سجن رومية: من مؤسسة للإصلاح إلى معضلة الإدمان والإهمال
في ما بدا أنّه جرسُ إنذارٍ جديد، أعاد موتُ السجينِ الفلسطينيّ توفيق أبو الزهور مساءَ 30 نيسان في سجنِ روميّة المركزيّ فتحَ ملفّ المخدّرات والرعاية الصحيّة في السّجون اللبنانيّة. تُظهِر الوقائع والشهادات أنّ السّجن الأكبر في البلاد تحوَّل من مكانٍ لـ"الضبط والإصلاح" إلى مسرحٍ مفتوحٍ للاكتظاظ والإدمان والإهمال الطبّي، وهي ظواهر تُهدِّد حياةَ آلاف الموقوفين وتُلقي على السلطاتِ مسؤوليّةً عاجلةً لمعالجتها.
تؤكّد شهادات رفاق الزنزانة الذين تواصلت معهم "المدن" أنّ أبو الزهور (42 عامًا) ناشد مرارًا نقلَه إلى المستشفى بعدما بدأ يتقيّأ دمًا ويعاني استسقاءً في البطن، لكنّه اتُّهم بـ"الادّعاء". وبعد ساعاتٍ قليلةٍ نزف كميّاتٍ كبيرةً من الدمّ قبل أن يلفظ أنفاسَه في المستشفى. وليست الحادثةُ الأولى؛ فقد تضاعفت وفيّاتُ الموقوفين في السجون التابعة لوزارة الداخليّة بين عامَي 2018 و2022، على خلفيّةِ التراجعِ الاقتصاديّ ونقصِ الأدوية.
روايات ما بعد الوفاة اختلفت؛ فإحداها تقول إنّ الرجل "تقيّأ كبده" بفعل تدهورٍ خطير، وأخرى تتحدّث عن جرعة مخدّرات مميتة، بينما تشير ثالثة إلى تفاعلٍ قاتلٍ بين الكحول وخليط مُخمَّر من قشر الليمون والتفاح بالسكّر. أياً تكن الرواية الصحيحة، فإنّ الجميع يتفق على أمرٍ واحد: السّجن الذي يُفترض أن يكون بيئةً للضبط صار سوقًا مفتوحًا للمخدّرات، بل منصةً لتفاقم الإدمان. سجناء دخلوا بقضايا بسيطة يخرجون أكثر تعلّقًا بالمواد، وآخرون لا يخرجون إطلاقًا بعدما تنتهي حياتهم بجرعةٍ زائدة أو إهمالٍ طبيّ.
شبكات المخدّرات في روميّة والقَبّة
وإن كان روميّة عنوانَ الأزمة الأشهر، فإنّ سجنَ القَبّة في طرابلس يشهد واقعًا مماثلًا. تتحدّث مصادرٌ مطلعة عن انتشار الحشيش، والترامادول، والبنزيكسول، والكبتاغون، والريفوتريل، إضافةً إلى مادّة "PIP" (Lysergic acid piperidide) التي تُباع الحَبّةُ الواحدةُ منها بثمانيةِ ملايينَ ليرة، ويُذيـبها السجناءُ بنصفِ حَبّةٍ في ماءٍ ساخنٍ ثمّ يحقنونها في الوريد.
وتتمّ عمليّاتُ التهريب، بحسبِ مصادرَ أمنيّةٍ تحدّثت إليها "المدن"، إمّا بتواطؤ عناصرَ أمنيّةٍ أو بإجبارِ سجناءَ على حمل الموادّ أثناء نقلهم إلى المحاكم، ما يَخلق نظامًا يقوم على القوّة و"فرْضِ الخوّة" داخل العنابر.
بني سجن روميّة لاستيعاب نحو 1500 نزيل، لكنّه يضمّ حاليًّا ما يقرب من 4000، أي أكثر من ثلاثةِ أضعافِ طاقته الاستيعابيّة. ومع أنّ القدرةَ الرسميّةَ لكلّ السجون اللبنانيّة لا تتجاوز 4760 سجينًا، فإنّ نسبةَ الإشغال تخطّت 300 ٪ في بعض المراكز. ويقع نحو 87٪ من النزلاء في توقيفٍ احتياطيّ بلا أحكامٍ نهائيّة، وهو رقمٌ قياسيٌّ عالميّ يعزوه الحقوقيّون إلى الإضراباتِ القضائيّة ونقصِ آليّاتِ النقل وتعطّلِ المحاكم أثناء جائحةِ "كورونا".
تدهورُ التغذية والرعاية الصحيّة
تفيد تقارير حقوقيّة بأنّ الطعامَ والدواءَ باتا يُوزَّعان "بالتقسيط" بسبب تراكم ديون الدولة للمورِّدين. أمّا أزمةُ الأدوية الوطنيّة، الّتي فاقمها نقصُ العملاتِ الأجنبيّة، فتنعكس مباشرةً داخل الزنازين؛ إذ يتشارك النزلاءُ المضادّاتِ الحيويّة وأدويةَ الضغط والسُكَّري أو يَقطعونها كليًّا. ونتيجةً لهذه الفجوات، عاودت الأمراضُ الجلديّة، والتهاباتُ المسالكِ البوليّة، والكوليرا، وكوفيد-19 الانتشارَ سريعًا في بيئةٍ تفتقر إلى الأسرّةِ النظيفة، ويضطرّ بعضُ النزلاء إلى النومِ بالتناوب على الأرض.
تُلقي وزارةُ الداخليّة باللائمة على "ضعف الميزانيّة"، فيما يُحمِّل أمنيون القضاءَ مسؤوليّةَ التأخير في المحاكمات، ويشير ناشطون إلى تواطؤ بعضِ الحرّاس مع شبكات التهريب. وقد أدّى الإهمالُ من قبلُ إلى حوادثِ مأساويّةٍ أخرى، مثل حريقِ سجنِ زحلة في تشرينَ الأوّل 2023، الذي أودى بحياةِ ثلاثةِ سجناء وأصاب 16 آخرين بعد محاولةِ فرارٍ جماعيّة، إضافةً إلى وفيّاتٍ غامضةٍ في روميّة أرجعها بعضُهم إلى "فيروس" غيرِ معروف، فيما لم تستبعد الإدارةُ جرعاتٍ زائدة.
موتُ أبو الزهور ليس حادثةً معزولةً؛ فقد سبقتها وفيّاتٌ عدّة يُشتبه بأنّها نتيجةُ جرعاتٍ زائدة أو إهمالٍ في التشخيص. ومع غيابِ تشريحٍ رسميّ سريعٍ وشفّاف، يظلّ كلُّ حادثٍ مادّةً لشائعاتٍ تتضخّم في الزنازين بلا أجوبةٍ حاسمة. في المقابل، تتقاذف الجهاتُ الرسميّةُ المسؤوليّةَ بين ضعفِ الميزانية، والاكتظاظ، وعدمِ توافر البنى التحتيّة اللازمةِ للطبابة، فيما يُحمِّل ناشطون ومساجين التواطؤَ الداخليّ وغيابَ الرقابة الدورَ الأكبرَ في تدهور الوضع.
تتضمّن مقترحاتُ الإنقاذ تسريعَ المحاكمات عبر تفعيلِ المحاكماتِ الإلكترونيّة وزيادةِ جلساتِ المداورة لخفضِ توقيفاتِ ما قبلَ المحاكمة، وفتحَ ممرٍّ إنسانيٍّ للدواء بميزانيّةٍ مستقلّةٍ وبإشراف لجنةٍ طبيّةٍ خارجيّةٍ تراقب الصرف وتؤمّن الحدَّ الأدنى من العلاجاتِ الأساسيّة، وتضييقَ قنوات التهريب بتقنيّاتِ مسحٍ إلكترونيّ للزائرين والعناصر على حدٍّ سواء، واعتماد وحدات كلابٍ مُدرَّبةٍ، وبدائلَ عقابيّةً لمتعاطي المخدّرات غيرِ المتورّطين في جرائم عنيفة، مثل برامجِ العلاجِ الإلزاميّ في المجتمع، تطبيقًا لتوصيات المنظّمات الحقوقيّة. وإلى حين تحقيقِ ذلك، سيبقى السجنُ اللبنانيّ مكانًا تتقاطع فيه الأمراضُ، والعنفُ، والإدمانُ، والوفيات المفاجئة الناجمة عن الإدمان أو بالإهمال بلا مساءلة، مثلما حدث مع توفيق أبو الزهور.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


التحري
منذ 6 أيام
- التحري
موجة كورونا جديدة تضرب آسيا… ومخاوف من عودة الجائحة
تشهد منطقة جنوب شرق آسيا ارتفاعا ملحوظا في حالات الإصابة بكورونا، لا سيما في هونغ كونغ وسنغافورة، وسط تحذيرات من عودة تفشي الفيروس مع دخول فصل الصيف. في هونغ كونغ، أعلنت السلطات الصحية أن المدينة دخلت موجة جديدة من تفشي الفيروس، مع ارتفاع معدل الإصابات بشكل حاد خلال الأسابيع الماضية. وأظهرت بيانات مركز حماية الصحة أن نسبة العينات الإيجابية ارتفعت من 1.7 في المئة في منتصف آذار/مارس إلى 11.4 في المئة حاليا، متجاوزة بذلك ذروة آب/أغسطس 2024. وقال ألبرت أو، رئيس فرع الأمراض المعدية في المركز، إن النشاط الفيروسي في المدينة 'مرتفع جدا' في الوقت الراهن، مشيرا إلى أن نسبة العينات التنفسية التي تثبت إصابتها بالفيروس وصلت إلى أعلى مستوى لها خلال عام، وفق ما نقلت وكالة بلومبرغ. أما في سنغافورة، فقد أصدرت وزارة الصحة أول تحديث بشأن إصابات كورونا منذ نحو عام، كاشفة عن ارتفاع بنسبة 28 في المئة في عدد الإصابات التقديرية ليصل إلى 14 ألفا و200 حالة خلال الأسبوع المنتهي في 3 مايو، مقارنة بالأسبوع الذي سبقه. وأكدت وزارة الصحة وهيئة الأمراض المعدية أنهما تتابعان عن كثب الارتفاع في عدد الإصابات داخل البلاد، مشيرتين في الوقت ذاته إلى أن الزيادة لا تعود إلى ظهور سلالات أكثر شدة أو سرعة في الانتقال، بل إلى تراجع المناعة لدى السكان. وبحسب الوزارة، فإن عدد حالات الدخول إلى المستشفيات ارتفع بنحو 30 في المئة، لكنها شددت على أن الوضع لا يدعو للقلق في الوقت الحالي. ويعد متحورا LF.7 وNB.1.8، المنحدران من السلالة JN.1، الأكثر انتشارا في سنغافورة حاليا، إذ يشكلان أكثر من ثلثي الحالات التي تم تحليلها جينيا، وفقا للسلطات الصحية. يذكر أن سنغافورة توقفت عن إصدار تحديثات منتظمة عن كورونا، ولم تعد تنشر الأرقام إلا عند حدوث طفرات ملحوظة في عدد الإصابات. كورونا جديدة تضرب آسيا.


IM Lebanon
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- IM Lebanon
بعد كورونا.. ارتفاع إصابات التعب المزمن في ألمانيا
كشف خبراء في ألمانيا، عن ارتفاع ملحوظ في أعداد المصابين بمتلازمة التعب المزمن (ME/CFS)، منذ بداية جائحة كورونا، وسط تحذيرات من نقص الوعي الطبي وصعوبة العلاج. ووفقًا لبيانات شركات التأمين الصحي وجمعيات متخصصة، يعاني نحو 600 ألف شخص في ألمانيا من هذا المرض المزمن، الذي يعرف علميًا باسم التهاب الدماغ والنخاع العضلي، متلازمة التعب المزمن. وفي السياق، قالت مديرة مركز 'شاريتيه فاتيج' في برلين لعلاج الإنهاك المزمن، كارمن شايبنبوجن، إن الأعداد قد تكون تضاعفت خلال فترة الجائحة، مشيرة إلى أن المرض يصيب بشكل خاص فئة الشباب. وتتميز المتلازمة بأعراض تستمر لأكثر من 6 أشهر، أبرزها الإرهاق الشديد، وصعوبة التركيز، ومشاكل النوم، إلى جانب تفاقم الأعراض بعد أي مجهود بدني أو ذهني. وازدادت شهرة المرض خلال جائحة كورونا، نظرًا لارتباطه بظاهرة 'كوفيد الطويل'، إذ قد تبدأ الإصابة بالمتلازمة بعد عدوى فيروسية.


ليبانون 24
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- ليبانون 24
مرض يُصيب الشباب بعد "كورونا"... هذه أعراضه
كشف خبراء في ألمانيا عن ارتفاع ملحوظ في أعداد المصابين بمتلازمة التعب المزمن، منذ بداية جائحة كورونا، وسط تحذيرات من نقص الوعي الطبي وصعوبة العلاج. ووفقا لبيانات شركات التأمين الصحي وجمعيات متخصصة، يعاني نحو 600 ألف شخص في ألمانيا من هذا المرض المزمن، الذي يعرف علميا باسم التهاب الدماغ والنخاع العضلي. وقالت مديرة مركز "شاريتيه فاتيج" في برلين لعلاج الإنهاك المزمن، كارمن شايبنبوجن، إن الأعداد قد تكون تضاعفت خلال فترة الجائحة، مشيرة إلى أن المرض يصيب بشكل خاص فئة الشباب. وتتميّز المتلازمة بأعراض تستمر لأكثر من ستة أشهر، أبرزها الإرهاق الشديد، وصعوبة التركيز، ومشاكل النوم، إلى جانب تفاقم الأعراض بعد أي مجهود بدني أو ذهني. وازدادت شهرة المرض خلال جائحة كورونا، نظرا لارتباطه بظاهرة "كوفيد الطويل"، إذ قد تبدأ الإصابة بالمتلازمة بعد عدوى فيروسية. (سكاي نيوز)