logo
نقطة التحول في الجمهورية التركية.. مرور تسع سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة

نقطة التحول في الجمهورية التركية.. مرور تسع سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة

صحيفة الشرق١٥-٠٧-٢٠٢٥
111
الدكتور محمد مصطفى كوكصو
تُعد ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 إحدى أهم اللحظات التحولية في التاريخ السياسي المعاصر للجمهورية التركية. ففي تلك الليلة الحالكة، حاولت منظمة «فيتو» الإرهابية (FETÖ) تنفيذ انقلاب دموي عبر تسللها إلى بعض الوحدات العسكرية، بهدف الانقضاض على إرادة الشعب ومصادرة خياراته السياسية التي عبر عنها في صناديق الاقتراع.
لكن الشعب التركي، بوعيه العميق وارتباطه القوي بقيم الديمقراطية والحفاظ على مكتسبات الدولة، نزل إلى الشوارع والميادين في مشهد غير مسبوق، تصدّى فيه المواطنون بصدورهم العارية لدبابات الغدر، ليفشلوا المحاولة الانقلابية خلال ساعات. لقد كانت تلك الوقفة الشعبية البطولية علامة فارقة ليس فقط في إحباط المؤامرة، بل في إعادة تعزيز العلاقة بين الشعب والدولة، بين السياسة والمؤسسة العسكرية.
تعزيز السيادة الوطنية وانطلاق نحو التقدم
لقد مثّل الانقلاب الفاشل اختبارًا مفصليًا لمدى صلابة الدولة التركية ومتانة مؤسساتها. إلا أن تركيا تجاوزت هذا الامتحان الصعب بإرادة شعبها وتماسك نظامها السياسي، ما رسّخ مفهوم السيادة الوطنية بشكل أعمق، ليس فقط في المجال السياسي، بل أيضًا في القطاعات الاقتصادية والتقنية والعسكرية. ومن هنا، برزت استراتيجية الاعتماد على الذات كأحد الأعمدة الأساسية للسياسات التركية في مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
فواصلت تركيا مسيرتها بثبات، محققة تقدمًا ملحوظًا في مجالات تعزيز الحكم الديمقراطي، والقطاع الاقتصادي، والصناعات الدفاعية، والعمل الإنساني، والدبلوماسية الإقليمية.
وفي التعليم داخلياً، أعادت الدولة التركية هيكلة قطاع التعليم عبر ضمّ المؤسسات التي كانت تحت سيطرة منظمة «فيتو» إلى وزارة التربية الوطنية، مما عزز السيادة التعليمية ومكّن من استعادة السيطرة الكاملة على البنية التحتية التربوية.
أما خارجيًا، فقد برزت «مؤسسة المعارف التركية» كفاعل دولي في مجال التعليم، إذ تولّت إدارة المدارس التي كانت تستغلها «فيتو» في عدة دول، ووسّعت أنشطتها لتشمل 586 مؤسسة تعليمية في 55 دولة، ضمن علاقات رسمية مع 108 دولة، مقدّمة التعليم لأكثر من 70 ألف طالب.
اقتصاديًا، شهدت البلاد نموًا متواصلًا، حيث بلغت قيمة الصادرات في عام 2024 أكثر من 260 مليار دولار، مع توقّعات بتجاوز 270 مليار دولار في 2025، مدفوعة بتوسيع قاعدة الإنتاج وتنوع الأسواق. كما ارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز 15 ألف دولار، حيث ما زال الاقتصاد التركي من بين أكبر 20 اقتصادًا في العالم.
أما قطاع السياحة، فقد حقق أداءً لافتًا باستقبال أكثر من 60 مليون زائر العام الماضي، ما يعكس الاستقرار والجاذبية المتنامية التي باتت تميّز موقع تركيا على خريطة الاقتصاد العالمي.
وفي السنوات الاخيرة سجّلت تركيا قفزات نوعية في مجالات الإنتاج المحلي، لا سيما في قطاع الصناعات الدفاعية الذي أصبح من أبرز روافد التقدم التكنولوجي في البلاد. فقد رسّخت شركات تركية موقعها كمورّدين رئيسيين للأسواق العالمية، عبر تصدير منتجاتها الدفاعية إلى أكثر من 180 دولة.
ويأتي هذا التقدم في إطار رؤية تركية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز القدرات الدفاعية بما ينسجم مع التحديات المتغيرة في الإقليم. فامتلاك منظومات ردع متطورة لم يعد خيارًا، بل ضرورة تفرضها طبيعة المرحلة. وفي هذا السياق، يشكّل تطوير الصناعات الدفاعية أرضية قوية لتعزيز التعاون مع الدول الشقيقة، بما يسهم في بناء منظومة أمن إقليمي قائمة على الشراكة والتكامل في مواجهة التهديدات المشتركة.
تركيا وتوسيع الحضور الدولي وسط مشهد إقليمي ودولي متأزم
أعادت تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، رسم معالم سياستها الخارجية على أسس أكثر استقلالية وواقعية.
وعززت حضورها كفاعل إقليمي ودولي مؤثر، تجلى بوضوح في انخراطها النشط في أزمات جوارها، مثل الملفين الليبي والسوري، إضافة إلى دعمها الحاسم لأذربيجان في قره باغ، وموقفها المتوازن في الأزمة الأوكرانية، حيث اضطلعت بدور وساطة محوري في اتفاق تصدير الحبوب من موانئ البحر الأسود، ما عزز من موقعها كقوة توازن ووسيط موثوق في النظام الدولي.
في السياق ذاته، حافظت تركيا على ثوابتها الأخلاقية في القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وعبّرت بشكل متكرر عن رفضها لازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الشعوب. كما فتحت في الوقت ذاته قنوات تواصل دبلوماسي مع مختلف القوى العالمية، من واشنطن إلى موسكو، مرورًا بعواصم أوروبا وآسيا، معتمدة خطابًا مرنًا يراعي المصالح دون التفريط بالمبادئ.
وقد تُوّج هذا النشاط بدبلوماسية نشطة وواسعة النطاق، تمثلت في امتلاك تركيا واحدة من أكبر شبكات التمثيل الدبلوماسي على مستوى العالم بـ262 بعثة في القارات الخمس، ما منحها المركز الثالث دوليًا. هذا الامتداد الدبلوماسي أسهم في ترسيخ نهج تركي خارجي يقوم على احترام السيادة، وتطوير شراكات استراتيجية قائمة على الندية، والدفاع عن العدالة في المحافل الدولية، متناغما مع المبادئ الأخلاقية والواقعية.
وفي إطار سياستها القائمة على دعم الحلول السياسية والاستقرار الإقليمي، تواصل تركيا تأكيد دعمها للعملية الانتقالية في سوريا، مع إبداء التقدير للجهود المبذولة للحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها. وتؤمن بأن تحقيق الاستقرار المستدام يتطلب تعاونًا بنّاءً بين دول الجوار والدول الشقيقة، وهو ما تسعى إليه تركيا من خلال دعمها المستمر لهذا المسار.
كما تولي تركيا أهمية خاصة لتعزيز تعاونها مع عدد من الدول، مثل ليبيا والسودان والصومال وأفغانستان واليمن، وذلك عبر تبنّي مقاربة شاملة تشمل دعم الاستقرار والمساعدات الإنسانية، وتنفيذ مشاريع تنموية ذات بعد استراتيجي. ويعكس هذا التوجه التزام أنقرة الثابت بمبادئ التضامن والتعاون، المرتكزة إلى علاقات تاريخية وروابط حضارية مشتركة.
قطر: وقفة أخوية لا تُنسى
من أبرز مظاهر التضامن في تلك الليلة التاريخية، الموقف المشرف لدولة قطر الشقيقة، التي كانت أول دولة تتواصل مع القيادة التركية مُعربة عن دعمها الكامل للشرعية ورفضها القاطع لمحاولة الانقلاب. فقد بادر صاحب السمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بالاتصال بفخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، مؤكدًا التضامن الأخوي المطلق، كما أوفدت قطر وفدًا رسميًا إلى أنقرة في الأيام التالية، ما ترك أثرًا بالغًا في نفوس الأتراك حكومة وشعبًا.
وقد تميزت العلاقات التركية–القطرية بتكامل المواقف وتبادل الدعم في أوقات الأزمات. ومؤخراً، أدانت تركيا بشدة أي اعتداء ينتهك سيادة دولة قطر الشقيقة، حيث أكد فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان أن تركيا ستقف دومًا إلى جانب أشقائها القطريين.
وتطورت العلاقات الثنائية إلى شراكة استراتيجية متينة، عززتها اللجنة الاستراتيجية العليا التي تأسست عام 2015، والتي عقدت حتى اليوم عشر جولات ووقّعت 117 اتفاقية تعاون تشمل مجالات الدفاع، والطاقة، والتعليم، والاستثمار، والإعلام. ويعمل اليوم في قطر أكثر من 770 شركة تركية، بينما تنشط نحو 250 شركة قطرية في السوق التركية، ضمن بيئة تعاون مزدهرة تعكس الثقة المتبادلة والرؤية المشتركة لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا في المنطقة.
خلاصة التجربة
لقد أثبتت تركيا في ليلة 15 يوليو/تموز أن إرادة الشعوب لا تُهزم، وأن حماية الديمقراطية ليست حكرًا على المؤسسات، بل مسؤولية وطنية يتقاسمها الجميع. لقد انتصرت تركيا ليس فقط على الانقلاب، بل على تاريخ طويل من التبعية، والتدخل، والهيمنة الداخلية والخارجية.
وها هي اليوم تدخل مئويتها الثانية بجمهورية أقوى، وشعب أوعى، واقتصاد أكثر تنوعًا، وسياسة خارجية أكثر توازنًا، وصناعات دفاعية أكثر استقلالاً.
إن ذكرى 15 تموز ستظل حية في الذاكرة الوطنية التركية، لا كجرح، بل كعلامة مجد، ونقطة تحول، ودليل على أن الأمة التي تثق بنفسها، وتتشبث بإرادتها، لا تُهزم.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتوصلان لاتفاق بشأن الرسوم الجمركية
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتوصلان لاتفاق بشأن الرسوم الجمركية

صحيفة الشرق

timeمنذ 10 ساعات

  • صحيفة الشرق

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتوصلان لاتفاق بشأن الرسوم الجمركية

عربي ودولي 18 ترامب الرسوم الجمركية الاتحاد الأوروبي أمريكا أبرمت الولايات المتحدة اتفاق إطار تجاريا مع الاتحاد الأوروبي اليوم الأحد، تفرض بموجبه رسوما جمركية بنسبة 15 بالمئة على معظم سلع الاتحاد الأوروبي. وجاء هذا الإعلان بعد أن أجرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين محادثات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اسكتلندا. وقال ترامب للصحفيين بعد المحادثات مع فون دير لاين: "أعتقد أن هذه أكبر صفقة تبرم على الإطلاق".. فيما كشفت رئيسة المفوضية الأوروبية عن أن الرسوم الجمركية البالغة 15 بالمئة ستطبق "على جميع القطاعات"، واصفة الاتفاق بأنه سيحقق الاستقرار. ويشمل الاتفاق أيضا استثمار الاتحاد الأوروبي 600 مليار دولار في الولايات المتحدة وشراءه طاقة وعتادا عسكريا أمريكيا بمبالغ كبيرة. وفي 12 يوليو الجاري، توعد ترامب بفرض رسوم جمركية 30 بالمئة على الواردات من الاتحاد الأوروبي اعتبارا من أول أغسطس المقبل، بعد مفاوضات لأسابيع مع شركاء الولايات المتحدة التجاريين الرئيسيين والتي فشلت في التوصل إلى اتفاق تجاري شامل. وكان الاتحاد الأوروبي قد أعد رسوما جمركية مضادة على 93 مليار يورو (109 مليارات دولار) من السلع الأمريكية في حال عدم التوصل إلى اتفاق، وفي حال مضى ترامب قدما في فرض رسوم 30 بالمئة.

الضفة الغربية وسياسات الاحتلال الاستعمارية
الضفة الغربية وسياسات الاحتلال الاستعمارية

صحيفة الشرق

timeمنذ يوم واحد

  • صحيفة الشرق

الضفة الغربية وسياسات الاحتلال الاستعمارية

مقالات 126 لا تتوقف حكومة الكيان الإسرائيلي اليمينية المتطرفة، من خلال مخططاتها الاجرامية، عن صب المزيد من الزيت على النار كل يوم، ومواصلة تأجيج التوتر المتصاعد في المنطقة، والذي يتفاقم بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما خلفه من كارثة إنسانية في القطاع. ولعل آخر هذه المخططات والسياسات الاستعمارية التوسعية، هي مصادقة الكنيست الإسرائيلي على الإعلان الداعي إلى فرض ما يسمى بـ»السيادة الإسرائيلية» على الضفة الغربية المحتلة، واتباع ذلك بتخصيص مبلغ 274.6 مليون دولار، لدعم المزيد من المشاريع الاستعمارية بالضفة الغربية المحتلة. وفي ظل العدوان وحرب الابادة الجماعية المستمرة بأشكالها المختلفة في قطاع غزة، بما في ذلك استخدام الغذاء وتجويع المدنيين كسلاح حرب، يأتي هذا الإعلان الذي صادق عليه الكنيست الإسرائيلي لضم الضفة الغربية، ليمثل إعلان حرب جديدة على الشعب الفلسطيني، واستمرارا لجرائم الإبادة والتهجير، والعمل على تصفية القضية الفلسطينية وتقويض الإجماع الدولي حول مبدأ حل الدولتين. هذا الاعلان الذي يعتبر خرقا سافرا ومرفوضا للقانون الدولي، وانتهاكا صارخا لقرارات مجلس الأمن، لا يمكن أن يغير من الوضع القانوني للأرض الفلسطينية المحتلة، حيث تؤكد جميع قرارات الشرعية الدولية، بطلان جميع الإجراءات التي تهدف إلى شرعنة الاحتلال، بما في ذلك الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. إن المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن، وكل الأطراف المعنية، مطالبة بالاضطلاع بمسؤولياتها القانونية والأخلاقية، والتحرك العاجل لوقف السياسات الإسرائيلية غير القانونية التي تهدف إلى فرض الأمر الواقع بالقوة، وتقويض فرص تحقيق سلام عادل ودائم، والقضاء على آفاق حل الدولتين القائم على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، بما يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. مساحة إعلانية

الولايات المتحدة تعلن عن ضمان قرض بقيمة 4 مليارات دولار لمشتريات أسلحة لبولندا
الولايات المتحدة تعلن عن ضمان قرض بقيمة 4 مليارات دولار لمشتريات أسلحة لبولندا

صحيفة الشرق

timeمنذ 2 أيام

  • صحيفة الشرق

الولايات المتحدة تعلن عن ضمان قرض بقيمة 4 مليارات دولار لمشتريات أسلحة لبولندا

عربي ودولي 0 A+ A- واشنطن - قنا أعلنت الولايات المتحدة، اليوم، أنها ستقدم ضمان قرض بقيمة 4 مليارات دولار لبولندا لشراء معدات عسكرية أمريكية. وقالت تامي بروس المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، في بيان، "تبقى بولندا واحدة من أقوى حلفاء أمريكا وأكثرهم موثوقية في أوروبا، فهي دولة تقع على خط المواجهة في الجناح الشرقي لحلف /الناتو/ ورائدة في مجال الاستثمار الدفاعي"، مؤكدة أن واشنطن ستقدم ضمان قرض لوارسو بقيمة أربعة مليارات دولار لشراء معدات عسكرية أمريكية. وأشارت إلى أن بولندا أبرمت صفقات شراء كبيرة للأسلحة الأمريكية تشمل مروحيات أباتشي الهجومية، وأنظمة صواريخ هيمارس، وأنظمة الدفاع الجوي باتريوت. وتعد بولندا، العضو في حلف شمال الأطلسي، شريكا رئيسيا لكييف منذ أن شنت روسيا عملية عسكرية في أراضي جارتها أوكرانيا غزوها في فبراير 2022، وعقب ذلك قامت وارسو على مدى سنوات عدة بتحديث جيشها بسرعة، حيث وقعت سلسلة من عقود مشتريات الأسلحة، معظمها مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، كما خصصت نسبة 4.7 % من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري هذا العام، وتسعى إلى زيادته أكثر العام المقبل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store