logo
هل وصلت عبوات طعام من شواطئ مصر إلى غزة؟

هل وصلت عبوات طعام من شواطئ مصر إلى غزة؟

الجزيرةمنذ 2 أيام
"من مصر إلى غزة، وشعب يطعم شعبا"، عبارات غمرتها العاطفة وتلقفها الناس كأنها رسالة إنقاذ، بعد أن اجتاحت منصات التواصل صور مثيرة للجدل، قيل إنها تظهر عبوات طعام طافية في البحر، أرسلت من سواحل مصر نحو قطاع غزة المحاصر.
الصور، التي انتشرت بلغات متعددة، أظهرت عبوات بلاستيكية تطفو على سطح البحر، بعضها يحمل مواد غذائية وأخرى حليب أطفال، وقد علقت عليها عبارات "من شعب مصر إلى غزة" وغيرها.
لكن خلف هذه المشاهد العاطفية المؤثرة، سرعان ما بدأت التساؤلات تظهر: هل حدث هذا حقا؟ وهل الصور حقيقية أم من إنتاج الذكاء الاصطناعي؟
وكالة "سند" للرصد والتحقق الإخباري بشبكة الجزيرة أجرت تحليلا بصريا وتقنيا دقيقا لفهم ما إذا كانت توثق مشهدا واقعيا، أم تمثل نموذجا جديدا من التزييف العميق.
قوارير النجاة
من أكثر الصور تداولا، كانت مشاهد لأشخاص يقفون على الساحل، ويلقون عبوات بلاستيكية في البحر، وسط تعليقات تزعم أن تلك الصور التقطت في مصر، في مشهد شعبي بديل عن غياب الرسميات وقيود المعابر.
بيد أن التحليل البصري الذي أجرته "سند" أظهر أن هذه الصور مفبركة بالكامل، ومولدة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، حيث ظهرت فيها أخطاء تركيبية واضحة: تشوهات في ملامح الوجوه، عدم اتساق الأطراف، واختلالات في تكوين الأجساد والملابس، وهي كلها مؤشرات معروفة في المحتوى المصنع عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وصول الطعام إلى شواطئ غزة
لاحقا، ظهرت صور أخرى تظهر عبوات حليب وأكياسا غذائية "وقد وصلت"، حسب الادعاء، إلى شواطئ غزة، بينما يظهر في الخلفية شبان يحملونها ويبدو عليهم الفرح والدهشة.
لكن وكالة "سند" توصّلت بعد تحليل الصور إلى أنها أيضا غير حقيقية. إذ لوحظ اختلال في الظلال والإضاءة، وتفاصيل غير منطقية في البيئة المحيطة، إضافة إلى عيوب رقمية دقيقة في تكوين الأجساد، مما يشير إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر.
الفكرة حقيقية.. لكن الصورة زائفة
رغم أن الصور المنتشرة مزيفة، فإن الفكرة التي حملتها ليست مختلقة بالكامل، فقد رصدت محاولات حقيقية من مواطنين مصريين لإرسال مساعدات بحرية بسيطة نحو غزة، كنوع من التعبير الشعبي عن التضامن في وجه المجاعة والحصار.
كما انتشرت مشاهد لشابين من غزة ادعيا أنهما تمكنا من الحصول على قارورتين بهما عدس من بحر غزة، لكن لم يتسن لنا التحقق بشكل مستقل من مصداقية هذه المقاطع أو تأكيدها.
وبينما تنشغل بعض الحسابات في تزييف الصور، تؤكد الأرقام القادمة من غزة أن الواقع أسوأ من أي سيناريو مفبرك، فبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن نحو 40 ألف طفل رضيع دون عمر السنة الواحدة مهددون بالموت البطيء، بسبب نقص الغذاء وحليب الأطفال، في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر.
وطالب المكتب بفتح المعابر "فورا ودون شروط"، محملا الاحتلال الإسرائيلي ومن وصفهم بالدول المتواطئة، والمجتمع الدولي، المسؤولية الكاملة عن الأرواح التي تزهق تحت هذا الحصار الممنهج.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بعد وفاة شاب وإصابة 6 بحفلة محمد رمضان يزعم: كانت محاولة اغتيال
بعد وفاة شاب وإصابة 6 بحفلة محمد رمضان يزعم: كانت محاولة اغتيال

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

بعد وفاة شاب وإصابة 6 بحفلة محمد رمضان يزعم: كانت محاولة اغتيال

شهد حفل المغني المصري محمد رمضان، الذي أقيم مساء أمس الخميس في منطقة بورتو مارينا بالساحل الشمالي، حادثا مأساويا أودى بحياة شاب وأدى إلى إصابة 6 آخرين بجروح متفاوتة، إثر سقوط ألعاب نارية "شماريخ" على الجمهور مما اضطر إلى إلغاء الحفل قبل منتصفه. وبحسب وسائل إعلام محلية، فإن شابا توفي متأثرا بإصابته جراء الحادث، كما نقل 6 مصابين آخرين إلى المستشفى، بعضهم في حالة خطرة، بعد اندلاع حالة من الفوضى نتيجة تبادل الحاضرين الألعاب النارية داخل الحفل. وخلال الحفل، أعلن المغني إلغاء الفعالية عقب وقوع الانفجار، مشيرًا إلى وفاة أحد العاملين ووجود عدد من المصابين، ودعا الجمهور إلى مغادرة المكان بهدوء لتفادي أي تدافع، كما ناشد الجهات المختصة سرعة إرسال سيارات الإسعاف لنقل المصابين إلى المستشفى. وبحسب رواية شهود عيان، فإن رمضان اتخذ قرار إنهاء الحفل فور حدوث الانفجار دون تردد، وابتعد عن المسرح حفاظًا على سلامته، إلا أنه بقي في موقع الحادث حتى وصول سيارات الإسعاف، متابعًا تطورات الموقف. "محاولة اغتيال" وكان رمضان قد نشر تعليقا على حسابه الرسمي بموقع "فيسبوك" عقب الحادث، قال فيه "تم إنهاء الحفلة قبل منتصفها بسبب تفجير على المسرح بجواري وأثره في أذني حتى الآن، وبسببه توفي عامل واثنان من الشباب في حالة خطرة.. اللهم ارحمه واشف المصابين وصبّر أهلهم وأحبابهم، صوت قنبلة مالوش علاقة بالفايروركس والله محاولة اغتيال مكتملة الأركان! ليه الغل يوصل للدرجة دي؟!". وأثار المنشور جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبره البعض محاولة لتحويل الواقعة إلى قضية جنائية كبرى، قبل أن يقوم المغني بحذفه بعد ساعات دون توضيح الأسباب. بداية الحادث كان من المتوقع أن يكون الحفل واحدا من أكبر حفلات صيف 2025، وشهد حضورا جماهيريا كبيرا، ورافق رمضان فرقته الاستعراضية، حيث أجروا بروفات مكثفة قبل الحفل تضمنت استعراضات موسيقية وضوئية. View this post on Instagram A post shared by Mohamed Ramadan (@mr1) إعلان وبحسب شهود عيان، فإن الحفل بدأ بأجواء حماسية، لكن الأمور سرعان ما خرجت عن السيطرة بعد قيام بعض الحاضرين بإشعال الشماريخ بالقرب من المسرح، مما أدى إلى إصابات مباشرة نتيجة تطاير النيران وسقوط الألعاب النارية فوق الجمهور. وأوضح الشهود -في تصريحات لصحيفة محلية- أن الانفجار وقع خلال الجزء الثاني من الحفل، وتسبب في وفاة أحد الحضور نتيجة تعرضه للغاز الساخن، إضافة إلى عدد من الإصابات، وحالة من الفوضى والهلع، وأكد اثنان ممن وجدوا في الموقع أن حصيلة الوفيات قد تكون أكثر من حالة واحدة. وأرجع الشهود ما جرى إلى انفجار في أنبوب غاز ضمن معدات الألعاب النارية. وأفادت مصادر أمنية أن التحقيقات بدأت فور وقوع الحادث، وتم استجواب عدد من المنظمين وشهود العيان لتحديد المسؤوليات، وقد أغلقت السلطات المسرح مؤقتا وطلبت تقارير من الدفاع المدني وشركة تنظيم الحفل. View this post on Instagram A post shared by Mohamed Ramadan (@mr1) ولم تصدر حتى الآن أي بيانات رسمية من وزارة الداخلية أو النيابة العامة تؤكد أو تنفي وجود شبهة جنائية في الحادث، كما لم يصدر بيان من الشركة المنظمة للحفل يوضح تفاصيل ما جرى.

"الشاطر" فيلم أكشن مصري بهوية أميركية
"الشاطر" فيلم أكشن مصري بهوية أميركية

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

"الشاطر" فيلم أكشن مصري بهوية أميركية

شكل فيلم "الشاطر" دخولا مفاجئا في موسم الصيف، ذلك الموسم الذي كان شبه محسوم، وتعرّفنا فيه على أبرز الأفلام المعروضة. وفجأة، صدر فيلم "الشاطر" ليحرك بعض المياه الراكدة في هذا الموسم الخامل. فيلم "الشاطر" من بطولة أمير كرارة، هنا الزاهد، مصطفى غريب، عادل كرم، وأحمد عصام السيد. أخرجه وكتبه أحمد الجندي، وشارك في التأليف كريم يوسف. الشاطر والأكشن المستورد ينتمي فيلم "الشاطر" إلى فئة الأكشن الكوميدي، وتبدأ أحداثه بسلسلة مشاهد قصيرة تعرّف الجمهور على شخصية البطل أدهم الشاطر (أمير كرارة)، وهو دوبلير محترف يؤدي مشاهد خطرة في أفلام الأكشن، قبل أن ينقلب مسار حياته بسبب ورطة يقع فيها نتيجة تصرفات شقيقه، ما يزج به في سلسلة مغامرات متلاحقة. تكشف هذه المشاهد التمهيدية عن تأثر واضح بالفيلم الغربي، إذ يظهر الشاطر وهو يشارك في أفلام ذات طابع أجنبي مبالغ فيه: من مشاهد تدور في أجواء الحرب العالمية الثانية، إلى فيلم من نوع "الويسترن" (الغرب الأميركي)، وصولا إلى مطاردة في شوارع باريس. وهي جميعها أنماط سينمائية غير مألوفة على الشاشة المصرية، ما يجعل هذه البداية بمثابة محاكاة ساخرة أو تحية بصرية لأفلام الأكشن العالمية. تأثُّر أفلام الأكشن المصرية بهوليوود ليس أمرا مستجدا، إذ تُعد السينما الأميركية المرجع الأشهر عالميا في هذا النوع، سواء على مستوى الصورة أو تصميم المشاهد. لكن ما قام به "الشاطر" يتجاوز حدود التأثر، إلى درجة تخرج عن المنطق؛ ففكرة عمل دوبلير مصري في هذا النوع من الأفلام تُغفل تماما رصيد السينما المصرية في الأكشن، سواء القديم أو الحديث. وكما هو معتاد في كثير من أفلام الأكشن الحديثة، سواء الأميركية أو المصرية، تبتعد الأحداث عن المحلية، وتتنقل عالميا. وقد اختار صناع "الشاطر" تركيا كمحطة أولى لحبكته، إذ يسافر أدهم مع صديقه فتوح (مصطفى غريب) في رحلة سريعة بحثا عن شقيقه المختطف "عصفورة" (أحمد عصام السيد). وهناك يتورطان في مواجهة مع عصابة عصام الأناضولي (عادل كرم)، وتنضم إليهما فتاة السيرك "كراميلا" (هنا الزاهد). تستمر الحبكة بشكل تقليدي، متنقلة من مغامرة إلى أخرى، حيث يحاول أدهم النجاة وإنقاذ حلفائه من الموت مرة تلو الأخرى، بينما يسعى لاستغلال معلومات حصل عليها بالصدفة لتحقيق ثروة طائلة تؤمن له حياة رغدة. View this post on Instagram A post shared by Go Media (@gomediatv) موسم من الأكشن كوميدي نعيش موسما سينمائيا يضم أكثر من فيلم مصري من نفس النوع، لذا لا يمكن تجاهل المقارنة بين "الشاطر" وفيلم آخر يُعرض في التوقيت ذاته ومن الفئة نفسها، هو "أحمد وأحمد". كلا الفيلمين يشتركان في عناصر عديدة: فهما من بطولة اثنين من نجوم الأكشن المصريين المعروفين -أحمد السقا وأمير كرارة- وفي كل منهما تتوزع مسؤولية الكوميديا على ممثل آخر: أحمد فهمي في الأول، ومصطفى غريب في الثاني. لكن الكفة تميل بوضوح إلى صالح "الشاطر"، وأول ما يميزه هو تعقيد الحبكة. فبينما بدا "أحمد وأحمد" سلسا وخفيفا، فإنه كان خاليا من العقبات الحقيقية، دون تطور درامي أو مفاجآت تُذكر، أو وجود خطر فعلي. أما في "الشاطر"، ورغم أن حبكته قد لا تكون مقنعة تماما، فإنها على الأقل تظهر جهدا على مستوى التأليف، وتحتوي على مغامرات، والتواءات في السرد (بلوت تويست) منطقية، وأشرار مرسومين بطابع أميركي واضح جدا، لكنهم يظلون أكثر حضورا من أشرار "أحمد وأحمد"، الذين لم يشكلوا تهديدا حقيقيا. حتى مشاهد الأكشن كانت أكثر تنوعا وتعقيدا في "الشاطر"، لا من حيث الإبهار فقط، بل من حيث التصميم البصري وتعدد البيئات التي دارت فيها هذه المشاهد القتالية، مقارنة بمشاهد الشجار التقليدية لأحمد السقا في "أحمد وأحمد". أما من حيث الكوميديا، فهي أقوى في "الشاطر" لسببين: أولهما، أنها لا تعتمد على ممثل واحد يكرر نفسه بلا توقف، كما فعل أحمد فهمي في دور المنبهر الدائم بخاله. ثانيا، لأن مصطفى غريب وأحمد عصام السيد، المسؤولَين عن الجانب الكوميدي، يقدمان أداء لطيفا، ويستخرجان من السيناريو المتواضع أفضل ما فيه. من جهة أخرى، عانى "أحمد وأحمد" من ضعف في كتابة الشخصية النسائية الوحيدة، وهي "ضحى" (جيهان الشماشرجي)، التي يمكن إزالتها من السيناريو دون أي تأثير. أما في "الشاطر"، فتلعب هنا الزاهد دورا محوريا، وتحرك الحبكة في أكثر من موضع، وشخصيتها مكتوبة بشكل أكثر جدية. لكن هذا الدور الفعال كان فرصة مهدرة، إذ تعيد الزاهد تقديم نفس النمط المعتاد منها، أي التركيز على التناقض بين مظهرها الرقيق وسلوكها السوقي والعنيف، وهو أداء نمطي بات مكررا منها. في المقابل، قدم مصطفى غريب وأحمد عصام السيد أداء متزنا في إطار أدوار نمطية كمساعدي البطل، وتمكّنا من استغلال هذه المساحة ببساطة وفعالية. أما أمير كرارة، فقدم أداء جيدا في مشاهد الأكشن، مع بعض المحاولات الكوميدية التي، وإن لم تكن موفقة دائما، فإنها لم تضعف كثيرا من حضوره. View this post on Instagram A post shared by Go Media (@gomediatv) في النهاية، فيلم الشاطر محاولة طموحة للجمع بين الأكشن والكوميديا بطابع مصري، لكنه يسقط في فخ التكرار والتقليد. تأثره الشديد بالأفلام الغربية واضح، دون أن يطور هوية مستقلة.

الوحدة العربية والحصاد المر
الوحدة العربية والحصاد المر

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

الوحدة العربية والحصاد المر

تتشابك أيدينا الصغيرة، وبمجرد أن نجلس في دائرة على الأرض استعدادا للعب، يُخرج أحدنا منديلا من القماش استعدادا للغناء: "طاق طاق طاقية.. تعيش الوحدة العربية.. رن رن يا جرس.. محمد راكب ع الفرس.."، وصولا إلى نهاية الأغنية. ثم نضع المنديل خلف شخص من الدائرة، ونعيد الغناء بأعلى صوت لنا: "طاق طاق طاقية.. تعيش الوحدة العربية"، على أمل أن يخترق صوتنا الحدود، على أمل أن يقطع المسافات برسالة صغيرة مفادها: "تعيش الوحدة العربية". ولكنْ، ثمة شيء غريب؛ منذ ذلك الحين وأنا أسمع صدى الصوت في قلبي فقط، رغم أننا غنيناها من أعلى مكان في غزة؛ على "الجبل الكاشف"، الذي نرى منه أراضينا المحتلة 1948، وجبال الخليل. مارس/ آذار 2008 في آخر يوم من فبراير/ شباط، لفظت جدتي آخر أنفاسها. مضت ساعات قليلة، فبدأت أفاوض أمي: "لن أذهب إلى المدرسة طوال أيام العزاء! جدتي ماتت". كانت هذه الفرصة الوحيدة بالنسبة لي لتحقيق الأمنية المنتظرة: الغياب عن المدرسة ولو ليوم واحد! ويا ليتني ذهبت.. في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، في الأول من مارس/ آذار 2008، استيقظت على همسات أمي لتنقلنا من بيتنا إلى بيت عمي المقابل لنا، البيت الأكثر أمنا مقارنة ببيتنا المطل على الشارع. بعيون نصف مغمضة، أخبرنا عمي أن الكهرباء قد قُطعت، وأننا الآن محاصرون من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية، لذلك علينا البقاء طوال الليل على ضوء شمعة واحدة. في تلك الليلة، تخيلت جنود الاحتلال كأنهم كائنات ضخمة، بذيول طويلة، يشبهون ما أراه في الرسوم المتحركة "دراغون بول"؛ فلست سوى طفلة في العاشرة! تلك الليلة، كانت الليلة الأولى التي تصطدم فيها طفولتي بجنود الاحتلال الإسرائيلي. وكانت تلك الأيام الثلاثة كابوسا يلاحقني طوال السنوات الماضية، كابوسا أتجنب مواجهته، كابوسا بصوت "الحاجة رضا" التي كانت تصرخ على أحفادها الذين قُتلوا في غرفتهم.. كابوسا بصوت جارنا "أبو إياد"، وهو يناشد لإنقاذ شاب من شباب الحارة: "المسكين أُعدم في الشارع وحيدا!". في عملية أسماها الاحتلال "عملية الشتاء الساخن"، انطلق صراعي مع الحياة.. في لحظات كنت أقرأ القرآن بقلب عابد، وفي لحظات أخرى أسأل الله بقلب طفل لا يشاهد سوى "سبيستون": "لماذا لا تعطيني يا الله قدرات خارقة؟ أريد فقط غلافا يحمينا من الخطر!". في سن العاشرة، بدأت أطرح أسئلتي الوجودية عن البشر، عن حقوق الإنسان التي تشرحها لنا المعلمة في المدرسة. في سن العاشرة، فقدت إحساسي بأن هناك من يشعر بنا.. الجميع خارج حدود هذه المنطقة- حارتنا- تسير حياته بشكل طبيعي! يذهبون إلى الحمام دون الخوف من دبابة أو جرافة متمركزة أمام البيت، يأكلون ويشربون دون خوف من رصاصة قد تقتلهم، يصلون على ضوء الكهرباء.. أما نحن، فنخشى ظلنا؛ نخشاه لأنه أصبح دلالة على وجودنا، أصبح إشارة للقناص الإسرائيلي لإطلاق رصاصته نحونا. لثماني عشرة سنة، وأنا أبحث عن تفسير منطقي لـ"حكم الإعدام" الذي يُفرض علينا.. لثماني عشرة سنة، وأنا أتحسس صدى غنائنا: "تعيش الوحدة العربية".. أصغي، أراقب، أرتقب.. هل سيلوح أحد لنا من بلاد بعيدة، ليقول: "لقد وصل الصدى"؟ فقد صعدت إلى الجبل مرات عديدة، ولكني لم أرَ أي منديل يلوح لي. لربما لا يملكون منديلا! فإن لم يملكوا منديلا، فسأمنحهم ميراثي من جدتي حليمة.. سأعطيهم منديلها! منديل جدتي حليمة قيل لي إنه بمجرد دخول جدتي حليمة لأي عرس داخل المخيم، يتحول إلى ساحة انتفاضة، إلى ميدان ثوري. تُخرج المنديل من زنارها، تمسكه بيدها، ومع أول تلويح به، يعلو تصفيق النساء؛ تحية لزوجة الشهيد وأم الأسرى، تحية لثوبها المطرز بأناملها، لزنارها، لشالها، ولحذائها الذي لطالما حفظته سجون الاحتلال. تغني بصوت مرتفع.. بصوت القرية المسلوبة، بصوت يصارع للبقاء، بصوت الشعب الغريق: "بارودنا اللي ضرب ورصاصنا مصري.. لاس بدي (لازم ولا بد) يا دولة إسرائيل تنكسري".. كانت تعتقد، كغيرها من المنكوبين، أننا لن نُترك وحدنا! كانت تغني لحلم أبدي، لمطلب شعبي: "بدي لأبو عمار طيارة حربية.. تضرب مطار اللد وتنزل ع سوريا". حوصر أبو عمار في رام الله، ولم يأتِ زعماء العرب له برغيف خبز واحد، أو كوب من الماء! مات ببطء.. مات بصمت.. لا بد أن يموت؛ هذا ما تستوجبه المرحلة. وحوصرت غزة أيضا، يا جدتي، ورأينا طائرات "العروبة"، لكنها لم تضرب مطار اللد، بل جاءت بالطعام لنا في مجاعتنا التي لم تنتهِ! تماما كمشهد المروحية التي أتت لنقل عرفات إلى آخر محطات حياته! جاءت، وعُقدت لها الأفراح، أتت بالطعام لشعب يباد! لشعب يُقتل شبابه لأجل رغيف خبز واحد! جاءت.. لتشاهد احتضار غزة! وتغني نداء فلسطين: "زارعنا الميرمية ع باب الدار.. فلسطين بتنادي على الثوار.. زارعنا الميرمية في القنية.. فلسطين بتنادي ع الفدائية". سمع ثوارها وفدائيوها النداء، لكن لم يكفهم منديل الطفولة، ولا منديل جدتي! لم يكفهم سوى منديل واحد: "سبل عيونه ومد إيده يحنوله.. خصرو رقيق وبالمنديل يلفونه..". كثيرة هي المناديل يا جدتي، كثيرة هي.. كثيرة إلى الحد الذي وصلت فيه أن تكون "مساعدات إنسانية عاجلة"! أ كتوبر/ تشرين الأول 2023 عاد المشهد أمامي مجددا؛ أيدي الأطفال متشابكة، تبدأ إشارة اللعب والغناء، ولكن.. بدون منديل، وبأغنية مختلفة عما اعتدت عليه.. يغنون: "طاق طاق طاقية.. شبكين بعلية". لا أعلم، أملّ الأطفال من النداء على العروبة، أم نضجوا للدرجة التي أدركوا فيها أن النداء ما عاد مجديا؟! لا أعلم، أضاع المنديل، أم دُفن؟ هذه المرة، غنيت معهم بصوت الرثاء لا الأمل؛ بصوت العجز، بصوت الخذلان، بصوت أرهقه الزمان: "طاق طاق طاقية.. تعيش الوحدة العربية"! لم أقبل بأغنية لا يغنَى فيها للعروبة التي أعرفها.. عروبة الكرامة. أما المنديل، فأخذت في البحث عنه بسوق الكرامة: هل رأيت يا سيدي منديلا اسمه: "تعيش الوحدة العربية"؟ هل رأيته؟ أم يتوجب عليّ البحث عن منديل آخر؟! منديل يناسب معايير "المجتمع الدولي"، منديل يناسب معايير "العروبة الحديثة"، منديل يلوح به صاحبه مناديا: "مين يشتري الكرامة ويعطينا طحينا؟!". علمتنا فلسطين أن العروبة ما زالت على قيد الحياة، أما الإبادة فقد علمتنا أن ضريح العروبة هناك! في مقبرة الفالوجة، بين قبور المنسيين، بجوار قبر جدتي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store