
حدود «الواقعية السياسية»
حدود «الواقعية السياسية»
بدءاً من حل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتهديد بضم كندا لتصبح الولاية الأميركية رقم 51، والتخلي عن أوكرانيا.. قد تتساءل: ماذا يحدث للسياسة الخارجية الأميركية؟ أكثر ما يهم ترامب من أي دولة هو مدى قوتها، فهو يميل إلى إبداء الاحترام للأقوياء. إنها استراتيجية قديمة قدم التاريخ، وتُعرف باسم الواقعية السياسية. بعض الإجراءات التي يتخذها ترامب على الساحة الدولية، كما يفعل داخلياً، قد يرى خصومه أنها تتسم بالقسوة وقصر النظر.
ومع ذلك، ألاحظ أن إدارته تدرك حقيقة أن النظام الدولي الليبرالي لم يكن ممكناً إلا بفضل القوة العسكرية الأميركية، وأن الأميركيين لم يعودوا مستعدين لتحمل تلك التكلفة. هذه هي الواقعية، لكنها واقعية غير استراتيجية. ويرى الواقعيون أن العالم عبارة عن ساحة فوضوية قاسية، حيث لا ينبع الأمن من نشر أيديولوجية الديمقراطية أو من وضع قوانين دولية ملزمة، بل يأتي من وجود قوة عظمى قادرة على فرض إرادتها، وفي الوقت ذاته تجنب الصدام مع القوى المماثلة.
ويعود أصل نشأة الواقعية إلى الحرب البيلوبونيسية، عندما حاصرت أثينا، إحدى القوى العظمى في تلك الحقبة، جزيرة ميلوس وأعلنت أنه إذا لم يعلن شعبُها ولاءَه، فسيتم ذبح الرجال وسبي النساء والأطفال واحتلال الجزيرة. احتجّ أهل ميلوس بأن أثينا لا يحق لها فعل ذلك، إلا أن أثينا لم تكترث لهم، فوفقاً لها، فإن الأفكار النبيلة لا تصمد إلا بقدر ما يفرضه الجيش. وقد ردّد الأثينيون المثلَ الشهيرَ الذي لا يزال يذكر حتى يومنا هذا في تاريخ ثيوسيديديس: «الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، ويعاني الضعفاء ما لا بد لهم من تحمله». لربما لو كنتُ في مكانهم لخضعتُ لأعيش وأؤجل القتال ليوم آخر. إلا أن قادة ميلوس كانوا أشجع مني واختاروا القتال. لكن نتيجة لذلك ذُبح الرجال، وسبيت النساء والأطفال، واستُعمرت الجزيرة. فهل كانوا أبطالاً أم حمقى؟
إذا كنتَ تعتبرهم أبطالاً، فأنتَ ليبرالي دولي، يؤمن بأن السلام والأمن يعتمدان على حكومات عادلة تلتزم بقواعد مُستنيرة. أما إذا كنتَ تعتقد أنهم حمقى، فأنتَ واقعي. تبنى ترامب الموقف الأثيني عندما قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: «لا تملك الأوراق الرابحة حالياً». كان يتحدث عن الموقف الاستراتيجي للبلاد، وليس عن الأفكار النبيلة أو القيم المشتركة. أحد أسباب الارتباك الحالي أن السياسة الخارجية الأميركية كانت موجهة لعقود من الزمن بعكس الواقعية. كانت المعارك الرئيسية في واشنطن، لاسيما خلال العقود الأخيرة، تدور بين المحافظين الجدد الذين أرادوا نشر الديمقراطية من خلال الحرب والليبراليين الذين أرادوا نشر الديمقراطية من خلال القوة الناعمة مثل عقود «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» لتعزيز ودعم المجتمع المدني. وعلى مدار سنوات، كان المفكرون الواقعيون منبوذين في الأوساط الأكاديمية أو مهمشين.
فقد نصح هانز مورغنثاو، أحد أبرز علماء السياسة في القرن العشرين وأشهر الواقعيين في جيله، إدارة الرئيس جونسون بعدم توسيع حرب فيتنام، لكنه أُقيل في عام 1965. كما جادل جورج كينان ضد توسع حلف «الناتو» على صفحات الجريدة نفسها (نيويورك تايمز) في عام 1997، وتوقع أنه سيؤدي إلى تأجيج العسكرة وتقويض الديمقراطية الروسية، إلا أن أحداً لم يصغِ إليه. بينما حذر برنت سكوكروفت، الرئيس جورج دبليو بوش من أن غزو العراق سيكون خطأ فادحاً، لكنه أصبح بعد ذلك شخصية هامشية في دوائر صنع القرار.غير أن الفكر الواقعي بدأ ينهض مجدداً في واشنطن خلال السنوات الأخيرة.
وظهرت مؤسسات سياسية واقعية مثل معهد كوينسي للحكم الرشيد، وأولويات الدفاع، ومركز تحليل الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة التابع لمؤسسة راند. كما أصبح مصطلح «الواقعية» يُستخدم لوصف العديد من الشخصيات البارزة في الإدارة الجديدة، مثل نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد. بل إن أحد أهم المفكرين الواقعيين في هذا العصر، إلبرج كولبي، أصبح مرشح ترامب لمنصب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة. وصرح السيناتور إريك شميت («جمهوري» عن ولاية ميزوري) مؤخراً في مقابلة على قناة فوكس نيوز: «نحن ندخل عصراً جديداً من الواقعية الأميركية». لكن ما الذي أدى إلى هذا التحول؟ جزء من الإجابة يعود إلى انعدام الأمن، فعندما كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، كان بإمكان الأميركيين تسخير قوتهم العسكرية لتعزيز الديمقراطية، متجاهلين التطلعات الخاصة بكل من الصين وروسيا.
أما في الوقت الحالي، فأصبح البلدان يمتلكان صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، ولا يعرف الجيش الأميركي بعد كيفية التصدي لها بفعالية. كما أن الصين تمتلك القدرة على تعطيل الأقمار الاصطناعية الأميركية في الفضاء، مما قد يدمر أنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS) التي يعتمد عليها الجيش والاقتصاد الأميركيان، في حين يُعتقد أن روسيا تختبر أسلحة مماثلة. إن الأميركيين غير مستعدين لخوض حرب مع الصين.
ففي الواقع، هناك جزء كبير من القدرة الصناعية اللازمة لخوض مثل هذه الحرب متمركزاً حالياً في الصين. ورغم ذلك، فالولايات المتحدة وحلفاؤها أقوى من فريق روسيا والصين إذا تحالفا معاً. إلا أن الكثير من الأميركيين لم يعودوا يرغبون في خوض القتال بجانب الحلفاء من أجل أفكار نبيلة خارج الحدود، لاسيما بعد الحروب الكارثية في العراق وأفغانستان.والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: أي نوع من الواقعية سيتبناه ترامب؟! يرى الواقعيون الهجوميون، مثل جون ميرشايمر، أن نشوب الحرب مع الصين يمثل احتمالاً حقيقياً وخطيراً للغاية، وأن أي احتمال آخر مجرد تشتيت للانتباه عن تلك الحقيقة.
أما الواقعيون الدفاعيون فيجادلون بأن القوى العظمى يجب أن تتجنب اتخاذ إجراءات تحفز القوى الأضعف على تعزيز قوتها العسكرية، إلا أن ترامب يختلف في هذا الشأن عن العديد من الواقعيين الآخرين، ووفقاً لما يقول والت، فإنه لا يمكن لأي واقعي حقيقي أن يهدد بضم كندا أو قطاع غزة أو غرينلاند. وفي حين يتبنى ترامب بعضَ عناصر الواقعية، مثل مبدأ الاستسلام للقوي والتضحية بالضعيف، فإن حروبه الجمركية وتهديداته ضد الجيران قد تكون مُكلفةً في نهاية المطاف بقدر المغامرات العسكرية للنظام الليبرالي السابق. وخلال اجتماع البيت الأبيض، ذكّر زيلينسكي ترامب بأن الحرب قد تؤذي الأميركيين أيضاً في يوم من الأيام، وقال: «قد لا تشعرون بذلك الآن، لكنكم ستشعرون به في المستقبل».
ورد ترامب باستياء: «أنت لا تعرف ما تتحدث عنه. لا تخبرنا بما سنشعر به». وبالنسبة لترامب، فإن أميركا تمثل قوة عظمى لا تجرؤ دولة على مهاجمتها. إلا أن هناك حقيقة بشأن القوى العظمى: جميعها تضعف في النهاية، ولا تستطيع «الواقعية» إنقاذها. وكما توضح تجربة أثينا مع جزيرة ميلوس، فإن الأفكار النبيلة لها أهميتها فعلاً.
فرح ستوكمان*
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
*كاتبة أميركية ومؤلفة كتاب «صُنع في أميركا: ماذا سيحدث للأشخاص عندما يختفي العمل؟»
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العين الإخبارية
منذ 32 دقائق
- العين الإخبارية
رئيس الأركان الألماني يقرر تعزيز قدرات الجيش سريعا
أظهرت وثيقة اطَلعت عليها "رويترز" الأحد أن رئيس هيئة الأركان الألمانية كارستن بروير أمر بتجهيز الجيش تجهيزا كاملا بالأسلحة سريعا. وجاء في الوثيقة التي تحمل عنوان "أولويات توجيهية لتعزيز الاستعداد"، ووقعها بروير يوم 19 مايو/ أيار، أن ألمانيا ستتمكن من تحقيق هذا الهدف بمساعدة الأموال التي أتاحتها عملية تخفيف أعباء الديون عن البلاد قبل عدة أسابيع بحلول عام 2029. وفي مارس/آذار الماضي صوّت البرلمان الألماني بأغلبية ساحقة لإلغاء قيد الدين، فاتحًا الباب أمام إنفاق هائل تجاوز التريليون دولار، خُصّص للدفاع والبنية التحتية. ومن أجل تحديث جيشها وتحفيز اقتصادها، أنهت برلين اعتمادها الطويل على التقشف، وألغت قيدًا دستوريًا فُرض منذ عام 2009 كان يحدّ من الإنفاق السنوي من الديون بنسبة 0.35% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. هذا القرار، وإن بدا مفاجئًا، يعكس إدراكًا عميقًا لدى النخب الألمانية والشعب على السواء، بأن ألمانيا لا يمكنها بعد اليوم أن تراهن على مظلة الحماية الأمريكية، كما تعكس أيضا حجم القلق من اندلاع حرب أوسع نطاقا في أوروبا. وبدأ التحول التاريخي في ألمانيا منذ عام 2022 مع قرار أنشأ صندوق خاص بأكثر من 100 مليار دولار لتحسين قدرات الجيش الألماني، لكن "قيد الدين" الدستوري حال دون مزيد من الاستثمارات الطموحة في الدفاع والبنية التحتية. ومنذ تولّي دونالد ترامب الرئاسة في يناير/كانون الثاني الماضي، تغيّر المزاج الشعبي في ألمانيا بشكل حاد، وأصبح لزاما على برلين تغيير السياسات الخارجية والاقتصادية، في ظل مواقف واشنطن من حلف الناتو والأمن القارة العجوز. aXA6IDE1NC41My4zNi44IA== جزيرة ام اند امز US


العين الإخبارية
منذ ساعة واحدة
- العين الإخبارية
بولندا حائرة بين أوروبا وترامب.. حشود «اليمين» و«الوسط» تقسم وارسو
تترقب بولندا انتخابات رئاسية مهمة يتنافس فيها "اليمن" و"الوسط"، ستكون حاسمة في تحديد اصطفافها إما لجانب سياسات أوروبا أو الرئيس ترامب. وخرج اليوم الأحد عشرات الآلاف من الأشخاص إلى شوارع العاصمة البولندية وارسو لإظهار الدعم للمرشحين في انتخابات الرئاسة شديدة التنافس المقرر عقدها الأسبوع المقبل في بولندا. وتعتبر الحكومة البولندية تلك الانتخابات حاسمة لجهودها من أجل الإصلاح الديمقراطي. ويأمل رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك في حشد الدعم لمرشحه، رئيس بلدية وارسو رافاو تشاسكوفسكي المنتمي إلى تيار "الوسط"، ليخلف الرئيس الحالي المنتهية ولايته أندريه دودا، وهو يميني اعترض سبيل العديد من جهود توسك لإصلاح القضاء. وقال تشاسكوفسكي لأنصاره الذين لوحوا بالعلم البولندي بلونيه الأحمر والأبيض وعلم الاتحاد الأوروبي "بولندا بأكملها تنظر إلينا. أوروبا بأكملها تنظر إلينا. العالم بأثره ينظر إلينا"، وفقا لـ"رويترز". ووصل توسك إلى السلطة في عام 2023 بتحالف واسع من أحزاب يسارية ووسطية، على وعد بإلغاء التغييرات التي أجرتها حكومة حزب "القانون والعدالة" اليميني، والتي قال الاتحاد الأوروبي إنها قوضت الديمقراطية وحقوق المرأة والأقليات. ويواجه تشاسكوفسكي صعوبة في الحفاظ على تقدمه في استطلاعات الرأي، وذلك بعد تقدمه على منافسه كارول نافروتسكي المنتمي لتيار "اليمين" بنقطتين مئويتين في الجولة الأولى من الانتخابات التي أُقيمت في 18 مايو/أيار الجاري. وتجمع مناصرو نافروتسكي، الذين ارتدى بعضهم قبعات مكتوب عليها "بولندا هي الأهم"، في منطقة أخرى من العاصمة وارسو اليوم لإظهار الدعم لخططه الرامية إلى جعل بولندا أكثر توافقا مع سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. واتجهت "مسيرة الوطنيين الكبيرة" إلى ساحة الدستور يتقدمها تشاسكوفسكي الذي تصدر نتائج الجولة الأول، بينما تنتهي مسيرة "من أجل بولندا" الداعمة لنافروتسكي عند ساحة القصر في المدينة القديمة في وارسو. وخلال مسيرة مناصرة لتشاسكوفسكي، تعهد الرئيس الروماني المنتخب مؤخرا نيكوسور دان بالعمل الوثيق مع توسك وتشاسكوفسكي "لضمان بقاء بولندا والاتحاد الأوروبي قويين". وقوبل فوز دان غير المتوقع في الانتخابات التي جرت يوم 18 مايو/أيار الجاري على مرشح أقصى اليمين جورج سيميون المؤيد لترامب، بارتياح في بروكسل ومناطق أخرى في أوروبا، حيث كان كثيرون يخشون من أن يؤدي فوز سيميون إلى تعقيد جهود الاتحاد الأوروبي في التعامل مع حرب روسيا في أوكرانيا. وتأتي الانتخابات في بولندا في وقت تعزز فيه عودة ترامب إلى البيت الأبيض من موقف المتشككين في الاتحاد الأوروبي، ما يمنح هذه الجولة طابعًا قاريًا. ويحذر مراقبون من أن فوز مرشح اليمين قد يُحدث هزة سياسية داخل الاتحاد الأوروبي، في ظل التحديات الكبرى التي يواجهها، لا سيما العدوان الروسي على أوكرانيا، الجارة الشرقية لبولندا، وتصاعد التوترات التجارية مع أمريكا في عهد ترامب. ويهدد فوز مرشح اليمين الدعم البولندي القوي لأوكرانيا مع معارضته انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي، وتنديده بالمنافع الممنوحة لمليون لاجئ أوكراني في بولندا. aXA6IDgyLjI2LjIzMC4xNzgg جزيرة ام اند امز LV

سكاي نيوز عربية
منذ 2 ساعات
- سكاي نيوز عربية
هكذا دافع ترامب عن قراره منع هارفرد من قبول طلاب أجانب
وكتب ترامب على منصته "تروث سوشال": "لماذا لا تعلن جامعة هارفرد أن نحو 31 في المئة من طلابها يأتون من دول أجنبية، بينما هذه الدول، وبعضها لا يعتبر صديقا للولايات المتحدة، لا تدفع شيئا مقابل تعليم طلابها، ولا تنوي أن تفعل ذلك". وأضاف: "نريد أن نعرف من هم هؤلاء الطلاب الدوليون، وهو طلب منطقي، خصوصا أننا نقدم لهارفرد مليارات الدولارات، لكن الجامعة لا تتسم بالشفافية"، داعيا المؤسسة التعليمية إلى التوقف عن طلب الدعم من الحكومة الفدرالية. وكانت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم قد أعلنت، الخميس، إبطال الترخيص الممنوح لبرنامج الطلاب وتبادل الزوار الأجانب في جامعة هارفرد. لكن القاضية أليسون باروز في ولاية ماساتشوستس علقت القرار، الجمعة، بعد أن تقدمت الجامعة بدعوى قضائية ضده صباح اليوم نفسه. ويأتي قرار ترامب ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذها ضد هارفرد، الجامعة التي تخرج منها 162 من الحائزين على جائزة نوبل، والتي يتهمها بأنها معقل لما يسميه "أيديولوجيا اليقظة" ومعاداة السامية، على حد وصفه. وكانت الحكومة الأميركية قد أوقفت منحا مالية مخصصة لهارفرد تزيد قيمتها على ملياري دولار، ما أدى إلى تجميد عدد من برامج البحوث العلمية. وتستقبل جامعة هارفرد، بحسب موقعها الإلكتروني، نحو 6700 طالب دولي هذا العام، أي ما يعادل 27 في المئة من إجمالي عدد طلابها، وتفرض رسوما دراسية سنوية تُقدّر بعشرات آلاف الدولارات.