجازنا للأحوال. ولكن قسم التشريع بالكتابة العامة، الذي يشرف عليه لحد الآن فنيون فرنسيون، أوقف أمر البت فيه، وترتب على ذلك أن توقف سير التدوين في بقية أبواب الفقه الأخرى.' (دفاع عن الشريعة 12).
أمام هذا التطور الذي حصل للدولة المغربية، يحق لنا أن نتساءل عما بقي من هذه الثوابت؟ ومدى جدية الدولة في تفعيلها وحمايتها؟ أم أنها أصبحت مجرد ثوابت موهومة بتعبير الإمام الغزالي رحمه الله؟ وغير ذلك من الأسئلة. قد تبدو محرجة لبعض الناس ولكنها تسائل الواقع، وتكشف الحقيقة لذي عينين.
والحقيقة المرة التي تنكشف أمامنا ونحن ننظر في السياسة الدينية للمغرب، أن هذه الثوابت مجرد شعار ترفعه الدولة، شعار فارغ أجوف، لا أثر له في الواقع، وبيان ذلك فيما يلي:
أولا: الإعلام المغربي الرسمي، الممول من مال الشعب، عبر الضرائب، لا يراعي هذه الثوابت، ولا يلتفت إليها في صياغة سياسة إعلامية هادفة، فكم سمعنا من مسلسلات ساقطة، تهدم الأخلاق، وتروج للخيانة الزوجية، وتطبع مع الرذيلة، مثل المسلسلات المكسيكية، ثم التركية، وغيرها. بالإضافة إلى التبرج المخزي المكشوف المفضوح، الذي لا يراعي خصوصية الأسر المغربية المسلمة، بل الفضيحة الكبرى حين تتم القبلات والعناق بين الممثلين في هذه المسلسلات، وأفراد الأسرة كلهم، كبارا وصغارا ينظرون إلى هذا البؤس والتسفل. فأين المراقبة على هذه الانحرافات الساقطة؟
أما الأغاني الساقطة والفاحشة والمتفحشة في القول والسلوك، مثل ما يسمى بالغناء الشعبي (الشيخات) وغير ذلك، مما يندى له الجبين، ويخالف الثوابت، فحدث ولا حرج، وفي مثله قال إمام مذهب المملكة مالك رحمه الله: 'إنما يفعله الفساق عندنا'.
فهل هذا الإعلام بهذه الخصوصية الانحلالية والتفسخ الأخلاقي، وبهذا المنحى المتعمد لنشر الفسوق والفجور، سعيا منه لتغيير هوية المغرب يحافظ على ثوابت المملكة التي تدندن عليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؟.
ثانيا: التعليم، وهو من غير شك يعتبر عمدة الدول، وروح فكرها وحضارتها، وحامل قيمها وثوابتها، والباني لمستقبلها، والمنشئ لأجيالها القيادية والفكرية. فهل تعليمنا فعلا يعبر عن ثوابتنا؟ وهل تصاغ وتشكل برامجه ومقرراته وفق هذه الثوابت أم أنه عمليا يتنكب هذا المهيع، ويستنكف عن هذا المنهج؟.
فمقرر اللغة الفرنسية، المشحون إلى حد ما بنصوص فرنسية، تعبر عن مجتمع وقيم غربية، مناقضة لثقافتنا المغربية، ومخالفة لعقيدتنا الإسلامية، ويظهر هذا وبخاصة في بعض الروايات الفرنسية. أما التعليم الخصوصي فجسده في المغرب ورأسه في فرنسا، يروج لمقرراتها ومناهجها، وأسوأ منه تعليم البعثات الأجنبية وعلى رأسهم فرنسا، مما يجعل التلاميذ مفصولين عن قيمهم الإسلامية، وحضارتهم وهويتهم المغربية. كما أن المقرر الدراسي لشعب الأدب العربي قد أزيحت منه مادة الفكر الإسلامي، التي كان التلاميذ يدرسون فيها المذهب الأشعري والمعتزلي، وغير خاف أن المذهب الأشعري أحد ثوابت المملكة العقدية، فكيف تقصى مادة إسلامية أصيلة، معبر عن أصالة المغرب المذهبية، وتستبقى فقط مادة الفلسفة الغربية، فأين مراعاة الثوابت هنا؟ ذهبت أدراج الرياح.
ثالثا: الاقتصاد. الواقع الاقتصادي يتعامل بالربا، وهي من الكبائر، فالأبناك أبوابها مشروعة على الربا، الذي اقتحم عقبته وزير الأوقاف أحمد توفيق نفسه، فطفق يروج لحلية الفوائد الربوية، مخالفا بذلك الإجماع القطعي المتيقن. ثم الغريب أن تنتشر دور القمار، وحانات الخمور، ويرخص لبيعها جهارا وعلانية، كأن هذا الترخيص -بحجة للأجنبي- لا شيء فيه، وأنه جائز، وهذا كله نقض لثوابت الدين، وهدم لما أجمع عليه علماء المسلمين. فالربا، والقمار، والخمر، والتبرج والعري،…إلخ من المنهيات فحرام، ومن اعتقد غير ذلك، فقد استحل ما حرم الله وافترى عليه، فيكون بذلك قد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
فأين المحافظة على ثوابت المملكة المغربية في مثل هذه المسائل؟ أليس الكلام عن الثوابت بحكم الواقع مجرد وهم وأن ما يرى في الواقع بخلاف ذلك؟
دولة المهرجانات فهل هي خطة لإعادة تشكيل ثوابت جديدة وترسيخها في المجتمع المغربي؟
في هذه الأيام تطلع علينا القناة الأولى الرسمية بسلسلة من الأخبار عن كثير من المهرجانات الغنائية على طول المملكة وعرضها، حتى يخيل إليك أن المغرب كله يرقص ويغني، مهرجان الشاطئ بتطوان، ومهرجان سوس ماسة، ومهرجان وجدة، ومهرجان الصويرة، ومهرجان مكناس…إلخ.
يقع هذا الإسراف والانحراف في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لإبادة جماعية، ومجاعة شديدة، تقتل العشرات من الأطفال والشيوخ والنساء. علما أن المغرب يمثل رئاسة لجنة القدس، ثم هل من الإسلام والمروءة والإنسانية أن يتحول المغرب كله إلى ملاهي ورقص وغناء، وإخواننا بأرض فلسطين يموتون ويجوعون؟ أليست هذه انتكاسة في القيم والمبادئ؟
ثم أليس هذا إسرافا وتبديدا للأموال العامة فيما لا نفع فيه، ولا خير؟
ومن جهة أخرى أليست هذه المهرجانات بما تحمله من خراب على المستوى القيمي، وانتهاكات صارخة للإسلام، لما تتضمنه من غناء فاحش متفحش، ورقص النساء (الشيخات)، واختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشابات، وما يتبع ذلك من مخدرات وسكر علني، مناقضة لثوابت الأمة المغربية وعلى رأسها الإسلام، والبيعة المشروطة بحماية الدين لدى الناس، والدفاع عن العرض والشرف أم أن تلك الثوابت الحديث عنها والمحافظة عنها فقط داخل المساجد وأروقة المجالس العلمية؟
كل هذا يجعلنا نتساءل عن مدى مصداقية الدولة المغربية وجديتها في حماية هذه الثوابت؟، وإلا فالواقع يؤكد -بلا ريب- أن هناك سياسة ممنهجة للقضاء على هذه الثوابت في الواقع، ولو تغنى بها بعض الناس، ولو لهجت بذكرها وزارة الأوقاف، وأقامت بها الأوراد والعمارة الصوفية. فتصبح بذلك الثوابت من باب الوهم والخيال، لأن كل السياسة المتبعة سواء في التعليم، أو الاقتصاد، أو الإعلام، أو السياسة، أو الاجتماع، مناقضة لها، وقاضية عليها.
إذن نحن أمام سياسة جديدة ممنهجة لترسيخ ثوابت جديدة، وليست تلك التي يروج لها، هذه الثوابت الجديدة تعود على الأخرى (الإسلامية) بالإبطال والتعطيل، إلى أن يشاء الله عودتها على حقيقتها. وقد قال بشار بن برد:
‌متى ‌يبلغُ ‌البنيان ‌تمامه … إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟!
والله عز وجل يقول: 'وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡس مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ' [البقرة: 281]
إيطاليا تلغراف
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
السابق
النخبة السياسية التونسية تتخلّى عن مسؤولياتها
التالي
تحذيرات صارمة من تركيا لإسرائيل
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ابن نبي: "تقدمي" أم "رجعي"؟
ابن نبي: "تقدمي" أم "رجعي"؟

الشروق

timeمنذ ساعة واحدة

  • الشروق

ابن نبي: "تقدمي" أم "رجعي"؟

في 3 نوفمبر 1993 نشرت جريدة المساء حوارا أجرته مع الروائي طاهر وطار، رئيس جمعية الجاحظية، ومما جاء فيه قوله عن المفكر الكبير مالك ابن نبي إنه كان 'تقدميا'، وكان من أكثر مثقفي عهده يسارية واشتراكية. وقد رددت أيامئذ على الأخ وطار بكلمة نشرت في الشروق العربي تحت عنوان: 'ما كان ابن نبي تقدميا ولا يساريا، ولكن كان حنيفا مسلما'. وقد أعادت جريدة الشروق نشرها في 3/11/2016. وفي 28-7-2025 أذاعت قناة الوطنية في حصة 'مسارات' حوارا مع الروائي بوجدرة، جاء فيه عن المفكر الكبير ابن نبي أنه 'رجعي'، وكان سلبيا بالمعنى الديني، وأنه كان مع الإسلام المادي (!) وأنه له منظور ضيق للإسلام (!!). الروائيان يعدان نفسيهما من 'أصحاب الشِّمال' (بكسر الشين)، ولا أقول اليسار، لأن أصل كلمة اليسار عندنا طيب، ولو امتد العمر بالإمام الإبراهيمي لأضاف هذه الكلمة 'اليسار' بالمعنى غير الإسلامي إلى ما سماه 'الكلمات المظلومة' كالاستعمار، والقياد، والمقدم عند إخواننا الطرقيين، والديمقراطية عند الغربيين وأتباعهم هنا وهناك وهنالك. إن الذين عرفوا مالك ابن نبي مباشرة، أو عن طريق كتبه، يستيقنون أنه لم يكن 'تقدميا' بالمعنى 'الوطّاري'، ولم يكن 'رجعيا' بالمعنى 'البوجدري'، وما عرفوه إلا حنيفا مسلما ولم يكن لا من الضالين ولا من المضلين. وقد عاش منذ وعى وعقل مؤمنا بالإسلام، داعيا إليه، مهموما بقضايا أمته الإسلامية، مجادلا عن الإسلام بالحكمة البالغة والحجة الدامغة حتى لقي ربه، وما بدل، وما غيّر كمن يلبسون لكل حال لبوسها.. وقد قدره أولو النهى، وأكبره أهل الحجى في المشارق والمغارب إلا بعض أصحاب 'الفكر المسطح'، والسابحين في شواطئ البحار لا في أعماقها. ولو كان ابن نبي 'تقدميا' كما زعم وطار لصنّمه 'التقدميون' ولأضافوه إلى أصنامهم البشرية ابتداء من كبيرهم 'ماركس'، ولو كان ابن نبي 'رجعيا' كما زعم بوجدرة لاستحوذ عليه المبذرون من إخوان الشياطين، ولرفعوا به خسيستهم، وقد حاولوا فما أفلحوا واستعصى عليهم. أكاد أجزم أن وطار – رحمه الله – وبوجدرة – هداه الله – لم يقرآ ابن نبي قراءة جادة، واكتفيا بما يقوله عنه 'علماء القهاوي' بلغة الشيخ أبي يعلى الزواوي. إن ابن نبي لا يقرأ كما تقرأ الروايات استلقاء في الأسرة على الظهر أو على البطن.. إن ابن نبي بشر كالبشر، ولكنه ليس كأحد من البشر. وفكره هو الذي عصم كثيرا من الشبان من أن يجرفهم تيار الضلال الذي ساد وطننا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأشهد أن فكره كان هو سلاحنا في 'صراعنا الفكري' مع أصحاب 'الشمال' في الجامعة المركزية. رحم الله مالك ابن نبي على جهاده الفكري، وأرضاه، وهدى جميع الضالين من مواطنينا إلى صراطه المستقيم، وقد شهد 'الأخ' بوجدرة أن منظومة 'الشمال' قد انهارت في العالم كله، فلماذا يتشبث بها؟

مذبحة بني قريظة... أكثر قصة مختلقة شوهت صورة النبي ﷺ (1)
مذبحة بني قريظة... أكثر قصة مختلقة شوهت صورة النبي ﷺ (1)

خبر للأنباء

timeمنذ 6 ساعات

  • خبر للأنباء

مذبحة بني قريظة... أكثر قصة مختلقة شوهت صورة النبي ﷺ (1)

منذ كنت صغيرًا، كان في داخلي سؤال لا يهدأ: كيف لرسول أرسله الله رحمة للعالمين أن يُامر بقتل جماعي مثل مذبحة بني قريظة؟ كنت أحب النبي ﷺ حبًا كبيرًا، لكن هذه الرواية كانت مثل شوكة في يقيني والمشكله حتى العلماء والدعاة الذين – مثل الشعراوي وطارق السويدان وغيرهم الكثيرين – يؤكدون وقوعها، بل رأوا فيها ضرورة مقدسه "لإظهار هيبة الدولة الإسلامية". لكن في داخلي كان صوت آخر يقول: هذا لا يشبه النبي الذي علّمنا أن نرحم حتى أعداءنا. مع مرور السنين، بدأت أقرأ أكثر. وجدت أن القصة لم تُروَ إلا بعد أكثر من 150 عامًا من زمن النبي، أول من نقلها كان ابن إسحاق (ت. 151هـ)، الذي جمع سيرته من روايات مرسلة، وكثير منها عن وهب بن منبه المعروف بنقل الإسرائيليات (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص544). ثم جاء الطبري (ت. 310هـ) ونقل نفس الرواية بلا تمحيص (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص245). شيئًا فشيئًا، أدركت أن القصة استُخدمت سياسيًا في العصر العباسي لتبرير أعمال قتل المعارضين (عبد اللطيف، السلطة والشرعية في التاريخ العباسي، ص112). ماذا تقول الرواية؟ الرواية تقول إن النبي ﷺ أمر بقتل جميع رجال بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، نحو 600–900 رجل، وسبى النساء والأطفال. لكن القرآن نفسه يذكر فقط: {فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا} (القرآن الكريم، الأحزاب: 26)، أي عمليات قتال محدودة وأسر، وليس إبادة جماعية. كماهو متداوة أفعال النبي ﷺ في مواقف مشابهة كانت مختلفة تمامًا: يوم فتح مكة قال لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص313)، وأطلق سراح ثمامة بن أثال بلا مقابل (البخاري، صحيح البخاري، حديث 4372). فهل يُعقل أن يغيّر نهجه فجأة إلى قتل مئات الأسرى دفعة واحدة؟ ضعف السند وتضخيم الأرقام الرواية مبنية على أسانيد مرسلة، حتى أن الإمام مالك قال عن ابن إسحاق: "دجال من الدجاجلة" (السيوطي، تدريب الراوي، ج1، ص77). أما الأرقام (600–900 قتيل) فهي مبالغ فيها مقارنة بحجم حصون بني قريظة (عرفات، 'New Light on the Story of Banu Qurayza'، JRAS، 1976). والأغرب أن القصة تشبه إلى حد بعيد قصة حصار "مسعدة" اليهودية التي رواها يوسيفوس، حيث قُتل أو انتحر 960 شخصًا (Josephus, The Jewish War, Book VII). كيف تشابهت التفاصيل إلى هذا الحد؟ لأن ابن إسحاق أخذ كثيرًا من روايات وهب بن منبه الإسرائيلية (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص544). لماذا وُجدت هذه القصة؟ العصر العباسي كان مليئًا بالثورات (علوية، خوارج)، والدولة كانت بحاجة إلى روايات تمنحها شرعية لقتل "ناقضي العهد". رواية تقول إن النبي نفسه قتل جماعة كاملة لأنها خانت العهد، كانت مثالية لهذا الغرض (Crone, Slaves on Horses, Cambridge University Press، 1980). قصص أخرى مشابهة شوهت صورة النبي ﷺ أم قرفة قصة ربط عجوز بين جملين وشقها نصفين مصدرها الواقدي، وهو راوٍ متروك (ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج8، ص15). وهي تخالف نهي النبي عن قتل النساء: "لا تقتلوا امرأة ولا وليدًا" (مسلم، صحيح مسلم). أم قرفة كانت رمزًا للقوة، حتى صاروا يقولون: "أمنع من أم قرفة" (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث). تصويرها كعدو "يستحق التمثيل" لم يكن إلا صناعة سياسية لاحقة. صفية بنت حيي صفية، ابنة زعيم بني النضير، اختارت الإسلام والزواج من النبي ﷺ، وقالت: "كنت أتمنى أن يكون النبي منقذي" (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص120). لم تكن سبية حرب كما روّجت بعض الروايات العباسية التي أرادت إبراز النبي كفاتح قوي يتزوج نساء القادة المهزومين. كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي الذي تحالف مع قريش. اغتياله – إن صحّ – كان قرارًا سياسيًا في سياق حرب، وليس قاعدة شرعية لتصفية الشعراء. لكن في العصر العباسي، استُخدمت القصة لتبرير قمع المعارضة الأدبية (ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص221). قصة السحر رواية أن النبي ﷺ سُحر حتى كان يُخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، تتعارض مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (القرآن الكريم، المائدة: 67). القاضي عياض عدها طعنًا في مقام النبوة (القاضي عياض، الشفا، ج2، ص160). ماذا نحتاج أن نفعل اليوم؟ نحتاج أن نعيد قراءة السيرة بعيون جديدة، أن نجعل القرآن مرجعيتنا الأولى، ونقدّم النبي ﷺ كما عرفه أصحابه: إنسانًا رحيمًا، لا أداة في يد السلطة. السيرة النبوية ليست حكايات دم وقتل، بل قصة رحمة وعدل وتسامح. ختاما رواية مذبحة بني قريظة وغيرها من القصص العنيفة ظهرت في سياقات سياسية لاحقة، ولا تعكس جوهر النبوة. إعادة النظر فيها ليست "ترفًا فكريًا"، بل واجبًا أخلاقيًا، حتى لا نورث أبناءنا صورة مشوهة عن نبي جاء رحمة للعالمين. *صفحته على الفيسبوك

"نرفض الزج بالمرأة الجزائرية في نقاشات مغلوطة تمس بثوابتها"
"نرفض الزج بالمرأة الجزائرية في نقاشات مغلوطة تمس بثوابتها"

الشروق

timeمنذ 6 ساعات

  • الشروق

"نرفض الزج بالمرأة الجزائرية في نقاشات مغلوطة تمس بثوابتها"

رئيسة المنظمة الوطنية للنخب والكفاءات النسوية الجزائرية لـ"الشروق": عاد الجدل مجددا إلى الواجهة بشأن قضية المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، في وقت تتعالى فيه بعض الأصوات المنادية بإعادة النظر في أحكام الميراث بين الرجل والمرأة، والمطالبة بوضع قوانين جديدة تتماشى مع مطالبهم، دون مراعاة لطبيعة المجتمع الجزائري المتجذر في مرجعيته الدينية الإسلامية. وفي خضم هذا السجال، فندت المحامية لطيفة ذيب ورئيسة المنظمة الوطنية للنخب والكفاءات النسوية الجزائرية، تصريحات نسبت إليها مؤخرا خلال لقاءات إعلامية سابقة، تفيد بمطالبتها بتحقيق المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة بتدخل من رئيس الجمهورية، مؤكدة أن هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة، وأن موقفها من هذه المسألة واضح وثابت، ولا يقبل التأويل أو التحريف. وأكدت لطيفة ذيب في تصريح لـ'الشروق'، أن ما تم تداوله مؤخرا لا يعبر عنها، ويمثل محاولة لتشويه مواقفها المبدئية والدينية على حد تعبيرها، حيث أوضحت أن الميراث مسألة محسومة بنص قرآني واضح، ولا يمكن التلاعب به أو إخضاعه لأهواء فكرية أو إيديولوجية. وأضافت أن موقفها من مسألة الميراث نابع من قناعة دينية راسخة بأن هذا المجال يدخل ضمن حدود الله التي أمر بعدم تجاوزها، كما أن قانون الأسرة الجزائري مستمد من الشريعة الإسلامية، المعتمدة على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذه مرجعيات لا تقبل المساس بها. كما دعت المتحدثة إلى الكف عن الزج بالمرأة الجزائرية في نقاشات مغلوطة تمس بثوابتها، مشيرة إلى أن هناك أكثر من عشرين حالة في الفقه الإسلامي ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، وهو ما يكشف عمق العدل الإلهي في توزيع الحقوق، وينسف الادعاءات القائلة بعدم إنصاف الشريعة للمرأة. واعتبرت ذيب أن الدفاع عن مرجعية الأمة وهويتها الدينية لا يعد مجرد موقف تقليدي، بل هو التزام وطني وأخلاقي يعكس خصوصية المجتمع الجزائري، الذي ظل محافظا على ثوابته رغم التحديات الفكرية والضغوط الخارجية، ويرفض رفضا قاطعا الخوض في مثل هذه النقاشات العقيمة. وشددت رئيسة المنظمة الوطنية للنخب النسوية والكفاءات على أن كل جزائري غيور على دينه يدرك أن الميراث ليس مجالا للنقاش أو المزايدة، بل هو فريضة ربانية تستوجب الاحترام والتسليم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store