عبء الرجلين الأبيض والمصري
على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية
(3 – 20)
"لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحنياً"
مارتن لوثر كينج
د. النور حمد
عبء الرجلين الأبيض والمصري
العقلية الاستحواذية الجانحة للهيمنة الكاملة التي سبق أن أشرت إليها، هي السمة الجوهرية للنخب الحاكمة في مصرفي التعاطي مع الملف السوداني. وهو بالنسبة لها ملفٌ أمنيٌّ أولاً وأخيرًا. وهذا هو ما أخرج العلاقة المصرية بالسودان من دائرة الفهم المُتَّزن والثقة والتعامل عبر الطرق الدبلوماسية وتقوية المصالح المشتركة إلى دائرة محاولة هندسة الأمور في داخل السودان استخبارتيًا لصالح مصر. وكما سبق أن ذكرت سابقًا أيضًا، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية خلفت وراءها نخبًا وطنيةً في كل البلدان التي خرجت منها قواتها في نهاية الحقبة الاستعمارية، ليتواصل الاستعمار عبر ما سُميَّ "الاستعمار الجديد"، أو قل الاستعمار من بعد بواسطة الوكلاء المحليين، وهو ما فعلته مصر، أيضا. لكن، في حالة مصر مع السودان، كان هناك عنصرٌ إضافيٌّ آخر، أكثر خطرًا، وهو الاستعمار الثقافي الذي تحتل به القوة الاستعمارية عقل الشعب الذي جرى استعماره، أو على الأقل، احتلال عقول الكثيرين من مواطنيه، خاصةً نخبه السياسية والثقافية والتجارية والمجتمعية. وهو ما ينتج عنه خضوعٌ مُركَّبٌ، وشعورٌ بالدونية، يجعل تحقيق التبعية السياسية الاختيارية ميسورا.
بعد أن أخذت أوروبا تجني ثمار الثورة الصناعية، وبعد أن انفردت بحيازة السلاح الناري بصورةٍ نوعيةٍ متفوقةٍ، وبعد أن تعاظمت لديها الحاجة لمختلف المواد الخام مما ليس متوفرًا في بيئتها، ونشأت لديها الحاجة إلى الأسواق الخارجية، شرعت أوروبا في التفكير باحتلال البلدان. غير أن ذلك الجشع الاستعماري جرت تغطيته بأن من واجب أوروبا الإنساني والأخلاقي أن تغزو البلدان غير الصناعية بهدف إخراجها من التخلف وسوقها في طريق التقدم والتمدين. وظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، مع بداية الهجمة الاستعمارية، قصيدة شاعر الإمبراطورية البريطانية الأشهر، روديارد كيبلِنج التي حملت عنوان: "White Man's Burden"، أي عبء الرجل الأبيض في نقل الحضارة إلى أجزاء العالم المتخلفة اقتصاديًا وتكنولوجيا. وسرعان ما أصبحت قصيدة كيبلِبنغ منبع إلهامٍ للإمبريالية الأمريكية حين كانت منخرطةً في حروبها في الفلبين وجزر المحيط الهادي. وهكذا أصبح استعمار الآخرين ونهب ثروات بلدانهم، وطمس ثقافاتهم بالثقافة الوافدة، وإخضاعهم لحكم القوى الاستعمارية، بقوة السلاح، مهمةً نبيلةً تجري تحت زعم إدخال الآخرين في سلك الحضارة، عبر احتلال بلدانهم وإدارتها بالنيابة عنهم لمصلحة المستعمِر.
أما في شمال وادي النيل فقد رأت مصر الخديوية نفسها قوةً متقدمةً حضاريًا مقارنةً بجنوبها. وذهبت، من ثم، تبرر استعمارها للسودان المأهول بأهل البشرة السوداء، المنفصلين نسبيًا آنذاك عن مراكز الحضارة الحديثة، بغرض إدخالهم في سلك الحضارة، حسب زعمها، رغم أن غرضها كان المال والرجال. وقد سبقت مصر باستعمارها السودان في عام 1821، الهجمة الاستعمارية الأوروبية على أفريقيا بخمسين عامًا، كما سبق أن ذكرنا. وبما أن هذه المقالات لا تسمح بالتوسع في كشف هذا الجانب، فإنني أكتفي بإيراد بعض النماذج القليلة من الأدبيات المصرية، لإثبات زعمي هذا. ففي مستهل كتابه المسمى، "مديرية خط الاستواء، من فتحها إلى ضياعها"، كتب الأمير عمر طوسون، حفيد محمد علي باشا، عن التوسع الخديوي المصري جنوبًا في وادي النيل، قائلاً: "لا ريب أن الفكرة التي اختلجت في نفس الخديو إسماعيل والتي دفعته إلى فتح مديرية خط الاستواء وضمها إلى السودان، أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية، فكرة جد صائبة إذ بها تم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه. وأصبحت في قبضتها تلك البحيرات العظمى التي يخرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البلاد". (راجع: عمر طوسون، تاريخ مديرية خط الإستواء المصرية، الإسكندرية: مطبعة العدل (1937)، ص 3). (الخط تحت الجملة أعلاه من وضعي).
السودان ملكٌ مصريٌّ خالص
منذ غزو محمد علي باشا للسودان في عام 1821، أصبح السودان لدى مصر الخديوية "أملاكًا مصرية". ومن نماذج اليقين الراسخ بأن السودان في الذهن المصري "ملكٌ مصريٌّ" خالصٌ، ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وهو يحتفي بتصريحٍ مخاتلٍ أطلقه اللورد سالسبري، في فترة من فترات شراكة إنجلترا ومصر في استعمار السودان. قال الرافعي: لقد صرح اللورد سالسبري بأن وادي النيل كان ولا يزال ملكًا ثابتًا لمصر، وإن حجج الحكومة المصرية في ملكية مجرى النيل، وإن أخفاها نجاح المهدي، إلا أنها ليست محلاً للنزاع، منذ انتصار الجنود المصرية على الدراويش. وقد كتب الدكتور نسيم مقار في مستهل كتابه "مصر وبناء السودان الحديث"، ما نصه: "يرى الباحث في تاريخ مصر على مر العصور والأزمان أن مصر حين تقوى وتنهض وتنال قسطًا متميزًا من التقدم، تسعى إلى أن تنقل حضارتها إلى البلاد الأخرى المجاورة، التي لم تُحظ بما حُظيت به من تقدم حضاري". (راجع: عبد الرحمن الرافعي، مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ، ج ع م، (1962) ، ص 132).
أما المورخ المصري، محمد فؤاد شكري فيقول: "تضافرت عوامل عدة على أن تسيِّر مصر حملةً على السودان، لإدخاله في نطاق ذلك "النظام السياسي الذي أوجده محمد علي، وفرغ من وضع قواعده خصوصًا بين عامي 1807 و1811، على أساس الحكومة المستبدة المستنيرة في الداخل، والتوسع صوب الشرق والجنوب في الخارج". (راجع: محمد فؤاد شكري، مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر 1820 -1899، القاهرة: طبعة مطبعة دار الكتب، (2011)، ص 7). ومحمد فؤاد شكري ممن كتبوا أكثر من كتابٍ عن السودان من المنظور المصري. ومن بين مؤلفاته "مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية 1820–1899". فهو يسمي الاستعمار الخديوي القسري للسودان الذي حدث في عام 1821، واستمر إلى عام 1885، "وحدة وادي النيل"! بل ويضيف إلى ذلك سنوات الحكم المهدوي الذي طرد الاستعمار الخديوي من السودان في عام 1885، واستمر لمدة 14 عامًا، عادًا فترة حكم المهدويين جزءًا مما أسماه وحدة وادي النيل.
أيضًا كتب المؤرخ المصري رأفت غنيمي الشيخ، صاحب كتاب "مصر والسودان في العلاقات الدولية"، نقلاً عن محمد فؤاد شكري، إن محمد علي باشا استند على أمورٍ ثلاثةٍ في فتح السودان، أولها: رسالة مصر في السودان التي لا يمكن التخلي عنها إطلاقا، وهي: الاحتفاظ بشطر الوادي الجنوبي حتى يتسنى لمصر إتمام رسالتها من حيث واجب النهوض بالسودان إلى مصاف الأمم المتمدينة الرشيدة. ويذهب محمد فؤاد شكري إلى تبرير عبء الرجل المصري في تمدين السودانيين بصورة أكثر غرابة حين يقول: إن محمد علي باشا قد استند في غزوه للسودان على ما يُعرف باسم "نظرية الخلو"، أو الملك المباح"، Res Nullius. وحجة شكري في احتلال محمد علي للسودان هي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة، لأن السلطة هناك كانت مغتصبةً من أصحابها الشرعيين، كما أن قبائل العربان، وفقًا لزعمه، قد نشرت الفوضى في السودان. ويواصل شكري قائلا: فإذا استطاع حاكمٌ أن ينتزع هذه الأراضي السودانية من قبضة أولئك الذين اغتصبوا كل سلطةٍ بها، وأن يُنشئ حكومةً مرهوبة الجانب، تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو الأجنبي، وتكفل لأهله الاستقرار والعيش في هدوء وسلام، فقد صار واجبًا أن يستمتع هذا الحاكم بكل ما يخوله له سلطانه أو سلطته من حقوق السيادة على هذه الأراضي الخالية، وهذا الملك المباح أصلا. ونسمع اليوم نفس هذه النبرة من الحكومة المصرية وهي تحشر أنفها (بقوة عين عجيبة)، في شؤون السودان.
لم تقف هذه التسبيبات المصرية الخديوية الاستعمارية الاستحواذية الواهية عند حد احتلال أراضي السودان، وإنما تعدته لاحتلال قسم وادي النيل الجنوابي الواقع في منطقة البحيرات العظمى جنوب غوندكرو. فقد أصدر الخديو إسماعيل فرمانًا حين شرعت مصر الخديوية في احتلال المديرية الإستوائية جنوب مدينة غندكرو ، في العام 1869م، جاء فيه: "نحن إسماعيل خديو مصر، قد أمرنا بما هو آتٍ: نظرًا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل، ونظرًا لأن النواحي المذكورة ليس بها حكومة، ولا قوانين ولا أمن، ولأن الشرائع السماوية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها المنتشرين في تلك النواحي، ولأن تأسيس تجارة شرعية في النواحي المشار إليها يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب التجارية ويساعد على إقامة حكومة ثابتة، أمرنا بما هو آت: تؤلف حملة لإخضاع النواحي الواقعة جنوب غوندكرو لسلطتنا". (عمر طوسون، مصدر سابق، ص 13).
الشعور بالاستحقاق المطلق
يتضح جليًّا مما أوردناه من نماذج كتابات المؤرخين المصريين البارزين، أن لدى الإدارات المصرية وأكاديمييها البارزين شعورٌ طاغ وراسخٌ بالاستحقاق المطلق لاحتلال أراضي الغير ونهب ثرواتهم. والتذرع في ذلك التعدي الاستعماري بحجج واهية، بل ومضحكة، كقولهم إن تمدين المناطق غير المتمدنة من مسؤوليتهم. أو قولهم، إن تلك المناطق بلا حكومات، وأنها غارقة في الفوضى، ولابد من غزوها للقضاء على تلك الفوضى، أو لمحاربة تجارة الرقيق. هذا في حين أن حملة محمد علي باشا التي احتلت السودان في عام 1821، قد كان أحد غرضيها الأساسيين اصطياد الرقيق وجلبهم من السودان إلى مصر للعمل سُخرةً في جيش محمد علي باشا. ويؤكد هذا التوجه المؤرخ العراقي ممتاز العارف حين قال: إن الخطة الخديوية لاحتلال السودان وقف وراءها هدفان وهما، أولا: الحصول على أكبر كمية من الذهب، وثانيا: جمع أربعين ألفا من العبيد وإرسالهم إلى القاهرة. (راجع: ممتاز العارف، الأحباش بين مأرب وأكسوم: لمحات تاريخية من العلاقات العربية الحبشية ونشوء دولة إثيوبيا الحديثة، صيدا: منشورات المكتبة العصرية، (1975)، ص 103). فما بين عام 1821 وهو عام بداية الاحتلال الخديوي امصري للسودان، وعام 1839، بلغت أعداد الرقيق الذين أرسلوا إلى مصر 200 ألف. وعمومًا كان الاحتلال المصري الخديوي للسودان مهمةً لحمتها وسداها الاسترقاق والنهب. ويروي المستكشف البريطاني، صمويل بيكر، الذي زار الخرطوم في العام 1862م، أي بعد أربعين عاماً من بداية الاحتلال المصري الخديوي للسودان، أن الذي رآه في الخرطوم كان عملية نهبٍ بشعةٍ لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، اشترك فيها كل موظفٍ في الدولة من الحاكم العام إلى أصغر خفير. ويضيف بيكر أن الجنود الذين تتكون منهم حامية الخرطوم كانوا يعيشون في البلاد كجيشٍ محتل، وقد انعدمت في قلوبهم الرحمة. كان كل ما يهمهم هو جمع الضرائب والتي كانت تُجبى بإلهاب ظهور الناس بالسياط. وسكان الخرطوم البالغ عددهم آنذاك ثلاثين الفًا لم يكن في وسع أي واحدٍ منهم أن يقضي غرضا دون أن يستعين بالرشوة، وكان الجلد والتعذيب شيئاً عاديا. (راجع: محمد إبراهيم ابو سليم، تاريخ الخرطوم ، بيروت ، دار الجيل، (1999)، ص 62).
هذه الذهنية المصرية التي ترى أن أراضي السودان وموارده المائية والزراعية والحيوانية والغابية والمعدنية حقًّا حصريًا للمصريين، لا يستحق منه السودانيون شيئًا، أمرٌ تؤكد شواهد كثيرة للغاية، وبصورةٍ صارخة. وقد عبَّرت هذه الشواهد عن نفسها بجلاءٍ عبر تاريخ هذه العلاقة المصرية السودانية المستشكلة الملتبسة، التي استمرت على مدى زاد حتى الآن على قرنين من الزمان. واللافت، كما سبقت الإشارة، أن هذه النظرة الخديوية الاستحواذية التي تأسست على استنزاف موارد السودان لم تتغير، حتى بعد نهاية الحقبة الخديوية. وإنما استمرت في عهود كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر، منذ أن جرى تقويض النظام الملكي على يدي الجيش بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، في عام 1952، وحتى يومنا هذا. بل، إن ما حاق بالسودان من نهب للموراد في فترة ما بعد ثورة ديسمبر 2018، قد فاق في حجمه وغرابته كل نهبٍ جرى في الماضي من جانب مصر لموارد السودان. لقد وقف النظام المصري ضد ثورة ديسمبر ووضع كل ثقله وراء الفريق عبد الفتاح البرهان مانحًا له كل الدعم لكي يمارس ألاعيبه الفجة المكشوفة ويوظف نزعته الدموية من أجل الانفراد بالسلطة، ليصبح السودان وموارده تحت يد مصر.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سودارس
منذ 3 أيام
- سودارس
الكيزان ووهم الانتصار بالأكاذيب
النور حمد لم يعرف تاريخ الحكم في السودان حكامًا أسسوا حكمهم على بث الأكاذيب وإغراق الناس في تلافيفها كما فعل الإخوان المسلمون. وما أكثر ما ردد السودانيون ما قاله الدكتور حسن الترابي، عرَّاب كل هذا الخراب العظيم، لقائد انقلابه الذي اختاره ليطيح به النظام الديمقراطي: "إذهب إلى القصر رئيسًا وسأذهب إلى السجن حبيسًا". كانت تلك أولى الأكاذيب التمويهية لهذه الحقبة الكئيبة المظلمة التي أوصلت البلاد إلى هذه الكارثة منعدمة الشبيه التي نعيشها الآن. منذ تلك اللحظة، توالت الأكاذيب والتمويهات إلى يومنا هذا. والمدهش أن كل هذا المسلك الإجرامي الممتد تجري نسبته زورًا وبهتانًا عظيمًا لإرادة السماء. وقد كان من المستغرب جدًا زعم الدكتور الترابي، لاحقًا، أنه لم يكن يعرف العميد عمر حسن أحمد البشير، قائد، انقلابه، إلا قبل يومٍ واحدٍ من تنفيذه الانقلاب. تلك كانت ضربة البداية لفترة حكمٍ كارثيٍّ لنظامٍ بالغ البشاعة، بالغ السوء، مفارقٌ لأبسط قواعد الأخلاق، جرى تأسيسه، منذ اللحظة الأولى، على التمويه والخداع ونشر الأكاذيب، وتبرير كل صور الاستبداد والظلم والقهر. واستمر هذا النظام الشيطاني يمارس، وبلا ونى، بث الأكاذيب وارتداء مسوح التمويه والإسراف في تضليل الرأي العام، إلى أن انتهى به الحال جثَّةً ضخمةً نتنةً، خرافية الأبعاد، لأكبر أكذوبةٍ في تاريخ السودان السياسي. من المأساة إلى المهزلة تقول عبارةٌ منسوبةٌ إلى كارل ماركس: "يعيدُ التاريخُ نفسه؛ فى المرة الأولى كمأساةٍ، ثم يعيدها فى المرة الثانية كمهزلة". ويبدو أننا أكملنا مرحلة المأساة وولجنا مرحلة المآسي الممزوجة بالمهازل. أضاعت علينا، مرحلة المأساة، نحن السودانيين، ثلاثين عامًا حسومًا، جعلنا فيها الإخوان المسلمون ورئيس جمهوريتهم المزعوم، فارغ العقل، ميت القلب، منطفئ الروح، المسمى عمر البشير، أضحوكةً بين شعوب الأرض. وكلنا نذكر كيف أنه أُجلس وهو ضيفٌ رسميٌّ لدى دولةٍ شقيقةٍ مع صبي. كما نذكر كيف هرب من عاصمةٍ إفريقيةٍ خوف التسليم إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكيف جاءته طائرةٌ خاصةٌ محمَّلةً ب 25 مليون دولاراً، فأخذ ذلك المال إلى بيته. كما نذكر كيف جلس مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتن طالبًا الحماية من بأس الأمريكان. لقد بدأت مرحلة المأساة المختلطة بالمهزلة حين خلق ذلك الرجل الذي قلَّد نفسه رتبة المشير، عبر منظومة الفساد المؤسسي التي رعاها لخدمة الأغراض الشخصية للذين التفوا حوله. لقد أحب الرجل أولئك الذين تحلقوا حوله وطبَّلوا له لقرابة الثلاثة عقود. فخلق لهم من أموال الشعب أوضاعًا اقتصادية مريحة، على التفاوت بينهم. فقاموا هم من جانبهم بنصب المنصات ومكبرات الصوت في الميادين العامة للقاءاته الجماهيرية الزائفة التي كانوا يعدونها له تباعا. فتفننوا في حشد الرجرجة والدهماء للقاءاته الفارغة تلك، بإغراءات لا تتعدى بضعةً من جنيهاتٍ مع ساندويتش بائسٍ وزجاجة من مشروب الكولا أو من رصيفاتها. لكي يأتي هو ليرغي ويزبد بحديثٍ لا معنى له، مندفعًا في الهياج والصياح حتى تنشرخ حباله الصوتية. ثم يختم تلك المهزلة المعتادة على مسرح التفاهة الذي أعدوه له، برقصةٍ بعصا المارشالية، على أنغام قيقم الحماسية. نحن وأمم الجوار في هذه السنوات الثلاثين الكالحة التي أغرقنا فيها الإخوان المسلمون في بحر أكاذيبهم اللجي، كانت الأمم الإفريقية المحيطة بنا منخرطةً في بناء الدولة الوطنية لمرحلة ما بعد الاستعمار وقطعوا في ذلك شوطًا عظيما. هذا حين كان إخوان الشياطين وقائد انقلابهم الذي قوضوا به النظام الديمقراطي غارقين في سرقة المال العام والتغطية عليه بالأكاذيب وصرف الشعب عن المراقبة بالتفاهات من برامج غنائية وخلق نجوم معبودة من مغنين بلا مواهب ولا إدراك لوظيفة الفن وبمنافسات رياضية في أبأس استادات كرة القدم على وجه الأرض. وهكذا سدر هؤلاء الضالون المضلون في غيهم حتى قامت قيامتهم على أيدي فئةٌ من شباب البلاد الأنقياء الأتقياء الشرفاء، من أولي العزم والهمة العالية، وقلبوا الطاولة على غثاثاتهم وتفاهاتهم. لكن، لأنهم يفتقرون إلى النبل والانصاف، فقد ألقت بهم الهزيمة في مستنقع الإنكار والاستكبار. ورمتهم في نيران الحقد والكراهية ونزعات الثأر السقيمة. فشرعوا منذ انتصار الثورة في مرحلتها الأولى في إعداد صنوف الكيد من مراوغاتٍ وخلط للأوراق وبلبلة للرأي العام. مستخدمين في كل ذلك آلتهم الإعلامية التي صنعوها على قرار الآلات الإعلامية الفاشية. فطفقت تبث الأكاذيب وتثير الفتن وتشق الصفوف وتبلبل الرأي العام وتغطي كل حقيقةٍ واضحةٍ ناصعةٍ بأغطيةٍ كثيفةٍ من الأكاذيب. حبل الأكاذيب القصير مارس الإخوان المسلمون عبر تاريخهم السياسي الكذب والتمويه والخداع، وهذه واحدةٌ من أهم صفات معتنقي الأيديولوجيات الدينية المنحرفة. فهم لا يتورعون من فعل شيءٍ مطلقًا يرون أنه يخدم أغراضهم. وبدلاً من أن يروا عظمة شعبهم كما رأى ذلك العالم بأجمعه، فيخلون الطريق له لكي يحقق مطالبه العادلة في الحرية والديمقراطية والتنمية اتجهوا إلى الإيغال في رذائل الكذب والتمويه والخداع إيغالاً مهلكًا. مكبين بوجوههم في حفرة الغي المفضي بأهله إلى النار. قالوا: لن نفض اعتصام الشباب أمام القيادة العامة، ثم ما لبثوا أن قاموا بفضه بأكثر الأساليب وحشيةً ووضاعةً ونذالةً وخسةً وقلة مروءة. ثم وقَّعوا على الوثيقة الدستورية، لكن، ما لبثوا أن احتالوا عليها مختلف الحيل، قبل أن ينقلبوا عليها، هي الأخرى. ثم لمَّا لم يُجد كل ذلك، ولم يقدم الأمور خطوةً واحدةً إلى الأمام، وعندما خرجت قوات الدعم السريع عن طوعهم ووقفت إلى جانب الاتفاق الإطاري، لجأوا إلى استخدام أقصى وأقسى صنوف الكيد، فأشعلوا هذه الحرب اللعينة التي أحرقت الأخضر واليابس، وتسببت في أكبر كارثةٍ إنسانيةٍ عرفها العالم في هذا القرن. نسفوا الاستقرار والأمن ظنا منهم أن هذه هي الطلقة الأخيرة الناجعة لإخضاع الشعب. لكن، هيهات، فقد فشل المخطط وخرج الأمر من أيديهم وسيخرج كل يومٍ جديدٍ أكثر، حتى لا يبقى لهم منه في أيدهم شيء، كان على ربك حتما مقضيا. ويبدو أن الإخوان المسلمين وصنائعم من العسكر لا يعرفون أن ثورات الشعوب من إرادة الله. ومن يغالب إرادة الله يُغلب ولو بعد حين: "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا". سوف ينكشف الغطاء لن يمر وقتٌ طويلٌ حتى ينكشف الغطاء عن الأكاذيب والخداع والتمويه الذي جرى تضليل كثيرٍ من البسطاء به من أبناء شعبنا، عبر السنوات الخمس ونَيْفٍ الماضية. ففي مقابل الإلصاق الكاذب لتهم العمالة والارتزاق بالقوى الوطنية المساندة لأهداف الثورة، سوف ينكشف، في المقابل، الانبطاح المذل والكامل للإخوان المسلمين ولمليشياتهم المسماة جيشًا للنظام المصري وللنظام الإريتري، واستجلابهم المقاتلين المرتزقة من إريتريا ومن التقراي المعارضين للحكومة الإثيوبية وغيرهم من دواعش الدول الإسلامية. كما ستنكشف أكثر وأكثر خدعة كيكل واحتلال مدني وقرى الجزيرة وانسحابات الجيش من مدني وسنجة، ومن غيرها من مدن وقرى السودان. كما ستنكشف حقيقة ترويع أهل الجزيرة الذي قام به كيكل بمساندة عناصر الاستخبارات العسكرية التي جرى إدخالها في قوات الدعم السريع وأُلبست زي قوات الدعم السريع. أيضًا ستنكشف حقائق النهب الواسع لمدينة الخرطوم الذي طال البنوك والمتاجر والبيوت والمرافق الحكومية والمناطق الصناعية. وكذلك ما جرى من حفرٍ واسع النطاق لكابلات النحاس الضخمة وضغطها في مكعبات وتحميلها على الشاحنات وتهريبها إلى دول الجوار. كما ستنكشف الأكاذيب والخدع الكثيرة المتتالية التي روجت لها الآلة الإعلامية الكيزانية الضخمة. وسوف يعرف كثيرون إلى أي مدى قد جرى تضليلهم وأنهم كانوا مخدوعين. المدهش أن كل واحد من الإخوان المسلمين يعرف حقيقة كل هذه الحيل والأكاذيب ولكنهم لا ينزعجون قط من هذه الأساليب ولا يشعرون بأي قدرٍ من الاستخذاء من استخدامها. فهم أصلا لا يبالون؛ لا بقيم الدين وبلا بمقدَّرات الوطن. فالقطر السوداني بالنسبة لهم ليس سوى مزرعةٍ نائيةٍ في بلد مستباح. كل ما يهمهم فيه أن يجنوا ريع موارده لينعموا به عيشًا في الخارج. خلاصة القول: إن مناهضة هؤلاء الظلمة المستبدين الأفاكين واجبٌ أخلاقيٌّ يمليه الدين، كما تمليه القيم الإنسانية والأعراف التي تواضع عليها البشر عبر الأزمنة في مختلف الأمم والملل والنحل. ومن يقصر في مقاومتهم فهو ملومٌ عند الله، وعند الصالحين من الناس الذين سيشهدون عليه يوم الدين.

سودارس
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- سودارس
النور حمد: مصر تخطط لابتلاع السودان وتحالف "تأسيس" هو الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد
صوّب المفكر السياسي وعضو تحالف "تأسيس"، الدكتور النور حمد، انتقادات لاذعة إلى التيار الإسلامي في السودان، ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين، محمّلاً إياه مسؤولية آلت إليه الأوضاع من تفكك وانقسام داخل البلاد، وواصفاً دوره ب"الخطير" في تفتيت النسيج الوطني." واتهم النور حمد، مصر بالسعي لفرض وصايتها الكاملة على السودان، محذراً من أن القاهرة باتت "على وشك ابتلاع السودان نهائياً"، مستغلة حالة الانقسام السياسي والضعف المؤسسي الذي تمر به البلاد. وقال النور حمد في حلقة "حوار الراهن السياسي" مع الإعلامي عزام، إن "القطعة المركزية في هذا الصراع هي مصر، التي باتت تتحدث عن السودان وكأنه محافظة مصرية"، لافتاً إلى أن مشاريع إعادة الإعمار التي تروج لها القاهرة ، خاصة في شرق البلاد، تُعد غطاءً لتحركات استراتيجية تهدف للهيمنة الاقتصادية والسياسية على السودان. وأضاف: "البرهان أعطى لمصر ما لم يُعط لها أي حاكم سوداني منذ الاستقلال، والخطة بدأت منذ أيام إغلاق جماعة "الناظر ترك" للميناء، واستُخدمت لقطع الطريق البري في عهد حكومة د. عبدالله حمدوك، وأصبح التجار السودانيون يصدرون بضائعهم عبر الموانئ المصرية، بدلاً من ميناء بورتسودان". وأكد أن تحالف "تأسيس" هو الكيان السياسي الوحيد القادر على إعادة ضبط العلاقة مع مصر، مشيراً إلى أن أي تساهل في هذا الملف سيؤدي إلى فقدان ما تبقى من سيادة السودان، قائلاً: "إذا لم نتحرك الآن، علينا أن ننسى السودان". وفي انتقادات حادة وجهها للتيار الإسلامي في البلاد، قال النور حمد إن "الكيزان" يقفون وراء تدمير الدولة المدنية وتقسيم السودان، مضيفاً: "هم المسؤولون عن فصل الجنوب، ويعملون الآن على فصل دارفور. من يظن أن الجيش سينظف البلد من الكيزان فهو واهم". وأشار إلى أن الحرب الحالية دمرت الفضاء المدني، وهو ما سعى إليه الإسلاميون منذ البداية، مستغلين العنف لتعطيل الثورة وعرقلة أي تحول ديمقراطي. وتابع: "من يعتقد أن العمل المدني وحده قادر على استرداد البلاد من سطوة "الكيزان"، عليه أن يراجع نفسه، فذلك مستحيل… لابد من تحالف مدني عسكري للقضاء عليهم". ورأى حمد أن "تأسيس" هو التحالف الوحيد الذي يملك القوة والتصور لإحداث تغيير حقيقي، مشدداً على ضرورة تفكيك الدولة الموازية التي أنشأها الإسلاميون، بما فيها مؤسسات التعليم والصحة والاقتصاد، والتي وصفها بأنها "تغذت من موارد النفط والذهب، بينما عاشت دولة الشعب على الفتات". وفي السياق دعا النور حمد إلى تجاوز الخطابات الرغبوية والانخراط في تحليل علمي للواقع، موضحاً أن "السلم لا يتحقق إلا إذا كان لديك عصا"، في إشارة إلى أهمية الردع في مواجهة ما وصفه ب"الطغمة الظالمة".

سودارس
٠١-٠٤-٢٠٢٥
- سودارس
عبء الرجلين الأبيض والمصري
على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية (3 – 20) "لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحنياً" مارتن لوثر كينج د. النور حمد عبء الرجلين الأبيض والمصري العقلية الاستحواذية الجانحة للهيمنة الكاملة التي سبق أن أشرت إليها، هي السمة الجوهرية للنخب الحاكمة في مصرفي التعاطي مع الملف السوداني. وهو بالنسبة لها ملفٌ أمنيٌّ أولاً وأخيرًا. وهذا هو ما أخرج العلاقة المصرية بالسودان من دائرة الفهم المُتَّزن والثقة والتعامل عبر الطرق الدبلوماسية وتقوية المصالح المشتركة إلى دائرة محاولة هندسة الأمور في داخل السودان استخبارتيًا لصالح مصر. وكما سبق أن ذكرت سابقًا أيضًا، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية خلفت وراءها نخبًا وطنيةً في كل البلدان التي خرجت منها قواتها في نهاية الحقبة الاستعمارية، ليتواصل الاستعمار عبر ما سُميَّ "الاستعمار الجديد"، أو قل الاستعمار من بعد بواسطة الوكلاء المحليين، وهو ما فعلته مصر، أيضا. لكن، في حالة مصر مع السودان، كان هناك عنصرٌ إضافيٌّ آخر، أكثر خطرًا، وهو الاستعمار الثقافي الذي تحتل به القوة الاستعمارية عقل الشعب الذي جرى استعماره، أو على الأقل، احتلال عقول الكثيرين من مواطنيه، خاصةً نخبه السياسية والثقافية والتجارية والمجتمعية. وهو ما ينتج عنه خضوعٌ مُركَّبٌ، وشعورٌ بالدونية، يجعل تحقيق التبعية السياسية الاختيارية ميسورا. بعد أن أخذت أوروبا تجني ثمار الثورة الصناعية، وبعد أن انفردت بحيازة السلاح الناري بصورةٍ نوعيةٍ متفوقةٍ، وبعد أن تعاظمت لديها الحاجة لمختلف المواد الخام مما ليس متوفرًا في بيئتها، ونشأت لديها الحاجة إلى الأسواق الخارجية، شرعت أوروبا في التفكير باحتلال البلدان. غير أن ذلك الجشع الاستعماري جرت تغطيته بأن من واجب أوروبا الإنساني والأخلاقي أن تغزو البلدان غير الصناعية بهدف إخراجها من التخلف وسوقها في طريق التقدم والتمدين. وظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، مع بداية الهجمة الاستعمارية، قصيدة شاعر الإمبراطورية البريطانية الأشهر، روديارد كيبلِنج التي حملت عنوان: "White Man's Burden"، أي عبء الرجل الأبيض في نقل الحضارة إلى أجزاء العالم المتخلفة اقتصاديًا وتكنولوجيا. وسرعان ما أصبحت قصيدة كيبلِبنغ منبع إلهامٍ للإمبريالية الأمريكية حين كانت منخرطةً في حروبها في الفلبين وجزر المحيط الهادي. وهكذا أصبح استعمار الآخرين ونهب ثروات بلدانهم، وطمس ثقافاتهم بالثقافة الوافدة، وإخضاعهم لحكم القوى الاستعمارية، بقوة السلاح، مهمةً نبيلةً تجري تحت زعم إدخال الآخرين في سلك الحضارة، عبر احتلال بلدانهم وإدارتها بالنيابة عنهم لمصلحة المستعمِر. أما في شمال وادي النيل فقد رأت مصر الخديوية نفسها قوةً متقدمةً حضاريًا مقارنةً بجنوبها. وذهبت، من ثم، تبرر استعمارها للسودان المأهول بأهل البشرة السوداء، المنفصلين نسبيًا آنذاك عن مراكز الحضارة الحديثة، بغرض إدخالهم في سلك الحضارة، حسب زعمها، رغم أن غرضها كان المال والرجال. وقد سبقت مصر باستعمارها السودان في عام 1821، الهجمة الاستعمارية الأوروبية على أفريقيا بخمسين عامًا، كما سبق أن ذكرنا. وبما أن هذه المقالات لا تسمح بالتوسع في كشف هذا الجانب، فإنني أكتفي بإيراد بعض النماذج القليلة من الأدبيات المصرية، لإثبات زعمي هذا. ففي مستهل كتابه المسمى، "مديرية خط الاستواء، من فتحها إلى ضياعها"، كتب الأمير عمر طوسون، حفيد محمد علي باشا، عن التوسع الخديوي المصري جنوبًا في وادي النيل، قائلاً: "لا ريب أن الفكرة التي اختلجت في نفس الخديو إسماعيل والتي دفعته إلى فتح مديرية خط الاستواء وضمها إلى السودان، أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية، فكرة جد صائبة إذ بها تم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه. وأصبحت في قبضتها تلك البحيرات العظمى التي يخرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البلاد". (راجع: عمر طوسون، تاريخ مديرية خط الإستواء المصرية، الإسكندرية: مطبعة العدل (1937)، ص 3). (الخط تحت الجملة أعلاه من وضعي). السودان ملكٌ مصريٌّ خالص منذ غزو محمد علي باشا للسودان في عام 1821، أصبح السودان لدى مصر الخديوية "أملاكًا مصرية". ومن نماذج اليقين الراسخ بأن السودان في الذهن المصري "ملكٌ مصريٌّ" خالصٌ، ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وهو يحتفي بتصريحٍ مخاتلٍ أطلقه اللورد سالسبري، في فترة من فترات شراكة إنجلترا ومصر في استعمار السودان. قال الرافعي: لقد صرح اللورد سالسبري بأن وادي النيل كان ولا يزال ملكًا ثابتًا لمصر، وإن حجج الحكومة المصرية في ملكية مجرى النيل، وإن أخفاها نجاح المهدي، إلا أنها ليست محلاً للنزاع، منذ انتصار الجنود المصرية على الدراويش. وقد كتب الدكتور نسيم مقار في مستهل كتابه "مصر وبناء السودان الحديث"، ما نصه: "يرى الباحث في تاريخ مصر على مر العصور والأزمان أن مصر حين تقوى وتنهض وتنال قسطًا متميزًا من التقدم، تسعى إلى أن تنقل حضارتها إلى البلاد الأخرى المجاورة، التي لم تُحظ بما حُظيت به من تقدم حضاري". (راجع: عبد الرحمن الرافعي، مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ، ج ع م، (1962) ، ص 132). أما المورخ المصري، محمد فؤاد شكري فيقول: "تضافرت عوامل عدة على أن تسيِّر مصر حملةً على السودان، لإدخاله في نطاق ذلك "النظام السياسي الذي أوجده محمد علي، وفرغ من وضع قواعده خصوصًا بين عامي 1807 و1811، على أساس الحكومة المستبدة المستنيرة في الداخل، والتوسع صوب الشرق والجنوب في الخارج". (راجع: محمد فؤاد شكري، مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر 1820 -1899، القاهرة: طبعة مطبعة دار الكتب، (2011)، ص 7). ومحمد فؤاد شكري ممن كتبوا أكثر من كتابٍ عن السودان من المنظور المصري. ومن بين مؤلفاته "مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية 1820–1899". فهو يسمي الاستعمار الخديوي القسري للسودان الذي حدث في عام 1821، واستمر إلى عام 1885، "وحدة وادي النيل"! بل ويضيف إلى ذلك سنوات الحكم المهدوي الذي طرد الاستعمار الخديوي من السودان في عام 1885، واستمر لمدة 14 عامًا، عادًا فترة حكم المهدويين جزءًا مما أسماه وحدة وادي النيل. أيضًا كتب المؤرخ المصري رأفت غنيمي الشيخ، صاحب كتاب "مصر والسودان في العلاقات الدولية"، نقلاً عن محمد فؤاد شكري، إن محمد علي باشا استند على أمورٍ ثلاثةٍ في فتح السودان، أولها: رسالة مصر في السودان التي لا يمكن التخلي عنها إطلاقا، وهي: الاحتفاظ بشطر الوادي الجنوبي حتى يتسنى لمصر إتمام رسالتها من حيث واجب النهوض بالسودان إلى مصاف الأمم المتمدينة الرشيدة. ويذهب محمد فؤاد شكري إلى تبرير عبء الرجل المصري في تمدين السودانيين بصورة أكثر غرابة حين يقول: إن محمد علي باشا قد استند في غزوه للسودان على ما يُعرف باسم "نظرية الخلو"، أو الملك المباح"، Res Nullius. وحجة شكري في احتلال محمد علي للسودان هي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة، لأن السلطة هناك كانت مغتصبةً من أصحابها الشرعيين، كما أن قبائل العربان، وفقًا لزعمه، قد نشرت الفوضى في السودان. ويواصل شكري قائلا: فإذا استطاع حاكمٌ أن ينتزع هذه الأراضي السودانية من قبضة أولئك الذين اغتصبوا كل سلطةٍ بها، وأن يُنشئ حكومةً مرهوبة الجانب، تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو الأجنبي، وتكفل لأهله الاستقرار والعيش في هدوء وسلام، فقد صار واجبًا أن يستمتع هذا الحاكم بكل ما يخوله له سلطانه أو سلطته من حقوق السيادة على هذه الأراضي الخالية، وهذا الملك المباح أصلا. ونسمع اليوم نفس هذه النبرة من الحكومة المصرية وهي تحشر أنفها (بقوة عين عجيبة)، في شؤون السودان. لم تقف هذه التسبيبات المصرية الخديوية الاستعمارية الاستحواذية الواهية عند حد احتلال أراضي السودان، وإنما تعدته لاحتلال قسم وادي النيل الجنوابي الواقع في منطقة البحيرات العظمى جنوب غوندكرو. فقد أصدر الخديو إسماعيل فرمانًا حين شرعت مصر الخديوية في احتلال المديرية الإستوائية جنوب مدينة غندكرو ، في العام 1869م، جاء فيه: "نحن إسماعيل خديو مصر، قد أمرنا بما هو آتٍ: نظرًا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل، ونظرًا لأن النواحي المذكورة ليس بها حكومة، ولا قوانين ولا أمن، ولأن الشرائع السماوية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها المنتشرين في تلك النواحي، ولأن تأسيس تجارة شرعية في النواحي المشار إليها يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب التجارية ويساعد على إقامة حكومة ثابتة، أمرنا بما هو آت: تؤلف حملة لإخضاع النواحي الواقعة جنوب غوندكرو لسلطتنا". (عمر طوسون، مصدر سابق، ص 13). الشعور بالاستحقاق المطلق يتضح جليًّا مما أوردناه من نماذج كتابات المؤرخين المصريين البارزين، أن لدى الإدارات المصرية وأكاديمييها البارزين شعورٌ طاغ وراسخٌ بالاستحقاق المطلق لاحتلال أراضي الغير ونهب ثرواتهم. والتذرع في ذلك التعدي الاستعماري بحجج واهية، بل ومضحكة، كقولهم إن تمدين المناطق غير المتمدنة من مسؤوليتهم. أو قولهم، إن تلك المناطق بلا حكومات، وأنها غارقة في الفوضى، ولابد من غزوها للقضاء على تلك الفوضى، أو لمحاربة تجارة الرقيق. هذا في حين أن حملة محمد علي باشا التي احتلت السودان في عام 1821، قد كان أحد غرضيها الأساسيين اصطياد الرقيق وجلبهم من السودان إلى مصر للعمل سُخرةً في جيش محمد علي باشا. ويؤكد هذا التوجه المؤرخ العراقي ممتاز العارف حين قال: إن الخطة الخديوية لاحتلال السودان وقف وراءها هدفان وهما، أولا: الحصول على أكبر كمية من الذهب، وثانيا: جمع أربعين ألفا من العبيد وإرسالهم إلى القاهرة. (راجع: ممتاز العارف، الأحباش بين مأرب وأكسوم: لمحات تاريخية من العلاقات العربية الحبشية ونشوء دولة إثيوبيا الحديثة، صيدا: منشورات المكتبة العصرية، (1975)، ص 103). فما بين عام 1821 وهو عام بداية الاحتلال الخديوي امصري للسودان، وعام 1839، بلغت أعداد الرقيق الذين أرسلوا إلى مصر 200 ألف. وعمومًا كان الاحتلال المصري الخديوي للسودان مهمةً لحمتها وسداها الاسترقاق والنهب. ويروي المستكشف البريطاني، صمويل بيكر، الذي زار الخرطوم في العام 1862م، أي بعد أربعين عاماً من بداية الاحتلال المصري الخديوي للسودان، أن الذي رآه في الخرطوم كان عملية نهبٍ بشعةٍ لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، اشترك فيها كل موظفٍ في الدولة من الحاكم العام إلى أصغر خفير. ويضيف بيكر أن الجنود الذين تتكون منهم حامية الخرطوم كانوا يعيشون في البلاد كجيشٍ محتل، وقد انعدمت في قلوبهم الرحمة. كان كل ما يهمهم هو جمع الضرائب والتي كانت تُجبى بإلهاب ظهور الناس بالسياط. وسكان الخرطوم البالغ عددهم آنذاك ثلاثين الفًا لم يكن في وسع أي واحدٍ منهم أن يقضي غرضا دون أن يستعين بالرشوة، وكان الجلد والتعذيب شيئاً عاديا. (راجع: محمد إبراهيم ابو سليم، تاريخ الخرطوم ، بيروت ، دار الجيل، (1999)، ص 62). هذه الذهنية المصرية التي ترى أن أراضي السودان وموارده المائية والزراعية والحيوانية والغابية والمعدنية حقًّا حصريًا للمصريين، لا يستحق منه السودانيون شيئًا، أمرٌ تؤكد شواهد كثيرة للغاية، وبصورةٍ صارخة. وقد عبَّرت هذه الشواهد عن نفسها بجلاءٍ عبر تاريخ هذه العلاقة المصرية السودانية المستشكلة الملتبسة، التي استمرت على مدى زاد حتى الآن على قرنين من الزمان. واللافت، كما سبقت الإشارة، أن هذه النظرة الخديوية الاستحواذية التي تأسست على استنزاف موارد السودان لم تتغير، حتى بعد نهاية الحقبة الخديوية. وإنما استمرت في عهود كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر، منذ أن جرى تقويض النظام الملكي على يدي الجيش بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، في عام 1952، وحتى يومنا هذا. بل، إن ما حاق بالسودان من نهب للموراد في فترة ما بعد ثورة ديسمبر 2018، قد فاق في حجمه وغرابته كل نهبٍ جرى في الماضي من جانب مصر لموارد السودان. لقد وقف النظام المصري ضد ثورة ديسمبر ووضع كل ثقله وراء الفريق عبد الفتاح البرهان مانحًا له كل الدعم لكي يمارس ألاعيبه الفجة المكشوفة ويوظف نزعته الدموية من أجل الانفراد بالسلطة، ليصبح السودان وموارده تحت يد مصر.