
مجرم الحرب
ظنّت البشريّة، منذ محاكمات نورمبرغ (المصوّرة بالأسود والأبيض)، أنها وجدت المعادلة المثاليّة لمواجهة "مجرم الحرب": محاكمة عادلة. إدانة المسؤولين. منع تكرار الفظائع. ثم ظهر ابتكارٌ جديد: "الصهيونيّة". فجأة اكتشف العالم أنّه لم يعد مُطالباً بتعقّب مجرمي الحرب السابقين، بل صار مطالباً بإعادة تعريف الحرب الإجراميّة نفسها، كي يستفيد من مجرمي الحرب اللاحقين. مُجرم الحرب شخصيّةٌ ملموسة، أمّا الحربُ الإجراميّة فهي تجريدٌ محض، يتيح التغاضي عن صاحب الفظاعة وتوجيه النقد إلى الفظاعة نفسها، أي إلى مفهوم يمكن أن يتوزّع دمُه بين القبائل من دون أن يحاسب عليه طرفٌ بعينه.
لم تكتفِ الصهيونيّة بهذه الخدعة البلاغية، بل أكسبت مشروعها حصانةً من خلال آلة تذكاريّة فتّاكة تدهس ما يعترضها كما تفعل الدبّابة، مانحةً نفسَها الحقّ في إسكات كلّ من يحاول الحديث عن "الجرائم الصهيونيّة". وتحتاج هذه الآلة إلى بروباغندا لتصنيع البراءة الدائمة. لذلك تطالبُ نُخبُها بتغذية فكرة أن ذاكرة الألم الماضي (المحرقة) تمحو أي فظاعة راهنة (ولاحقة). وإذا ارتفعت، رغم ذلك، أصوات تندّدُ بمُجرمي الحرب، فإنّها تُتَّهم بمعاداة السامية. مجرمُ الحرب جلّاد لا يختفي وراء جريمته فحسب، بل يستبدلها بمرآة يرى فيها نفسه دائماً جميلاً وناجياً، لا جلاداً.
والحقّ أنّ إحلال مفهوم "الحرب الإجرامية" محلّ مفهوم "مجرم الحرب" ذو ميزتين من وجهة النظر الصهيونيّة: الأولى سهولة التلاعب بالمعايير حين يتعلّق الأمر بالفعل، والثانية سهولة التفصّي من المسؤوليّة حين يُعَوَّمُ الفاعل. في هذا السياق، يحتفظ الكيان الإسرائيلي بوضعٍ فريد: إنّه لا يخوض حرباً إجراميّة بل ينهض بالمهمّات "القذرة" نيابة عن العالم الحرّ! وحتى لو أثبتت الصورُ العكسَ فاللوم يقع على الصور، أو على المصوّرين! هكذا يحتكر الحقّ في الجمع بين دور الشهيد ودور المدّعي في آن. إنّه أيقونةُ الناجي من الجريمة العُظمى، والممثّل الوحيد للحَكَم الأخلاقي الذي يقرّر من هو المجرم في الماضي والحاضر والمستقبل. بل ما هي "الجريمة" أصلاً. وهذا يتيح قفزات بهلوانيّة تدمّر المنطق وتُدخِل اعتباراتٍ مثل "العمل الوقائيّ" في أبعد المجالات عنه: قصفٌ شامل ضد "هولوكوست صغير مُحتمل"! حصارٌ إنساني مدمّر من تحت قناع "حجْرٍ صحي أخلاقي". نحن لا نقتل: نحن "نُحَيِّد"، نحن لا نهدم البيوت: نحن "نزيل بُنَى الكراهية التحتية"، نحن لا نغتال الصحافيّين: نحن "نحارب الإرهاب".
المفارقة الكبرى أن العالم الذي أقسم بعد الحرب العالميّة الثانية أنه لن يسمح للشرّ بأن يكرّر نفسه، هو نفسه الذي يموّل تكراره الآن، شريطةَ أن يكون الضحايا من شعوب يمكن دفنُها في حاشية الخبر. كان النازيّون يعدمون الأسرى في الفجر. أمّا الصهاينة فيمارسون القتل في كلّ الأوقات، ويجعلون من غزّة، ومن العالم بأسره، مقبرة جماعيّة للفلسطينيّين، على مرأى ومسمع، لأن الصورة أفصح تحت كشّافات الضوء، وتصلح لترويج فيلم وثائقي عن "معركة البقاء". ولأنّ مجرم الحرب الصهيوني ليس محتاجاً للظلّ اليوم، بفضل الحلفاء والكثير من بني العمّ. إنّه يقف وسط دائرة الضوء، يلتقط الصور موزّعاً الابتسامات مبشّراً بالسلام، بينما هو يبيد عائلاتٍ بأكملها على مدار الساعة.
لم يمت الشرّ اليوم بل حصل على هويّة أخرى: أصبح صهيونيّاً. والفرق بين مجرم الحرب بالأمس وفارس الجريمة الحربيّة اليوم أن الأول كان يواري ضحاياه في حُفَرٍ مكتومة، أما الثاني فيرميها في قبر جماعيّ باتّساع العالم، معتمداً على تصفيق المتفرّج. وإلى أن تتوقف العدالة الدوليّة عن كونها مجرّد آلة بالريموت كنترول لتصريف التعاطف، سيظلّ مجرم الحرب يقتل على مرأى ومسمع، ويبيع الجريمة على أنّها منتج فاخر، مكتوبٌ عليه بخطٍ دمويّ: صُنع في أفضل الديمقراطيّات، ومُجَرَّبٌ على الفلسطينيّين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 2 أيام
- القدس العربي
مجازر إسرائيل في غزة: 51 شهيدا ووفيات بسبب التجويع
غزة – «القدس العربي»: بالرغم من الجهود التي يبذلها الوسطاء في هذا الوقت للوصول إلى تهدئة في قطاع غزة، إلا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي واصل التصعيد الخطير، وتنفيذ أوامر الإخلاء القسري لمناطق جنوب مدينة غزة، على وقع ارتكاب العديد من المجازر الدامية، التي استهدفت مناطق النزوح الإنساني. ونقلت شبكة «الجزيرة» عن مصادر في مستشفيات غزة أن 51 شهيدا ارتقوا بنيران جيش الاحتلال في مناطق عدة في القطاع منذ فجر الثلاثاء. وأعلنت وزارة الصحة في وقت سابق عن وصول 60 شهيدًا، و343 إصابة إلى مشافي القطاع خلال الـ24 ساعة الماضية، مشيرة إلى ارتفاع حصيلة حرب الإبادة إلى 62,064 شهيدًا 156,573 إصابة منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023. مراحل خطة الاحتلال وحدد رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، الثلاثاء، مراحل خطة احتلال مدينة غزة. وتبدأ الخطة باحتلال مدينة غزة، عبر تهجير الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو مليون نسمة إلى الجنوب، ثم تطويق المدينة وتنفيذ عمليات توغل في التجمعات السكنية. وقال موقع «والا» الإخباري العبري، إن زامير سيقدم لوزير الجيش يسرائيل كاتس، مراحل خطة احتلال مدينة غزة. وتشمل تلك المراحل، وفق الموقع العبري، «دمج استنتاجات وإدخال مبادئ أساسية في الخطط، من أجل جعل احتلال المدينة أكثر فاعلية». كما تشمل «تعزيز قوات الجيش الإسرائيلي في شمال قطاع غزة، وذلك تمهيدًا لاحتلال مدينة غزة، في إطار تكثيف الضغط العسكري على «حماس» وانتزاع مناطق تسيطر عليها»، وفق المصدر ذاته. وأشار الموقع إلى أن «معظم مهام احتلال مدينة غزة ستُلقى على عاتق القوات النظامية». عمليات المقاومة ولا تزال فصائل المقاومة الفلسطينية تخوض قتالا ضد قوات الاحتلال المتوغلة، وتهاجمها في عمليات يومية. وذكرت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية الثلاثاء أن ضابطا أصيب بجراح متوسطة وجندي آخر بجراح طفيفة شمال قطاع غزة بنيران المقاومة. وقالت «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، إنه بعد عودتهم من خطوط القتال، أكد مقاتلوها تدمير جرافة عسكرية للاحتلال من نوع «D9» عصر الأحد في ملعب المناصرة جنوب حي الزيتون في مدينة غزة. وقالت «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في بلاغ إنها دمرت الأحد الماضي آلية عسكرية للاحتلال بتفجير عبوة شديدة الانفجار ـ مزروعة مسبقاً – في محيط صالة النجوم في حي الزيتون جنوب مدينة غزة. وقالت «قوات الشهيد عمر القاسم»، الجناح العسكري لـ»الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» إنها قصفت تجمعاً لقوات الاحتلال المتمركزة وسط محور «ميراج» جنوب مدينة خان يونس بقذائف الهاون الاحد. هجمات ونزوح واستمرت عمليات النزوح القسري من المناطق الجنوبية للمدينة، وتحديدا من حيي الزيتون والصبرة، اللذين يتعرضان إلى قصف مدفعي وجوي وعمليات كبيرة لنسف منازل. وذكرت مصادر محلية أن عددًا من الشهداء والمصابين ارتقوا جراء استهداف منطقة تقع قرب مفترق الكلية الجامعية مع شارع 8 جنوبي مدينة غزة. خطة زامير تبدأ بتهجير مليون فلسطيني من المدينة كما استشهد 5 مواطنين بينهم شقيقان من عائلة مرتجى، وأصيب آخرون بجراح مختلفة، جراء استهداف طائرات الاحتلال منزلين في محيط منطقة عسقولة في حي الزيتون. وكان من بين الشهداء في حي الصيرة، الصحافي إسلام الكومي، حيث جرت مراسم تشييع جثمانه من مشفى الشفاء صبيحة الثلاثاء، بعد أداء صلاة الجنازة، ومن ثم حمل إلى مقبرة المدينة. كما شنت قوات الاحتلال هجمات أخرى على الأحياء الشرقية لمدينة غزة، طاولت حي الشجاعية، حيث أبلغ من جديد عن عمليات نسف مبان جديدة هناك. مجازر النازحين وفي شمال قطاع غزة، أعلنت الخدمات الطبية، عن انتشال شهيدين و53 إصابة من منتظري المساعدات شمالي القطاع. وارتقى 3 شهداء في قصف إسرائيلي استهدفهم أثناء تفقدهم منازلهم في منطقة جباليا البلد. أما في وسط قطاع غزة، فقد ارتكبت قوات الاحتلال عدة مجازر دامية، راح ضحيتها سكان ونازحون في الخيام، وذكرت مصادر محلية أن 5 شهداء ارتقوا جراء إطلاق قوات الاحتلال النار على مواطنين قرب موقع «كيسوفيم»، شرق مدينة دير البلح، وهم من عوائل أبو عمرة والسعايدة، وبشير، وأبو ريا وحريق. وفي مجزرة أخرى استشهد 5 فلسطينيين وأصيب عدد من المواطنين، جراء استهداف تجمع للمواطنين في شارع البركة في المدينة. كما استشهد أيضا 5 أشخاص من عائلة مسمح جراء قصف طائرات الاحتلال خيمة نازحين في منطقة البصة في ذات المدينة، ومن بين الضحايا ثلاثة أطفال وهم دانا ورغد وفوزي، إضافة إلى رجل وامرأة، فيما قضت المواطنة سحر عياش متأثرة بإصابتها بقصف إسرائيلي سابق على الحي الجديد شمالي النصيرات. وطاولت هجمات الاحتلال أيضا المجوعين في طريقهم لأحد مركز توزيع المساعدات التي أقامتها دولة الاحتلال، حيث أعلن مستشفى العودة في مخيم النصيرات، عن استقبال شهيدين و3 إصابات جراء استهداف الاحتلال تجمعات المواطنين بالقرب من نقطة توزيع المساعدات على شارع صلاح الدين القريبة من «محور نتساريم». واستمرت قوات الاحتلال في استهداف منطقة المواصي، التي تؤوي أعدادا كبيرة من النازحين، وهو ما أوقع ضحايا جدد، حيث ارتقى 4 شهداء جراء قصف الاحتلال خيمة نازحين جنوب غرب منطقة المواصي، وهم الأم نور المشوخي، والأطفال يوسف وسيف عيد، ورجل من عائلة العايدي. وارتقت طفلة وأصيب آخرون، جراء قصف خيمة نازحين في محيط الكلية الجامعية غربي المدينة أيضا، واستشهد مواطن من عائلة قشطة برصاص جيش الاحتلال في منطقة بئر 19 في المواصي. ونظّمت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وقفة صباح الثلاثاء أمام بوابة مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة شارك فيها قادة وكوادر الجبهة إلى جانب حشدٍ من المواطنين والوجهاء، والشخصيات الوطنية، والمجتمعية والإعلاميين، حسب بيان لـ»الجبهة». وتقدّم المشهد عشرات الأطفال يُلوّحون بلافتات وإلى جانبهم الأمهات والنساء. أما في مدينة رفح، أقصى جنوب القطاع، والتي يحتلها جيش الاحتلال بالكامل، فارتقى شهيدان من عائلتي العبيد وأبو جزر، برصاص الاحتلال في محيط مراكز المساعدات شمالي المدينة. وفيات بسبب التجويع وفي سياق قريب، أعلن الدكتور منير البرش مدير عام وزارة الصحة، عن رحيل الطفل عبد الله أبو زرقة (5 أعوام)، الذي ظهر في تسجيل مصور قبل ذلك يصرح «أنا جعان». وقال إنه ارتقى في أحد مستشفيات مدينة أضنا التركية، التي حول للعلاج فيها، بعد أن تدهورت حالته الصحية نتيجة النقص الحاد في الأدوية والفحوصات والمعدات الطبية داخل غزة، وقال «رحل عبد الله بعد صراع طويل مع المرض والجوع وتأخير العلاج، لكن صرخته ستبقى خالدة، شاهدًا أبديًا على جريمة الحصار والتجويع، وعلى عالمٍ صمت أمام وجع الطفولة». وفي غزة، أعلن عن وفاة 3 مواطنين، نتيجة المجاعة وسوء التغذية، خلال الساعات الـ24 الماضية. المساعدات إنسانيا أيضا، قالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الثلاثاء إن إسرائيل تسمح بدخول بعض الإمدادات إلى قطاع غزة، لكن ليس بالقدر الكافي لتجنب جوع واسع النطاق. وقال المتحدث باسم المفوضية ثمين الخيطان في مؤتمر صحافي في جنيف «خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم تسمح السلطات الإسرائيلية بدخول المساعدات إلا بكميات تبقى أقل بكثير مما هو مطلوب لتجنب جوع واسع النطاق». وأضاف أن خطر الجوع في غزة «نتيجة مباشرة لسياسة الحكومة الإسرائيلية في منع المساعدات الإنسانية». وقال الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليديس، بشأن سفينة المساعدات التي تحمل على متنها 1200 طن من الإمدادات الغذائية لقطاع غزة، بعد انطلاقها من قبرص، «إن قبرص تواصل دعم السكان المدنيين وتعمل كممر إنساني للمجتمع الدولي»، حسب ما نقلته صحيفة «سايبروس ميل». ويأتي انطلاق السفينة في وقت متأخر من مساء الاثنين، في إطار الجهود المبذولة من أجل تخفيف الأزمة المتفاقمة في غزة، في ظل المجاعة التي تهدد القطاع المحاصر.


العربي الجديد
منذ 5 أيام
- العربي الجديد
مجرم الحرب
مع ما يحدُث في غزّة بات العالم ينتقل مذهولاً من فصلٍ إلى فصلٍ في كتاب الجريمة المفتوح. لكأنّ الصهيونية اليهوديّة المسيحيّة قرّرت أن تعيد تعريف القاع، ليُصبح قَتْلُ الأطفال وارتكابُ المجازر وقنصُ الجوعى، من "لوازم" البثّ المباشر اليوميّ الذي يسهر عليه الصحافيّون. لذلك؛ وجب اغتيالهم هم أيضاً وبالجملة، كأنّ المطلوب إخراس الميكروفون والكاميرا معاً لِترك الشاهد أعمى وأبكماً. أو الرجوع بالصورة إلى زمن الصمت، كي يتكلّم المشهد بلغة الإيماء، ويترسّخ الوعي بأنّ الحريّة الوحيدة المسموح بها: حريّةُ مجرم الحرب في اختيار زاوية التصوير. ظنّت البشريّة، منذ محاكمات نورمبرغ (المصوّرة بالأسود والأبيض)، أنها وجدت المعادلة المثاليّة لمواجهة "مجرم الحرب": محاكمة عادلة. إدانة المسؤولين. منع تكرار الفظائع. ثم ظهر ابتكارٌ جديد: "الصهيونيّة". فجأة اكتشف العالم أنّه لم يعد مُطالباً بتعقّب مجرمي الحرب السابقين، بل صار مطالباً بإعادة تعريف الحرب الإجراميّة نفسها، كي يستفيد من مجرمي الحرب اللاحقين. مُجرم الحرب شخصيّةٌ ملموسة، أمّا الحربُ الإجراميّة فهي تجريدٌ محض، يتيح التغاضي عن صاحب الفظاعة وتوجيه النقد إلى الفظاعة نفسها، أي إلى مفهوم يمكن أن يتوزّع دمُه بين القبائل من دون أن يحاسب عليه طرفٌ بعينه. لم تكتفِ الصهيونيّة بهذه الخدعة البلاغية، بل أكسبت مشروعها حصانةً من خلال آلة تذكاريّة فتّاكة تدهس ما يعترضها كما تفعل الدبّابة، مانحةً نفسَها الحقّ في إسكات كلّ من يحاول الحديث عن "الجرائم الصهيونيّة". وتحتاج هذه الآلة إلى بروباغندا لتصنيع البراءة الدائمة. لذلك تطالبُ نُخبُها بتغذية فكرة أن ذاكرة الألم الماضي (المحرقة) تمحو أي فظاعة راهنة (ولاحقة). وإذا ارتفعت، رغم ذلك، أصوات تندّدُ بمُجرمي الحرب، فإنّها تُتَّهم بمعاداة السامية. مجرمُ الحرب جلّاد لا يختفي وراء جريمته فحسب، بل يستبدلها بمرآة يرى فيها نفسه دائماً جميلاً وناجياً، لا جلاداً. والحقّ أنّ إحلال مفهوم "الحرب الإجرامية" محلّ مفهوم "مجرم الحرب" ذو ميزتين من وجهة النظر الصهيونيّة: الأولى سهولة التلاعب بالمعايير حين يتعلّق الأمر بالفعل، والثانية سهولة التفصّي من المسؤوليّة حين يُعَوَّمُ الفاعل. في هذا السياق، يحتفظ الكيان الإسرائيلي بوضعٍ فريد: إنّه لا يخوض حرباً إجراميّة بل ينهض بالمهمّات "القذرة" نيابة عن العالم الحرّ! وحتى لو أثبتت الصورُ العكسَ فاللوم يقع على الصور، أو على المصوّرين! هكذا يحتكر الحقّ في الجمع بين دور الشهيد ودور المدّعي في آن. إنّه أيقونةُ الناجي من الجريمة العُظمى، والممثّل الوحيد للحَكَم الأخلاقي الذي يقرّر من هو المجرم في الماضي والحاضر والمستقبل. بل ما هي "الجريمة" أصلاً. وهذا يتيح قفزات بهلوانيّة تدمّر المنطق وتُدخِل اعتباراتٍ مثل "العمل الوقائيّ" في أبعد المجالات عنه: قصفٌ شامل ضد "هولوكوست صغير مُحتمل"! حصارٌ إنساني مدمّر من تحت قناع "حجْرٍ صحي أخلاقي". نحن لا نقتل: نحن "نُحَيِّد"، نحن لا نهدم البيوت: نحن "نزيل بُنَى الكراهية التحتية"، نحن لا نغتال الصحافيّين: نحن "نحارب الإرهاب". المفارقة الكبرى أن العالم الذي أقسم بعد الحرب العالميّة الثانية أنه لن يسمح للشرّ بأن يكرّر نفسه، هو نفسه الذي يموّل تكراره الآن، شريطةَ أن يكون الضحايا من شعوب يمكن دفنُها في حاشية الخبر. كان النازيّون يعدمون الأسرى في الفجر. أمّا الصهاينة فيمارسون القتل في كلّ الأوقات، ويجعلون من غزّة، ومن العالم بأسره، مقبرة جماعيّة للفلسطينيّين، على مرأى ومسمع، لأن الصورة أفصح تحت كشّافات الضوء، وتصلح لترويج فيلم وثائقي عن "معركة البقاء". ولأنّ مجرم الحرب الصهيوني ليس محتاجاً للظلّ اليوم، بفضل الحلفاء والكثير من بني العمّ. إنّه يقف وسط دائرة الضوء، يلتقط الصور موزّعاً الابتسامات مبشّراً بالسلام، بينما هو يبيد عائلاتٍ بأكملها على مدار الساعة. لم يمت الشرّ اليوم بل حصل على هويّة أخرى: أصبح صهيونيّاً. والفرق بين مجرم الحرب بالأمس وفارس الجريمة الحربيّة اليوم أن الأول كان يواري ضحاياه في حُفَرٍ مكتومة، أما الثاني فيرميها في قبر جماعيّ باتّساع العالم، معتمداً على تصفيق المتفرّج. وإلى أن تتوقف العدالة الدوليّة عن كونها مجرّد آلة بالريموت كنترول لتصريف التعاطف، سيظلّ مجرم الحرب يقتل على مرأى ومسمع، ويبيع الجريمة على أنّها منتج فاخر، مكتوبٌ عليه بخطٍ دمويّ: صُنع في أفضل الديمقراطيّات، ومُجَرَّبٌ على الفلسطينيّين.


العربي الجديد
٠٤-٠٨-٢٠٢٥
- العربي الجديد
مناقشات إسرائيلية حاسمة بشأن غزة: اتفاق شامل أو توسيع الحرب
من المنتظر أن يعقد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الصورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولد في يافا عام 1949، تولى منصب رئاسة الوزراء أكثر من مرة، منذ 1996، وعرف بتأييده للتوسع في المستوطنات، ودعم حركة المهاجرين الروس، وتشدده تجاه الفلسطينيين. وشارك في العديد من الحروب والعمليات العسكرية التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وأثناء رئاسته للوزراء شن 6 حروب على قطاع غزة بين عامي 2012 و2023. ، في الأيام المقبلة، مناقشات عدة توصف بأنها "حاسمة"، بشأن المرحلة المقبلة من حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية على قطاع غزة، ستتبلور بعدها التوجهات الإسرائيلية، وسط آراء متباينة في المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت)، وفي وقت أوضحت فيه الولايات المتحدة أن المفاوضات حول صفقة جزئية قد انتهت، ويجب الانتقال إلى صفقة شاملة. وذكرت القناة 12 العبرية، اليوم الاثنين، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تقف أمام قرار صعب بين توسيع القتال إلى مناطق إضافية في قطاع غزة، حتى لو كان في ذلك خطر على حياة المحتجزين الإسرائيليين، أو استنفاد فرص التوصّل إلى صفقة مع حركة حماس. ويؤيد توسيع العملية العسكرية، حتى لو على شكّلت خطراً على حياة المحتجزين، كل من الوزراء رون ديرمر، وبتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، والسكرتير العسكري لرئيس الوزراء رومان جوفمان، وسكرتير الحكومة يوسي فوكس. في المقابل، يقف في صف "استنفاد فرصة التوصل إلى صفقة" كل من الوزير جدعون ساعر، وعضو الكابينت أرييه درعي، ورئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، ونائب رئيس فريق التفاوض الإسرائيلي الذي يُرمز إليه بالحرف "م"، ورئيس الموساد دافيد برنيع، ومسؤول ملف المحتجزين نيتسان ألون. أما "المترددون"، على حد وصف القناة، الذين سيحسمون القرار في النهاية، فهم رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير الأمن يسرائيل كاتس، والقائم بأعمال رئيس الشاباك الذي يُرمز إليه بالحرف "ش". ووسط هذه المواقف، تجدر الإشارة إلى أن ديرمر هو الأقرب إلى نتنياهو ويده اليمنى، ما قد يشير إلى موقف نتنياهو الحقيقي أيضاً، والاتجاه الذي يتبلور لديه. وفي السياق، تروّج إسرائيل إلى أن "حماس" غير معنية بإبرام صفقة، وعليه نقلت وسائل إعلام عبرية، أمس الأحد، عن مسؤول سياسي إسرائيلي لم تسمّه قوله إن نتنياهو "يدفع نحو تحرير المختطفين (المحتجزين الإسرائيليين في غزة) من خلال حسم عسكري". وهذا الحسم العسكري، بحسب المصدر، يترافق مع إدخال مساعدات إنسانية إلى المناطق الواقعة خارج نطاق القتال، وبقدر الإمكان إلى المناطق الخارجة عن سيطرة "حماس". تقارير عربية التحديثات الحية لقطات الجنود الأسرى في غزة: ضغط على الداخل الإسرائيلي وتأتي هذه التصريحات في أعقاب تقرير نُشر أخيراً، يفيد بأن نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب يجريان اتصالات متقدّمة خلف الكواليس بشأن اقتراح جديد شامل، وإنذار نهائي لحركة حماس، يتعلق بالصفقة ومستقبل قطاع غزة. ووفقاً للاقتراح، سيُطلب من "حماس" الإفراج عن جميع المحتجزين دفعة واحدة، بالإضافة إلى نزع سلاحها. وفي اليوم التالي، سيتم إنشاء إدارة في قطاع غزة بقيادة دولية، على رأسها الولايات المتحدة. في غضون ذلك، كان من المتوقع أن يصادق رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير، أمس الأحد، على خطط عملياتية تدريجية لتوسيع القتال في غزة. ووفق ما أوردته صحيفة هآرتس العبرية، فإن هذه الخطط، التي ستُعرض لاحقاً على المستوى السياسي، تشمل توسيع العمليات العسكرية لتشمل أيضاً مناطق حساسة في غزة ومنطقة مخيمات الوسط، حيث امتنع الجيش الإسرائيلي حتى الآن عن المناورة البرية، بسبب الخشية من وجود محتجزين هناك. ونقلت عن مصدر لم تسمّه اعتقاده بأن نتنياهو لم يحسم بعد قراره بشأن توسيع الحرب واحتلال غزة، أو السماح بإجراء مفاوضات لإنهاء الحرب، من خلال التنازل جزئياً عن مطلب الاستسلام الكامل من قبل "حماس". وينتظر المسؤولون الإسرائيليون حالياً ما سيقوله ترامب، وإن كان سيعلن عن خطة توزيع مساعدات "إسرائيلية-أميركية" تشمل جميع أنحاء غزة، أو سيلمح إلى ذلك، أو سيُصدر تصريحاً غامضاً تكون دلالته الإبقاء على آليات توزيع المساعدات الحالية كما هي، وفتح المجال أمام الأمم المتحدة للعمل بشكل مستقل، في المناطق الخارجة عن السيطرة الإسرائيلية. في غضون ذلك، أفاد منتدى عائلات المحتجزين الاسرائيليين، أمس الأحد، بأن "نتنياهو يقود إسرائيل والمختطفين نحو الهلاك". ووفقاً لبيان المنتدى، فإن "نتنياهو يُعدّ أكبر خطة خداع على الإطلاق. الأحاديث التي تكررت مراراً حول تحرير المختطفين من خلال الحسم العسكري هي خداع وتضليل للرأي العام". كما ورد أيضاً أن توسيع الحرب يعرّض حياة المحتجزين للخطر. خلاف بشأن المساعدات إلى غزة في غضون ذلك، تُجرى خلف الكواليس مناقشات بين جيش الاحتلال والمستوى السياسي الإسرائيلي، حول كيفية صياغة البيان الذي سيختتم العملية التي بدأت بانتهاك إسرائيلي لاتفاق وقف إطلاق النار، وهي عملية "عربات جدعون". إلا أن الخلاف الأهم، وفق صحيفة يديعوت أحرونوت، اليوم الاثنين، يتعلق بالقرار الخاص باستئناف القتال، وبقضية المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى غزة. رصد التحديثات الحية زامير يحذر من خطورة توسيع العمليات في غزة على حياة المحتجزين وأوضحت أن قادة كباراً في جيش الاحتلال عارضوا الخطوة الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية بشأن إدخال المساعدات إلى غزة، في وقت يتراجع فيه الضغط العسكري، وتزامناً مع انسحاب المزيد من القوات من داخل القطاع، بما في ذلك إخراج الفرقة 98 من الأحياء والمناطق المحيطة بمدينة غزة الأسبوع الماضي. وذكرت مصادر أمنية مساء أمس الأحد، بشأن قرار الهدن وزيادة المساعدات التي دُفعت إليها دولة الاحتلال مضطرة، تحت الضغط الدولي، عقب انتهاجها التجويع في غزة، بأنه "لم يحظَ بإجماع". ووفقاً للصحيفة العبرية، أعرب ضباط كبار في الجيش أمام المستوى السياسي عن رأيهم بأن هذا الانصياع للضغط الدولي يُعد بمثابة "اعتراف إسرائيلي بادعاء التجويع الذي تطرحه حماس"، وأن "الزيادة غير المسبوقة في حجم المساعدات تُلزم إسرائيل بالاستمرار في هذا المسار داخل القطاع، سواء تم التوصل إلى صفقة أم لا. في المقابل، يأمل المسؤولون في المستوى السياسي الإسرائيلي بأن تؤدي زيادة المساعدات إلى الحصول على قدر من الشرعية من المجتمع الدولي، للقيام بعمليات عسكرية في منطقة المواصي، وفي المعاقل الرئيسية لـ"حماس" في وسط وغرب مدينة غزة، وفي دير البلح، ومخيم النصيرات، ووسط القطاع. وفي سياق متصل، يعترف جيش الاحتلال بأن 420 حزمة مساعدات أُسقطت خلال الأسبوع الماضي من دول مثل الأردن، والإمارات العربية المتحدة، وإسبانيا، وفرنسا، وألمانيا وبلجيكا، كانت تهدف أساساً لتوظيفها في أغراض العلاقات العامة بالنسبة لإسرائيل. وفي يوم الذروة لعمليات الإسقاط الأسبوع الماضي، أُلقيت من طائرات "هيركوليس" 52 حزمة من المواد الغذائية الجافة، حيث تزن كل حزمة في المتوسط طناً واحداً، فيما مجموع هذه الحزم الـ52 يملأ، في أفضل الأحوال، شاحنة ونصف الشاحنة من المساعدات.