
يهود الغرب يقلبون الطاولة على إسرائيل
تبدو الإجابة عن الشق الأول من التساؤل حاضرة، ألا وهي عدم قدرة هذه الحركة- أو "جماعة ناطوري كارتا" الرافضة لقيام إسرائيل أصلًا، و"اتحاد يهود أوروبيين من أجل سلام عادل"، وغيرها، وكذلك كثير من أفراد بارزين من اليهود في المجتمعات الغربية الرافضين لـ "الإبادة الجماعية"- على إحداث تأثير مادي قوي في قرار نتنياهو، ومن معه من السياسيين اليمينيين المتطرفين في إسرائيل.
لكن موقفها لا يخلو من تأثير معنوي ورمزي يتعدى نطاق الحكومة الإسرائيلية الحالية، ليصل إلى فتح باب نقاش، ولو خجولًا في البداية، حول المشروع الإسرائيلي الجديد الذي يقوم على البطش والهيمنة، ومحاولة فرض كل شيء على العرب بالقوة العسكرية السافرة.
واتكاء على "النموذج الألماني"، فما تؤديه هذه الحركات المصرّة على مواصلة التظاهر ضد إبادة الفلسطينيين رغم القمع الشديد التي تتعرض له على يد حكومات غربية، يؤثر في عدة اتجاهات، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 ـ وضع قضية "معاداة السامية" محل تساؤل، بعد عقود من اعتبارها واحدة من المسلّمات الأساسية في المجتمعات الغربية.
فها هي إيريس هيفتس رئيسة الجمعية تشكو في سخرية من الألمان غير اليهود، الذين يستغلون مسألة "معاداة السامية" في تحقيق مكاسب سياسية وشخصية، وتقول: "يريدون أن يعلمونا ما هي معاداة السامية".
ثم تنتقل إلى نقد السلطة نفسها من هذا الباب، فتقول: "السلطات الألمانية تنشر الرواية الإسرائيلية حول معاداة السامية، وتخلط بشكل منهجي بين اليهود وإسرائيل.. الوسم الجماعي لأيّ تصرفات أو مشاعر معادية لإسرائيل بمعاداة السامية، يعرّض حياة اليهود للخطر".
ورغم أن هذا الصوت خافت قياسًا بالموقف الرسمي الألماني، وما يقوم به "المجلس المركزي لليهود" الذي جمع التبرعات لصالح الجنود الإسرائيليين في الحرب، فإن مجرد خدش التصور المصمت والثابت حول "معاداة السامية" على يد جمعية وأفراد من اليهود، وليس من أتباع أي ديانة أخرى في الغرب، سيجد صدى لدى أوساط اجتماعية خارج المجموعات اليهودية، قاطعًا المسار الذي سبق أن سلكه الكثير من التصورات والأفكار والرؤى في الغرب، حيث بدأت معزولة ومحاصرة ومقموعة، لكنها لم تلبث دوائرها أن اتسعت بمرور الوقت.
2 ـ لفْت النظر إلى ضرورة فك الارتباط بين "الدين اليهودي" و"الصهيونية"، فالأخيرة مجرد تصور أو أيديولوجيا علمانية، لا ينفك مقصدها الأساسي عن المشروع الاستعماري، لكنها وظفت النص والتاريخ اليهودي لصالحها.
وقد استفادت إسرائيل من هذا الدمج في الدعاية والتعبئة، وجلب تعاطف الغربيين، وتلقي منحهم وعطاياهم وتبرعاتهم.
فجمعية "الصوت اليهودي" لم تتأخر في إعلان موقفها عقب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مباشرة، وسارعت إلى رفض أن يكون العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين تحت لافتة الدفاع عن اليهود أو باسمهم، فرفعت شعار: "ليس باسمنا"، وهو الشعار نفسه الذي رفعته جمعيات وحركات شبيهة في الولايات المتحدة الأميركية.
ويمكن النظر في هذا المقام إلى الأزمة التي تعيشها الصهيونية وتدور حول أربعة أشياء، حسب عبدالوهاب المسيري: إشكالية الديني والعلماني، وأزمة الهوية، ومشكلة التسكين أو الاستيطان، وتفكك الإطار الفكري؛ بسبب النزعات الاستهلاكية والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة.
وقادت هذه الأزمة، في خاتمة المطاف، وفي ذروة نضجها، إلى ظهور تيار ما بعد الصهيونية، Post-Zionism.
ورغم أن أطروحات ما بعد الصهيونية، لم تقدم تصورًا متماسكًا إلى الآن، ولم تنجُ من "التناقض الثقافي" أو "الفصام" أحيانًا، أو تصنع قطيعة مع أفكار الصهيونية وتاريخها، أو تنفذ إلى السياسات الإسرائيلية بشكل فعال، فإنها استندت إلى رؤية مختلفة نسبيًا عن الصهيونية، وكشفت عن إفلاسها أو عجزها عن المحافظة على حيويتها، أو حلها لإشكالية التلفيق بين عناصر تزعم الجمع بينها مثل التقليدية والخصوصية القومية والعالمية والتحديث والدين والعلمانية.
ومع أن بعض المنتمين إلى هذه الفكرة- التي يندرج تحتها من يوصفون أحيانًا بأنهم "المنفيون وسط اليهود"- يتراجعون عن مواقفهم المعلنة، وبعض تفكيرهم تباعًا، فإن رد الفعل الإسرائيلي القوي عليها يؤكد أهميتها، وأنها قضية ليست تافهة.
فقد مارست السلطات الإسرائيلية كل ما تستطيعه من قيود مادية، وتشويه معنوي، في سبيل حصار تيار "ما بعد الصهيونية"، على قلة المنتمين إليه، لكن الجدل الذي أثارته الفكرة انتقل إلى اليهود في الخارج، بما في ذلك المنظمات أو اللوبيات الموالية لإسرائيل، وكان جزءًا من حجيته في التأثير تفاعلُه مع بعض أطروحات الليبرالية حول التقليل من الدور الذي تلعبه الإثنيات في تحليل الدولة القومية في الديمقراطيات الغربية.
ويغذي موقف اليهود الرافضين للعدوان الإسرائيلي على غزة، بمرور الوقت، أطروحة تيار "ما بعد اليهودية"، الذي ظهر منذ سبعينيات القرن العشرين، ويقدم رؤية نقدية لتعامل الدولة الإسرائيلية مع الأقليات مثل العرب واليهود الشرقيين (السفارديم).
وهو يحاول تبديل "اليهودي الوطني" ضيق الأفق، بـ "الرجل العالمي" المستنير، الذي ينظر إلى الدولة اليهودية باعتبارها ظاهرة قديمة ومكروهة وتخريبية، بمعاداتها العلمانية، وينقد الأطروحات الدينية الجامدة، التي تتعامل مع العلمانيين، في سعيهم إلى بناء الدولة، على أنهم مجرد "مطية" يركبها المتدينون ليصلوا إلى هدفهم الأسمى، وهو الاستيلاء على الدولة، وتجهيزها لمجيء المسيح.
3 ـ ممارسة ضغوط معنوية شديدة على السلطة السياسية، إثر فضح ازدواجيتها، فهي في الوقت الذي تعلن فيه احترامها للحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير، تمارس تضييقًا شديدًا على منتقدي إسرائيل، وهي مسألة لخصتها صورة لشرطة برلين وهي تحاصر ناشطة في جمعية "الصوت اليهودي" ترفع لافتة مكتوبًا عليها: "كوني يهودية وإسرائيلية.. أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة".
4 ـ يقود موقف الجمعيات اليهودية الرافضة للحرب إلى فضح التحيز الإعلامي الغربي لإسرائيل، وتسليط الضوء على إلغاء الأصوات الفلسطينية في ألمانيا، وهي مسألة تم الانتباه إليها مبكرًا، لا سيما بعد محاولة إسكات أصوات فلسطينية أو متضامنة مع فلسطين بين رواد عالم الثقافة والفن، بإلغاء التعاون معهم لإلقاء محاضرات، أو تنظيم ندوات وفعاليات ومعارض، أو إجبارهم على ترك أعمال ووظائف، وإلغاء تعاقدات مبرمة.
وبالطبع، فإن نقدًا تقوم به جمعية يهودية للإعلام الألماني، الأكثر تحيزًا لإسرائيل في الغرب كله، والأكثر قمعًا لأي صوت ينتقدها، لن يخلو من تأثير في دوائر ثقافية واجتماعية غربية بمرور الوقت، وينبهها إلى أن السردية الإسرائيلية- وما يتساوق معها- ليست بالضرورة هي الحقيقة، وهي مسألة غاية في الأهمية، قياسًا بما كسبته إسرائيل من ميل الإعلام الغربي إليها عبر عقود من الزمن.
ويمكن أن نضرب مثلًا واضحًا على هذا بالضجة التي أثارها مقال لكاتبة ألمانية يهودية معروفة؛ هي ديبورا فيلدمان، نشرته في صحيفة "الغارديان" البريطانية، بعنوان: "ألمانيا هي مكان جيد لتكون يهوديًا. إلا إذا كنت، مثلي، يهوديًا تنتقد إسرائيل"، منتقدة فيه الانتقائية التي يمارسها الإعلام الألماني حيال العدوان الإٍسرائيلي على غزة، وهي مسألة يمارسها إعلام مقروء ومسموع ومرئي وإلكتروني في الغرب بشكل عام.
هنا، يمكن النظر إلى الحالة الألمانية باعتبارها جزءًا من حالة غربية عمومًا، حيث ظهرت قطاعات كثيرة من اليسار الجديد في الغرب تعادي إسرائيل، بمن فيهم عدد كبير من الشباب اليهودي الساخط على قيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، الذي تمثله الدولة الصهيونية في العالم الثالث.
كما أن الأفكار التي يتبناها الملحدون واللادينيون لا تلتزم بالوعد التوراتي لليهود، ولا يشغلها التلازم بين العهدين القديم والجديد الذي ولدت في ركابه "المسيحية الصهيونية"، وبات عليها مساندة إسرائيل من منطلق عقائدي.
بل على العكس من ذلك مالَ هؤلاء، في ظل النزوع الإنساني في دنيويته وراهنيته، إلى مقت كل نصوص أو تأويلات أو تفسيرات أو سياقات دينية من شأنها إذكاء العنصرية والكراهية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 39 دقائق
- الجزيرة
عشرات الشهداء والجرحى بغارات الاحتلال على غزة
استشهد وأصيب عشرات الفلسطينيين اليوم الثلاثاء بغارات إسرائيلية على مناطق متفرقة في قطاع غزة ، مع تواصل حرب الإبادة الجماعية لليوم الـ648. وأفاد جهاز الإسعاف والطوارئ باستشهاد 5 أشخاص فجر اليوم في قصف إسرائيلي على منزل في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة. وقال مراسل الجزيرة إن غارات إسرائيلية استهدفت محيط مسجد الشمعة بحي الزيتون جنوبي مدينة غزة. كما أفاد مصدر في مستشفى القدس باستشهاد 12 فلسطينيا وإصابة أكثر من 30 آخرين، بينهم حالات حرجة، في قصف إسرائيلي استهدف منزلًا يعود لعائلة عزام في حي تل الهوى. وفي دير البلح وسط القطاع، أفاد مصدر طبي بمستشفى شهداء الأقصى باستشهاد 3 فلسطينيين وإصابة آخرين إثر قصف إسرائيلي استهدف مجموعة من المواطنين وسط مدينة دير البلح. وجنوبا، أكد مصدر في مستشفى ناصر باستشهاد 10 فلسطينيين معظمهم من الأطفال، وإصابة آخرين في قصف إسرائيلي استهدف خياما للنازحين في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. ووصف المصدر الطبي حالة عدد من المصابين بالخطرة. وأمس الاثنين، استشهد 62 فلسطينيا بالغارات الإسرائيلية على غزة. السيطرة على غزة من جانب آخر، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ، إن إسرائيل لا تنوي السيطرة على غزة على المدى الطويل. وأضاف ساعر، في تصريحات ليورونيوز، أن مخاوف إسرائيل بشأن غزة أمنية فقط ولا نية لديها للسيطرة على القطاع مستقبلا. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي إن حماس لا يمكن أن تكون جزءا من مستقبل غزة، وإنه إذا كانت الحركة مستعدة لإلقاء سلاحها ونزعه فيمكن القيام بذلك عبر مسار دبلوماسي. من جانبه قال رئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- إنه يوافق على صفقة التبادل فقط إذا كانت جيدة وأنه لن يقبل ما سماها الصفقات السيئة. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية بغزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها. وخلفت الإبادة أكثر من 197 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم عشرات الأطفال.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
جيل الاتفاق النووي بإيران بين رحى الخيبة وضريبة العقوبات
طهران- صادف الاثنين 14 يوليو/تموز الجاري الذكرى العاشرة لتوقيع الاتفاق النووي الإيراني ، الذي أُعلن عنه بوصفه خطوة تاريخية نحو نزع التوتر وفتح آفاق جديدة للاقتصاد الإيراني. لكن قبل شهر فقط، تعرضت إيران ل هجوم عسكري إسرائيلي بمشاركة أميركية ، وكان البرنامج النووي أبرز الذرائع لتبرير هذا التصعيد. وكان لهذا تأثير على جيل نشأ بين أروقة الاتفاق وأزمات الحرب، واستمرار معاناته. كان يوم 14 يوليو/تموز 2015 لحظة تؤشر لفجر جديد لإيران واقتصادها ومجتمعها، خصوصا لجيل الشباب الذي نشأ في ظل العقوبات والتوترات، وتربى على وعود الانفتاح والسلام، لكن الحلم تبخر بعد عقد من الزمن، وبات كثير من هؤلاء الشبان ينظرون إلى تلك اللحظة كسراب سياسي لم يفضِ إلا إلى الإحباط، والكساد الاقتصادي، وشعور عام بالخذلان والانفصال عن الدولة والمجتمع الدولي. يقول أستاذ الاقتصاد إيزاك سعيديان إن الاتفاق النووي في بداياته منح الاقتصاد الإيراني بعض الاستقرار النسبي، واستعادت العملة الوطنية شيئا من قيمتها، وعبّرت عديد من الشركات الأوروبية عن استعدادها لدخول السوق الإيراني، مما أعطى انطباعا عاما بأن مرحلة الانفتاح قادمة. لكن تلك الطموحات -كما يوضح سعيديان للجزيرة نت- اصطدمت بالواقع سريعا، مع انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق بشكل أحادي خلال فترة حكمه الأولى، مما أدى إلى موجة جديدة من العقوبات التي أرعبت الشركات الدولية وأغلقت أبواب الاستثمار الأجنبي. ويضيف سعيديان أن الريال الإيراني فقد نحو 20 ضعفا من قيمته مقابل الدولار منذ انسحاب الولايات المتحدة عام 2018، في حين سجّل التضخم قفزات كبيرة، وارتفعت مؤشرات البطالة، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما انعكس سلبا على فئة الشباب التي كانت تأمل بجني ثمار الاتفاق. إعلان وقال إن القطاعين العام والخاص كانا يأملان أن يقطف الاقتصاد الإيراني ثمار الاتفاق، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق، وخلّف الأمر خيبة أمل حقيقية. أما أستاذ علم الاجتماع السياسي محمد علي صنوبري، فيرى أن السنوات العشر الماضية شكّلت "عقدا من تفويت الفرص والخسائر المتراكمة نتيجة الرهانات السياسية الخاطئة". ويضيف صنوبري -للجزيرة نت- أن جزءا من المجتمع الإيراني وثق بنخب سياسية اتبعت نهجا "عاطفيا مبالغا في الاعتماد على الغرب"، وهو ما أدى إلى انحراف المسار الوطني، وتعطيل التنمية، وزرع عقلية الانتظار في المجتمع، لا سيما بين الشباب. ويضيف أن الخسارة لم تكن فقط اقتصادية، بل نفسية واجتماعية، فهناك جيل كامل دخل الحياة العامة منذ عام 2009، وتكوّن وعيه في ظل هذه الصراعات، "عاش إحباطا مستمرا، ووجد نفسه في بلد يعاني البطء في التنمية، والانقسام السياسي، والقلق من المستقبل". ويحمّل صنوبري جزءا من المسؤولية للقطيعة مع صناديق الاقتراع، وقال إن "كثيرين قاطعوا الانتخابات احتجاجا، لكنهم الآن يشتكون من ضعف الموقف السياسي الوطني. لا يمكن أن نبتعد عن القرار، ثم نلوم من يتخذه". جيل بلا أفق داخل قاعات جامعة طهران، تتردد أحاديث الخيبة على ألسنة طلاب وطالبات عاشوا في طفولتهم أحلام الاتفاق النووي أو "البرجام" كما يطلق عليه محليا، وشهدوا انهياره في مراهقتهم، ثم دخلوا الجامعة في ذروة أزماته. يقول أمير حسين، طالب دراسات عليا في الاقتصاد، إن الاتفاق النووي كان لحظة أمل، لكن سرعان ما تحوّلت إلى خيبة وجودية، "كنا نعتقد أن العالم سيفتح ذراعيه لنا، وأننا سنكون جزءا من السوق العالمية، لكنّنا وجدنا أنفسنا نُطارد الدولار، ونحسب كل قرش". تأتي نورا، طالبة هندسة، لتعبر عن وجهة نظر مختلفة "بالنسبة لي، الاتفاق النووي كان خطوة تاريخية نحو عالم أكثر انفتاحا. لقد كان بإمكانه أن يغيّر مسار الاقتصاد الإيراني ويحسن حياتنا، لكن انسحاب الولايات المتحدة والضغط الدولي جففا هذه الفرصة. ليس الخطأ في الاتفاق نفسه، بل في إخلال الأطراف الدولية بتعهداتها". وتضيف نورا أن "جيلنا لم يخسر بسبب الاتفاق، بل بسبب الظروف السياسية التي جعلت الاتفاق هشا". أما مريم، طالبة علاقات دولية، فتؤكد أن الانهيار الاقتصادي رافقه شعور أعمق بانهيار الثقة في المجتمع الدولي، وتقول إن "الغرب انسحب دون أن يدفع ثمنا، وأوروبا صمتت، والحكومة لم تفعل كثيرا لحمايتنا. أشعر أن جيلي كان مجرد ضحية لصراع أكبر منه". بدوره، يقول طالب الهندسة علي إن أغلب زملائه "باتوا مهووسين بالهجرة، لا لأنهم لا يحبون بلدهم، بل لأنهم فقدوا الشعور بأن لهم مكانا في مستقبله". بين القنبلة والتفاوض وفي سؤال عن موقفهم من الملف النووي نفسه، ينقسم الشباب بين من يرى أن امتلاك القنبلة النووية قد يكون "الضامن الوحيد" لردع التهديدات الخارجية، كما عبّر سهيل، طالب الفيزياء، وبين من يرفض هذا الخيار جملة وتفصيلا. تقول سحر، طالبة علم الاجتماع، إن "السلاح النووي لن يحل أزماتنا الداخلية، ولن يعيد لنا ثقة المستثمرين أو الأمل بالوظائف. نحتاج إلى تفاوض جديد، لكن دون وهمٍ، ودون تسليم مفتاحنا للآخرين". وتعود مريم لتقول "نحن جيل لا يثق بأحد، لا في السياسيين ولا في الغرب ولا في الإعلام. نعيش في منطقة رمادية، حيث كل شيء مؤقت، وكل أمل مشروط". ورغم ذلك، فلا يغيب عن هذا الجيل حس الواقعية، وكما يقول أمير "لسنا متفائلين، لكننا أيضا لسنا مستسلمين، نحتاج فقط إلى رؤية سياسية تفهم لغتنا، وتخاطب همومنا، لا شعارات الماضي". هذه الشهادات ليست مجرد كلمات، بل يعتبر كثيرون في إيران أنها تُعبّر عن حاجة لإعادة بناء الثقة بين الدولة وشبابها، وبين إيران والعالم.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
الأجدر بجائزة نوبل أكثر من ترامب
في أحدث فصول مسابقة؛ "لا يمكن اختلاق هذا الهراء" في السياسة والدبلوماسية العالمية، رشّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام. بعبارة أخرى، الشخص الذي يشرف حاليًا على الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة، اقترح أن تُمنح أرفع جائزة عالمية في إحلال السلام للشخص الذي يُعد الممكّن الرئيسي لتلك الإبادة- الرجل الذي أعلن في مارس/ آذار أنه "يرسل لإسرائيل كل ما تحتاجه لإنهاء المهمة" في غزة. وشمل ذلك "الكل" مليارات الدولارات من الأسلحة الفتاكة والمساعدات الأخرى. منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى الآن، قُتل رسميًا ما يقارب 60 ألف فلسطيني في هذا القطاع الصغير، رغم أن العدد الحقيقي للضحايا أكثر بلا شك نظرًا لوجود عدد كبير من الجثث المفقودة تحت الأنقاض المنتشرة في كل مكان. وقد قُتل أكثر من 700 فلسطيني خلال الأسابيع الأخيرة أثناء محاولتهم الحصول على الطعام في مواقع توزيع المساعدات التي تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي منظمة مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل معًا. ومنذ عودته إلى منصبه في يناير/ كانون الثاني، لم يقصّر ترامب في ممارسة أفعال بعيدة كل البعد عن السلام، مثل قصف المدنيين في اليمن دون تمييز، وشن هجمات غير قانونية على إيران. في الواقع، من العجيب أن وسائل الإعلام استطاعت أن تنقل نبأ ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام بصورة جادة. فعلى سبيل المثال، تلاحظ قناة CNN أن "الجائزة أصبحت هوس ترامب الأقصى، الذي يقول إنها مستحقة بجدارة نظرًا لجهوده في إنهاء الصراعات حول العالم". وقد أُبلغ ترامب بترشيحه يوم الاثنين، عندما زار نتنياهو البيت الأبيض لتناول العشاء، في ثالثة زيارة له إلى واشنطن هذا العام. وبعد أن شكر نتنياهو على الشرف، قال ترامب: "واو… أن تأتي منك أنت بالتحديد، فهذا أمر له مغزى كبير". ورغم أن "له مغزى" قد يكون وصفًا ملائمًا من وجه ما، فإن هذا التعبير لا يُعبّر تمامًا عن مدى عبثية هذا الترتيب كله. ومع ذلك، ليس الأمر كما لو أن جائزة نوبل للسلام تتمتع بسجل ناصع فيما يخص التقيّد بشرط منحها لمن "قام بأفضل أو أكبر عمل في سبيل الأخوّة بين الأمم، أو إلغاء أو تقليص الجيوش القائمة، أو عقد وتعزيز مؤتمرات السلام". ففي عام 2009، مُنحت الجائزة المرموقة لرئيس الولايات المتحدة الجديد آنذاك باراك أوباما، الذي واصل تعزيز "الأخوّة" الدولية عبر قصف أفغانستان، وباكستان، وليبيا، واليمن، والصومال، والعراق، وسوريا. كما أدار أوباما "قوائم قتل" سرية، خوّل نفسه من خلالها صلاحية تنفيذ اغتيالات عسكرية خارجية حسب أهوائه الشخصية. ومن بين المستفيدين الآخرين من جائزة نوبل للسلام كان رئيس كولومبيا اليميني السابق خوان مانويل سانتوس، الذي ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في عام 2013 أنه "يفتخر" بأن بلاده تُدعى "إسرائيل أميركا اللاتينية". وخلال عمله وزيرًا للدفاع في عهد الرئيس السابق الدموي ألفارو أوريبي، تورّط سانتوس في فضيحة "الإيجابيات الكاذبة"، التي شهدت مقتل ما يُقدّر بأكثر من 10 آلاف مدني كولومبي على يد الجنود، الذين قدّموهم لاحقًا على أنهم "إرهابيون". وبالنظر إلى براعة إسرائيل في ذبح المدنيين تحت شعار محاربة "الإرهاب"، فإن المقارنة بين البلدين كانت ملائمة تمامًا. وماذا تعرف؟ قائمة الحائزين جائزة نوبل للسلام تشمل أيضًا السياسي الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز، الذي فاز بها مناصفة في عام 1994- قبل عامين فقط من إشرافه على مذبحة 106 لاجئين كانوا يحتمون بمجمّع تابع للأمم المتحدة في قانا بلبنان. وفي عام 2021، رُشح صهر ترامب جاريد كوشنر لجائزة نوبل للسلام على يد الأستاذ السابق في كلية الحقوق بجامعة هارفارد آلان ديرشوفيتز، الذي كرس جزءًا كبيرًا من مسيرته القانونية لتبرير قتل إسرائيل المدنيين العرب. وفي هذه الحالة، استند ترشيح كوشنر إلى دوره البارز في إنتاج "اتفاقيات أبراهام" التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية. والآن بعد أن أصبح التطبيع مع الإبادة الجماعية أمرًا معتادًا، اقترح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة، وتُجلي بالقوة سكانه الفلسطينيين الأصليين، وتحوّله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" الجديدة. على أي حال، كل هذا مجرد جزء من المهام اليومية لمرشح لجائزة نوبل للسلام. وفي تغطيتها اللقاء في واشنطن- بعنوان: "نتنياهو يفاجئ ترامب بترشيح نوبل بينما يناقش الزعيمان إجلاء سكان غزة"- ذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن "نتنياهو قال إن الضربات الأميركية والإسرائيلية ضد إيران قد غيّرت وجه الشرق الأوسط، وخلقت فرصة لتوسيع اتفاقيات أبراهام". فبالنهاية، لا شيء يُعبّر عن "الأخوّة بين الأمم" أكثر من إزالة فلسطين بالكامل. وفي تأمله للهجوم المفرط على إيران الذي نال بسببه ترشيح جائزة السلام، قارن ترامب فعله بإيجابية بقرار الرئيس الأميركي هاري ترومان، إلقاءَ قنابل نووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين خلال الحرب العالمية الثانية. ومن البديهي القول إن أي شخص يستحضر بإيجابية قصف مئات الآلاف من المدنيين بالقنابل النووية، يجب أن يكون غير مؤهل على الإطلاق لنيل أي نوع من الجوائز المرتبطة بالسلام. لكن في عالم يُستخدم فيه السعي الظاهري نحو السلام ذريعةً للمزيد من الحروب، فقد يكون ترشيح ترامب ذا "معنى كبير"، بالفعل.