
صالح .. بوصلة اليمن المفقودة
قبل 2 دقيقة
في تاريخ اليمن المعاصر، تتصدر سيرة الرئيس علي عبدالله صالح مشهد التحولات الكبرى، باعتباره أحد أبرز القادة الذين ارتبطت أسماؤهم بمحطات مصيرية عاشتها البلاد. فالرجل قد شكّل لعقود طويلة بوصلة سياسية، ومرتكزًا للاستقرار، وفاعلًا محوريًا في صياغة ملامح الدولة اليمنية الحديثة. وفي عيد ميلاده السياسي وذكرى توليه سدة الحكم توجب أهمية الحدث أن نحتفي به، لذا سنصول ونجول ونطوف ونعرِّج ونغوص بحرف الكلمة في أعماق الحقبة التاريخية للرجل، استذكاراً لمناقبه وانجازاته، فالرجل مدرسة ملهمة نستلهم منها فن التعامل مع الواقع اليمني سياسياً وإدارياً علنا نخرج من عنق الزجاجة الذي طال إطباقه بنا.
في الـ ١٧ من يوليو ١٩٧٨م، تولّى الزعيم علي عبدالله صالح رئاسة البلاد (اليمن الشمالي)، في لحظة فارقة كانت مليئة بالاضطرابات والانقلابات، ورغم صعوبة الظروف، سرعان ما أثبت الرجل قدرة عالية على الإمساك بزمام السلطة، وقيادة الدولة نحو الاستقرار الداخلي، وإعادة ضبط المعادلات العسكرية والقبلية والسياسية. وبعد نحو ١٢ عامًا، كان صالح هو قائد لحظة تاريخية تمناها اليمنيون طويلًا، حين أعلن في ٢٢ مايو ١٩٩٠ قيام الوحدة اليمنية بين الشطرين الشمالي والجنوبي، ليصبح أول رئيس للجمهورية اليمنية الموحدة.
لم تكن الوحدة هي المنجز الوحيد للرئيس صالح، بل كانت الأهم، ويضاف إليها العديد من منجزاته التي لا تُنكر في مختلف الأصعدة، ففي ظل تعقيدات المشهد اليمني، ساهم الرجل في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، بما في ذلك الأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية، مع محاولة الدمج بين النسيج القبلي والمدني ضمن إطار دولة واحدة. وكذا عمل على تعزيز البنية التحتية والتنموية حيث شهد اليمن في عهده توسعًا في شبكات الطرق، وبناء المدارس والمستشفيات، وإيصال خطوط الكهرباء لمعظم المدن وغيرها من المنجزات الخدمية، وفي صعيد السياسة الخارجية تمكن الرئيس صالح من الحفاظ على علاقات متوازنة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، حيث عُرف بقدرته على المناورة السياسية بين المعسكرات المختلفة والمتضادة، ما مكّن اليمن من البقاء حاضرًا في محيطه العربي والدولي رغم التحديات.
أما على الصعيد السياسي الداخلي سمح الرجل بتعدد الأحزاب - رغم انقلابها عليه - وساهم في نشأتها لإرساء نهج الديمقراطية، حيث أُجريت انتخابات رئاسية وبرلمانية متتالية بل واستمر قطار النهج الديمقراطي في مساره ليصل لمحطة الانتخابات التنافسية (المحدودة) على مقاعد المجالس المحلية لإدارة المحافظات من قبل أبنائها، وتلك خطوة متقدمة ومتطورة هدفت لتخفيف المركزية السائدة من ناحية، ومن ناحية أخرى لتكون دليلاً شاهداً لما وصلت إليه اليمن في عهد الرئيس صالح في منهجية التداول السياسي المؤطّر دستورياً، كل ذلك اعتُبر خطوة مهمة في طريق تعزيز التعددية السياسية والمشاركة الشعبية في إدارة الدولة وسلطة الحكم آنذاك. وهو أمرٌ يثقل ميزان الرجل ويُعلي رصيدَ انجازاته السياسية.
واذا تسائلنا عن سبب الاستقرار الذي أنعم الله به على اليمن في عهد الرجل، فالحقيقة أنً الزعيم كان قائداً خاصّاً تفرَّد بفهمه لليمن كما لم يفهمه حاكم من قبله، ولا من بعده، فقد عرَف الرجل طبيعة اليمن، وأدرك أنّ إدارة بلد بهذا التنوع والتداخل تتطلب مهارة استثنائية لإدارته، فامتلك قدرة على التعامل مع القبائل، والعسكر، والأحزاب، ورجال الدين، والمجتمع المدني، وهو ما جعله حاضرًا في أدق تفاصيل المشهد، ومؤثرًا في مساراته الكبرى. ومنذ استشهاده في ديسمبر ٢٠١٧، رحمه الله، بدا المشهد اليمني أكثر ارتباكًا، وأكثر قابلية للتشظي، وواقعنا المرير اليوم شاهد على ذلك، فالرجل الذي عرَف كيف يبني التوازنات ويُبقي الجسور ممدودة بين الجميع، لم يترك خلفه فقط فراغًا سياسيًا، بل فراغًا في إدارة اللحظة، وفهم تعقيداتها، لم يستطع مَن بعده سدّ ذلك الفراغ ولا استيعابها حتى، للأسف.
وبعيداً عن أي تمجيد، فإنه ورغم تعدد القوى وتنوّع المبادرات، إلا أنّ الكثيرَ من اليمنيين لا يزالون يستحضرون تلك المرحلة التي مثّل فيها صالح محورًا للاستقرار، حتى في أحلك الظروف ويحنّون إليها، فالرجل لم يكن مجرد رئيس حكم اليمن لثلاثة عقود، بل كان ظاهرةً سياسيةً طبعت الوجدان الوطني، ومرحلةً لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن الدولة اليمنية الحديثة. لقد كان حاضرًا في تفاصيل اليمن الكبير، ملامسًا نبض القبيلة والمدينة، وممسكًا بخيوط الداخل والخارج في آنٍ معًا.
ورغم اختلاف المواقف حوله، إلا أنّ الثابت في الذاكرة الجمعية لليمنيين أن الزعيم صالح كان بوصلة لبلدٍ شديد التعقيد، اِستطاعَ أن يحفظ له تماسكه وسط تحديات كبرى. واليوم، وبعد أن غاب الجسد، بقيت البصمة، وبقيت الأسئلة الكبرى التي لا تزال تبحث عن إجابات في غياب تلك البوصلة.
ختاماً، إنّ استذكارنا لهذه المرحلة ليس حنينًا إلى الماضي بقدر ما هو قراءة لواقعٍ يتلمَّس فيه اليمنييون طريقَهم نحو الاستقرار المفقود والتوازن المنشود، مستحضرين من ذاكرة التاريخ رجلاً لم يكن عاديًّا أو عابرًا بل كانَ -بكل المقاييس وشواهد الزمان والمكان- أحد أعمدة اليمن الحديث.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليمن الآن
منذ 2 دقائق
- اليمن الآن
شاهد بالفيديو...هذا ما قاله الشيخ ‘‘زيد أبوعلي'' في مقابلة تلفزيونية قبيل وفاته بيوم واحد
أثارت وفاة عميد البرلمانيين اليمنيين، الشيخ زيد محمد أبوعلي، عضو اللجنة العامة لحزب المؤتمر الشعبي العام، تكهنات حول أسباب وفاته، والتي جاءت بعد يوم واحد من مقابلة تلفزيونية مطولة. وظهر أبوعلي، في حديث مطول خلال برنامج "حصاد السنين" على قناة السعيدة، يوم الأربعاء، تحدث فيه عن سيرته الذاتية، والكثير من المواقف التي عايشها وكان شاهدًا عليها، بما فيها حروب المناطق الوسطى التي كان له دور في إخمادها. وتحدث الشيخ القبلي اللواء أبوعلي، عن علاقته بالرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وأدواره في الكثير من الأحداث والأزمات التي شهدتها البلاد. وفي آخر حديثه، ردد الشيخ أبوعلي، الأبيات الشعبية، التي تقول: "يا العافية ودعتك الله .. والموت حيا به مياتي إذا تولى الأمر رجعي .. فموتي أبقى من حياتي". وهي ما اعتبرها البعض رسالة صريحة للمليشيات الحوثية. وتوفي يوم الخميس، السيخ أبوعلي، قالت بعض المصادر إن الوفاة إثر ذبحة صدرية مفاجئة، فيما تشير مصادر أخرى إلى تسميمه من قبل المليشيات الحوثية. ونعى عدد من القادة العسكريين والمسؤولين الحكوميين، الشيخ أبوعلي، مشيدين بأدواره ومواقفه الوطنية، وثباته على الموقف الجمهوري رغم اختياره البقاء في صنعاء، الخاضعة لسيطرة المليشيات الحوثية.


اليمن الآن
منذ 2 دقائق
- اليمن الآن
نافذه على القانون
مقال للمستشار القانوني، عبدالغفور الحوشبي من المعروف أنه البلدان التي تتعرض للحروب تتعرض منظومتها القانونيه ومنها الامنيه للتدهور والسقوط ونحن في بلد معروف بهشاشة نظامه في ظل شبه دوله قبل الحرب ناهيك عن وضعه المزري اليوم مع الحرب وتكالب الفيروسات الهدامه عليه تحت مسميات شتى لتدميره مع غياب شبه تام لمنظومة الضبط والربط وتطبيق القانون وإن وحدة فهيا لاترقى بالمستوى الديناميكي في التنظيم والتحديث والتغيير لأرساء مداميك دولة النظام والقانون في ظل الانفلات الهائل في منظومة الحكم نتيجة ايادي عابثه نرجسيه وفاسده ليس لها هم غير إشباع رغباتها ونرجسباتها على حساب تدمير وطن وهو الحاصل والمشاهد نتيجة ما يعانيه الناس من تدهور اقتصادي واجتماعي ومعه تنتشر الجريمه بشتى أنواعها وهو محور مقالنا لليوم من خلال كشف الجريمه بواسطة تقنيات وتحليل مسرح الجريمة وذلك من خلال جمع الأدلة وتحليلها لتحديد تفاصيل الجريمة وملابساتها حيث هناك عدة تقنيات تستخدم في تحليل مسرح الجريمة نستعرض منها : *جمع الأدلة المادية* مثل البصمات والشعر والملابس والأدوات المستخدمة في الجريمة ، *جمع الأدلة البيولوجية* مثل الدم واللعاب والشعر والجلد ،، *جمع الأدلة الرقمية* مثل الصور والفيديوهات والرسائل النصية والبريد الإلكتروني ،،، *كما أن هناك تقنيات التحليل الجنائي* أي أنه يتم استخدام تقنيات جنائية متقدمة مثل تحليل الحمض النووي (DNA) من خلال اثار الدم والأنسجة ويتم تحليلها عمليا لتحليل الحمض النووي للمشتبه بهم في مسرح الجريمه وتحليل بصمات الأصابع وتحليل الأسلحة النارية ،،،، *التحليل الكيميائي* حيث يتم ذلك من خلال استخدام التحليل الكيميائي لتحديد المواد الكيميائية المستخدمة في الجريمة مثل المساحيق والمسح الضوئي لأستخدامها في رفع البصمات ،،،، *التحليل الرقمي* يكون ذلك لتحليل البيانات الرقمية مثل الصور والفيديوهات والرسائل النصية ،،،،، *حيث تتمثل تقنيات التصويرالفوتوغرافي* لتوثيق مسرح الجريمة والأدلة المتوجده فيه ،،،،، *وايضا التصوير بالفيديو* حيث يتم استخدام التصوير بالفيديو لتوثيق مسرح الجريمة والأحداث ،،،،،، كما أنه هناك تقنيات أخرى *كالرسم البياني* حيث يتم استخدام الرسم البياني لتوضيح مسرح الجريمة والأحداث التي تمت فيه ،، *التحليل النفسي* حيث يعتبر ذلك من التقنيات المهمه اي استخدام التحليل النفسي لفهم دوافع الجاني وسلوكه وماهية شخصيته ،،،،،،، *خبراءالطب الشرعي* حيث تكون مهمتهم فحص الجثث لتحديد سبب الوفاه والوقت التقريبي لحدوثها ،،،،،،، *الخبراءالجنائين* تشمل فريق التحقيق المتخصص في النزول لمسرح الجريمه لرفع تقرير متكامل عن الجريمه ،،،،، حيث نستنتج اهميه تحليل مسرح الجريمه حيث يعد عنصرا حاسما في كشف الجريمه وضمان تحديد هوية المشتبه بهم والضحايا بدقه من خلال التالي ؛ ١/ تقديم ادله ماديه موثوقه تدعم القضايا أمام المحاكم ،،، ٢/استبعاد المشتبه بهم غير المتورطين ومنع الظلم ،،، ٣/فهم أنماط الجرائم ،،، ويبقى النزول إلى مسرح الجريمه في وقت قياسي لضبط مسرح الجريمه من المؤشرات الإيجابيه لرصد كل محتويات الأحداث لرجال الضبط القضائي من رجال الأمن أو النيابه أو ماحددهم قانون الإجراءات الجزائيه رقم ١٣ لسنة ١٩٩٤ لتسهيل الكشف عن الجريمه و مرتكبيها وتبقى درء الجريمه قبل وقوعها مؤشر إيجابي لرجال الأمن في حفظ الأمن والاستقرار في البلد وحماية الأنفس المعصومه والحقوق العامه و الخاصه وكما قال النبي صل الله عليه وسلم عينان ماتمسهما النار ومنها عين باتت تحرس في سبيل الله ،،،، الحديث ،،،، وتحيه إجلال وإكبار لرجال الأمن حيثما كانوا دفاعا عن الأرض والعرض وقبل ذلك الدين وكان الله في عونهم وعون الجميع ،،، تحياتي ،،، ١٨/٧/٢٠٢٥


اليمن الآن
منذ 32 دقائق
- اليمن الآن
حينما يختلط الثأر والإنتقام بالطاغوت والمقدس
لاريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة ومجتمعنا العربي الإسلامية تحديداً، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورا طاغيا وعنيفا في حياتنا الراهنة وهذا ما نلاحظه كل يوم من احداث فضيعة ، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام. الخ . وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف أخطرها على الاطلاق، ذلك لان (الثأر الحر) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما كانت صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) الى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي برمته، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا هو ما نراه كل يوم في اليمن الذي عجزت نخبه السياسية عن تأسيس دولته العادلة – اقصد الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة هي البيت السياسي المشترك للموطنين القاطنين في مكان وزمان متعينيين بينما السياسية هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السطلة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل . الخ. فاذا لم تأسس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حق متساوي لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها. وبسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة بوصفها مؤسسة المؤسسات السياسية ظلت المؤسسة الثأر التقليدية القبلية العشائرية الجاهلية حية وفاعلة في مختلف الاقطار العربية فالسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية (الاحوال المناخية التي منها: الرياح والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والإعصار والزلازل والبراكين والأوبئة حسب بول فاليري. وما حدث في سوريا وفلسطين واليمن والعراق وليبيا وفي غيرها من البلدان العربية يعد أسوأ بما لايقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية فتكا. فما أخطر السياسية وما أفدح شرورها إذ تركت تمشي على حل شعرها؟! ربما كان الفرق بين الكوارث الطبيعية والشرور الاجتماعية يكمن في أن الطبيعية لا تفرق بين الكائنات الحية وغير الحية التي تفتك بها بينما الشرور الاجتماعية والسياسية تستهدف ضحاياها بمبررات ايديولوجية عبثية لم ينزل الله بها من سلطان. الطبيعية تعيد الإنسان إلى حالته البيولوجية الأولى بوصفه كائنا أرضيا بين الكائنات الأخرى التي تقع على درجة متساوية من الظلم والضرر لأنها ببساطة بلا قلب ولا عيون! بينما السياسة والايديولوجيا تختار ضحاياها بقسوة لا مثيل لها بل إن السياسة تؤثر في حياة الناس تأثيرات بعيدة المدى وفادحة النتائج ويبلغ تأثيرها الغائر الطبقات العميقة للذاتية الاجتماعية والفردية. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسية في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة والحالة السورية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية. إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع الى تصاعد كارثي لا سيما في مجتمعنا المساواتي وفِي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة، فنحن جميعا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى، فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد إناس ينساقون اليه بعفوية وحماسة لاشعورية، ويوجد أخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكن هولاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبا الذين يتيحون له الفرصة والشيوع والهيمنة. ويشبه رينيه جيرار في كتابه المهم (العنف المقدس) يشبه العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن (باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقي عليه بهدف إطفائه). 'بدأت المواجهات في السويداء منذ عشرة أيام بعد سلب تاجر درزي سيارة خضار وهو عائد إلى السويداء على طريق دمشق العام، ثم تبادل بين الطرفين: اختطاف أبناء طائفة من الأحيمر وخطف عشرة أفراد من قبل فصائل درزية كردّ على ذلك إذ تصاعد العنف المتبادل بشكل سريع في بين الدروز والعشائر البدوية مع تدخل الجيش والأمن واسرائيل ذاتها التي مهدت السبيل لبلوغ سوريا هذا الحال والمآل: عمليات انتقامية وتقابلية على الهويات الطائفية والعشائرية والقبلية والعنصرية، حيث فتحت النار جماعات مسلحة من الطرفين، ما أدى إلى سقوط قتلى وإصابات عديدة، إضافة لتضرر المدنيين. الاستخدام المكثف للأسلحة المتوسطة والثقيلة ساهم في ارتفاع عدد الضحايا.. مشاهد العنف الذي يجري بين الأطراف المتناحرة في سوريا اليوم شديدة القسوة والفظاعة فليس هناك ما هو اخطر ولا افظع من العنف المقدس، العدوان متأصل في طبيعة الانسان ولا مهرب من ذلك، لكن يظل العنف معقول وممكن في حدود الطبيعة البشرية منذ أن قام قابيل بقتل اخوه هابيل ، وهذا هو معنى' من يفسد في الارض ويسفك الدماء' كما جاء في التنزيل الكريم. والعنف في هذه الحالة يكتسب صيغة بشرية بوصفه عنفا بين الاخوة الاعداء, بين أشخاص متخاصمين , بين ذات وأخر , لكن الخطر يكمن حينما يتحول إلى عنف مقدس بين ملائكة وشياطين ! كما هو حال حروب الطوائف المشتعلة اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها, هنا يخرج العنف عن حدود معقوليته ويتحول إلى حالة ما قبل متوحشة, حيث ينشب المحاربين مخالبهم بعضهم ببعض كاسراطين البحر حتى الموت ّّ!. ومن هنا يمكن لنا فهم حجم القسوة المهول الذي يتميز به هذا النمط من انماط العنف المقدس, انه لا يكتفي فقط بهزيمة الخصوم , لأنه غير موجودين هنا , بل هو سعي محموم لتخليص العالم من (شر مستطير) هو الشيطان الرجيم عدو (الله سبحانه وتعالى برحمته عما يصفون) ومن يعتقد انه تمكن من الامساك بالشيطان , ماذا تريده أن يفعل به؟ مع الشياطين كل شيء مباح ولا حرمات يمكنها ايقاف الغل المخزون من الاندياح. لكن المسألة تكمن في عدوى العنف وانتشاره مثل النار بالهشيم. إذ إن العنف الثأري المتبادل بين طائفتين كل منها تعتقد انها ملاك والأخر شيطان , يشبه اللهب الذي يلتهم كل شيء يلقي عليها بغرض اطفاءه . انه غل مركب من الثأر الجاهلي والتعصب الطائفي. وفي سبيل فهم ما يحدث في سوريا اليوم لابد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمر قابلاً للوجود والحضور والازدهار والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل: لماذا يفعلون ما يفعلونه؟ ويعتقدون ما يعتقدونه؟ ويقولون ما يقولونه؟ وذلك في سياق ممارستهم اليومية الحي المباشرة الفورية؟! وذلك لان العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية ، فما هو الثأر ؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة ؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي ((لويس مير)) إن للثار معاني متعددة أهمها: 1. العداء الناجم عن اعتداء. 2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه. 3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها ،لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه. 4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل هذا معناه إن الثأر مرتبط ارتباطا حميما بالبينة الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل، بل يتصرف ويعمل وينظر أليه على إنه عضواً أو جزءاً من جماعة معينة سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية الخ. فالقاتل حين يقتل شخصا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية فإن عمله لا يعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل ، بل جريمة موجهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي أليها القتيل ، فلا ينصب الأهتمام أكثر ما يكون على المذنب وإنما على الضحايا الذين لم يثأر لهم. وبالنتيجة فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمر ذلك لإنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لانفسهم واجبا للثأر منه. إذ أن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه وكي يوقف الثأر ، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر. إن الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وايقافه تبقى وقتية وعابرة، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جدوره وستمضي سنين طويلة قبل أن يكشف الناس إنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين؛ (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب) كما يقول رينيه جيرار . وهذا المبدأ أما أن يكون عادلاً وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم وأما أن لا توجد أي عدالة عامة وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي : الثأر الذي لا ثأر له ، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفل بآخذ القصاص العادل من المجرم فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام ، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف أسُتبعد الى الأبد . والثأر اللا متناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقاما وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة ، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله، ولهذا فان الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدا. هكذا إذا كان الثأر عملية لانهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواءه، ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية أي الدولة والقانون، المتعارف عليها جميع المواطنيين الذين يخضعون للسلطتها بقناعتهم. أن النظام القضائي العادل، لا يلغي الثأر بل يعقلنه، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى أخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب. فالسلطة القضائية التي وكلت من الجميع بشكل كامل والتي ليست شيئا أخر سوى ذاتها ولاتعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارا مطلقا، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف. فهل عرفنا ألان البؤرة التي تتطّلع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية و منها العنف الثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. الم يحن الاوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء وبلا قلب ولا عيون.