
فرصة تاريخية أمام لبنان لدفن "اتفاق القاهرة" بعد 50 عاما
منذ عام 1969، لحظة توقيع ما سمي بـ "اتفاق القاهرة"، كُتب على لبنان أن يتحمل ما لا يتحمله أي بلد في العالم، أن يسلب حقه السيادي على أراضيه وأن تتحول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين إلى دويلات داخل الدولة، وأن يصبح البلد الصغير الممزق ساحة حرب مفتوحة باسم "القضية".
هذا الاتفاق المشؤوم الذي فرض على لبنان تحت ضغط الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وباركه النظام الناصري في مصر، لم يكن اتفاقاً سيادياً بين دولتين بل تفويضاً مكشوفاً للجماعات المسلحة بأن تفعل في لبنان ما لم تجرؤ على فعله في أي بلد آخر، ونعم هو اتفاق "الخيانة العظمى"، لا للوطن اللبناني وحسب، بل للقضية الفلسطينية نفسها.
"وطن بديل"
منذ تلك اللحظة لم يعد لبنان وطناً لشعبه بل تحول إلى منصة عسكرية وقاعدة انطلاق ومعسكر تدريب ومقر تمويل وخط تماس دائم، ولم تكن بيروت ولا صيدا ولا صور ولا طرابلس بمنأى عن التهديد اليومي الناجم عن هذا السلاح الثوري الذي بدأ تحت عنوان "الكفاح المسلح" وانتهى بانفجار حرب أهلية دامية مزقت البلاد ودمرت الدولة.
وفي وقت كان لبنان يتخبط في الدم والانقسام والخراب، كانت القاهرة تبرم اتفاق سلام مع إسرائيل في "كامب ديفيد" عام 1979، وتبعها الأردن باتفاق "وادي عربة عام 1994، أما سوريا فعرفت كيف تبرد الجبهة وتحول الصراع إلى لعبة مصالح وتوازنات مع الأميركيين والإسرائيليين في آن، وحده لبنان ترك للجحيم، وحده لبنان فرض عليه أن يقاتل بالنيابة وأن يدفع ثمن الصراع العربي - الإسرائيلي بالكامل، من دون أن يُسأل إن كان يريد هذه الحرب أصلاً.
لم يحرر شبراً لكنه دمر دولة
وما لم يُقل بما يكفي هو أن هذا السلاح الفلسطيني في لبنان لم يحرر شبراً واحداً من فلسطين، لكنه حول الشوارع اللبنانية إلى متاريس والمخيمات إلى ساحات اقتتال بين "فتح" و"الصاعقة"، وبين "حماس" و"فتح"، وبين "فتح الإسلام" و"فتح"، وبين الجماعات السلفية والتكفيرية، وبين المرتزقة الذين استخدموا عنوان القضية ستاراً لأجندات إقليمية ودولية.
من "عين الحلوة" إلى "الرشيدية"، ومن "برج البراجنة" إلى "البداوي"، لم يعد هناك مخيم لاجئين بل كيانات أمنية مستقلة تمارس فيها جماعات مسلحة سلطتها تحت أنظار الدولة العاجزة، وأحياناً بمباركة بعض من مؤسساتها، وتحول المخيم إلى قاعدة خلفية لكل طامح للاغتيال أو الاختباء أو التسليح أو التهريب أو التخريب.
وخلال الأعوام الأخيرة برزت محاولة ممنهجة لإعادة صياغة واقع المخيمات على "النمط الغزاوي"، أي تحويلها إلى مربعات أمنية خاضعة لحركة "حماس"، لا لسلطة "منظمة التحرير"، وكان هذا المسعى مدعوماً من "حزب الله"، رأس الحربة في المشروع الإيراني في لبنان، الذي وجد في "حماس" و"الجهاد الإسلامي" شريكين عقائديين وسلاحاً رديفاً جاهزاً للاستخدام متى دعت الحاجة، لا لتحرير فلسطين بل لمزيد من الإطباق على ما بقي من الدولة اللبنانية.
وهكذا تحول السلاح الفلسطيني من أداة مقاومة إلى أداة تمكين في يد "الحرس الثوري" الإيراني، والمفارقة أن الفلسطينيين أنفسهم كانوا أولى ضحاياه في لبنان، اغتيالات وتصفيات واشتباكات وتفجيرات وكمائن دموية، أما اللبنانيون فاستباح هذا السلاح أمنهم وأعاق مسار بناء الدولة لعقود.
زيارة عباس فرصة تاريخية
ومع زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان اليوم وما أعلنه الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون من أن "لبنان لن يكون بعد اليوم ساحة لحروب الآخرين"، آن الأوان لوضع النقاط على الحروف، ويجب أن يعلن صراحة وبصوت عال وموقف رسمي ألا سلاح خارج المخيمات ولا سلاح داخل المخيمات ولا استثناء تحت أي عنوان، ويجب أن يعلن دفن "اتفاق القاهرة" دفناً نهائياً لا رجعة فيه، لا مجرد الاكتفاء بإلغائه شكلياً كما جرى خلال تسعينيات القرن الماضي، بل بإغلاق ملفه تماماً على مستوى النص والمضمون، وعلى مستوى الوقائع الأمنية والعسكرية على الأرض اللبنانية.
لبنان ليس خيمة متنقلة لمن لا وطن له، ولا هو ممر إجباري لمن أراد الحرب أينما يشاء، لبنان له حدوده وكرامته وسيادته، ومن يريد أن يدافع عن فلسطين فليذهب إلى فلسطين، ومن يريد أن يقاتل فليفتح جبهة من أرضه لا من أرضنا.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة توزيع الفلسطينيين
وإذا كانت زيارة عباس تفتح الباب لإقفال حقبة دامية فإن المشهد الإقليمي والدولي اليوم يمنح لبنان فرصة تاريخية موازية، فمع ما يحكى في أروقة القرار الغربي وضمن طروحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول إعادة ترتيب الملف الفلسطيني بالكامل، تُطرح جدياً مشاريع لإعادة توزيع اللاجئين الفلسطينيين في الشتات إلى دول ثالثة، وقد تكون هذه المبادرة، إذا نفذت بمسؤولية وشراكة، فرصة نادرة للفلسطينيين المقيمين في لبنان للخروج من واقع البؤس والإغلاق والانطلاق نحو مستقبل أفضل في دول تمنحهم حقوقاً وفرصاً، وفي الوقت نفسه تشكل خلاصاً للبنان من عبء ديموغرافي واقتصادي وأمني تحمّله لعقود بلا أية قدرة على استيعابه أو تنظيمه، فهذه لحظة واقعية يجب ألا نخجل من تسميتها كما هي، فلبنان لم يعد قادراً على حمل هذا العبء، لا بسبب عنصرية أو تنكر لحق العودة، بل لأن الدولة اللبنانية تحتضر تحت ضغط أزمات وجودية، ولسنا مؤهلين لمزيد من الحروب والضغوط والانفجارات.
لا سلاح بعد اليوم
لا يحق لأي تنظيم، فلسطيني أو غير فلسطيني، أن يبقى مسلحاً على الأرض اللبنانية تحت أي ذريعة، وكفى ذرائع و كفى نفاقاً وكفى تواطؤاً باسم المقاومة، فالمقاومة الحقيقية هي في أن نبني دولة لا أن ندمرها، وفي أن نحمي حدودنا لا أن نستباح من الداخل، فلبنان دفع ثمناً كبيراً، دُمر اقتصاده وقُتل أبناؤه واُغتيل قادته و شُرد شعبه وتفككت مؤسساته واحترق حاضره ومستقبله، وكل ذلك باسم قضية حملت أكثر مما تحتمل وتحولت إلى يافطة فارغة تستخدم لاستباحة لبنان، ثم تركت على قارعة الانهيار.
على الدولة اللبنانية أن تحزم أمرها، وعلى كل مسؤول أن يتخذ موقفاً واضحاً، وعلى كل حزب وقائد وسلطة أن يقول بوضوح لا سلاح بعد اليوم، لا كفاح مسلح على حساب سيادة لبنان، ولا تحرير على حساب وحدة الدولة، ولا منصة لغير الجيش اللبناني.
أما الشعب اللبناني فعليه أن يستعيد صوته ويرفض بقاء السلاح في يد الميليشيات، وأن يقول بوضوح "نعم للحق الفلسطيني ولا لانتحار لبنان تحت هذا العنوان، ونعم للسلام العادل لا للفوضى الدائمة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
محمود عباس في بيروت... الدولة والسلاح
في زمن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، نجح الفلسطينيون واللبنانيون في إعادة تعريف العلاقة التاريخية بينهما. عملوا على تجاوز ما شابها من سلبيات قبل الحرب الأهلية وما بعدها، واتفقوا على تطوير الإيجابيات والتعامل من دولة إلى دولة، في علاقة عنوانها السيادة وعدم التدخّل في الشأن الداخلي لكل منهما. وقد كانت السيادة وتعريفاتها بالنسبة للرئيس عباس واضحة، بما يخص لبنان، هي سيادة الدولة اللبنانية فوق جميع أراضيها، بما فيها المخيمات الفلسطينية. وبهذا الموقف، سبق عباس المنظومة اللبنانية الحاكمة سابقاً، التي كانت تتلكأ وتحاول الالتفاف على كل المبادرات التي أعلنتها السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير تجاه لبنان. مبكراً، وفي زياراته السابقة، ألزم الرئيس عباس ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بالحياد الإيجابي. ورفض أن يُزَجّ سلاح المخيمات في اقتتال لبناني - لبناني أو في محاور خارجية، أو أن يُعاد تصويبه نحو أي طرف لبناني. فكان حازماً حين اعتبر أن السلاح الفلسطيني داخل المخيمات مضر بفلسطين، وخارجها مضر بلبنان، وأن دور الفلسطينيين في لبنان يجب ألّا يكون مضراً بالبلدين. لبنان، بالنسبة للقيادة الفلسطينية الرسمية، ممر، لا مستقرّ للاجئين، وهذا يعني أنهم ضيوف أعزاء ملتزمون بشروط الضيافة، تحت سلطة الدولة اللبنانية وقوانينها. وهذا ما ورد في البيان اللبناني - الفلسطيني المشترك يوم الأربعاء الماضي، بعد لقاء الرئيسين اللبناني جوزيف عون والفلسطيني محمود عباس؛ حيث أكّد البيان على «العلاقات الأخوية بين الشعبين، اللبناني والفلسطيني، والتزامهما بتوفير الظروف اللازمة بما يضمن لللإخوة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حياة كريمة من دون المساس بحقهم في العودة أو التأثير على هويتهم الوطنية». وبحسب رئاسة الجمهورية اللبنانية، فإنّ الجانب الفلسطيني أكّد التزامه بعدم استخدام الأراضي اللبنانية منطلقاً لأي عمليات عسكرية. في مسيرة الرئيس محمود عباس، يمكن أن نختلف في الرأي، لكن لا يمكن إنكار الثوابت التي التزم بها في أخطر المراحل، فيما يخص القضية الفلسطينية في الداخل والخارج، وعمله على نقل النضال من الميدان العسكري إلى ساحة السياسة. فتمسك بمؤسسات الدولة وحماها، رغم ضغوط الاحتلال، وواجه الضغوط الخارجية حين رفض أي حل خارج إطار حل الدولتين، متمسكاً بثوابت الشعب الفلسطيني: القدس، واللاجئين والحدود. دعا إلى وحدة الصف الفلسطيني، ورفض الانقسام والانقلابات، واعتبر أن المقاومة الحقيقية تبدأ بالحفاظ على القرار الوطني المستقل، لا بالارتهان للمحاور. وفي كلمته التي ألقاها أثناء تسلُّمه جائزة هاني فحص لصنّاع السلام في بيروت، قال إن «مخيمات اللاجئين الفلسطينيين هي تحت سيادة الدولة والجيش اللبناني، ونؤكد على موقفنا السابق بأن سلاح المخيمات خارج إطار الدولة هو إضعاف للبنان ويتسبب بضرر للقضية الفلسطينية أيضاً، وإننا مع لبنان في تنفيذ التزاماته الدولية والحفاظ على أمنه واستقراره وسيادته». وعليه، وبوضوح، تبنّى عباس في لبنان نهجاً مسؤولاً: احترام السيادة اللبنانية، ورفض تحويل المخيمات إلى ساحات للصراع أوراق ضغط. لقد حرص على أن يكون الوجود الفلسطيني في لبنان عنصر استقرار، لا عنصر توتير، وسعى لتحصين مجتمع اللاجئين، لا توريطه في صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل.


Independent عربية
منذ 5 ساعات
- Independent عربية
فرصة تاريخية أمام لبنان لدفن "اتفاق القاهرة" بعد 50 عاما
منذ عام 1969، لحظة توقيع ما سمي بـ "اتفاق القاهرة"، كُتب على لبنان أن يتحمل ما لا يتحمله أي بلد في العالم، أن يسلب حقه السيادي على أراضيه وأن تتحول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين إلى دويلات داخل الدولة، وأن يصبح البلد الصغير الممزق ساحة حرب مفتوحة باسم "القضية". هذا الاتفاق المشؤوم الذي فرض على لبنان تحت ضغط الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وباركه النظام الناصري في مصر، لم يكن اتفاقاً سيادياً بين دولتين بل تفويضاً مكشوفاً للجماعات المسلحة بأن تفعل في لبنان ما لم تجرؤ على فعله في أي بلد آخر، ونعم هو اتفاق "الخيانة العظمى"، لا للوطن اللبناني وحسب، بل للقضية الفلسطينية نفسها. "وطن بديل" منذ تلك اللحظة لم يعد لبنان وطناً لشعبه بل تحول إلى منصة عسكرية وقاعدة انطلاق ومعسكر تدريب ومقر تمويل وخط تماس دائم، ولم تكن بيروت ولا صيدا ولا صور ولا طرابلس بمنأى عن التهديد اليومي الناجم عن هذا السلاح الثوري الذي بدأ تحت عنوان "الكفاح المسلح" وانتهى بانفجار حرب أهلية دامية مزقت البلاد ودمرت الدولة. وفي وقت كان لبنان يتخبط في الدم والانقسام والخراب، كانت القاهرة تبرم اتفاق سلام مع إسرائيل في "كامب ديفيد" عام 1979، وتبعها الأردن باتفاق "وادي عربة عام 1994، أما سوريا فعرفت كيف تبرد الجبهة وتحول الصراع إلى لعبة مصالح وتوازنات مع الأميركيين والإسرائيليين في آن، وحده لبنان ترك للجحيم، وحده لبنان فرض عليه أن يقاتل بالنيابة وأن يدفع ثمن الصراع العربي - الإسرائيلي بالكامل، من دون أن يُسأل إن كان يريد هذه الحرب أصلاً. لم يحرر شبراً لكنه دمر دولة وما لم يُقل بما يكفي هو أن هذا السلاح الفلسطيني في لبنان لم يحرر شبراً واحداً من فلسطين، لكنه حول الشوارع اللبنانية إلى متاريس والمخيمات إلى ساحات اقتتال بين "فتح" و"الصاعقة"، وبين "حماس" و"فتح"، وبين "فتح الإسلام" و"فتح"، وبين الجماعات السلفية والتكفيرية، وبين المرتزقة الذين استخدموا عنوان القضية ستاراً لأجندات إقليمية ودولية. من "عين الحلوة" إلى "الرشيدية"، ومن "برج البراجنة" إلى "البداوي"، لم يعد هناك مخيم لاجئين بل كيانات أمنية مستقلة تمارس فيها جماعات مسلحة سلطتها تحت أنظار الدولة العاجزة، وأحياناً بمباركة بعض من مؤسساتها، وتحول المخيم إلى قاعدة خلفية لكل طامح للاغتيال أو الاختباء أو التسليح أو التهريب أو التخريب. وخلال الأعوام الأخيرة برزت محاولة ممنهجة لإعادة صياغة واقع المخيمات على "النمط الغزاوي"، أي تحويلها إلى مربعات أمنية خاضعة لحركة "حماس"، لا لسلطة "منظمة التحرير"، وكان هذا المسعى مدعوماً من "حزب الله"، رأس الحربة في المشروع الإيراني في لبنان، الذي وجد في "حماس" و"الجهاد الإسلامي" شريكين عقائديين وسلاحاً رديفاً جاهزاً للاستخدام متى دعت الحاجة، لا لتحرير فلسطين بل لمزيد من الإطباق على ما بقي من الدولة اللبنانية. وهكذا تحول السلاح الفلسطيني من أداة مقاومة إلى أداة تمكين في يد "الحرس الثوري" الإيراني، والمفارقة أن الفلسطينيين أنفسهم كانوا أولى ضحاياه في لبنان، اغتيالات وتصفيات واشتباكات وتفجيرات وكمائن دموية، أما اللبنانيون فاستباح هذا السلاح أمنهم وأعاق مسار بناء الدولة لعقود. زيارة عباس فرصة تاريخية ومع زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان اليوم وما أعلنه الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون من أن "لبنان لن يكون بعد اليوم ساحة لحروب الآخرين"، آن الأوان لوضع النقاط على الحروف، ويجب أن يعلن صراحة وبصوت عال وموقف رسمي ألا سلاح خارج المخيمات ولا سلاح داخل المخيمات ولا استثناء تحت أي عنوان، ويجب أن يعلن دفن "اتفاق القاهرة" دفناً نهائياً لا رجعة فيه، لا مجرد الاكتفاء بإلغائه شكلياً كما جرى خلال تسعينيات القرن الماضي، بل بإغلاق ملفه تماماً على مستوى النص والمضمون، وعلى مستوى الوقائع الأمنية والعسكرية على الأرض اللبنانية. لبنان ليس خيمة متنقلة لمن لا وطن له، ولا هو ممر إجباري لمن أراد الحرب أينما يشاء، لبنان له حدوده وكرامته وسيادته، ومن يريد أن يدافع عن فلسطين فليذهب إلى فلسطين، ومن يريد أن يقاتل فليفتح جبهة من أرضه لا من أرضنا. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) إعادة توزيع الفلسطينيين وإذا كانت زيارة عباس تفتح الباب لإقفال حقبة دامية فإن المشهد الإقليمي والدولي اليوم يمنح لبنان فرصة تاريخية موازية، فمع ما يحكى في أروقة القرار الغربي وضمن طروحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول إعادة ترتيب الملف الفلسطيني بالكامل، تُطرح جدياً مشاريع لإعادة توزيع اللاجئين الفلسطينيين في الشتات إلى دول ثالثة، وقد تكون هذه المبادرة، إذا نفذت بمسؤولية وشراكة، فرصة نادرة للفلسطينيين المقيمين في لبنان للخروج من واقع البؤس والإغلاق والانطلاق نحو مستقبل أفضل في دول تمنحهم حقوقاً وفرصاً، وفي الوقت نفسه تشكل خلاصاً للبنان من عبء ديموغرافي واقتصادي وأمني تحمّله لعقود بلا أية قدرة على استيعابه أو تنظيمه، فهذه لحظة واقعية يجب ألا نخجل من تسميتها كما هي، فلبنان لم يعد قادراً على حمل هذا العبء، لا بسبب عنصرية أو تنكر لحق العودة، بل لأن الدولة اللبنانية تحتضر تحت ضغط أزمات وجودية، ولسنا مؤهلين لمزيد من الحروب والضغوط والانفجارات. لا سلاح بعد اليوم لا يحق لأي تنظيم، فلسطيني أو غير فلسطيني، أن يبقى مسلحاً على الأرض اللبنانية تحت أي ذريعة، وكفى ذرائع و كفى نفاقاً وكفى تواطؤاً باسم المقاومة، فالمقاومة الحقيقية هي في أن نبني دولة لا أن ندمرها، وفي أن نحمي حدودنا لا أن نستباح من الداخل، فلبنان دفع ثمناً كبيراً، دُمر اقتصاده وقُتل أبناؤه واُغتيل قادته و شُرد شعبه وتفككت مؤسساته واحترق حاضره ومستقبله، وكل ذلك باسم قضية حملت أكثر مما تحتمل وتحولت إلى يافطة فارغة تستخدم لاستباحة لبنان، ثم تركت على قارعة الانهيار. على الدولة اللبنانية أن تحزم أمرها، وعلى كل مسؤول أن يتخذ موقفاً واضحاً، وعلى كل حزب وقائد وسلطة أن يقول بوضوح لا سلاح بعد اليوم، لا كفاح مسلح على حساب سيادة لبنان، ولا تحرير على حساب وحدة الدولة، ولا منصة لغير الجيش اللبناني. أما الشعب اللبناني فعليه أن يستعيد صوته ويرفض بقاء السلاح في يد الميليشيات، وأن يقول بوضوح "نعم للحق الفلسطيني ولا لانتحار لبنان تحت هذا العنوان، ونعم للسلام العادل لا للفوضى الدائمة".


Independent عربية
منذ 5 ساعات
- Independent عربية
وصف العرب للعرب: نقائض أم فبركات مجهولة؟
تجادل هذه المقالة بأن معظم معاركنا العربية-العربية الكلامية على صفحات الإعلام الاجتماعي (الـ"سوشيال ميديا") هذه الأيام هي من نسج الفبركات، وأن وراءها حسابات وهمية، وأخرى مزيفة، ولعلها مخططة ومدروسة، فالوهمي يتخذ اسماً حركياً غالباً ما ينتسب للطيور وللحيوانات، الطائر الملون والأسد الهصور والغزال الشارد والسلحفاة الطائرة وهكذا... بينما تتخذ بعض الحسابات أسماء علم مثل عبدالله سعد وسعد العجمي وخالد المطيري وفهد البغدادي ومدحت المصري إلخ. لكن المتابع لا يمكن أن يلغي النقائض في التوصيف والتنميط، أي إننا ننمّط بعضنا بعضاً بمجالسنا الخاصة في الغالب، ولكن هناك من يراقب ويتابع ويدرس كيف ننظر إلى بعضنا بعضاً كمجاميع عربية بحسب التجمعات الجغرافية، فيختار من هذه التوصيفات ما يثير التراشق والغضب والحنق، بالتالي معارك على حسابات الـ"سوشيال ميديا". فأهل الخليج عند بعض العرب "الغاضبة"، على سبيل المثال، بدو متخلفون وهمج لا يفهمون، يركبون الجمال ويأكلون الضبان، بل هم أنكى من ذلك بأن وصفهم الله في القرآن الكريم بأنهم أعراب وأشد الناس كفراً ونفاقاً. لكنهم "بعين الرضا" عند عرب آخرين أهل الكرم والمروءة والشمائل العربية الحميدة، يغيثون الملهوف ويعينون المحتاج ويساندون القضايا العربية ويقدمون المساعدات النفطية والبترودولارية لكل العرب الآخرين. وزد على هذا أن نبي الإسلام واحد منهم وعندهم الحرمان الشريفان. وينظر بعض العرب إلى الفلسطينيين نظرة تعميمية سوداوية غير إنسانية بالمرة، غدارون منافقون حاقدون باعوا أرضهم ويقتتلون في ما بينهم ويتكسبون على قضيتهم. لكن المناقض لهذا التوصيف يصف مَن يقولون ذلك بالصهينة وخذلان الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ويرى أن الفلسطينيين قدموا وما زالوا يقدمون الغالي والثمين من الأرواح والممتلكات، نضالاً من أجل تحرير أرضهم وتقرير مصيرهم. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) العراق مهد الحضارات البشرية ومنبع الكتابة والقوانين منذ أيام قانون حمورابي، وهو سومر وبابل وعاصمة الخلافة العربية العباسية ومحج الثقافة والعلم والفنون قروناً طويلة. لكن النقضاء العرب يسمونه أرض النفاق والشقاق وقتلة آل البيت والغدر والانقلاب والدموية البشعة ومنبع للخزعبلات والخرافات. مصر هي سبعة آلاف سنة من الحضارة الفرعونية، وهي بلد الثقافة والعلم والأزهر والتقدم وقلب العروبة النابض، منها خرج المعلمون والمثقفون والفنانون والنحاتون والرسامون والمهندسون، لكن مناقضي هذا القول يرددون ما نسب لعمرو بن العاص زوراً، "أرضها ذهب ونساؤها لعب والأمر فيها لمن غلب". ولا يرون في مصر شيئاً من الجمال ويتهمون أهلها بأبشع الصفات والأوصاف. أما ما يقوله عرب المغرب العربي عن بعضهم، فقد لا يكون صالحاً للنشر، وما يقوله السودانيون في الشمال عن السودانيين بالجنوب قول عنصري لا يليق بالقلم في هذا المقام، وهكذا، فلا تكاد توجد منطقة عربية داخل البلد الواحد إلا ولها تصنيف متناقض عند المناطق الأخرى. والحق أن هذه النقائض ليست حكراً علينا في المنطقة العربية، فكل دول العالم لديها تصنيفات وتنميط لبعضها بعضاً يصعب التطرق إليهما بشمولية في هذه المقالة، لكن ما يهم هنا هو تصنيف وتنميط العرب لبعضهم بعضاً، وهو تنميط في غالبه سيئ هذه الأيام، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، مما قد يوحي بأن "وراء الأكمة ما وراءها". ففجأة تشتعل حرب إعلامية بين مصر والسعودية، وبين سوريا والعراق، وبين الجزائر والمغرب بل بين داخل دول الخليج نفسها وهلم جرا. وتستخدم في هذه الحروب كافة أسلحة التنميط الشامل الذي يعم ولا يخص، وكل أدوات التصنيف التعميمية على البلدان بكل شعوبها وطوائفها وأجناسها. أمر خطر أن تنجرف الناس لحروب النقائض هذه، وأخطرها جميعاً حروب الطوائف من وراء الشاشات وامتشاق لوحات المفاتيح لخوضها، فقديماً قيل، "الحرب أولها كلام". العقلاء هم مطافئ هذه الحروب، وأنجع سلاح لمقاومتها تجاهلها وتجنبها وعدم تصديق من يقف وراءها.