
من بيل إلى رايت.. وصولاً إلى مصير غزة
يُعتبر علم الاجتماع، في جانب مهم منه، علماً استخباراتياً. لا أقصد بالطبع أن هذا العلم ترعاه أجهزة المخابرات في الدول، بقدر ما أقصد أنها تستفيد منه في بناء منظومتها الأمنية، ولاحقاً قراراتها السياسية. وما يضيف تأكيداً لاعتبار كهذا، هو أن علم الاجتماع يبحث، أيضاً، فيما لم يعد يعني المخابرات في لحظة ما، بمعنى أن جزءاً من مادته الأساسية، أو الخام إن صح التعبير، هو ما يتم الإفراج عنه كوثائق لم تعد سرية.
التسريبات المقصودة، أي التي تتم عن قصد وتخطيط مسبق، لا تقل أهمية هي الأخرى في تجهيز موضوع البحث ووضعه على الطاولة، وذلك لقياس توجهات الرأي العام، أو حرفها، أو التلاعب بها، من أجل صناعة رأي عام جديد. هذه التسريبات وهذه الصناعة لا تقوم بها وزارة شؤون المغتربين ولا دائرة الترخيص في البلدية على كل حال، بل الأمن والاستخبارات.
لفهم المغزى مما سبق، دعونا نلقِ الضوء على اسم امرأة مرّت على تاريخ وجغرافيا منطقتنا العربية، وتحديداً في الشرق الأوسط والخليج، وكان لها الأثر الكبير في صناعة خرائط المنطقة وتحالفاتها، في لحظة تاريخية كانت فاصلة بين مرحلتين وعالمين: عالم الإمبراطورية وعالم الدول القطرية. إنها الفتاة البريطانية غيرترود بيل، أو «خاتون» كما لقبوها بلغة الإمبراطورية العثمانية، أو «صانعة العراق الحديث» كما يسميها المؤرخون، أو «الجاسوسة» كما سماها الألمان.
مع نهاية القرن التاسع عشر، قرر السلطان عبد الحميد الثاني، سلطان الإمبراطورية العثمانية، شق سكة حديد الحجاز، والتي تصل، كما كان مخططاً، بين دمشق ومكة المكرمة. ستقرؤون في المراجع الإسلامية أن الهدف كان اختصار وقت السفر للحجاج وتقليل معاناة الطريق، وستقرؤون لعلماء الاجتماع أن الهدف هو التوسع جنوباً، وإيجاد بُنية تحتية لنقل الجنود والتموين، خصوصاً بعد أن تقلص نفوذ الإمبراطورية في الساحة الأوروبية.
البعض يقول، إن الفكرة وتمويلها إسلامي بحت، ولأهداف دينية خالصة لوجه الله، والبعض الآخر يؤكد أن الفكرة ألمانية، خصوصاً أن كبير المهندسين للمشروع الضخم هذا كان الألماني مايسنر، وأن غالبية مستشاري السلطان كانوا أصلاً من الألمان، وأن الهدف من سكة الحديد هذه، هو قطع طريق الحرير، أي الممر التجاري بين بريطانيا ومستعمرتها الأكبر في العالم، الهند.
بريطانيا فهمت اللعبة وعرفت أن مصالحها مهددة، فما كان من وزير المستعمرات إلا أن اتصل بعالمة الآثار أو المستكشفة، كما كانت تعرّف عن نفسها، والمقيمة في الهند آنذاك، غيرترود بيل، وخاطبها بصيغة تشبه: «روحي شوفي شو اللي بصير»، فأجابت: حاضر.
ركبت غيرترود بيل بعيرها وانطلقت من الهند باتجاه بلادنا، وكل ما فعلته لاحقاً، وهو كثير جداً، يمكن للقارئ المهتم أن يطلع عليه بكبسة زر على «غوغل»، لكن ما يهمنا هنا هو جولاتها بين القبائل العربية الممتدة من شمال سورية إلى منطقة حائل ثم إلى البصرة، ولاحقاً إلى سيناء، والكم الهائل من المعلومات المهمة عن عدد الرجال، وعن ولاءات الناس، وعن عاداتهم وما يقبلون وما يرفضون.
هذه المعلومات التي كانت تزود بها الحكومة البريطانية أولاً بأول، والتي استعانت بها الأخيرة فيما بعد في مؤتمر باريس لتوزيع إرث الإمبراطورية، وفي اتفاق سايكس بيكو، ومراسلات الحسين – مكماهون والثورة العربية الكبرى، وفي تقاسم الانتداب بين بريطانيا وفرنسا، وفي ضم الموصل إلى بغداد والبصرة وإنشاء العراق الحديث.
باختصار شديد، لقد ساهمت دراسات وكتب غيرترود بيل في ترسيم خريطة الشرق الأوسط وجزء من الخليج، بعد تفكك أو تفكيك الإمبراطورية العثمانية، سمّه ما شئت. ولو أردنا هنا أن نورد تساؤلاً «خارج السياق» فربما يمكننا طرحه على الشكل التالي: هل تُعد هذه المؤشرات هي ما يؤكد نصر بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى، وهزيمة ألمانيا والإمبراطورية العثمانية؟ لا شك في ذلك.
يمكن للقارئ التوسع في التاريخ الاجتماعي للمنطقة وانعكاسه على التاريخ السياسي، أو للدقة.. قيادته للتحولات السياسية وتشكيل الدول ورسم الخرائط، من خلال الاطلاع على كتب غيرترود بيل أو ما كُتب عنها وخصوصاً: «رسائل غيرترود بيل»، «ملكة الصحراء.. يوميات رحلة من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل»، و»سورية.. البادية والمزروعات».
مثال آخر حديث يمكن الاستعانة به هو الصحافية الأميركية المعاصرة روبن رايت وكتابها «أحلام وظلال.. مستقبل الشرق الأوسط»، ولأنني تناولت هذا الكتاب في كثير من الكتابات السابقة، سأكتفي بالقول، إنه أصبح المرجع المعتمد لسياسة الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط وإيران، وإعادة تشكيل هذه المنطقة من العالم بما يضمن مصالح الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة والممرات التجارية.
وعلى سيرة الممرات فإنه لا يمكن النظر إلى ما جرى ويجري في سورية، وإلى رفع العقوبات عنها في زيارة ترامب إلى الخليج قبل أيام، إلا تحقيقاً لرؤية رايت في كتابها، وهو ما سيؤدي أخيراً إلى مد خط الغاز القطري عبر سورية إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، وذلك رغم أن هذا الخط لم يعد في مصلحة أميركا، خصوصاً بعد أن أصبحت المصدّر الأول للغاز إلى أوروبا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك بعد تسارع الاعتماد الأوروبي على الطاقة المتجددة بسبب الحرب ذاتها.
وعلى سيرة الممرات أيضاً، فإن مصير قطاع غزة، كنقطة عبور في الكوريدور الهندي الأوروبي، لن يتم حسمه بوجود «حماس» كطرف أو أداة معيقة، ولا بوجود نتنياهو وحكومته كطرف متضرر من اشتراطات تنفيذ هذا الكوريدور، وعلى رأسها حل القضية الفلسطينية. لذلك فلم يأتِ ترامب في زيارته «التاريخية» على ذكر غزة إلا كمأساة إنسانية، وهو لم يلتقَ نتنياهو لذات السبب.
وهذه المأساة الإنسانية لن تتوقف إلا بتهيئة البيئة للممر الدولي الكبير، البيئة التي كان بالإمكان، ولو باحتمال ضئيل، أن تتحقق بمشاركة الشعب الفلسطيني، لو أن لديه طبقة سياسية تعرف ما يدور حولها وتستطيع استغلاله لمصلحة شعبها. لكن ولأن ما لديه ليسوا أكثر من صنّاع للوهم ومروجين لشعارات غيبية عفا عليها الزمن، ولا تصلح في سوق السياسة، فقد قدموه، أي هذا الشعب، ويقدمونه يومياً على مدار سنة ونصف السنة، كأضحية مجانية مقابل اللاشيء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 5 أيام
- معا الاخبارية
77 عاما والنكبة وحرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني مستمرة
77 عاما مرت على نكبة الشعب الفلسطيني بإقتلاعه وطرده خارج وطنه التاريخي ولم يزل يعاني الحرمان من الحرية والعودة إلى مدنه وقراه ويعيش حياة اللجوء التي تحدى ظروفها وتداعياتها فاضحى الأعلى تعليما والاشد تمسكا بوطنه وإنتماءا له . لا يمكن لنا الحديث عن النكبة دون المرور عن أسبابها وظروفها التي اعقبت إنتصار الحلفاء بالحرب العالمية الأولى وتقسيم الوطن العربي بتقاسم نفوذ وهيمنة بين الدول المنتصرة فكان إصدار بريطانيا رمز القوى الإستعمارية عام ١٩١٧ ما يسمى وعد بلفور بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين وما يعنيه ذلك ببساطة عن الهدف بإقتلاع الشعب الفلسطيني الأصيل بوطنه وإحلال بديل عنه بمجموعات سكانية غريبة من اصقاع العالم لا يربط بينها سوى إعتناق الديانة اليهودية . الأسباب والظروف : أولا : سقوط الدولة العثمانية وهزيمتها بالحرب العالمية الأولى . ثانيا : تقسيم الوطن العربي إلى دول وإستعمارها عسكريا بموجب إتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمو . ثالثا : الإحتلال العسكري البريطاني لفلسطين وإنتزاع قرار من عصبة الأمم بفرض الإنتداب البريطاني بهدف تنفيذ وعد بلفور . رابعا : غياب قوة عربية قادرة على التصدي للمشروع الإستعماري عامة وفي ما يتعلق بالهدف الحقيقي من إحتلال إستعماري إحلالي لفلسطين . النكبة نتيجة لجرائم الإبادة : الشعب الفلسطيني اسوة بباقي شعوب العالم يتمسك بحقه الطبيعي العيش الآمن الحر في وطنه قاوم قوات المستعمر البريطاني وشركائه العصابات اليهودية المدججة بكل انواع السلاح الفتاك بإمكانيات ضعيفة وبعصيان مدني عجز المستعمر عن قمعها والنيل من إرادة الشعب الفلسطيني بالدفاع عن حريته وتحرير وطنه وإستقلاله مما دفعه لتصعيد بتنفيذ مخططه الإجرامي بإستخدام قواته العسكرية مستهدفا المدنيين عبر : ▪︎ تنفيذ عشرات المجازر الوحشية التي إرتكبتها قوات الإحتلال الإستعماري البريطاني " ما بين عام ١٩١٧ إلى عام ١٩٤٨ " منفردة او بمشاركة وتمكين للعصابات الإرهابية اليهودية الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني الاعزل من السلاح والتي اسفرت إضافة إلى اعمال الإعتقالات التعسفية وإيقاع كافة اشكال التعذيب النفسي والجسدي بمئات من المواطنين عن : ▪︎ تدمير ما يقارب من ٥٣٢ قرية وبلدة فلسطينية . ▪︎ إرتكاب عشرات المجازر بقتل الآف من ابناء الشعب الفلسطيني وأشهر المجازر كفر قاسم ودير ياسين والدوايمة وغيرها . ▪︎ إقتلاع ٩٥٠ الف من مدنهم وقراهم وطردهم خارج وطنهم التاريخي اي جريمة مزدوجة ومركبة " إبادة وتطهير عرقي " . ▪︎ الإعلان عن ولادة " إسرائيل " هذا الكيان العدواني الإستعماري . عدوان حزيران ١٩٦٧ : في ظل غياب مشروع عربي قومي او حتى إقليمي مشترك لتحرير فلسطين منذ الايام الأولى لولادة الكيان السرطاني الإسرائيلي سواء التحرير الكامل او الجزئي بمعنى تحرير ٥٠ % من مساحة ارض الدولة العربية الفلسطينية التي ابقاها قرار التقسيم المجحف بحق الشعب الفلسطيني من ارض فلسطين التاريخية اي القسم الذي إحتلته العصابات اليهودية الصهيونية خلافا وإنتهاكا لقرار الجمعية العامة رقم ١٨١ وفي خضم الخلافات العربية الرسمية البينية جاء العدوان الإسرائيلي في الخامس من حزيران عام ١٩٦٧والذي أسفر عن إحتلال إستعماري إحلالي للضفة الغربية وقطاع غزة اي باقي ارض فلسطين التاريخية وإحتلال الجولان وسيناء . لم تتأخر سلطات الإحتلال الإسرائيلي الإستعماري بعد إحكام سيطرتها العسكرية على اراض الضفة الغربية وقلبها القدس وعلى قطاع غزة من البدء بارتكاب وتنفيذ سلسلة من الأعمال والسياسات الممنهجة لتغيير الجغرافيا والديمغرافيا وخاصة بالقدس في سياق حرب إبادة وتطهير عرقي من اعمال قتل وتدمير وعقاب جماعي وتقييد حرية التنقل والعبادة وإنتهاك للمقدسات الإسلامية والمسيحية وخاصة المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وكنيسة القيامة ومصادرة للاراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات التي تمثل بحقيقة الأمر قواعد إنطلاق لميليشيا عسكرية عدوانية تعمل بتخطيط وتمكين ومشاركة وحماية كاملة من قوات سلطات الإحتلال الإستعماري الإسرائيلي في تنفيذ سياسة ممنهجة لتغيير جذري جغرافي بإنتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي ولإتفاقيات جنيف وخاصة الرابعة . لماذا النكبة مستمرة : النكبة مستمرة بعنصريها الرئيسيين : ▪︎ عدم تمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة لمدنهم وقراهم التي طردوا منها عنوة تنفيذا لقرار الجمعية العامة رقم ١٩٤ . ▪︎ عدم تنفيذ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الداعية لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي للاراضي الفلسطينية التي إحتلت عام ١٩٦٧ وما قبلها مما أدى لإستمرار الاحتلال الإسرائيلي حتى يومنا هذا . ▪︎ تقويض حق الشعب الفلسطيني بالحرية والإستقلال وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف تنفيذا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى راسها قرار رقم ١٨١ وعشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومنها قرارات ٢٤٢ و٣٣٨ و ٢٣٣٤ . ▪︎ حرب الإبادة والتطهير العرقي المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وما ادت إليه من تدمير شبه كامل للقطاع وتهجير قسري متكرر تحت طائلة القتل لحوالي ٩٠ % من سكان القطاع مترافق مع حرمان من مقومات الحياة الأساسية والإنسانية من سكن وغذاء ودواء ومياه نظيفة وكهرباء وضغط وتعذيب باشكاله الجسدية والنفسية إضافة إلى إيقاع ما يزيد عن مائتي الف شهيد ومصاب وفرض حصار شامل بما يعنيه كل ما سبق من تصنيف قانوني دولي بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة وتطهير عرقي بعموم اراض الدولة الفلسطينية المحتلة والمعترف بها دوليا وإن كانت تلك الجرائم حتى الآن بوتيرة اقل وحشية وعنفا . إستمرار النكبة : إستمرار نكبة الشعب الفلسطيني على مدار ثمان عقود دون إيجاد اي أفق حقيقي لحل الصراع بشكل عادل وفق ليس الحق التاريخي للشعب الفلسطيني بوطنه وإنما وفق القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن ١٨١ و١٩ / ٦٧ / ٢٠١٢ و ١٠ / ٢٤ الذي حدد ١٢ شهرا أمام إسرائيل لإنهاء إحتلالها لأراض الدولة الفلسطينية المحتلة والمعترف بها دوليا ولقرارات مجلس الامن المختلفة ومنها ٢٤٢ و٣٣٨ و٢٣٣٤ و٢٧٣٥ يعود لعاملين رئيسيين : الأول : الإنحياز الأمريكي الأعمى للكيان الإستعماري الإسرائيلي وتزويده بكل وسائل القوة العسكرية والسياسية والإقتصادية والتكنولوجية وتمكينه الإفلات من المساءلة والعقاب . الثاني : عدم إضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته والإنتصار لمبادئ وأهداف الأمم المتحدة وميثاقها بترسيخ الامن والسلم الدوليين عبر إتخاذ الإجراءات والتدابير المنصوص عليها بميثاق الأمم المتحدة لإلزام إسرائيل تنفيذ فوري لقراراتها تحت طائلة فرض العقوبات التي تبدأ بالمقاطعة السياسية والدبلوماسية وصولا للعزل الكامل وتجميد عضويتها بالجمعية العامة للأمم المتحدة . في ذكرى مرور ٧٧ عاما على النكبة وأمام خطورة المخطط الإسروامريكي بتصفية القضية الفلسطينية باركانها وبتهجير قسري للشعب الفلسطيني من قطاع غزة تمهيدا للإنتقال إلى الضفة الغربية يتطلب أولا بهدف منع التهجير وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي من الدول العربية ان تبادر بالتعاون والتنسيق مع منظمة التعاون الإسلامي ودول الإتحاد الإفريقي ودول عدم الإنحياز وكافة الدول الصديقة بقطع كافة اشكال العلاقات مع الكيان الإستعماري الإسرائيلي ومع الولايات المتحدة الأمريكية وأن تعمل على تعديل ميثاق الأمم المتحدة بما يحقق اهداف ومقاصد الأمم المتحدة دون إزدواجية وإنتقائية ودون هيمنة من الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن... الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها ماض في نضاله بكافة الوسائل المكفولة دوليا بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وبدعم من احرار العالم حتى الحرية والإستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى مدنهم وقراهم التي طردوا منها عنوة عام ١٩٤٨...


جريدة الايام
منذ 6 أيام
- جريدة الايام
من بيل إلى رايت.. وصولاً إلى مصير غزة
يُعتبر علم الاجتماع، في جانب مهم منه، علماً استخباراتياً. لا أقصد بالطبع أن هذا العلم ترعاه أجهزة المخابرات في الدول، بقدر ما أقصد أنها تستفيد منه في بناء منظومتها الأمنية، ولاحقاً قراراتها السياسية. وما يضيف تأكيداً لاعتبار كهذا، هو أن علم الاجتماع يبحث، أيضاً، فيما لم يعد يعني المخابرات في لحظة ما، بمعنى أن جزءاً من مادته الأساسية، أو الخام إن صح التعبير، هو ما يتم الإفراج عنه كوثائق لم تعد سرية. التسريبات المقصودة، أي التي تتم عن قصد وتخطيط مسبق، لا تقل أهمية هي الأخرى في تجهيز موضوع البحث ووضعه على الطاولة، وذلك لقياس توجهات الرأي العام، أو حرفها، أو التلاعب بها، من أجل صناعة رأي عام جديد. هذه التسريبات وهذه الصناعة لا تقوم بها وزارة شؤون المغتربين ولا دائرة الترخيص في البلدية على كل حال، بل الأمن والاستخبارات. لفهم المغزى مما سبق، دعونا نلقِ الضوء على اسم امرأة مرّت على تاريخ وجغرافيا منطقتنا العربية، وتحديداً في الشرق الأوسط والخليج، وكان لها الأثر الكبير في صناعة خرائط المنطقة وتحالفاتها، في لحظة تاريخية كانت فاصلة بين مرحلتين وعالمين: عالم الإمبراطورية وعالم الدول القطرية. إنها الفتاة البريطانية غيرترود بيل، أو «خاتون» كما لقبوها بلغة الإمبراطورية العثمانية، أو «صانعة العراق الحديث» كما يسميها المؤرخون، أو «الجاسوسة» كما سماها الألمان. مع نهاية القرن التاسع عشر، قرر السلطان عبد الحميد الثاني، سلطان الإمبراطورية العثمانية، شق سكة حديد الحجاز، والتي تصل، كما كان مخططاً، بين دمشق ومكة المكرمة. ستقرؤون في المراجع الإسلامية أن الهدف كان اختصار وقت السفر للحجاج وتقليل معاناة الطريق، وستقرؤون لعلماء الاجتماع أن الهدف هو التوسع جنوباً، وإيجاد بُنية تحتية لنقل الجنود والتموين، خصوصاً بعد أن تقلص نفوذ الإمبراطورية في الساحة الأوروبية. البعض يقول، إن الفكرة وتمويلها إسلامي بحت، ولأهداف دينية خالصة لوجه الله، والبعض الآخر يؤكد أن الفكرة ألمانية، خصوصاً أن كبير المهندسين للمشروع الضخم هذا كان الألماني مايسنر، وأن غالبية مستشاري السلطان كانوا أصلاً من الألمان، وأن الهدف من سكة الحديد هذه، هو قطع طريق الحرير، أي الممر التجاري بين بريطانيا ومستعمرتها الأكبر في العالم، الهند. بريطانيا فهمت اللعبة وعرفت أن مصالحها مهددة، فما كان من وزير المستعمرات إلا أن اتصل بعالمة الآثار أو المستكشفة، كما كانت تعرّف عن نفسها، والمقيمة في الهند آنذاك، غيرترود بيل، وخاطبها بصيغة تشبه: «روحي شوفي شو اللي بصير»، فأجابت: حاضر. ركبت غيرترود بيل بعيرها وانطلقت من الهند باتجاه بلادنا، وكل ما فعلته لاحقاً، وهو كثير جداً، يمكن للقارئ المهتم أن يطلع عليه بكبسة زر على «غوغل»، لكن ما يهمنا هنا هو جولاتها بين القبائل العربية الممتدة من شمال سورية إلى منطقة حائل ثم إلى البصرة، ولاحقاً إلى سيناء، والكم الهائل من المعلومات المهمة عن عدد الرجال، وعن ولاءات الناس، وعن عاداتهم وما يقبلون وما يرفضون. هذه المعلومات التي كانت تزود بها الحكومة البريطانية أولاً بأول، والتي استعانت بها الأخيرة فيما بعد في مؤتمر باريس لتوزيع إرث الإمبراطورية، وفي اتفاق سايكس بيكو، ومراسلات الحسين – مكماهون والثورة العربية الكبرى، وفي تقاسم الانتداب بين بريطانيا وفرنسا، وفي ضم الموصل إلى بغداد والبصرة وإنشاء العراق الحديث. باختصار شديد، لقد ساهمت دراسات وكتب غيرترود بيل في ترسيم خريطة الشرق الأوسط وجزء من الخليج، بعد تفكك أو تفكيك الإمبراطورية العثمانية، سمّه ما شئت. ولو أردنا هنا أن نورد تساؤلاً «خارج السياق» فربما يمكننا طرحه على الشكل التالي: هل تُعد هذه المؤشرات هي ما يؤكد نصر بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى، وهزيمة ألمانيا والإمبراطورية العثمانية؟ لا شك في ذلك. يمكن للقارئ التوسع في التاريخ الاجتماعي للمنطقة وانعكاسه على التاريخ السياسي، أو للدقة.. قيادته للتحولات السياسية وتشكيل الدول ورسم الخرائط، من خلال الاطلاع على كتب غيرترود بيل أو ما كُتب عنها وخصوصاً: «رسائل غيرترود بيل»، «ملكة الصحراء.. يوميات رحلة من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل»، و»سورية.. البادية والمزروعات». مثال آخر حديث يمكن الاستعانة به هو الصحافية الأميركية المعاصرة روبن رايت وكتابها «أحلام وظلال.. مستقبل الشرق الأوسط»، ولأنني تناولت هذا الكتاب في كثير من الكتابات السابقة، سأكتفي بالقول، إنه أصبح المرجع المعتمد لسياسة الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط وإيران، وإعادة تشكيل هذه المنطقة من العالم بما يضمن مصالح الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة والممرات التجارية. وعلى سيرة الممرات فإنه لا يمكن النظر إلى ما جرى ويجري في سورية، وإلى رفع العقوبات عنها في زيارة ترامب إلى الخليج قبل أيام، إلا تحقيقاً لرؤية رايت في كتابها، وهو ما سيؤدي أخيراً إلى مد خط الغاز القطري عبر سورية إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، وذلك رغم أن هذا الخط لم يعد في مصلحة أميركا، خصوصاً بعد أن أصبحت المصدّر الأول للغاز إلى أوروبا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك بعد تسارع الاعتماد الأوروبي على الطاقة المتجددة بسبب الحرب ذاتها. وعلى سيرة الممرات أيضاً، فإن مصير قطاع غزة، كنقطة عبور في الكوريدور الهندي الأوروبي، لن يتم حسمه بوجود «حماس» كطرف أو أداة معيقة، ولا بوجود نتنياهو وحكومته كطرف متضرر من اشتراطات تنفيذ هذا الكوريدور، وعلى رأسها حل القضية الفلسطينية. لذلك فلم يأتِ ترامب في زيارته «التاريخية» على ذكر غزة إلا كمأساة إنسانية، وهو لم يلتقَ نتنياهو لذات السبب. وهذه المأساة الإنسانية لن تتوقف إلا بتهيئة البيئة للممر الدولي الكبير، البيئة التي كان بالإمكان، ولو باحتمال ضئيل، أن تتحقق بمشاركة الشعب الفلسطيني، لو أن لديه طبقة سياسية تعرف ما يدور حولها وتستطيع استغلاله لمصلحة شعبها. لكن ولأن ما لديه ليسوا أكثر من صنّاع للوهم ومروجين لشعارات غيبية عفا عليها الزمن، ولا تصلح في سوق السياسة، فقد قدموه، أي هذا الشعب، ويقدمونه يومياً على مدار سنة ونصف السنة، كأضحية مجانية مقابل اللاشيء.

جريدة الايام
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- جريدة الايام
تغيير شكل الإقليم سياسياً ووظيفياً
من حيث التتابع الزمني، يمكن القول، إن حلّ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن من تداعيات «طوفان الأقصى»، تماماً كما حصل مع «حزب الله» (الذي تدمرت مقدراته وتم تحييده)، وما حصل مع الدولة اللبنانية التي شكلت نظاماً جديداً مختلفاً عن سابقه في كل ما يتصل بأطروحات «محور المقاومة»، وبالتأكيد التغيير الأبرز كان سقوط نظام الأسد، وأيضاً إضعاف النفوذ الإيراني وضرب وتحييد أذرع إيران في العراق واليمن.. فضلاً عما حصل أساساً مع «حماس»، من حيث تدمير قدراتها العسكرية واغتيال قادتها وكوادرها وحشرها في الزاوية. وبالعودة إلى حل جماعة الإخوان في الأردن، أرى أن الموضوع أبعد وأكبر من مسألة تداعيات «الطوفان»؛ الموضوع في جوهره التغيير الذي بدأ في شكل وخرائط الشرق الأوسط، ليس بالتقسيم أو بتغيير الحدود أو بإسقاط أنظمة وتنصيب أخرى.. التغيير الأهم هو في دورها الوظيفي. أحد معالم هذا التغير محاولة إنهاء حركات الإسلام السياسي، أو محاصرتها ودفعها لتغيير أدوارها وخطابها، فقبل حل الجماعة في الأردن، كان النظام السوري الجديد قد اعتقل قياديين من الجهاد الإسلامي، وأصدر مرسوماً يقيد ويحجّم دور فصائل المقاومة، وهذا يشمل الفصائل الجهادية التي كانت جزءاً من المعارضة السورية. ومع أن النظام الجديد أتى محمولاً على قوى الإسلام السياسي الجهادي، وكما هو معلوم فإن الرئيس الشرع والعديد ممن تم تعيينهم في مناصب مهمة في الدولة هم أساساً من «الإسلام الجهادي»، أي أنهم أصوليون، بيد أن الأهم هو أن التفاهمات الأميركية الروسية التركية (ويمكن إضافة الإسرائيلية) هي التي ساعدت في ولادة النظام الجديد، وحددت له شكلاً ومضموناً ودوراً وظيفياً معيناً. وفي لبنان، وبعد إضعاف «حزب الله»، بدأت الدولة بخطوات تشبه ما أقدمت عليه سورية، من حيث تقييد وحظر أنشطة الجماعات الأصولية، وربما تسارع في إصدار قرار بحظر «حماس» و»الجهاد» من العمل والتواجد في الأراضي اللبنانية. وكانت السعودية والإمارات وموريتانيا ومصر قد أصدرت قبل سنوات قرارات بحل جماعة الإخوان وحظر أنشطتها، واعتبارها خطراً على الأمن القومي. وهنا سأقتبس من مقال للكاتب إبراهيم عجوة: «في الإطار الإقليمي، يأتي قرار حظر الجماعة في ظل مناخ عربي يتّجه، بشكل متسارع، نحو تجفيف منابع الإسلام السياسي، وإعادة تشكيله بما يتماشى مع أولويات ‹الدولة الوطنية› التي تسعى لتثبيت الاستقرار عبر أدوات السيطرة المركزية. حيث يتقاطع القرار الأردني مع مسارات إقليمية تُعيد تعريف العلاقة مع قوى الإسلام السياسي بوصفها تهديداً وليست مجرد خصم سياسي، وهو ما تجلّى بوضوح منذ سقوط حكم الإخوان في مصر 2013، ثم تصاعدت السياسات الإقصائية في الخليج، وأخيراً التطورات في غزة التي زجّت بالحركات الإسلامية في قلب صراع إقليمي حاد تتجاوز رهاناته الساحة الفلسطينية». ويضيف عجوة: «لا ينفصل قرار حظر الجماعة في الأردن عن التحولات الكبرى في وظيفة الدولة ما بعد ‹سايكس بيكو›، إذ يكشف عن انتقال متسارع من الدولة بوصفها ‹حارساً للتوازنات الاجتماعية› إلى الدولة بوصفها ‹ميسّرا› في فضاء إقليمي يعاد تشكيله خارج حدود السيادة التقليدية؛ فالدولة التي نشأت في أعقاب ‹سايكس بيكو› كانت دولة وظيفية بامتياز، أنيط بها ضبط المجال المحلي ضمن ترتيبات النظام الدولي وتجلياته في النظم الإقليمية، وهو ما جعلها تتعايش مع وتستثمر في الحركات الإسلامية طالما لم تتجاوز الخطوط الحمراء. لكن مع تبدل النظام الدولي، وتآكل منطق الدولة القومية لصالح بنى تحتية عابرة للحدود (ممرات تجارية، تنمية اقتصادية معولمة، أمن سيبراني، اقتصاد تشاركي)، تغيّرت وظيفة الدولة نفسها: لم تعد مسؤولة عن تمثيل شعب أو بناء أيديولوجيا وطنية، بل باتت ملزمة بتنسيق انسيابية المصالح الإقليمية والدولية، وتنظيم المجتمع بما يتلاءم مع ضرورات التنمية العالمية، في هذا السياق، تصبح الحركات الأيديولوجية العابرة للحدود (وفي مقدمتها الإخوان) عبئاً على وظيفة الدولة الجديدة، لا رصيداً سياسياً. فوظيفة الجماعة كحامل اجتماعي أو سياسي لم تعد متوافقة مع النسق الأمني - اللوجستي الجديد، الذي يقتضي تنميط المجال العام، وتحويله إلى فضاء منضبط، قابل للتكامل في شبكات إقليمية ترفض التسييس الديني وتخشى من الطابع العابر للسيطرة الوطنية الذي تمثله الجماعة. فحالة التعايش السابقة صارت تهديداً لأنماط التنسيق الإقليمي والدولي، فالدولة لم تعد بحاجة إلى جماعة مثل الإخوان لأنها لم تعد بحاجة إلى ‹ضبط الوعي› أو ‹تصريف الغضب› في إطار سياسي اجتماعي. بل أصبحت معنية أساساً بضبط الحيز، وضمان الامتثال، وتصفية الفاعلين غير المتناغمين مع البنية الإقليمية الجديدة التي يجري بناؤها على أنقاض ‹سايكس بيكو›. وبالتالي قرار حظر الجماعة لا يعبّر فقط عن لحظة سياسية داخلية، بل يُدرج ضمن مسار أوسع يشي بتراجع الإسلام السياسي في المنطقة، بوصفه مشروعاً أيديولوجياً وتنظيمياً كان يُعوّل عليه لوراثة الدولة الوطنية. وفي هذا السياق، فإن الضربات القاسية التي تلقتها حركة ‹حماس› بصفتها الرمزية تمثل الحلقة الأوضح في سلسلة تفكيك هذا المشروع. النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه أميركا لا يحتاج إلى خرائط مغلقة، بل إلى ممرات مفتوحة. لا يهتم بالسيادة بقدر ما يهتم بالكفاءة التشغيلية. ومن هنا، تظهر قواعد الاشتباك الجديدة، ويتجلّى ذلك في الانتقال من الدولة إلى الوظيفة والممرّ؛ فأميركا ترى دول الشرق الأوسط اليوم مجرد بنى تحتية وليست دولاً. العراق ممرّ طاقة لا جمهورية. سورية ساحة توازنات لا كيان سيادي. لبنان منصة مالية هشّة لا جمهورية ديمقراطية. إسرائيل عقدة ذكية ونقطة عبور، والخليج محطة تمويل، والأردن عقدة عبور، ومصر منفذ بحري وبهذا، تصبح وظيفة الدولة أهم من شكلها، ويُعاد توزيع الكيانات وفقاً لموقعها في سلاسل الإمداد لا كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة». (انتهى الاقتباس). محددات ومعايير النظام الدولي الجديد مختلفة كلياً عن السابق؛ صارت نقاط القوة تعتمد على الاقتصاد المعولم، والأمن السيبراني، والممرات التجارية، وسلاسل الإمداد، والطاقة.. والهدف: الانتصار في الحرب التجارية.. الفاعلون: الدول الكبرى التي ترى في الآخرين مجرد سوق لتصريف منتجاتها.. الخصوم ميليشيات وجماعات مسلحة.. أما المشاريع المطروحة فأهمها: تنفيذ طريق الهند الإمارات فلسطين، وشق قناة بن غوريون، والسيطرة على حقول الغاز ومنابع النفط.. وهذه تُدار بعقلية تاجر عقارات، بمساعدة قوى اليمين الصهيوني وأطماعها التوسعية.