logo
«هالي فاكس».. تجربة مختلفة لمسلمي كندا

«هالي فاكس».. تجربة مختلفة لمسلمي كندا

جريدة الوطنمنذ يوم واحد

طاف بي الشيخ في جولة في مرافق المركز الإسلامي، وعند أول دخولي للصالة الرياضية والمسرح، لفت نظري أن المتواجدين فيهما من غير المسلمين، وخلال الحديث ونحن نتنقل في أروقة المركز، أشار لي أنه بدأ استراتيجية انفتاح على المجتمع التعدُّدي في «هالي فاكس»، وأن الصالة الرياضية باتت مفتوحة لمجاوري المسجد، وللمجتمعات المحلية من مواطني كندا، من السيخ الهنود ومن المسيحيين ومن بقية المجتمعات الشريكة، مع الالتزام بالآداب الأخلاقية والاحتشام العام، لمرافق مؤسسة دينية.
أخذني هذا المشهد إلى حديث ضمير قديم منذ أن استقريت في كندا 2017، أفصحتُ عنه للشيخ حين ابصرتُ بادرة جسور جميلة، فاستطرد أبو محمد مؤيداً على شواهد هذا الرأي، فحدثني عن اللقاء الرمضاني الذي ينظمه المركز على مستوى عالٍ ويحضره مسؤولو حكومات مقاطعة نوفا سكوشا، والشخصيات البارزة في مجتمع «هالي فاكس»، وذكر لي موقفاً مؤثراً واجهه على هامش هذا اللقاء، وهو حديث زوجة رئيس جامعة سانت ماري في هالي فاكس، التي أبلغت الشيخ بأنها ستغيب ذلك العام عن هالي فاكس، وأنها متأثرة لافتقادها اللقاء الرمضاني السنوي، ودمعت عيناها وهي تقول له أنها كانت تنتظر اللقاء من العام إلى العام.
تدفق مشاعر المجتمع الكندي الآخر، وتجاوبه، حين تصل له رسائل التقدير والمودة، وابداء التعاون في كل قيم تُصلح المجتمع، وتخفف من غلواء التوحش المادي، والتي تمثل الروح الإسلامية أحد أهم مصادرها في عالم اليوم، هو منهج مهم لتكريس مفهوم المواطنة والاندماج في المشترك النافع، وخاصة رباط المسلمين في حماية قيم الأسرة، الذي رصدتُ بنفسي أثره على الأسرة المسيحية البيضاء وغيرهم في الشمال الأميركي عموماً، وقلت له أن الإدراك الذي شعرتُ به بعد استقراري في اونتاريو، أن هناك مساحات فراغ كبيرة، لم نملأها في علاقتنا مع الآخر الكندي.
وخاصة أن الصورة المشوهة عن الإسلام التي تنشرها جهات متطرفة مغرضة، تجد أدّلة في سلوك بعض المسلمين مع الأسف الشديد، وأننا نعاني من تناقض صورة المسلم في المهجر من بعض الرؤى، التي تتعامل مع التواجد في المهجر ككيان منفصل مصمت، يسعى لتحقيق هدفه الذاتي في الجنسية، أو فُرص العمل فقط، ويَعتبر المجتمع الآخر، مجتمعاً عدواً بالأصل، وأنا هنا اتحدث عن الرأي العام، والمسؤولين الذين لديهم مساحة إنسانية واضحة، وجهل واسع في معرفة الإسلام وثوابت الشريعة، وليس ايدلوجية الغرب الفوقية.
فهناك حاجة مشددة اليوم، في الفصل بين التباين الفكري والقيم المؤسِسة للحياة، في معادلتين تُطرح بين البشرية، المعادلة الرأسمالية والحداثة المتوحشة، ومعها انحيازات دينية ويمينية متطرفة ضد المسلمين، وبين رسالة الرحمة والوصل والإحسان التي ندبنا لها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وواجبنا نحو الأفراد وكل مجتمع يسأل أين الطريق؟
لقد أثبتت تجربة الشيخ ورفاقه، أن كل جهد يمتد إلى الطرف الآخر المنصف في كندا، لا يجد قبولاً فقط، بل يُلاقي ترحيباً وتعاوناً واسعاً، وخاصةً بعد أن أنقذ الشيخ مشروع المركز الإسلامي في هالي فاكس، الذي واجه صراعاً شرساً مؤسفاً بين بعض شركاء اداراته السابقة، فأعيدُ تأسيس المركز بمفاهيم تساهم في تجسيد رسالة الإسلام في المهجر الجديد.
لقد انفتح هذا الداعية الرشيد على بعض المؤسسات الدينية من أهل الكتاب، وتعاون في المشترك، وقدم دورات يشرح فيها قصة الإسلام، ووحدة النبوات في معناها الأصلي لا المحرّف، واكتسب ثقة كبيرة، في عمله المساهم في تعزيز التعايش الذي يرضاه الله لخلقه، أياً كانت هذه الأمم، وهو ما يفتح الأبواب لنا في المهجر الكندي مواطنين ومقيمين، من صناعة جسور تفاهم تواجه أي قوانين تطرف ضد المسلمين، أو تقلل من تأثير منابر التحريض ضدهم.
ولقد واجه الشيخ عقبات كثيرة وتحديات، فالأمر ليس عبوراً سهلاً، ولكن في نهاية المسار وجد حصيلة طيبة، ففتح مرافق المركز لصناديق الاقتراع لدورات الانتخابات، ولمواقع التطعيم في كوفيد وغيرها، واستثمر العائد لصالح وقفيات المؤسسة الإسلامية، وأشعر الدولة والمجتمع الآخر بأن أبواب المؤسسات الإسلامية مفتوحة لهم، وحقق حضوراً مختلفا للعمل الإسلامي في نوفا سكوشا، قد يكون تكرر في مواقع أخرى، لكني وجدتُ في رحلة هالي فاكس تماسكاً مميزاً ومبدعاً.
ولا يزال هناك حديثٌ متبقٍ، وخاصة سؤال الناس القلق ماذا عن أطفال المسلمين، وقضية المثلية وغيرها، قد أعود لها، بعون الله، لكنني أريدُ التأكيد على أهمية العبور للقضايا المشتركة والمفاهيم المتحدة للمسلمين، وأن نتغلب على الانقسامات الحزبية أو المذهبية، ولا يعني ذالك أن يتخلى كل فريقٍ عن معتقده، ولكن أن نصنع معاً التجديد الفارق في الفهم وفي المشاريع، التي تحقق نقلة نوعية ووقاية استراتيجية لشراكة المسلمين في وطنهم الجديد.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إصابة فلسطينيَّين في اقتحامات الاحتلال بالضفة ومستوطنون يهاجمون مزارعين
إصابة فلسطينيَّين في اقتحامات الاحتلال بالضفة ومستوطنون يهاجمون مزارعين

الجزيرة

timeمنذ 8 ساعات

  • الجزيرة

إصابة فلسطينيَّين في اقتحامات الاحتلال بالضفة ومستوطنون يهاجمون مزارعين

أصيب فلسطينيان أثناء اقتحامات قوات الاحتلال الإسرائيلي لبلدات في الضفة الغربية، في حين هاجم مستوطنون مزارعين فلسطينيين وأتلفوا محاصيلهم الزراعية في الأغوار الشمالية. فقد أفادت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، مساء الأحد، بإصابة فلسطيني ونقله إلى المستشفى نتيجة إصابته بجروح ورضوض بعد تعرضه للضرب على يد الجيش الإسرائيلي، الذي اقتحم عدة بلدات بالضفة الغربية المحتلة. وقالت الوكالة إن القوات الإسرائيلية أوقفت الشاب عز الدين خالد أبو ربيع، عند أحد الحواجز العسكرية على مدخل مدينة أريحا (شرق)، واعتدت عليه بالضرب المبرح، مما أدى لإصابته بجروح وكدمات، نقل على إثرها إلى المستشفى الأهلي في الخليل. وعلى صعيد الاقتحامات، ذكرت إذاعة صوت فلسطين أن الجيش اقتحم بلدة دير أبو مشعل، شمال غرب مدينة رام الله (وسط) وأطلق قنابل مسيلة للدموع. وأفادت مصادر للجزيرة بإصابة مواطن فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في بلدة برقة شمال شرق رام الله بالضفة. وكانت مصادر للجزيرة قالت إن قوات إسرائيلية اقتحمت القرية، وإن مستوطنين إسرائيليين هاجموا أطرافها. كما اندلعت مواجهات في قرية أودلا، جنوب شرق مدينة نابلس (شمال)، واقتحمت قوات الاحتلال بلدة زعترة، شرق مدينة بيت لحم (جنوب). هجوم على مزارع كما ذكرت وكالة "وفا" أن الجيش الإسرائيلي اقتحم بلدة عرّابة، جنوب مدينة جنين (شمال)، وأن قوة راجلة اقتحمت البلدة وانتشرت في شوارعها، وداهمت منزلا وفتشته، وسط تحليق طائرات مُسيرة في الأجواء. من ناحية ثانية، هاجم مستوطنون مزارعين فلسطينيين في سهل قاعون شمال قرية بردلة في الأغوار الشمالية شمالي الضفة الغربية، واعتدوا عليهم بالضرب وطردوهم من حقولهم، وعمدوا إلى إتلاف محاصيلهم الزراعية. وأفاد شهود عيان من المزارعين الفلسطينيين للجزيرة بأنهم يتعرضون باستمرار لاعتداءات من المستوطنين وتخريب لممتلكاتهم وحقولهم، في محاولة لطردهم من المنطقة والسيطرة على الأرض. وبالتوازي مع إبادة غزة، صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اعتداءاتهم بالضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ما أدى إلى استشهاد 972 فلسطينيا على الأقل، وإصابة نحو 7 آلاف، واعتقال ما يزيد على 17 ألفا، وفق معطيات فلسطينية. وبدعم أميركي مطلق، ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، جرائم إبادة جماعية في غزة خلفت أكثر من 178 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، بجانب مئات آلاف النازحين.

"تربية الحسّ الاجتماعي" في الإسلام
"تربية الحسّ الاجتماعي" في الإسلام

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

"تربية الحسّ الاجتماعي" في الإسلام

لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الاجتماعية في الإنسان ووضع لها عدة دعائم: وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الاجتماعية في البشر عمومًا، ويتضح هذا من سيرة النبي- ﷺ- عندما وصل إلى المدينة فآخى بين المهاجرين والأنصار في الله، وأصبحوا إخوة، وسجل ذلك في وثيقة مكتوبة، نقشت في قلب كل مؤمن، بل صاروا يتوارثون بمقتضى هذه الأخوة، وظل هذا التوارث ساريًا حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال: 75]؛ فألغى التوارث، وبقيت الأخوة في الله على ما كانت عليه من قوة ووثاقة، ولا تزال بين الواعين من المؤمنين حتى اليوم، ولقد تأكدت الأخوة بين المؤمنين بقوله سبحانه {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10]. ولقد كان من مقتضى فقه الأنصار للأخوة في الله، أن حملوا أعباء إخوانهم المهاجرين، ومدح الله- سبحانه- ذلك الفقه والعمل، وأثنى عليه بقوله، سبحانه: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. الدعامة الثانية: استجابة الإسلام لحاجات المجتمع كاستجابته لحاجات الفرد وقد عمل الإسلام على تحقيق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله، وبحيث لا يضر بأحد من الناس. ومن حاجات المجتمع: إعلان التعاون والتكافل: لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة: 2]. التناصر والتواصي بالحق والصبر: قال تعالى: {والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)} [العصر: 1- 3] والتواصي بالحق يدفع عن الناس كل مصيبة، ويقضي على المنكرات والآثام التي في المجتمع ويجعلها تنحسر، والتواصي بالصبر يجعل العدالة تسري في المجتمع ويرتفع الظلم، وتسوده المودة وتزول العجلة (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، ص433). الحث على التراحم بين أفراد المجتمع: قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]. وأثنى سبحانه وتعالى، على المؤمنين المتراحمين في قوله سبحانه: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18)} [البلد: 17، 18]. وهذه الآيات لم تحصر حاجات المجتمع، بل حثته بمفهومها العام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى جلب المصالح ودفع المفاسد، والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة، وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده. الدعامة الثالثة: تحديد الصفات التي يجب أن تسود المجتمع قال تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 36- 43]. إعلان لقد ذكرت الآيات الكريمة الصفات الرفيعة، والتي إن سادت في المجتمع أصبح سعيدًا راشدًا؛ فقد أشارت إلى الإيمان بالله، والتوكل عليه سبحانه، واجتناب كل إثم وفاحشة، والصفح والتسامح، والاستجابة لكل ما أمر الله به، وإقامة الصلاة، وممارسة الشورى في كل أمر يعنيهم، والإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير، والانتصاف من كل عدو للإسلام والمسلمين، وهو مقتضى العدل، والعفو والتسامح مع القدرة على الانتصاف، وهو مقتضى الإحسان، والانتصار بعد الظلم، والصبر على المظالم، والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه بشرط ألا يكون ذلك مؤديًا إلى الفساد والشر، والدعوة للمعرفة، وهكذا يكون المجتمع الإسلامي (فقه الدعوة إلى الله، علي محمود، 1/507 – 509). لا شك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي تبنى عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين، وسيادة شرع الله على العالمين، وإقامة دولة الإيمان والتوحيد الدعامة الرابعة: تأكيد خيرية هذا المجتمع أكد القرآن الكريم خيرية هذا المجتمع الذي انصهر في تعاليم الإسلام، ووضعه في مقدمة المجتمعات لقيادته كلها إلى الإيمان والمنهج الرباني، والحق والخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]. وهذه خيرية تقوم على الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعيدة كل البعد عن الخيرية العرقية والجنسية والقومية، كما زعمت أمة اليهود، وانخدعت أمة الألمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكلفتها وكلفت العالم كله حربًا دامية مات فيها ملايين من البشر. هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع، وينبغي أن يقوم برنامج هذه المرحلة عليها، وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة الإعداد في القرى والأرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات، ولا شك أن مرحلة الإعداد والتربية من أهم المراحل التي تبنى عليها الأهداف في الوصول إلى التمكين، وسيادة شرع الله على العالمين، وإقامة دولة الإيمان والتوحيد (فقه النصر والتمكين، د. علي الصلابي، مرجع سابق، ص433).

حين ظهرت مكة والمدينة في خريطة أميركا.. قراءة في التسمية والنسيان
حين ظهرت مكة والمدينة في خريطة أميركا.. قراءة في التسمية والنسيان

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

حين ظهرت مكة والمدينة في خريطة أميركا.. قراءة في التسمية والنسيان

مكة مهبط الوحي ونشأة رسول الإسلام وقبلة المسلمين اليومية في صلاتهم حيث بيت الله الحرام ومتَعلَّق القلوب للعمرة والحج، تلك هي مكة الحجازية ولكن ما لا يعرفه أغلب الناس أنّ اسم مكة ليس مقصورا على مكة البيت الحرام بل هو مبثوث في كثير من بلاد الأرض، والأغرب من ذلك أن أكثر دولة بها مدن أو قرى بهذا الاسم هو الولايات المتحدة الأميركية حيث تغطّي "مكة" كل الجغرافيا شرقا وغربا شمالا وجنوبا. من مكة الحجازية إلى مكة الأميركية ننظر في تاريخ تسمية المكان لنحفر في تاريخ الإسلام في أميركا تأصيلا لمشاركة المسلمين التأسيسية التي لا تزال تفتقد التثمين من السرديّة الرسمية للتاريخ الأميركي. وليكن مثالنا مكة في أوهايو الأميركية. في بداية القرن الـ19 نشأت بلدتان بمسمى مكة في ولاية أوهايو (تأسست سنة 1803). كانت البلدتان في مقاطعة "ترامبول" (Trumbull) ثم لاحقا بقيت واحدة في نفس المقاطعة وأصبحت الأخرى مقاطعة بذاتها. لكن بسبب وجود اسمين متماثلين غيّر مجلس مقاطعة مكة الآخرة اسمها إلى مسمّى جديد أكثر دهشة لأذهاننا، ذلك الاسم هو "المدينة". لنا الآن في أوهايو مدينتان واحدة بمسمى مكة وأخرى بمسمى المدينة وقد كانت سابقا تُسمى مكة. تلاحظ الرواية الرسمية أنّه لا معلومات عن سبب هذه التسمية فأرشيف مكة في مقاطعة ترامبول قد فُقد تماما فلا يُعرف على وجه التحديد أسماء أعضاء مجلس مكة المسؤول عن التسمية، أما مجلس مقاطعة مكة /المدينة فمعروفون ولكن ليس من بين الأسماء اسم عربي أو قريب منه بل لا اسم عربي في قائمة الرواد المؤسسين لهذه المقاطعة، كما أن الوضع الديني بحسب الرواية الرسمية يتمثل في 6 كنائس لطوائف مسيحية مختلفة ولا ذكر لمسجد، لكن تنفلت من هذه الرواية الرسمية ملاحظة لافتة أنه "لسبب ما، كان لأجزاء من مقاطعة المدينة تراث عربي قد يكون مرتبطا بالشرق الأوسط". مكة أوهايو "مكة" هي مركز (معتمدية) من مراكز مقاطعة ترامبول، أوهايو، الولايات المتحدة. يسكنها 2319 نسمة حسب تعداد عام 2020. تأسست مكة عام 1821. ورغم أنها شهدت في ستينيات القرن الـ19 التنقيب عن النفط، إلا أنها بلا صناعة مهمة، ولا خطوط سكك حديدية، ويعمل سكانها بشكل رئيسي في الزراعة. تنقسم مكة إلى جزأين غير متساويين، يفصل بينهما نهر موسكيتو. وتغلب عليها الأراضي المستنقعية مما جعلها منطقة غير جاذبة لروّاد المستوطنين. ولولا الصيغة المغرية لتملّك الأرض من خلال إمكانية عدم دفع أصل المبلغ للمقاول طالما تم الحفاظ على دفع الفائدة، ما كان لعديد الروّاد أن يأتوا إلى بلدة "مكة" خاصة أنها قبل القدوم إليها كانت فيها مستنقعات واسعة وطرق غير معبّدة وانقطاع عن بقية العالم. لم يكن تاريخ الاستيطان في "مكة" مثيرا للدراسة وبسبب هذا التأخر في الاهتمام لم يُدرَس أصل التسمية وأسبابها. المدينة/مكة.. أوهايو تطوّر المُسمّى من بلدة تابعة لمقاطعة ترامبول ثم تابعة لمقاطعة بورتاج المُقتَطعة من مقاطعة ترامبول، إلى مقاطعة قائمة بذاتها، كما تطوّر الاسم من مكة إلى المدينة لوجود بلدة باسم مكة تابعة لمقاطعة ترامبول. كان اسم مكة يُطلق على قطعة الأرض المخصصة لبناء البلدة قبل بنائها ثم تحوّل الاسم في 1818، وحسب الرواية الرسمية لم يكن ثمة مسلم في البلدة. يسكن "المدينة" 26 ألفا و94 نسمة بحسب الإحصاء السكاني لعام 2020، بنسبة كثافة 839 شخصا لكلّ كيلومتر مربع. وتُعدّ "المدينة" أحد أفضل المدن للعيش وللسياحة في أوهايو بطابعها المعماري الفيكتوري الذي اكتسبه وسط المدينة بعد إعادة بنائه بالكامل تقريبا بعد أن أتى عليه حريق كبير سنة 1870. وبالبحث في أصل التسمية تعترضنا فرضيات عديدة أولاها أنّ السكان هم من سمّى المكان. ويؤكد هذه الفرضية وليامز وبرو إذ يذكر أنّ " بلدة "غرين" (Greene) احتضنت -عندما تمّ تنظيمها عام 1806- أراضي البلدات الحالية: غرين ومكة، بالإضافة إلى البلدات المجاورة الأخرى. وبحلول عام 1821، كان العدد السادس من النطاق الثالث يضم عددا كافيا من السكان لتكوين بلدة متميزة، وهكذا تم تنظيمه تحت اسم مكة. لقد فقدت جميع السجلات المبكرة، لذلك لا يمكن تقديم قائمة بمسؤولي البلدات الأوائل". وبالعودة إلى تركيبة السكان في مرحلة التأسيس من خلال ذكريات أحد السكان القدامى يذكر وليامز وبرو أنّ مكة، ترامبول كانت عام 1819 مكوّنة من 14 عائلة. ويلاحظ أنّ أسماءها تعود إلى تقليد مسيحي ويهودي، ولا وجود لاسم عربي أو إسلامي يشي بوجود مسلمين من بين تلك الفئة التي واكبت حدث التسمية أو كانت فاعلة في اختيار اسم المكان. يؤرّخ وليامز وبرو لوجود 3 كنائس لذلك العدد القليل من المستوطنين، وهو مؤشّر لأمرين: الأول: تديّن هذه الفئة من المستوطنين، وثانيا: عدم وحدتهم الطائفية. إضافة إلى هذه المعطيات الدينية فإنّ الحالة الاقتصادية للمستوطنين في مكة يوحي بعدم الثراء، خاصة إذا استحضرنا عدم جاذبية المكان وانعزاله عمّا حوله، كما أن الحالة الثقافية للرواد لا تظهر وعيا بالأديان وخاصة بالدين الإسلامي الذي تلفه صور سلبية نتيجة حملات من التشويه امتدت لقرون حفرت في العقل العامي الأوروبي عداء مستحكما ضد الإسلام ورموزه. لا تدعم هذه المعطيات فرضية حدوث تسمية مكة من السكان المستوطنين للمكان، إلا أن يكون الرواة والمؤرخون قد تواطؤوا على التعمية عن وجود إسلامي ما. وينطبق هذا الاتجاه في التحليل على مدينة "المدينة"، في مرحلة تسميتها "مكة"، إلا أن الظروف الحافة بتغيير الاسم من مكة إلى المدينة يبقى إشكاليا. الفرضية الثانية في التسمية هي أنّه فعل قام به المسّاحون للأرض التابعون لشركة أرض كونيتيكت. ليست هذه فرضية بل هي الافتراض التاريخي لهذه العملية الاستيطانية. فقد كان من مهام المساحين -إضافة إلى مسح الأراضي- تسميتها. ويؤكد هذا الأمر أنّ قطعة الأرض التي كانت مخصصة لبناء بلدة كان اسمها مكة قبل أن تُبنى. ولا نعلم على وجه التحديد الشروط الضابطة لهذا الفعل الاسمي ولا من يمكنه التدخّل فيه أو ما هو المسار الرسمي لتثبيت تلك الأسماء بشكل نهائي. ما لا نعلمه أيضا هويات المسّاحين واتجاهاتهم ومعتقداتهم ومستواهم العلمي وأفقهم الثقافي. وما نعلمه يقينا في هذا الشأن أن موقعين في أوهايو كانا في نفس المقاطعة لهما نفس الاسم وهو "مكة". لقد كان سكان البلدتين يعرف أحدهما الآخر ويعلمان بتماثل اسميهما، والدليل على ذلك تغيير مجلس إحدى البلدتين لاسم بلدته من "مكة" إلى "المدينة". وتعني هذه المبادرة بتغيير الاسم أسبقية التسمية في البلدة الأخرى على ما يبدو، وقد لا تعني ذلك ضرورة. من المهمّ ملاحظة الحضور المكثف للأسماء الإسلامية الرمزية في هذه الرقعة من الأرض الأميركية: (ورود اسم "مكة" مرتين، ثم استبدال اسم "مكة" باسم "المدينة") ما يعني تواصل التأثّر بالرموز الإسلامية، مما يستدعي السؤال عن الهوية الحقيقية لسكان البلدتين في بداية القرن الـ19. لا نعتقد أنّ المسّاحين واقعون تحت تأثير استشراقي عميق، كما لا نعتقد بذات التأثير في نفوس مستوطني تينك البلدتين على افتراض أنهم سكان أوروبيون مسيحيون، وحركة تبديل اسم مكة إلى المدينة في البلدة المجاورة يزيد هذا الاحتمال شططا مما يجعلنا نفكر في فرضية ثالثة نحاول بها فكّ سر التسمية. الفرضية الثالثة هي أن التسمية سابقة لعملية المسح التي أخذ بها المساحون وأنها في الحقيقة تسمية مستوطنين مسلمين هاجروا إلى أميركا في القرن الـ18 أو في زمن أسبق من ذلك أو هي تسمية السكان الأصليين. إذا كان المسّاحون أو المالكون للأرض أو السكان -بحسب ما تخبرنا الوثائق عن هوياتهم- لا تتوفّر فيهم شروط تسمية أراضي المستوطنات بـ" مكة" ابتداء، فإن النظر يتّجه إلى توارث هذا الاسم من سابقين أطلقوه على المكان. ولا يبعُد -والحال أن المكان قصي عن العالم ومعزول عنه- أن تختاره جماعة من الناس وجدوا في هذه السمات المكانية ضالتهم، والمعنى أنهم فئة من الناس تبحث عن ملجأ يحميها من مخاطر تتهددها، ولا يبعُد أن يكونوا عبيدا آبقين قد فروا من مستوطنات البيض. ولا يبعد أن يكون بعض العبيد المسلمين الفارين من ربقة الاضطهاد الجسدي والديني قد لجؤوا إلى بعض الأماكن القصيّة عن أسيادهم ليؤسسوا لهم فيه موطنا يحفظ عليهم دينهم وكرامتهم سمّوه "مكة" قبلتهم في كل صلاة ثم ما لبثوا أن هجروا مستوطناتهم بسبب صيادي العبيد أو رجال الشرطة الفدرالية والقوانين التي تسمح بتعقب العبيد واستعادتهم إلى أسيادهم. لقد كانت ولاية كنتاكي (تأسست في الأول من يونيو/حزيران 1792) عامرة قبل ردح من الزمن وكان يسكنها عدد هائل من العبيد، وكانت مناطق واسعة مما أصبح فيما بعد ولاية أوهايو المجاورة لها (تأسست في الأول من مارس/آذار 1803) خالية من المستوطنين البيض، ما يجعلها وجهة مثالية للعبيد التائقين للحرية. وليس من المستبعد أن المساحين الذين رقّموا قطع الأرض قد استأنسوا بما وجدوه من تسمية من دون أن يدركوا رمزيتها الدينية، ولا يبعد من هذه الجهة في النظر، أن يكون ثمة تراث إسلامي مادي أو ثقافي -كما بيّنا سابقا- قد تركه هؤلاء المستعبدون المسلمون في البلدتين قبل أن يغادروها أو يُبعَدوا مع السكان الأصليين عند قدوم الملاك الجدد لأراضي أوهايو التي اشتروها من شركة أرض كونيتيكت، وهو تراث مادي قد يكون طُمس مع قدوم الرجل الأبيض. وليس مستبعدا أن يكون من بين عناصر "شبكة السكك الحديدية تحت الأرض" (اسم أُطلق على مجموعات مناهضة للعبودية ساعدت على هروب العبيد وإيوائهم حتى الوصول إلى ملاذ لآمن) مسلمون أفارقة محررون أو مهاجرون مسلمون من الشرق وحتى سكان أصليون مسلمون. وهذه الفرضية تدعمها الروح التحررية لدى المسلمين عبيدا كانوا أو مهاجرين وكذا الوضع الاقتصادي والديني التمييزي ضد المسلمين في الأرض الجديدة، وأيضا السبق التاريخي للمستعبَدين الأفارقة المسلمين في محاولة الفرار أو الثورة، فقد دشّن العبيد المسلمون بشكل خالص أول ثورة للعبيد في العالم الجديد سنة 1521. ما يهمّنا هنا أن اتجاه الهروب كان من الجنوب إلى الشمال ومن المناطق المأهولة إلى المناطق النائية. يهمّنا أيضا ملاحظة أن طريق الهروب كان محاذيا للأنهار التي تشق البلاد من الشمال إلى الجنوب وأن مسار الهروب كان يمر بالمستنقعات والغابات حيث يصعب تعقب الأثر ويعقد عمل صيادي العبيد. ما يدعم هذا الاتجاه أنّ منطقة غرب الوسط (أصبحت لاحقا: أوهايو وإنديانا وإينوي) كانت منذ البداية (أي 1789 وما قبلها) إما مستعمرة حرة أو ولاية أميركية حرة. وكذلك ساحل الغرب الأميركي (واشنطن وكاليفورنيا وأوريغون) وهو ما يفسّر هروب كثير من العبيد إلى تلك المناطق، وربما يفسّر وجود أماكن في تلك الولايات تسمى مكة. لقد تقاطعت حركة الفرار من الاستعباد ومحاولات التمرد التي قام بها العبيد وخاصة المسلمون منهم مع حركة فرار السكان الأصليين من الاستعباد والحروب التي دارت بسبب نزع أراضيهم واستيلاء المستوطنين البيض عليها وتهجيرهم قصرا إلى مناطق أخرى أقل خصوبة، مع الفعل الاحتقاري والازدرائي الذي عاناه المسلمون المهاجرون القادمون في القرن الـ18 والـ19 من الشرق الإسلامي وغربه من المستوطنين البيض بعدم التعامل أو التزاوج معهم. هذا التقاطع الثلاثي لحال العبيد، وخاصة المسلمين منهم، ولحال السكان الأصليين، ولحال المهاجرين الجدد أنتج إحساسا بوحدة المصير ما دفعهم إلى التحالف للدفاع المشترك وإعانة بعضهم بعضا، والتقارب بالمصاهرة. ويمكن أن تكون الكثير من الوقائع التاريخية التي سردناها في كتابنا "مكة من الحجاز إلى أميركا" دليلا على ذلك وأثرا لذلك التقاطع وذلك التقارب والمصاهرة والدفاع المشترك غير أننا نزعم أنّ المستوطنات من العبيد السود المسلمين الهاربين والتائقين إلى الحرية، وكذا مستوطنات المسلمين القادمين من الشرق في القرنين الـ18 والـ19 لم تكن هي سبب الوحيد في وجود "مكة" اسما لبعض الأماكن المأهولة في القارة الأميركية ونخصّ هنا ما هو في حدود الولايات المتحدة الأميركية بل يمكن أن نضيف سببا آخر يتمثل في التواجد الإسلامي الأفريقي أو الأندلسي السابق للاستيطان الأوروبي للأراضي الأميركية، وهو أمر أشار إليه كولومبوس نفسه في ملاحظاته، كما أنّه أمر أثبته الكثير من الدراسات في تاريخ الملاحة البحرية وفي صناعة الكرتوغرافيا وفي الأنثروبولوجيا المهتمة بتاريخ السكان الأصليين لأميركا، وأثبته أيضا مسرد الألفاظ العربية في المعجم الشفوي لعديد القبائل الأصلية، وهذا السبب الأخير قد يفسّر لنا وجود قبيلة من سكان أميركا الأصليين اسمها "مكة"، قبيلة حُشرت في محمية بولاية واشنطن بالشمال الغربي للولايات المتحدة على ساحل المحيط الهادي، وقد يفسّر لنا تسمية بعض قبائل أميركا الأصليين لأبنائهم وبناتهم بأسماء: مكة ومكي ومكاوي. وربما يفسّر لنا هذا السبب الأخير شيئا من العلاقة المتشعبة بين ولاية كونيتيكت التي كانت تملك أراضي المحمية الغربية (التي تقع فيها مكة والمدينة بولاية أوهايو حاليا) التي باعت جزءا منها إلى شركة أراضي كونيتيكت وبين طريق "شبكة السكك الحديدية تحت الأرض" لتحرير العبيد الذين من بينهم عبيد مسلمون وبين قبيلة الموهيغن الهندية التي خاصمت مستوطنة كونيتيكت التي استولت على أراضيهم مما اضطر الكثير منهم إلى المغادرة بحثا عن أرض جديدة، تلك القبيلة التي تزعمها في الثلث الأول من القرن الـ18 الساشيم (الزعيم) محمد بن محمد بن أوينيكو صاحب السيرة الخلافية والدرامية التي كانت وراء تسمية بلدتين في أميركا باسم "محمد"، وتلك قصة أخرى.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store