
كيف يُؤجج "الذهب الدموي" الصراع في غرب أفريقيا؟
في عالم تسوده صراعات دولية ومن أجل التعريفات الجمركية، يجذب الذهب المستثمرين كأحد الأصول القليلة المستقرة. الجميع يريد حصة من هذا النشاط، سواء البنوك المركزية أو المؤسسات الكبرى مثل صناديق التحوط، وحتى مستثمري التجزئة.
لكن القليل من هؤلاء يعرف من أن يأتي ذهبهم، أو حتى يسمع عن الصراعات في البلدان التي يُستخرج منها هذا الذهب.
بالنسبة لحكومات منطقة الساحل في غرب أفريقيا، فإن المخاطر أكبر. فالذهب شريان حياة للمجالس العسكرية الحاكمة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، المحاصرة بتمرد مسلح من تنظيمات جهادية وتعاني كذلك من عزلة إقليمية وتأثيرات تغير المناخ.
وكشفت بيفرلي أوتشينغ، الباحثة البارزة في شركة الاستشارات العالمية "كونترول ريسكس"، لبي بي سي عن أنه نظراً لارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات تاريخية... تأمل الحكومات العسكرية أن تتمكن من تحقيق استفادة مباشرة".
تُنتج دول الساحل الثلاث مجتمعة (بوركينا فاسو ومالي والنيجر) حوالي 230 طناً من الذهب سنوياً، وفقاً لتقديرات مجلس الذهب العالمي، أي ما يُعادل حوالي 15 مليار دولار أمريكي بسعر السوق الحالي.
لكن الرقم الحقيقي للإنتاج أكبر من هذا، نظراً لعدم وجود سجلات لعمليات التعدين الصغيرة والتي تتم يدوياً.
يتجاوز إنتاج هذه الدول الثلاث من الذهب ما تنتجه أي دولة أخرى في أفريقيا، مما يجعل منطقة الساحل مساهماً عالمياً رئيسياً في سوق الذهب.
وتؤكد حكوماتها أنها تستخدم عائدات هذا القطاع المربح في خدمة المواطنين من خلال تعزيز "السيادة"، رغم أن الشركات الروسية ترفع حصتها في هذه الصناعة على حساب الشركات الغربية.
على سبيل المثال، وضع قائد المجلس العسكري في مالي، الجنرال أسيمي غويتا، حجر الأساس الشهر الماضي لمصفاة ذهب، تمتلك فيها مجموعة يادران الروسية حصة أقلية. وستوفر المصفاة 500 وظيفة مباشرة و2000 وظيفة غير مباشرة، بحسب التقارير.
وفي بوركينا فاسو، يجري العمل على أول مصفاة ذهب في البلاد، بعد تدشين شركة تعدين مملوكة للدولة، وألزمت الشركات الأجنبية بمنحها حصة 15 في المئة من عملياتها المحلية بالإضافة لنقل مهارات العمل إلى الشعب البوركينابي.
وانطلقت في البلاد حملات إعلامية زائفة بالذكاء الاصطناعي للترويج للحاكم العسكري صاحب الكاريزما، الكابتن إبراهيم تراوري، 37 عاماً، للاحتفاء بسيطرته على هذا المصدر المهم للدخل في البلاد.
وفي إحدى هذه الحملات تم توليد صوت المغنية الأمريكية ريهانا، من خلال الذكاء الاصطناعي، لتنشد "نستخرج الذهب من أعماق الوحل. لكن الأرواح غنية وصادقة"، في إشادة بالكابتن تراوري.
لكن الواقع مختلف تماماً بحسب السيدة بيفرلي أوتشينغ، وأوضحت أن بوركينا فاسو وجيرانها بحاجة إلى سيولة سريعة لتمويل حملات عسكرية لمكافحة التمرد.
وبالنسبة لمالي، فقد أسندت جانباً كبيراً من مهمة مواجهة المتمردين إلى مرتزقة روس، ومنها شركة فاغنر وخليفتها، فيلق أفريقيا، تحت قيادة وزارة الدفاع الروسية.
وشارك فيلق أفريقيا الروسي في تدريب عسكري في بوركينا فاسو، إلا أن المجلس العسكري ينفي رسمياً وجوده على أراضيه.
على الرغم من ضعف شفافية الإنفاق العام في هذه البلدان، إلا أن الاعتقاد السائد أن الحكومات تخصص جزءاً كبيراً من ميزانياتها للأمن القومي.
تضاعف الإنفاق العسكري في مالي ثلاث مرات منذ عام 2010، ليصل إلى 22 في المئة من ميزانية الدولة بحلول عام 2020.
وتحارب الحكومات جماعات جهادية مرتبطة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش).
لكن منظمة هيومن رايتس ووتش اتهمت الحكومة المالية ومجموعة فاغنر الروسية بارتكاب فظائع ضد المدنيين، بما في ذلك عمليات قتل غير قانوني وإعدامات بمحاكمات قصيرة وارتكاب عمليات تعذيب.
ووثقت المنظمة "فظائع" مماثلة ارتكبها جيش بوركينا فاسو والميليشيات المتحالفة معه.
وتدفع هذه الحكومات غالباً لمجموعة فاغنر، والآن فيلق أفريقيا، ذهباً مقابل الخدمات العسكرية، أو تقدم لهم امتيازات تعدين، بحسب أليكس فاينز، من مركز تشاتام هاوس البحثي في لندن.
وقال فاينز لبي بي سي: "القليل جداً (من عائدات الذهب) تصل إلى الماليين والبوركينيين"، وأوضح أن المتمردين المسلحين أنفسهم قد يستفيدون من الذهب.
منذ الانقلاب العسكري في مالي عام 2021، عززت الحكومة من "التكتيكات الوحشية" ضد المجتمعات التي يشتبه أنها تؤوي جهاديين أو تتعاطف معهم، مما دفع المزيد من المدنيين إلى الانضمام إلى الجماعات الجهادية.
شنت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، التابعة لتنظيم القاعدة والأكثر نشاطاً في المنطقة، هجمات غير مسبوقة على جيش بوركينا فاسو، خلال النصف الأول من عام 2025، في مؤشر على تنامي قوة الجماعة.
وتستفيد الجماعات المسلحة، بصورة أساسية، من تزايد الإقبال العالمي على الذهب.
يأتي جزء كبير من تعدين الذهب في منطقة الساحل من قطاع صغير يقوم بالعمل يدوياً، وغالباً ما يكون غير رسمي، أي أنه يعمل في مواقع غير مرخصة وغير مكشوفة بعيداً عن الرقابة الحكومية، بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) حول تعدين الذهب في منطقة الساحل، عام 2023.
وتتنافس حكومات منطقة الساحل مع جماعات مسلحة، بينها جماعات جهادية، للسيطرة على العديد من مناجم الذهب الصغيرة هذه.
ويعد الذهب مصدر دخل مهم للجماعات المسلحة، التي يبدو أنها توسع نفوذها الإقليمي في كل من مالي وبوركينا فاسو.
ويعتقد مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة أن معظم الذهب الناتج عن هذا النوع من التعدين يذهب في النهاية إلى الإمارات العربية المتحدة، وهي مركز عالمي لتكرير الذهب وتجارته.
قال الدكتور فاينز: "نشهد بالفعل تشابكاً بين الجماعات المتطرفة وانتقالها إلى مناطق الإنتاج اليدوي للسيطرة".
ربما يؤدي الارتفاع العالمي في أسعار الذهب إلى إطالة أمد الصراع في منطقة الساحل وتفاقمه، ولكن لن يصب هذا في صالح العاملين في مناجم الذهب اليدوية، لأنه من سوء حظهم لن تزيد أجورهم.
وافق أحد عمال مناجم الذهب في منطقة كيدال شمال مالي على الرد على أسئلة مكتوبة من بي بي سي، شريطة عدم الكشف عن هويته، خوفاً على سلامته.
وأكد أنه يكسب في "يوم العمل الجيد" ما بين 10,000 و20,000 فرنك أفريقي، أي ما يعادل تقريباً ما بين 18 إلى 36 دولاراً أمريكياً.
وأشار إلى أن هذا المبلغ لم يرتفع مع ارتفاع أسعار الذهب العالمية.
وقال: "ارتفعت الأسعار، لكن الأرباح الإضافية تذهب إلى أصحاب المناجم... إنه أمر محفوف بالمخاطر وغير مضمون، ولكنه الخيار الوحيد أمام الكثير منا".
ويشعر الدكتور فاينز، الذي حقق سابقاً في قضية الماس الدموي لدى الأمم المتحدة، بالقلق من أن يصبح الذهب سلعة الصراع الرئيسية الجديدة في أفريقيا.
وأشار إلى أن الذهب لم يحصل على نفس الاهتمام الدولي مثل الماس، الذي أشعل فتيل صراعات دموية في العديد من الدول الأفريقية طوال القرن العشرين، وخاصة خلال التسعينيات.
أدى تدخل جماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة إلى إنشاء نظام عملية كيمبرلي في 2003، لإصدار شهادات المنشأ للماس، والذي ساهم بشكل كبير في إنهاء بيع ما يسمى "الماس الدموي" في السوق المفتوحة.
لكن محاولات السيطرة على "الذهب الدموي" لم تنجح.
ومن أسباب هذا غياب معايير أخلاقية موحدة، رغم أن جمعية سوق السبائك في لندن (LBMA)، جهة رئيسية في سوق الذهب، تُلزم مصافي الذهب بالامتثال لمعايير تستند إلى إرشادات وضعتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي هيئة عالمية في سوق الذهب.
لكن في الإمارات لا يتم الالتزام بهذه المعايير بشكل دائم.
وأعلنت الإمارات معاييرها الخاصة لتعدين الذهب الأخلاقي، في عام 2021، إلا أن إطار العمل بها لا يزال طوعياً. ووقع من قبل توتر بين الإمارات وجمعية سوق السبائك في لندن بسبب تطبيق المعايير الدولية.
وهناك عقبة أخرى في السيطرة على "الذهب الدموي"، تتمثل في تكنولوجيا التتبع.
قال الدكتور فاينز: "لا يوجد اختبار للحمض النووي للذهب. فبالنسبة للماس يمكن من خلال جهد كبير تتبعه قبل صقله وقطعه... لكنني لم أشهد وسيلة لتتبع أصول قطعة الذهب".
وأوضح أن عملية صهر الذهب بعد التعدين مباشرة، تجعل من شبه المستحيل تحديد موقع استخراجه وبالتالي تتبّعه وربطه بمناطق الصراع المحتملة.
ويعتقد الدكتور فاينز أنه من المرجح أن يصل بعض الذهب الدموي من منطقة الساحل ويصل في النهاية إلى أسواق في بريطانيا.
ويضيف: يُصهر الذهب في الإمارات، ثم يدخل في صناعة المجوهرات، أو طب الأسنان، أو السبائك. بعضه يصل علناً إلى بريطانيا. وبمجرد وصوله هنا، لا يمكن معرفة أصله".
وقال مسؤول إماراتي لبي بي سي إن بلاده لديها "إطار تنظيمي قوي لتعزيز أمن وسلامة وشفافية كل معاملة للذهب، وهي مدعومة بإجراءات تنفيذ صارمة".
وأكد المسؤول أن الإمارات تطبق إجراءات تتوافق مع إرشادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بل وتتجاوزها في بعض المجالات.
وأضاف: "إنها مدعومة بإجراءات إلزامية لمكافحة غسل الأموال وتحديد العميل، وعمليات تدقيق سنوية، وتنفيذ كامل للإجراءات في جميع نقاط الدخول".
وأضاف الدكتور فاينز أن من الأسباب الأخرى لصعوبة تكرار نجاحات عملية كيمبرلي في الماس، أن نظام الشهادات لم يُصمم للتعامل مع حكومات الولايات.
وأوضح أن شهادات كيمبرلي "مصممة للتعامل مع الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية في أماكن مثل سيراليون وليبيريا".
لذلك فإنه من المتوقع أن يستمر تداول هذا النوع من الذهب، بغض النظر عن مصدره، نظراً لأهميته بالنسبة لحكومات منطقة الساحل، والتطبيق غير المنتظم لمعايير الذهب الأخلاقية.
ولسوء الحظ، قد يعني ذلك بالنسبة لبعض المجتمعات في منطقة الساحل دفع ثمن تجارة الدم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الزمان
منذ 5 ساعات
- الزمان
الكونغرس يقر مشروع قانون ترامب للموازنة
واشنطن (أ ف ب) – اقر الكونغرس الاميركي نهائيا الخميس مشروع قانون دونالد ترامب للموازنة بعد تصويت في مجلس النواب، الأمر الذي يشكل أول انتصار تشريعي كبير للرئيس الاميركي في ولايته الثانية. ومن شأن القانون أن يزيد دين الولايات المتحدة بأكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار خلال العقد المقبل. ويشمل توسيع نطاق الإعفاءات الضريبية الكبيرة لمعظم الأسر، في مقابل تخفيضات كبيرة في برنامج التأمين الصحي العام للأميركيين من ذوي الدخل المحدود.


شفق نيوز
منذ 11 ساعات
- شفق نيوز
ارتفاع اسعار الدولار في بغداد واربيل مع الإغلاق بنهاية الأسبوع
شفق نيوز - بغداد/أربيل ارتفعت أسعار الدولار في أسواق بغداد و في اربيل عاصمة اقليم كوردستان، يوم الخميس، مع اغلاق البورصة في نهاية الأسبوع. وقال مراسل وكالة شفق نيوز ان اسعار الدولار ارتفعت مع إغلاق بورصتي الكفاح و الحارثية لتسجل 141250 دينارا عراقيا مقابل 100 دولار، فيما سجلت صباح هذا اليوم 141100 دينار مقابل 100 دولارا . وأشار مراسلنا إلى أن اسعار البيع في محال الصيرفة بالأسواق المحلية في بغداد ارتفعت حيث بلغ سعر البيع 142250 دينارا عراقيا مقابل 100 دولار، بينما بلغ الشراء 140250 دينارا مقابل 100 دولار. اما في اربيل فقد سجل الدولار ارتفاعا ايضا حيث بلغ سعر البيع 140900 دينار لكل 100 دولار، وسعر الشراء 140800 دينار مقابل 100 دولار أمريكي.


شفق نيوز
منذ 16 ساعات
- شفق نيوز
انخفاض طفيف في الدين العام الداخلي للعراق
شفق نيوز - بغداد أعلن البنك المركزي العراقي، اليوم الخميس، عن انخفاض طفيف في الدين العام الداخلي مع نهاية شهر نيسان/أبريل من العام 2025. وقال البنك في احصائية رسمية اطلعت عليها وكالة شفق نيوز ان "الدين العام الداخلي للعراق انخفض في نهاية شهر نيسان من العام الجاري ليبلغ 85 ترليونا و 503 مليارات دينار عراقي، منخفضا عن شهر آذار/مارس الذي بلغ 85 ترليونا و 536 مليار دينار". واضاف البنك ان "الانخفاض جاء نتيجة تسديد قروض المؤسسات المالية لتبلغ 19 ترليونا و 119 مليار دولار بعد أن كانت 19 ترليونا و 152 مليار دولار". واشار الى ان "الديون المتبقية هي بذمة وزارة المالية البالغة 756 مليار دينار، و ديون الحوالات الخزينة لدى البنك المركزي والمصارف التجارية البالغة 51 ترليونا و30 مليار دينار، اضافة الى حوالات خزينة على حساب وزارة المالية بمقدار ترليونين، و30 مليار دينار، وديون الأجل الوطنية مستحقات الفلاحين بمقدار 12 ترليونا و 568 مليار دولار".