
أزمة القراءة عند الأطفال العرب: بين المناهج والواقع
د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان تُعدّ القراءة من الركائز الأساسية في بناء الشخصية الفكرية والثقافية للطفل. فهي لا تقتصر على كونها مهارة لغوية فحسب، بل تمثل نافذة على العالم، ومفتاحًا للابتكار، وأداة لتشكيل الهوية والانتماء. في العالم العربي، تتفاقم أزمة القراءة في أوساط الأطفال، في ظل غياب سياسات تربوية واضحة، وبيئات حاضنة للقراءة، ومنافسة غير متكافئة مع الوسائل الرقمية الترفيهية.
واقع القراءة عند الأطفال العرب: إحصاءات مقلقة
أشارت دراسة صادرة عن مؤسسة الفكر العربي (2016) إلى أن معدّل قراءة الطفل العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويًا، في مقابل 2190 دقيقة سنويًا للطفل الغربي. كما أظهر 'تقرير التنمية الإنسانية العربية' التابع للأمم المتحدة (2015) أن كل 80 طفلًا عربيًا يشتركون في كتاب واحد سنويًا، في حين يمتلك كل طفل في أوروبا كتابًا خاصًا به على الأقل.
تلك الأرقام الصادمة لا تُشير فقط إلى أزمة في العادات، بل إلى غياب البنية التحتية الثقافية والتربوية الداعمة للقراءة الحرة في مراحل الطفولة المبكرة.
عوامل تعمّق الأزمة
1. مناهج دراسية تقليدية
لا تزال العديد من المناهج العربية تعتمد على التلقين وتفتقر إلى أدوات تنمية التفكير النقدي والخيال. وغالبًا ما يُقدَّم النص القرائي بوصفه وسيلة للاختبار لا للاكتشاف، مما يفقد الطفل حماسه وفضوله.
2. ضعف البيئة المنزلية والثقافية
القراءة في معظم البيوت العربية لا تُمارَس كعادة يومية. وغالبًا ما يكون الكتاب غائبًا عن المشهد المنزلي، ما يحرم الطفل من النمو في بيئة تعتبر الكتاب جزءًا من الحياة.
3. غياب القدوة
لا يرى الطفل العربي في محيطه نماذج قارئة يُحتذى بها. فالمعلمون، والإعلاميون، والمشاهير قلّما يظهرون في مشاهد تشجّع على القراءة، مما يعمّق الفجوة بين الطفل والكتاب.
4. الإغراء الرقمي والتكنولوجيا الترفيهية
أجهزة الهواتف والألواح الذكية باتت تمثل الملاذ الأول للترفيه. في ظل غياب محتوى رقمي قرائي جذّاب باللغة العربية، يميل الأطفال إلى المحتوى المرئي القصير، ما يقلل من قدرتهم على التركيز ويضعف مهارات القراءة الطويلة.
مبادرات ناجحة ونماذج ملهمة
- تحدي القراءة العربي
أطلقته الإمارات عام 2015، ويُعدّ من أكبر مشاريع تحفيز القراءة في العالم العربي. وقد شارك فيه حتى الآن أكثر من 70 مليون طالب من مختلف الدول.
- منصات قصصية عربية رقمية
مثل منصتي 'براعم' و'أطفالنا'، اللتان تقدّمان محتوى قصصيًا باللغة العربية بتصميم تفاعلي يواكب التطور التكنولوجي ويستهدف الأطفال من عمر 3 إلى 12 سنة.
- المكتبات المتنقلة
في دول كلبنان، تونس، والأردن، ظهرت مبادرات تهدف إلى إيصال الكتب إلى الأطفال في المناطق النائية، وتجاوز العوائق الجغرافية والاقتصادية التي تحول دون وصولهم إلى مصادر المعرفة.
نحو استراتيجيات فاعلة
من أجل مواجهة هذه الأزمة البنيوية، ثمة حاجة ماسّة إلى: • تضمين القراءة الحرة في البرامج التربوية الأساسية، بعيدًا عن ضغط التقييم والاختبارات. • إشراك الأهل في مشاريع تشجيع القراءة المنزلية، من خلال تدريبات، وحصص إرشادية، وتوزيع كتب مجانية. • تطوير محتوى قصصي عصري باللغة العربية، يجمع بين البعد الترفيهي والجمالي والقيمي. • تعزيز دور الإعلام والمؤثرين العرب في الترويج للكتاب كجزء من الثقافة اليومية.
ختاما، القراءة ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية وحضارية. إن واقع القراءة عند الأطفال العرب يستدعي تحرّكًا عاجلًا من قبل الأسر، والمؤسسات التعليمية، والوزارات الثقافية، والمجتمع المدني. فالطفل القارئ اليوم هو صانع التغيير غدًا. وما لم نمنحه كتابًا يُنير خياله، فسنجد أنفسنا في مستقبل مُظلم يفتقد إلى الفكرة، والسؤال، والإبداع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صوت لبنان
٢٣-٠٤-٢٠٢٥
- صوت لبنان
أزمة القراءة عند الأطفال العرب: بين المناهج والواقع
د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان تُعدّ القراءة من الركائز الأساسية في بناء الشخصية الفكرية والثقافية للطفل. فهي لا تقتصر على كونها مهارة لغوية فحسب، بل تمثل نافذة على العالم، ومفتاحًا للابتكار، وأداة لتشكيل الهوية والانتماء. في العالم العربي، تتفاقم أزمة القراءة في أوساط الأطفال، في ظل غياب سياسات تربوية واضحة، وبيئات حاضنة للقراءة، ومنافسة غير متكافئة مع الوسائل الرقمية الترفيهية. واقع القراءة عند الأطفال العرب: إحصاءات مقلقة أشارت دراسة صادرة عن مؤسسة الفكر العربي (2016) إلى أن معدّل قراءة الطفل العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويًا، في مقابل 2190 دقيقة سنويًا للطفل الغربي. كما أظهر 'تقرير التنمية الإنسانية العربية' التابع للأمم المتحدة (2015) أن كل 80 طفلًا عربيًا يشتركون في كتاب واحد سنويًا، في حين يمتلك كل طفل في أوروبا كتابًا خاصًا به على الأقل. تلك الأرقام الصادمة لا تُشير فقط إلى أزمة في العادات، بل إلى غياب البنية التحتية الثقافية والتربوية الداعمة للقراءة الحرة في مراحل الطفولة المبكرة. عوامل تعمّق الأزمة 1. مناهج دراسية تقليدية لا تزال العديد من المناهج العربية تعتمد على التلقين وتفتقر إلى أدوات تنمية التفكير النقدي والخيال. وغالبًا ما يُقدَّم النص القرائي بوصفه وسيلة للاختبار لا للاكتشاف، مما يفقد الطفل حماسه وفضوله. 2. ضعف البيئة المنزلية والثقافية القراءة في معظم البيوت العربية لا تُمارَس كعادة يومية. وغالبًا ما يكون الكتاب غائبًا عن المشهد المنزلي، ما يحرم الطفل من النمو في بيئة تعتبر الكتاب جزءًا من الحياة. 3. غياب القدوة لا يرى الطفل العربي في محيطه نماذج قارئة يُحتذى بها. فالمعلمون، والإعلاميون، والمشاهير قلّما يظهرون في مشاهد تشجّع على القراءة، مما يعمّق الفجوة بين الطفل والكتاب. 4. الإغراء الرقمي والتكنولوجيا الترفيهية أجهزة الهواتف والألواح الذكية باتت تمثل الملاذ الأول للترفيه. في ظل غياب محتوى رقمي قرائي جذّاب باللغة العربية، يميل الأطفال إلى المحتوى المرئي القصير، ما يقلل من قدرتهم على التركيز ويضعف مهارات القراءة الطويلة. مبادرات ناجحة ونماذج ملهمة - تحدي القراءة العربي أطلقته الإمارات عام 2015، ويُعدّ من أكبر مشاريع تحفيز القراءة في العالم العربي. وقد شارك فيه حتى الآن أكثر من 70 مليون طالب من مختلف الدول. - منصات قصصية عربية رقمية مثل منصتي 'براعم' و'أطفالنا'، اللتان تقدّمان محتوى قصصيًا باللغة العربية بتصميم تفاعلي يواكب التطور التكنولوجي ويستهدف الأطفال من عمر 3 إلى 12 سنة. - المكتبات المتنقلة في دول كلبنان، تونس، والأردن، ظهرت مبادرات تهدف إلى إيصال الكتب إلى الأطفال في المناطق النائية، وتجاوز العوائق الجغرافية والاقتصادية التي تحول دون وصولهم إلى مصادر المعرفة. نحو استراتيجيات فاعلة من أجل مواجهة هذه الأزمة البنيوية، ثمة حاجة ماسّة إلى: • تضمين القراءة الحرة في البرامج التربوية الأساسية، بعيدًا عن ضغط التقييم والاختبارات. • إشراك الأهل في مشاريع تشجيع القراءة المنزلية، من خلال تدريبات، وحصص إرشادية، وتوزيع كتب مجانية. • تطوير محتوى قصصي عصري باللغة العربية، يجمع بين البعد الترفيهي والجمالي والقيمي. • تعزيز دور الإعلام والمؤثرين العرب في الترويج للكتاب كجزء من الثقافة اليومية. ختاما، القراءة ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية وحضارية. إن واقع القراءة عند الأطفال العرب يستدعي تحرّكًا عاجلًا من قبل الأسر، والمؤسسات التعليمية، والوزارات الثقافية، والمجتمع المدني. فالطفل القارئ اليوم هو صانع التغيير غدًا. وما لم نمنحه كتابًا يُنير خياله، فسنجد أنفسنا في مستقبل مُظلم يفتقد إلى الفكرة، والسؤال، والإبداع.


ليبانون 24
١٤-٠٣-٢٠٢٥
- ليبانون 24
تعيين رائدة أعمال ومُؤثّرة لبنانيّة سفيرة جديدة للنوايا الحسنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن تعيين رائدة الأعمال والشخصية المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي كارن وازن، سفيرةً جديدة للنوايا الحسنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالتزامن مع حلول شهر رمضان المبارك، وفي إطار حملة المفوضية الرمضانية تحت شعار "في العسر، زكاتك سند ويسر"، أطلقت كارن مبادرة خاصة من خلال علامتها التجارية، حيث ستُخصَّص عائدات مبيعاتها خلال الشهر الفضيل لتوفير المساعدات المنقذة للحياة للنازحين قسراً، بما في ذلك المأوى والدواء والغذاء والمياه النظيفة، بالشراكة مع المفوضية. (لها)


صوت لبنان
٠٥-٠٣-٢٠٢٥
- صوت لبنان
رمضان والصوم الكبير… عندما تجمعنا اللغة وتجربة الصيام!
د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان هذا العام، نشهد حدثًا نادرًا حيث يتزامن شهر رمضان المبارك مع الصوم الكبير المسيحي، ليعيش الملايين من المسلمين والمسيحيين تجربة الصيام في الفترة الزمنية نفسها. هذه الصدفة ليست مجرد تداخل في التقويم، بل هي فرصة للتأمل في القيم الروحية المشتركة، ودور اللغة في التعبير عن هذه التجربة بطرق مختلفة، لكنها تحمل معاني متقاربة في جوهرها. 1. الصيام في الإسلام والمسيحية… عبادة روحية واحدة بأساليب مختلفة يعتبر الصيام ركنًا أساسيًا في الإسلام، حيث يمتنع المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر حتى المغرب، مع تخصيص الشهر للعبادة، والتهجد، والتقرب من الله. في المقابل، يلتزم المسيحيون بالصوم الكبير، حيث يمتنعون عن أنواع محددة من الطعام، مثل اللحوم ومنتجات الألبان، مع تركيز على الصلاة والتوبة والتأمل في الفداء. رغم اختلاف طريقة الصيام، فإن الهدف الأساسي واحد: ضبط النفس، تنقية الروح، وتعزيز العلاقة مع الله. الصيام في الديانتين هو رحلة داخلية تساعد الإنسان على التحرر من الشهوات المادية والتركيز على البُعد الروحي للحياة. 2. لغة الصيام… مفردات تجمعنا تعكس اللغة العربية تجربة الصيام من خلال مفردات وتعبيرات تحمل دلالات روحية عميقة، سواء في رمضان أو الصوم الكبير. من العبارات الشائعة في رمضان: • 'اللهم إني صائم'، والتي يستخدمها المسلم للتذكير بنية الصيام. • 'رمضان كريم' و*'صيامًا مقبولًا وإفطارًا شهيًا'*، تعبيرات تُظهر روح المحبة والمشاركة. • 'الإفطار'، حيث يُفطر المسلم بعد أذان المغرب، وتتحول المائدة إلى رمز للتآخي والرحمة. أما في الصوم المسيحي، فتظهر عبارات مشابهة: • 'صومًا مباركًا' و*'صومًا مقبولًا'*، تعبير عن التمني للآخرين بأن يكون صيامهم مقبولًا أمام الله. • 'كسر الصيام'، حيث يُفطر الصائم المسيحي بعد الصلوات المسائية، مما يعكس ذات الفكرة الموجودة في الإسلام. رغم اختلاف المفردات، فإنها تعبّر عن روح الالتزام والسمو الروحي نفسه، ما يؤكد أن اللغة تعكس التجربة الإنسانية المشتركة في التعبير عن القيم الروحية. 3. عندما تلتقي الأذان مع أجراس الكنائس مع تزامن الصيام هذا العام، نعيش مشهدًا فريدًا في بعض المدن العربية حيث يُرفع أذان المغرب معلنًا إفطار المسلمين، بينما تدق أجراس الكنائس إيذانًا بصلوات الصوم الكبير. هذه اللحظة تجسيد للتعايش الديني في المجتمعات العربية، حيث يعيش المسلم والمسيحي تجربة الصيام في الوقت نفسه، وتتوحد القلوب في لحظة خشوع واحدة. 4. مائدة واحدة… صائمون بطريقتين في العديد من البيوت العربية، يعيش المسلمون والمسيحيون تحت سقف واحد، مما يجعل هذا التزامن فرصة لتعزيز روح التعايش والمودة. تخيّل عائلة يجتمع أفرادها حول مائدة واحدة: • المسلمون ينتظرون أذان المغرب للإفطار. • المسيحيون ينهون صيامهم بعد صلواتهم المسائية. المشهد يحمل رسالة إنسانية عظيمة: رغم اختلاف الطقوس، فإن الصيام تجربة موحّدة تقرّب الناس من بعضهم البعض، وتؤكد أن المائدة ليست مجرد مكان لتناول الطعام، بل مساحة للمشاركة والتآلف. 5. الصيام في الأدب العربي… لغة الروح والجسد لم يكن الصيام مجرد طقس ديني، بل كان أيضًا موضوعًا مهمًا في الأدب العربي، حيث تناوله الكتّاب والشعراء بوصفه تجربة روحية وجسدية تعكس التوازن بين المادي والمعنوي. كتب المتصوفة عن الصيام باعتباره وسيلة للوصول إلى النقاء الروحي، حيث قال الحارث المحاسبي:'الصيام جُنةُ العارفين، به تُصفّى القلوب، وتستنير العقول.' أما الشعراء، فقد أبدعوا في وصف مشاعر الصائم، كما قال أحمد شوقي في رمضان:'الصومُ حرمانٌ مشروعُ … وتأديبٌ وجُوعُوفيه صحَةٌ وقوةٌ … وصبرٌ ورضا وخُشوعُ' وفي الأدب المسيحي العربي، نجد إشارات كثيرة للصوم كجزء من رحلة الإيمان، حيث يُنظر إليه على أنه جسر يصل الإنسان بالله، وكما جاء في الكتابات القديمة:'الصيام مدرسة التقوى، حيث تصمت الأجساد لتتحدث الأرواح.' 6. الصيام كجسر للتقارب بين الأديان في زمن تتزايد فيه الحواجز بين الشعوب، يأتي هذا التزامن بين رمضان والصوم الكبير ليذكّرنا بأن الإيمان تجربة إنسانية عميقة تتجاوز الاختلافات الظاهرية. الصيام في الديانتين يعكس القيم نفسها: • التضحية وضبط النفس • التأمل والتقرب إلى الله • التضامن مع الفقراء والمحتاجين هذه القواسم المشتركة تجعل من الصيام جسرًا للحوار والتفاهم بين الأديان، حيث يمكننا أن نرى كيف تلتقي العقائد في روحها رغم اختلافها في تفاصيلها. 7. لغة واحدة… روح واحدة عندما نتأمل في هذا التزامن، نكتشف أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مرآة تعكس روح الإنسان وعلاقته بالإيمان. فسواء كان المسلم يقول: 'اللهم إني صائم'، أو المسيحي يردّد: 'صومًا مباركًا'، فإن كلاهما يعبران عن ذات الفكرة: الالتزام الروحي، والتعبير عن الإيمان بالكلمات والأفعال. هذا الحدث الفريد هذا العام يدعونا للتفكير: هل يمكن للصيام أن يكون أكثر من مجرد طقس ديني؟ هل يمكن أن يكون مساحة للالتقاء والتفاهم؟ ختامًا… فرصة للحوار والتعايش في النهاية، يقدّم هذا التزامن فرصة ذهبية لإعادة النظر في علاقتنا مع الآخر. عندما يصوم المسلم والمسيحي في الوقت نفسه، نرى بأعيننا أن الإيمان رحلة واحدة بأشكال مختلفة، وأن اللغة ليست فقط كلمات، بل جسور تصل بين القلوب. فهل يمكن أن يكون هذا العام بداية لفهم جديد لدور اللغة في تعزيز التقارب بين الأديان؟ وهل يكون الصيام مناسبة لتذكيرنا بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا؟