logo
صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة

صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة

الميادينمنذ 2 أيام
صباح 13 آب/أغسطس 2025، أعلنت الدولة المصرية على لسان وزير الثقافة، أحمد فؤاد هنو، وفاة الكاتب والأديب صنع الله إبراهيم (1937 – 2025)، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 88 عاماً.
ولعل في الإعلان الرسمي عن الوفاة إشارة واضحة إلى التفات رسمي، ولو متأخر، إلى أهمية وقيمة الرجل في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وهو الذي لا يحتاج إلى توثيق حكومي أو شهادة منحتها له الجماهير وأعماله الروائية الخالدة بكل ثقة.
وسائل إعلام محلية أعلنت أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وجَّه بعلاج إبراهيم واتخاذ ما يلزم بخصوص حالته الصحية، بعدما تدهورت في آذار/مارس الماضي، ودخل على إثرها المستشفى مرات عديدة، مصاباً بكسر في الحوض، بالإضافة إلى متاعب في الرئتين.
هذا التوجيه الرئاسي المعلن عبر مواقع صحفية محلية، إشارة أخرى إلى محاولة إعلام الدولة المصرية الالتصاق بقيمة أديب عارض الأنظمة الحاكمة بشجاعة نادرة وبمواقف لا تُنسى.
فمثلاً، لا يمكن نسيان الموقف الذي رسّخه صنع الله إبراهيم ضد المحتل الإسرائيلي، وذلك حين ذهب إلى مقر تسلم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" التي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، وفاجأ الجميع بوقوفه على المسرح معلناً رفض الجائزة على الملأ، معتبراً حكومة بلاده، مانحة الجائزة، "لا تملك مصداقية منحها، لأسباب منها إبقاؤها سفير الاحتلال الإسرائيلي، رغم الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني".
صنع الله إبراهيم واحد من أبرز الأسماء الأدبية في مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وله أعمال روائية كثيرة، مثل "ذات" و"اللجنة" و"العمامة والقبعة" و"أمريكانلي" و"بيروت بيروت"، و"تلك الرائحة"، جعلته إحدى القامات في عالم الأدب والثقافة حافلاً بالحضور الدائم المتطور في فن الرواية العربية، فضلاً عن مواقفه السياسية والمبادئية التي تخلده كرمز أدبي ونضالي بارز.
مصر اليوم تفقد برحيل صنع الله عموداً بارزاً من أعمدة قوتها الناعمة، باعتباره واحداً من أهم الروائيين العرب في الحقبة الحديثة. إذ ظل صديقاً للأفكار المتمردة، قابضاً على جمر الحرية والتغيير، ولم ينحنِ وهو يرى العالم الذي حلم به يتداعى بقسوة لم يتصورها. فهو قبل أن يكون أديباً لامعاً، كان إنساناً صاحب موقف، يمشي في الحياة بضمير يقظ، لا يهادن ولا يساوم على الحقيقة والمبدأ، ليطرح نموذجاً يؤكد أن الأدب الصادق يمكن أن يكون مقاومة، وأن الصدق يمكن أن يُكتب بحبر من نار.
رحل صنع الله إبراهيم، ففقد ضمير الكتابة أحد المتحدثين باسمه، مثقف وطني لم يتاجر بقضية، ولم يتسوَّل على موائد الجوائز، ولم يبع رائحة الوطن بالتماهي مع "الصَّهْينة" وإمساك العصا من المنتصف.
في الساعات الأولى لميلاد صنع الله إبراهيم في يوم 24 شباط/فبراير 1937، لم يكن والده قد استقر على اسم مولوده الجديد، لكنه استخار الله، وبعد الاستخارة فتح المصحف، وقال إن أول كلمة ستنزل عليها عينه ستكون اسماً لابنه فكانت "صنع الله"، في الآية 88 من سورة النمل: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۖصُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون..".
وكان اسم تدليله بين أسرته "صُنْعُه"، مثلما ينطق المصريون "عَبدُه" إن كان الاسم الأصلي "عبد الله"، لكن مدرِّسيه، مثلما يحكي هو بنفسه، كانوا شديدي الولع بالسخرية من اسمه الغريب، وربما هذا ما كان يبذر في نفسه سلاح مقاومة ضد الطبقية عبر تلك السخريات التي واجهها بسبب اسمه، وربما كان هذا مفتاحاً من مفاتيح تكوينه الروائي، فقد كان الاسم، بالإضافة إلى جسده النحيل الهزيل، على لسان مدرسيه علامة تنمُّر. إذ كان معلمه يسأله صباح كل يوم: "أكلت إيه النهاردة؟"، وبالتبعية يسخر منه بناء على طعامه، ومن ثمَّ يقلل من شأن طبقته الاجتماعية.
واستكمالاً لسرد بذور التشكُّل النفسي والروائي للأديب صنع الله إبراهيم، يحكي هو بنفسه مقتطفات من نشأته الملتهبة في حوار صحفي أجرته معه مجلة "الدوحة"، في عدد أيلول/سبتمبر 1985، فيقول: "طفولتي كانت شقية، فقد كان أبي موظفاً من الطبقة الوسطى وكانت زوجته الأولى من المستوى نفسه، وكنت أنا ابن الزوجة الثانية التي كانت أقل اجتماعياً منهما، وكانت تتعامل كممرضة لزوجته الأولى المشلولة".
ويضيف: "كانت أمي صغيرة وجميلة ومتعلمة ومتدينة، وكانت حريصة على تسجيل يومياتها، وعانت في حياتها ضغوطاً نفسية قادتها إلى مستشفى الأمراض العقلية وأنا ما زلت في السادسة من عمري، وكان ذلك حكماً على تلك المرحلة المبكرة بالنفي النفسي".
لم يعش صنع الله إبراهيم حالة الفخر والتعالي في برج عاجي. تلك التي يعيشها أغلب الكتاب. إذ رأى أن الإلهام والوحي والتيه وما شابه "أكذوبة حطّها الكُتَّاب علشان يعملوا هالة حوالين نفسهم، لكن في النهاية هي شغلانة زي أي شغلانة، لازم يبقى فيه بينك وبينها حالة عشق، لكن هي شغلانة زي الراجل بتاع الجزم/الأحذية اللي بيتفنن أنه يعملك جزمة شكلها حلو، وبعد ما يخلص يقعد يبص لها كدة بإعجاب، هو ده عشق المهنة"، حسب قوله في أحد اللقاءات –القليلة- المصوَّرة معه.
الوسط الأدبي المصري والعربي يعزي نفسه في رحيل صنع الله إبراهيم، ولعل ما كتبه الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، عبر حسابه الرسمي على "فيسبوك"، كان أصدق تمثيل للحزن الذي أصاب مصر بفقدان صاحب "أمريكانلي" و"بيروت بيروت". إذ نعى عبد المجيد "معلِّمه" قائلاً: "يا إلهي.. رحل صنع الله إبراهيم.. كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيراً عن حزني يا مُعلّمنا وصديق العمر الجميل.. إلى جنة الخلد يا صنع الله يا حبيبي.. الدموع تجعلني لا أرى يا حبيبي".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وفاة والدة الملياردير جيف بيزوس... وكلمات مؤثرة عن رحيلها
وفاة والدة الملياردير جيف بيزوس... وكلمات مؤثرة عن رحيلها

LBCI

timeمنذ 15 ساعات

  • LBCI

وفاة والدة الملياردير جيف بيزوس... وكلمات مؤثرة عن رحيلها

أعلن الملياردير جيف بيزوس، مؤسّس شركة "أمازون"، في منشور مؤثر على إنستغرام صباح اليوم عن وفاة والدته جاكلين غايس بيزوس، التي رحلت في 14 آب 2025 عن عمر ناهز 78 عاما، بعد صراع طويل مع مرض الخَرَف المعروف بـ"خَرَف أجسام ليوي". : "رحلت اليوم وهي محاطة بالكثيرين ممّن أحبوها — أبناؤها وأحفادها ووالدي. أعلم أنها شعرت بحبّنا في لحظاتها الأخيرة"، في إشارة إلى الأجواء الحافلة بالمودّة التي رافقتها حتى النهاية. بدورها، علّقت زوجته، لورين سانشيز بيزوس، على المنشور بكلمات مؤثرة: "سنفتقدها كثيرًا... أحبك"، مرفقة تعليقها برمزي قلب وحزن.

"نيويورك تايمز": لماذا أثارت خطوبة كريستيانو رونالدو جدلاً واسعاً في السعودية؟
"نيويورك تايمز": لماذا أثارت خطوبة كريستيانو رونالدو جدلاً واسعاً في السعودية؟

الميادين

timeمنذ 2 أيام

  • الميادين

"نيويورك تايمز": لماذا أثارت خطوبة كريستيانو رونالدو جدلاً واسعاً في السعودية؟

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول إعلان خطوبة كريستيانو رونالدو وجورجينا رودريغيز من العاصمة السعودية الرياض، وما أثاره ذلك من تساؤلات حول المساكنة والعلاقات غير الرسمية في ظل التحولات الاجتماعية السريعة التي تشهدها المملكة. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية: لم يكن مفاجئاً أن يُرفق إعلان خطوبة كريستيانو رونالدو، نجم كرة القدم العالمي، بصورة ألماسة بحجم حبة زيتون ضخمة. إلا أنّ الموقع المُشار إليه في منشور "إنستغرام"، الذي نشرته شريكته منذ 9 سنوات، عارضة الأزياء والمؤثرة جورجينا رودريغيز، أثار الدهشة. فصورة يدها المزينة بالألماس لم تُنشر من باريس أو بورا بورا أو دبي، بل من الرياض في المملكة العربية السعودية. لا تشتهر عاصمة المملكة المحافظة بشكل عام بكونها مكاناً يقصده الأزواج الذين يسافرون حول العالم للاحتفال بعلاقاتهم الرومانسية. فقبل عقد من الزمن، كانت الشرطة الدينية تجوب شوارع المدينة بحثاً عن الشركاء غير المتزوجين، وتطالب النساء بتغطية شعرهن. وكانت ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، حتى وقت قريب، تُعاقب بالجلد. وفي الوقت الذي احتفل فيه المعجبون بالخطوبة الجديدة، سلّط الإعلان الضوء على حقيقة أنّ الشريكين غير متزوجين ويعيشان مع أطفالهما في مدينة سعودية منذ عامين. والرياض هي المكان الذي شهد أحد فصول نعيم العزوبية الذي كان يعيشه رونالدو بعد انتقاله إليها عام 2022 بموجب عقد ضخم للعب مع نادي النصر السعودي. وقد رافقته السيدة رودريغيز وأطفالهما. ويبدو أنّ الأسرة تعيش حياة مريحة وفاخرة في المملكة، الأمر الذي يمثل اختباراً لحدود التغيير الاجتماعي السريع في المملكة العربية السعودية. منذ وصوله إلى سُدّة الحكم في عام 2015، أشرف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على سلسلة من التحولات السياسية التي جعلت الدولة المحافظة للغاية في السابق غير قابلة للتمييز، بحيث خفف القيود الاجتماعية وزاد القمع السياسي. قبل سنوات، كان مجرد ركوب امرأة سيارة مع سائق ذكر لا تجمعه صلة قرابة بها يثير التساؤلات عند نقاط التفتيش التابعة للشرطة؛ وهذه معضلة متناقضة في المملكة. إذ لم يكن مسموحاً للنساء قيادة السيارة حتى عام 2018. أما اليوم، فليس واضحاً تماماً ما هو المسموح به: المواعدة؟ أم المساكنة؟ أم الحمل من دون زواج؟ لا يوجد قانون عقوبات مكتوب، وكل قاضٍ يفسر الشريعة الإسلامية - وهي العقيدة القانونية السائدة في المملكة – بشكل مختلف. هذا التعتيم الاستراتيجي يمنح الحكومة السعودية مجالاً للمناورة في ظل تطور التغيرات المجتمعية، الأمر الذي يثير أحياناً ردود فعل شعبية غاضبة ويؤدي إلى اعتقالات عشوائية ظاهرياً. 8 اب 12:04 5 اب 10:09 واليوم، أصبحت النساء تخرج إلى الشوارع مرتديات السراويل القصيرة والقمصان القصيرة، على الرغم من قواعد الذوق العام التي تحظر نظرياً ارتداء مثل هذه الملابس. والكحول محظورة، لكن السوق السوداء تزدهر بها. وأحياناً، يمكن رؤية شبان ثملين بوضوح يتشاجرون خارج أحد النوادي الليلية "الخالية من الكحول" في المدينة. لم يستجب مركز التواصل الدولي التابع للحكومة السعودية لطلب التعليق على ما إذا كانت المساكنة مسموحة الآن، أو ما إذا كان قد تم منح استثناء خاص لرونالدو، الذي يبلغ من العمر 40 عاماً وهو من أصل برتغالي. كما لم يستجب الفريق الإعلامي الخاص بالسيدة رودريغيز ورونالدو للأسئلة المتعلقة بخطوبتهما، بما في ذلك ما إذا كانت المعايير الاجتماعية في المملكة العربية السعودية قد لعبت دوراً في قرارهما بالزواج. لقد شكّل انتقال رونالدو إلى السعودية إنجازاً كبيراً للحكومة التي تسعى إلى توسيع قطاعها الرياضي وتحسين صورة المملكة، من خلال ضم أحد أشهر الرياضيين في العالم إلى صفوفها. ويُعدّ رونالدو الشخصية الأكثر متابعة على "إنستغرام"، وقد شارك صوراً عن الحياة وكرة القدم في السعودية، تُظهر جانباً مختلفاً من البلاد. وقد لعبت السيدة رودريغيز، البالغة من العمر 31 عاماً، وهي عارضة أزياء ومؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي ولديها برنامج في منصة "نتفليكس"، دوراً أساسياً في هذا العرض، حيث شاركت في فعاليات السجادة الحمراء، واستمتعت بأشعة الشمس مرتدية البيكيني خارج فيلتها الأنيقة، وزارت المنتجعات ذات النجوم الخمس مع أطفالها. والنساء الأقل حظاً اللاتي لا يستطعن تقديم شهادة زواج لا يستطعن بشكل عام الحصول على الرعاية الطبية أو التعليم أو الإقامة القانونية لأطفالهن، ولا يستطعن تسجيل أطفالهن. وقد أثار رونالدو الشائعات والتكهنات، عند الإشارة إلى السيدة رودريغيز عدة مرات على أنها زوجته. لكنه طمأن معجبيه في برنامجها على "نتفليكس" بأنهما سيتزوجان يوماً ما. وقال: "أقول لها دائماً: عندما نتوافق". لم يتضح متى أو أين تمت الخطوبة. واقتصر منشور السيدة رودريغيز على "إنستغرام" يوم الاثنين على التعليق التالي: "نعم، أوافق. في هذه الحياة وفي كل حياة". وقد تبادل متابعوها العرب النكات، حيث علّق أحدهم بأنها "كانت خطوبة سريعة جداً!" وانتشرت بسرعة كبيرة النكات العربية التي احتفلت بهذه المناسبة بطريقة فكاهية عبر الإنترنت، ومن بينها إحدى النكات التي تقول إنه اضطر إلى العمل في المملكة العربية السعودية لمدة عامين لتوفير تكاليف الزواج. وذكر تعليق آخر نكتة مصحوبة بصورة للزوجين مع أطفالهما ورد فيها "لقد كانت مجرد فترة تعارف"، في إشارة ساخرة إلى مرحلة المواعدة القصيرة التي يوافق عليها الأهل والتي يمر بها بعض الأزواج السعوديين والعرب قبل الزواج الرسمي. وفي حزيران/يونيو الماضي، مدد رونالدو عقده مع المملكة العربية السعودية لمدة عامين آخرين. وقال في فيديو نشره النادي: "عائلتي تدعمني دائماً في قراراتي والشعب السعودي يعاملنا معاملة طيبة للغاية. لهذا السبب نرغب في العيش هناك ومواصلة حياتنا". نقلته إلى العربية: زينب منعم.

صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة
صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة

الميادين

timeمنذ 2 أيام

  • الميادين

صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة

صباح 13 آب/أغسطس 2025، أعلنت الدولة المصرية على لسان وزير الثقافة، أحمد فؤاد هنو، وفاة الكاتب والأديب صنع الله إبراهيم (1937 – 2025)، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 88 عاماً. ولعل في الإعلان الرسمي عن الوفاة إشارة واضحة إلى التفات رسمي، ولو متأخر، إلى أهمية وقيمة الرجل في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وهو الذي لا يحتاج إلى توثيق حكومي أو شهادة منحتها له الجماهير وأعماله الروائية الخالدة بكل ثقة. وسائل إعلام محلية أعلنت أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وجَّه بعلاج إبراهيم واتخاذ ما يلزم بخصوص حالته الصحية، بعدما تدهورت في آذار/مارس الماضي، ودخل على إثرها المستشفى مرات عديدة، مصاباً بكسر في الحوض، بالإضافة إلى متاعب في الرئتين. هذا التوجيه الرئاسي المعلن عبر مواقع صحفية محلية، إشارة أخرى إلى محاولة إعلام الدولة المصرية الالتصاق بقيمة أديب عارض الأنظمة الحاكمة بشجاعة نادرة وبمواقف لا تُنسى. فمثلاً، لا يمكن نسيان الموقف الذي رسّخه صنع الله إبراهيم ضد المحتل الإسرائيلي، وذلك حين ذهب إلى مقر تسلم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" التي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، وفاجأ الجميع بوقوفه على المسرح معلناً رفض الجائزة على الملأ، معتبراً حكومة بلاده، مانحة الجائزة، "لا تملك مصداقية منحها، لأسباب منها إبقاؤها سفير الاحتلال الإسرائيلي، رغم الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني". صنع الله إبراهيم واحد من أبرز الأسماء الأدبية في مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وله أعمال روائية كثيرة، مثل "ذات" و"اللجنة" و"العمامة والقبعة" و"أمريكانلي" و"بيروت بيروت"، و"تلك الرائحة"، جعلته إحدى القامات في عالم الأدب والثقافة حافلاً بالحضور الدائم المتطور في فن الرواية العربية، فضلاً عن مواقفه السياسية والمبادئية التي تخلده كرمز أدبي ونضالي بارز. مصر اليوم تفقد برحيل صنع الله عموداً بارزاً من أعمدة قوتها الناعمة، باعتباره واحداً من أهم الروائيين العرب في الحقبة الحديثة. إذ ظل صديقاً للأفكار المتمردة، قابضاً على جمر الحرية والتغيير، ولم ينحنِ وهو يرى العالم الذي حلم به يتداعى بقسوة لم يتصورها. فهو قبل أن يكون أديباً لامعاً، كان إنساناً صاحب موقف، يمشي في الحياة بضمير يقظ، لا يهادن ولا يساوم على الحقيقة والمبدأ، ليطرح نموذجاً يؤكد أن الأدب الصادق يمكن أن يكون مقاومة، وأن الصدق يمكن أن يُكتب بحبر من نار. رحل صنع الله إبراهيم، ففقد ضمير الكتابة أحد المتحدثين باسمه، مثقف وطني لم يتاجر بقضية، ولم يتسوَّل على موائد الجوائز، ولم يبع رائحة الوطن بالتماهي مع "الصَّهْينة" وإمساك العصا من المنتصف. في الساعات الأولى لميلاد صنع الله إبراهيم في يوم 24 شباط/فبراير 1937، لم يكن والده قد استقر على اسم مولوده الجديد، لكنه استخار الله، وبعد الاستخارة فتح المصحف، وقال إن أول كلمة ستنزل عليها عينه ستكون اسماً لابنه فكانت "صنع الله"، في الآية 88 من سورة النمل: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۖصُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون..". وكان اسم تدليله بين أسرته "صُنْعُه"، مثلما ينطق المصريون "عَبدُه" إن كان الاسم الأصلي "عبد الله"، لكن مدرِّسيه، مثلما يحكي هو بنفسه، كانوا شديدي الولع بالسخرية من اسمه الغريب، وربما هذا ما كان يبذر في نفسه سلاح مقاومة ضد الطبقية عبر تلك السخريات التي واجهها بسبب اسمه، وربما كان هذا مفتاحاً من مفاتيح تكوينه الروائي، فقد كان الاسم، بالإضافة إلى جسده النحيل الهزيل، على لسان مدرسيه علامة تنمُّر. إذ كان معلمه يسأله صباح كل يوم: "أكلت إيه النهاردة؟"، وبالتبعية يسخر منه بناء على طعامه، ومن ثمَّ يقلل من شأن طبقته الاجتماعية. واستكمالاً لسرد بذور التشكُّل النفسي والروائي للأديب صنع الله إبراهيم، يحكي هو بنفسه مقتطفات من نشأته الملتهبة في حوار صحفي أجرته معه مجلة "الدوحة"، في عدد أيلول/سبتمبر 1985، فيقول: "طفولتي كانت شقية، فقد كان أبي موظفاً من الطبقة الوسطى وكانت زوجته الأولى من المستوى نفسه، وكنت أنا ابن الزوجة الثانية التي كانت أقل اجتماعياً منهما، وكانت تتعامل كممرضة لزوجته الأولى المشلولة". ويضيف: "كانت أمي صغيرة وجميلة ومتعلمة ومتدينة، وكانت حريصة على تسجيل يومياتها، وعانت في حياتها ضغوطاً نفسية قادتها إلى مستشفى الأمراض العقلية وأنا ما زلت في السادسة من عمري، وكان ذلك حكماً على تلك المرحلة المبكرة بالنفي النفسي". لم يعش صنع الله إبراهيم حالة الفخر والتعالي في برج عاجي. تلك التي يعيشها أغلب الكتاب. إذ رأى أن الإلهام والوحي والتيه وما شابه "أكذوبة حطّها الكُتَّاب علشان يعملوا هالة حوالين نفسهم، لكن في النهاية هي شغلانة زي أي شغلانة، لازم يبقى فيه بينك وبينها حالة عشق، لكن هي شغلانة زي الراجل بتاع الجزم/الأحذية اللي بيتفنن أنه يعملك جزمة شكلها حلو، وبعد ما يخلص يقعد يبص لها كدة بإعجاب، هو ده عشق المهنة"، حسب قوله في أحد اللقاءات –القليلة- المصوَّرة معه. الوسط الأدبي المصري والعربي يعزي نفسه في رحيل صنع الله إبراهيم، ولعل ما كتبه الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، عبر حسابه الرسمي على "فيسبوك"، كان أصدق تمثيل للحزن الذي أصاب مصر بفقدان صاحب "أمريكانلي" و"بيروت بيروت". إذ نعى عبد المجيد "معلِّمه" قائلاً: "يا إلهي.. رحل صنع الله إبراهيم.. كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيراً عن حزني يا مُعلّمنا وصديق العمر الجميل.. إلى جنة الخلد يا صنع الله يا حبيبي.. الدموع تجعلني لا أرى يا حبيبي".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store