
عائدون إلى السودان... أزمتا المياه والكهرباء تُرهقان الأهالي
قاسية ومتعبة هي يوميات الناس في السودان في ظل ما خلفته
الحرب
من نقصٍ في الخدمات الأساسية، وهم يعانون يومياً لتأمين المياه جراء تدمير المحطات والانقطاع المستمر للكهرباء
زادت الدعوات الموجهة
للسودانيين
النازحين واللاجئين بالعودة إلى منازلهم في المدن والمناطق التي استردها الجيش من
قوات الدعم السريع
في السودان، وكانت آخرها العاصمة
الخرطوم
التي حُررت في مارس/آذار الماضي من مليشيا الدعم السريع. حزم اللاجئ في مصر، إبراهيم حسين، أغراضه القليلة وعاد على وجه السرعة إلى منزله في حي الصحافة العريق في الخرطوم، متأملاً أن يكون ما سمعه عن عودة الحياة إلى طبيعتها في المدينة التي ظلت تحت سيطرة الدعم السريع لخمسة وعشرين شهراً، واقعاً. لكن الواقع بدا مختلفاً عما يجري تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يسمعه في خُطب المشرفين على تنظيم أفواج العائدين. يقول حسين لـ "العربي الجديد": "جمعت أفراد أسرتي وأخبرتهم بأننا سنعود إلى الخرطوم بعد تحريرها. ولأننا عانينا بما نحن أسرة لا تملك أي مصدر دخل يعينها على الاستمرار في رحلة اللجوء، قررنا العودة إلى بيتنا في أسرع وقت". يتابع: "اعتقدنا أن الخدمات الأساسية متوفرة ولو بالحد الأدنى. لكن باتت مياه الشرب سلعة غالية، ويتطلب تأمينها جهداً ومالاً". لدى وصوله إلى الخرطوم، وجد نفسه مضطراً إلى شراء برميل مياه الشرب بخمسة وعشرين ألف جنيه (حوالي عشرة دولارات). فكل محطات المياه في المناطق التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع دمرت، كما سرقت المولدات والمحولات الكهربائية وغيرها، أو دمرت وأحرقت جراء القصف المتبادل. يضيف حسين: "كان قرار العودة خطأ، إذ سنضطر إلى إنفاق كل ما نحصل عليه من نقود لشراء مياه الشرب التي أصبحت نادرة في السودان لسببين، تدمير المحطات وانقطاع الكهرباء المستمر نتيجة استهداف الدعم السريع لمولدات التيار الكهربائي بالمسيرات بصورة يومية".
وتعد ندرة مياه الشرب مشكلة بالنسبة للأهالي. يقول حمدان جابر من أم درمان، إنه اضطر خلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، وعلى مدى 12 يوماً، إلى جلب المياه من نهر النيل مباشرة بسبب انقطاع الكهرباء. يضيف أن سعر برميل المياه في أم درمان وصل إلى 30 ألف جنيه (حوالي 12 دولارا) خلال فترة انقطاع الكهرباء الذي استمر عشرة أيام في يناير/كانون الثاني الماضي و12 يوماً في إبريل.
في الخرطوم 13 محطة مياه تعرضت 12 منها للتدمير، ونجت بأقل الخسائر محطة واحدة في محلية كرري في أم درمان الخاضعة لسيطرة الجيش. يقول مدير عام هيئة مياه الشرب والصرف الصحي في وزارة الري والموارد المائية، المهندس هشام الأمير، إن المحطة الوحيدة التي نجت هي محطة المنارة في أم درمان، التي تغطي محلية كرري وأجزاء من أم درمان القديمة وأمبدة الواقعة غرب العاصمة. ويوضح لـ "العربي الجديد": "أهم محطات مياه الشرب التي دمرت من قبل الدعم السريع هي محطة بحري التي تقع شمال الخرطوم، وتنتج 320 ألف متر مكعب يومياً، وتغذي مناطق واسعة من محلية بحري والخرطوم، حتى أحياء الصحافة جنوب الخرطوم". يتابع: "الدعم السريع سهّل للصوص سرقة المحولات وكابلات التوصيل والمعدات الأخرى، وتكفل بتدمير المباني ممارساً عملية تخريب ممنهجة للبنية التحتية لمحطات المياه".
وإلى جانب المحطات الرئيسة، يقول الأمير إن 1250 بئراً في الخرطوم دمرت أثناء سيطرة الدعم السريع على المدينة. وفي ولاية القضارف شرق السودان، بلغ سعر برميل المياه 35 ألف جنيه (حوالي 14 دولارا)، وظلت الولاية التي تقع على الحدود الإثيوبية تعاني أزمة مياه حادة بعد تكرار استهداف الدعم السريع بالمسيرات لمحطة الكهرباء الرئيسية للولاية بمدينة الشوك شمال الولاية. يضيف أن "ولاية القضارف في الوقت الحالي تواجه أزمة عطش حادة لدرجة أن المياه يمكن أن تنقطع عنها لمدة تتراوح ما بين 15 و20 يوماً في بعض الأوقات". ويقول لـ "العربي الجديد": "الدعم السريع استهدفت بالمسيرات محطتي الكهرباء الرئيسيتين للولاية ودمرت إحداها، ما نتج منه توقف محطة المياه عن الضخ". ويوضح أنه "لا يمكن تشغيل محطات المياه بمولدات صغيرة تعمل بالديزل. لذلك، إذا لم تتوفر الكهرباء، ستستمر معاناة الناس مع العطش".
لجوء واغتراب
التحديثات الحية
معاناة النازحين السودانيين في دارفور.. حفاة بلا طعام ولا مأوى
بالإضافة إلى توقف محطة المياه عن الضخ جراء انقطاع الكهرباء لأشهر في ولاية القضارف، توقفت 14 بئرا من بين 21 مقامة على حوض أبو النجاء الجوافي، كانت تضخ مياه الشرب إلى مُدن وقرى الولاية، وتعمل منها حالياً 7 آبار فقط. يضيف: "تحتاج الآبار إلى صيانة وتأهيل. كما أن هناك مشاكل بالخط الناقل تنتظر المعالجة".
من جهته، يقول سليمان مختار، وهو مواطن من مدينة القضارف، إن الولاية تعيش أزمة مياه حادة ضربت كافة القرى والمُدن بسبب تعطل المحطة الرئيسية في الشواك جراء الانقطاع المتواصل للكهرباء. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "المواطنين أصبحوا يحصلون على المياه من الآبار الجوفية التي كانت مخصصة لسقي الحيوانات، بعد توقف المحطة الرئيسية عن العمل. كما أن مياه الآبار التي يلجأ إليها الناس حالياً غير صالحة للشرب".
كما يلجأ سكان مدينة الأبيض في ولاية شمال كردفان إلى حفر آبار داخل المدينة التي تعرضت إلى حصار طويل من قبل الدعم السريع، بهدف سد النقص الحاد في مياه لشرب. ويقول أحمد هارون عبدالله، وهو مواطن من المدينة، لـ "العربي الجديد"، إن سعر برميل مياه الشرب النقية بلغ 30 ألف جنيه (حوالي 12 دولارا)، وأن برميل المياه غير الصالحة للشرب والتي تستخدم لأغراض منزلية، يباع بخمسة آلاف جنيه (دولاران).
ويتّهم الأمير قوات الدعم السريع، التي كانت تحاصر المدينة منذ بداية الحرب وحتى مارس/آذار الماضي، بتدمير مصادر مياه تغذي مدينة الأبيض وريفها، قائلاً إن "مدينة الأبيض تتغذى من حوض بارا الجوفي وعليه محطات يمتد منها خط ناقل بطول 66 كيلو مترا إلى المدينة تم تدميره، بالإضافة إلى مصدر مياه آخر جنوبي المدينة في منطقة ود البقاء، ويربطه بالمدينة خط ناقل طوله 30 كيلومترا، وقد سرقت الكوابل وألحقت أضرارا بالغة بالخط الناقل".
وتشهد مدن ولاية الجزيرة (وسط) وقراها أزمة عطش حادة ناتجة من توقف محطات المياه الرئيسية بالولاية، ونفاد المياه من قنوات الري التابعة لمشروع الجزيرة، التي كانت تغذي الآبار الصغيرة في أجزاء الولاية. ويقول عبد المنعم حماد، من مدينة المناقل الواقعة غرب مدينة ود مدني، إن المدينة تعاني أزمة كبيرة في مياه الشرب بسبب الانقطاع المستمر للكهرباء. يضيف لـ "العربي الجديد": "حالياً، يعتمد سكان المدينة على جلب المياه من مناطق بعيدة عبر عربات بدائية تجرها الدواب، ويبقى أصحاب هذه العربات البدائية أوقاتاً طويلة في طوابير ممتدة لجلب المياه من الآبار التي تعمل بالطاقة الشمسية وعددها قليل للغاية".
وبحسب وزارة الري والموارد المائية، فإن ثلاث محطات مياه رئيسة دمرت من بين أربع بولاية الجزيرة. وعن أزمة المياه الحادة في ولاية البحر الأحمر، يوضح الأمير أن الولاية تعاني تاريخياً من نقص في مياه الشرب، وكانت تعتمد كلياً على سد أربعات الذي دمرته السيول خلال فصل الخريف. يضيف أن "الولاية، وقبل الهجمات بالطائرات المسيرة، كانت تعتمد على الآبار التي أصلحت حول خور أربعات، بالإضافة إلى بعض محطات التحلية الخاصة والآبار الأهلية. لكن كل هذه الموارد تضررت بسبب مسيرات الدعم السريع التي أحدثت تدميراً كبيراً في البنية التحتية بالولاية وعاصمتها بورتسودان".
صحة
التحديثات الحية
حرب السودان... تزايد الإجهاض ووفيات الحوامل والرضع
وارتفع سعر برميل مياه الشرب في مدينة بورتسودان من 25 ألف جنيه (10 دولارات) قبل هجمات الدعم السريع المستمرة على الولاية إلى 35 ألف جنيه (14 دولارا) في الوقت الراهن. ويكشف الأمير لـ "العربي الجديد" أن نسبة توفر مياه الشرب النقية في السودان قبل الحرب كانت حوالي 67%، وقد تراجعت حالياً إلى ما بين 25 و30% فقط تختلف من ولاية إلى أخرى. ولا يتوقع أن يسترد قطاع المياه قدرته على سد الفجوة التي حدثت حالياً. يقول: "الكهرباء غير منتظمة في السودان لضخ مياه الشرب. لجأنا إلى الطاقة الشمسية التي تصلح فقط لتشغيل الآبار، لأن المحطات الرئيسة لا تعمل إلا بالطاقة الكهربائية. لذلك، قد يعاني الناس لبعض الوقت".
وفي منطقة الوادي الأخضر التابعة لمحلية شرق النيل في الخرطوم، توقفت مصادر مياه الشرب منذ عامين. يقول يس عمر، من سكان المنطقة، إنهم ظلوا يجلبون المياه بكلفة مالية تفوق قدرتهم، فقد بلغ سعر البرميل 40 ألف جنيه 16 دولارا) في بعض الأوقات.
ويصف وزير الري والموارد المائية في السودان، ضو البيت عبد الرحمن، ما تعرضت له مصادر المياه في المدن والأرياف بالسودان بـ"العمل الإجرامي الممنهج". ويقول لـ "العربي الجديد" إن أفراد الدعم السريع تعمدوا تدمير محطات المياه الرئيسية والمعامل والخطوط الناقلة حتى تكون إعادة تأهيل وترميم قطاع المياه مكلفة للغاية للدولة. وفي وقت سابق، كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، عن تضرر 70% من مرافق المياه في 13 ولاية من أصل 18، جراء تدمير البنية التحتية. وقالت في بيان سابق إن النزاع دمر البنية التحتية للمياه، ما أثر على عمل مرافق المياه بنسبة 70% بسبب الأضرار الجزئية أو الكاملة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
ثروة ضائعة: كيف تُهدر مصر مليارات الجنيهات من أصول الأوقاف؟
أثار تصريح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي حول "استثمار أصول الأوقاف بالشراكة مع القطاع الخاص"، عاصفة من الجدل خلال الأيام الماضية، بعدما تداولت وسائل إعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عناوين تتحدث عن "بيع أصول الوقف"، وهو ما دفعه للخروج مجددا، الأربعاء، في مؤتمر صحافي، لتوضيح الموقف قائلا: "مال الوقف مال خاص.. ومفيش مجال نطلق عليه بيع أصول الأوقاف"، مؤكدا أن الهدف هو "تعظيم موارد وزارة الأوقاف عبر حسن إدارة الأصول، لا تصفيتها". إلا أن هذا التوضيح لم ينهِ الجدل، بل أعاد تسليط الضوء على ملف شديد الحساسية. فالأوقاف في مصر تمتد جذورها إلى قرون من التراكم العقاري والمالي. واليوم، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وعجز متنامٍ في الموازنة، تُطرح هذه الأصول بوصفها "فرصة ضائعة" يجب تسييلها. وتشير تقديرات رسمية متفرقة إلى أن هيئة الأوقاف المصرية تملك أكثر من 106 آلاف فدان من الأراضي الزراعية، إلى جانب نحو 4.7 ملايين متر مربع من الأراضي الفضاء داخل الحيز العمراني، فضلًا عما يزيد على 120 ألف وحدة عقارية بين سكنية وتجارية وإدارية موزعة على 27 محافظة. ويُعتقد أن القيمة السوقية الإجمالية لهذه الأصول تتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه مصري (أكثر من 60.3 مليار دولار)، بحسب تصريحات مسؤولين في وزارة الأوقاف خلال عامي 2023 و2024، إلا أن العائد السنوي منها لا يتجاوز 3.5 مليارات جنيه فقط (نحو 2.8 مليون دولار). خريطة الأوقاف في مصر وتُعد محافظة القاهرة صاحبة الحصة الأكبر من العقارات الوقفية، حيث تنتشر الأوقاف في مناطق مثل السيدة زينب، الجمالية، الأزهر، الدرب الأحمر، مصر القديمة، وعين الصيرة، بما في ذلك عقارات تاريخية ذات طابع أثري. وتأتي محافظة الجيزة في المرتبة الثانية من حيث قيمة الأصول، نظرًا لامتلاك الأوقاف أراضي شاسعة على طريق الفيوم والدائري الأوسطي، إضافة إلى مبانٍ تجارية وسكنية في بولاق الدكرور والعمرانية. أما الإسكندرية، فتُعرف بكونها تضم عقارات فندقية ومباني تراثية وقفية في مناطق المندرة، الرمل، وشارع النبي دانيال، بعضها مؤجر منذ أكثر من 60 عامًا بعقود لم تُحدث حتى الآن. أما في الوجه البحري، فتتمركز الأوقاف الزراعية في محافظات الدقهلية، كفر الشيخ، والشرقية، حيث تمتلك الهيئة أراضي خصبة عالية القيمة، ولكنها تعاني من ضعف العائد بسبب عقود الإيجار القديمة التي تعود إلى فترة ما قبل قانون الإصلاح الزراعي. كما تمتلك الأوقاف أصولًا استراتيجية في مراكز المدن بمحافظات الغربية والمنوفية ودمياط، بما في ذلك محال تجارية في قلب المناطق التجارية. وفي الوجه القبلي، تمتد الأراضي الوقفية عبر محافظات أسيوط، المنيا، سوهاج، وقنا، حيث تتوزع بين أراضٍ زراعية ومبانٍ مرتبطة بالخدمات الدينية والتعليمية. وتُشير تقارير صادرة عن لجان مجلس النواب عام 2022 إلى أن هناك أكثر من 8000 عقد إيجار في الصعيد لم تتم مراجعتها منذ عقود، ما يضع الدولة أمام تحدٍ مزدوج: نقص العوائد، وصعوبة استرداد الأصول من المستأجرين القدامى. وتحتفظ الأوقاف في المحافظات الحدودية، مثل شمال سيناء، مطروح، البحر الأحمر، بأراضٍ نادرة الاستخدام، بعضها غير مسجل رسميًا، وآخر يخضع لتشابكات إدارية مع جهات سيادية أو محلية، ما يضعف من فرص استثماره أو حصره فعليًا. ويشير تقرير نشرته جريدة "الوطن" في منتصف 2024 إلى أن نسبة غير قليلة من الأراضي الوقفية لم تُسجل إلكترونيًا بعد، وتُدار بطريقة ورقية غير مميكنة، ما يجعل تتبعها واستثمارها مسألة معقدة إداريًا وقانونيًا. ما يكشفه هذا التوزيع هو أن الأوقاف المصرية لا تحتكر موقعًا بعينه، بل تمتد كخريطة ظل اقتصادية في قلب الحضر والريف على حد سواء، لكنها حتى الآن لم تتحول إلى ذراع استثماري حقيقي. موقف التحديثات الحية أعيدوا الأوقاف المصرية لأصحابها أين تتبخر أرباح الوقف؟ ورغم ضخامة أصول هيئة الأوقاف المصرية وانتشارها الجغرافي في مواقع استراتيجية بالمدن الكبرى والقرى، إلا أن العائد السنوي لا يتجاوز 3.5 مليارات جنيه وفقا لما أعلنه وزير الأوقاف السابق محمد مختار جمعة في تصريحات متكررة منذ عام 2021، وهو ما يمثل أقل من 0.2% فقط من القيمة السوقية التقديرية للأصول التي تتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه، وفقًا لخبراء تقدير القيمة السوقية العقارية. هذا التفاوت الصارخ بين القيمة والعائد يُعد مؤشرًا واضحًا إلى غياب الإدارة الاستثمارية الكفوءة داخل الهيئة، إن لم يكن دلالة على تآكل هيكلي مزمن في آليات التعاقد والرقابة. وتكشف مراجعات صادرة عن الجهاز المركزي للمحاسبات، حصل عليها بعض أعضاء لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب عام 2022، أن نحو 60% من العقارات المؤجرة بمعرفة الهيئة تخضع لعقود إيجار قديمة، بعضها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولا تتجاوز قيمة الإيجار الشهري لبعض المحال عشرة جنيهات. ولا تستطيع الهيئة قانونًا تعديل هذه العقود أو رفع القيمة الإيجارية إلا عبر قضايا طويلة الأمد. ووفق تقرير صادر عن لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، فإن الهيئة تخسر سنويًا ما يناهز 1.2 مليار جنيه بسبب عدم تحصيل فروق الإيجار العادل مقارنة بسعر السوق. إضافة إلى ذلك، تُعاني الهيئة من ضعف شديد في القدرة على تحصيل الإيجارات المتأخرة، حيث تشير تقارير داخلية – وفق ما نقلته صحيفة "الشروق" في أغسطس/ آب 2023 – إلى أن إجمالي المديونيات المستحقة للهيئة من مستأجرين وجهات حكومية وخاصة تجاوزت 5.7 مليارات جنيه، منها ما يزيد عن ملياري جنيه متراكمة منذ أكثر من عشر سنوات، دون تحصيل فعلي. وتُعمّق هذه الإشكاليات ضعف القدرة التشغيلية والاستثمارية للهيئة. فحتى في الحالات التي تُطوّر فيها الأوقاف بعض أراضيها بالشراكة مع مستثمرين، كما حدث في مشروع أرض الساحل الشمالي الذي أعلن عنه عام 2024، فإنها غالبًا ما تدخل بحصة عينية فقط دون قدرة على التمويل المباشر، ما يحد من قوة التفاوض ويُضعف نصيبها في الأرباح. وقد سبق أن انتقدت هيئة الرقابة الإدارية في مذكرة داخلية نُشرت مقتطفات منها في موقع "مدى مصر" أن نموذج الشراكة المعتمد حاليًا "يفتقر إلى شفافية التقييم، ويُفضي أحيانًا إلى تنازل فعلي عن القيمة الحقيقية للأرض دون ضمان لعائد مستقر أو رقابة لاحقة على الأداء". ولا تقتصر المشكلة على سوء التعاقد والتحصيل، بل تمتد إلى غياب سياسة موحدة لإدارة المحافظ العقارية. فبينما تُدار بعض العقارات مباشرة من قبل الهيئة، يتم تفويض إدارات فرعية في المحافظات بإدارة الأصول الأخرى دون وجود نظام إلكتروني مركزي يضمن الشفافية والرقابة المتزامنة، كما أشار تقرير صادر عن وزارة التخطيط في ديسمبر/كانون الأول 2023 ضمن خطة تطوير الأداء المؤسسي. اقتصاد عربي التحديثات الحية مصر: مخاوف من الاستيلاء على أموال صندوق الوقف الخيري من المسؤول عن تجريف الوقف؟ من بين أبرز أسباب نزيف العوائد في ملف الأوقاف المصرية تأتي العقود القديمة والتعديات على ممتلكات الهيئة في صدارة المشهد، لتشكل معا شبكة من العقبات القانونية والإدارية التي تحول دون استعادة الدولة حقها في إدارة هذه الثروة بكفاءة. وتُظهر مراجعات رسمية أن ما يقرب من 60 ألف عقد إيجار ما زال ساريًا حتى اليوم بعقود يعود بعضها إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، دون أن تُراجع أو تُعدل بما يتماشى مع تغيرات السوق العقاري، ولا مع معدلات التضخم التي تجاوزت 30% في السنوات الأخيرة. وفي مناطق مثل الدرب الأحمر والسيدة زينب ومصر القديمة، تتقاضى هيئة الأوقاف إيجارات شهرية لا تتجاوز 12 جنيهًا في بعض الوحدات التجارية التي تُدر أرباحًا بعشرات آلاف الجنيهات شهريًا للمستأجرين. وتنتشر هذه العقود أيضًا في محافظات الدلتا والصعيد، خصوصًا في كفر الشيخ والمنيا وسوهاج، حيث تحولت مئات الأفدنة من الأراضي الوقفية إلى مشاريع زراعية وصناعية خاصة، تُدار فعليًا خارج سلطة الهيئة، بسبب صمت قانوني طويل (عدم البت) وممانعة اجتماعية قوية. وقد كشفت تقارير برلمانية صادرة عن لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب، خلال دور الانعقاد الثالث (2023–2024)، أن "هيئة الأوقاف تواجه عقبات كبيرة في فسخ أو تعديل العقود القديمة بسبب التشابكات القضائية، والرفض الشعبي في بعض القرى والنجوع". ووفقًا للنائب محمد إسماعيل، عضو اللجنة، فإن أكثر من 70% من دعاوى الهيئة المتعلقة بتحسين القيمة الإيجارية لم تُحسم قضائيًا حتى الآن، وهو ما يعيق عملية التحصيل العادل ويُهدر الفرص الاستثمارية. أما التعديات، فهي تمثل الوجه الآخر للمشكلة. فبحسب بيانات رسمية صدرت عن الهيئة في مارس/ آذار 2024، فإن هناك نحو تسعة آلاف حالة تعدٍ موثقة على أراضي الأوقاف، تشمل البناء بدون ترخيص، والاستيلاء على الأراضي الزراعية، وتغيير نشاط بعض الأصول دون إذن. ورغم أن الحكومة أطلقت حملات موسعة لإزالة التعديات ضمن خطة "استرداد حق الوقف"، إلا أن التنفيذ على الأرض يصطدم في بعض الحالات بمقاومة اجتماعية أو غموض في الملكية، خاصة في المناطق التي لم تُسجل فيها الأوقاف بشكل نهائي. وتُشير مذكرة داخلية صادرة عن جهاز تفتيش وزارة التنمية المحلية – حصلت عليها صحيفة "الدستور" في أكتوبر/تشرين الأول 2024 – إلى أن ضعف التنسيق بين الهيئة والمحليات أدى إلى استمرار التعديات دون ردع فوري، وغياب حصر ميداني دقيق للأصول المعتدى عليها في بعض المحافظات. كما أن غياب خرائط مساحية محدثة، واعتماد الهيئة على مستندات قديمة غير ممسوحة إلكترونيًا، يعقّد مهمة استعادة السيطرة الكاملة على هذه الأصول. اقتصاد الناس التحديثات الحية مصر: تعديل تشريعي لرفع إيجارات أراضي وعقارات الأوقاف نماذج ناجحة.. لماذا لا تُعمم؟ رغم الصورة القاتمة التي ترسمها بيانات العقود القديمة والتعديات، إلا أن الواقع لا يخلو من نماذج إيجابية تُظهر أن أصول الوقف – إذا أُديرت باحتراف – يمكن أن تتحول إلى محرك تنموي حقيقي. في السنوات الأخيرة، بدأت هيئة الأوقاف المصرية تنفيذ عدد من المشروعات الوقفية بالشراكة مع القطاع الخاص، محققة نجاحًا نسبيًا في بعض الملفات. ومن أبرز هذه التجارب، مشروع مجمع السنية الوقفي في منطقة السيدة زينب بالقاهرة، وهو مشروع تجاري وإداري وسكني مقام على أرض تابعة للأوقاف بمساحة خمسة آلاف متر مربع، وقد تم تنفيذه بالشراكة مع شركة عقارية خاصة، بنظام "حق الانتفاع"، مع احتفاظ الهيئة بملكية الأرض. ووفق بيانات الهيئة، يحقق المشروع عائدًا سنويًا يُقدّر بنحو 30 مليون جنيه، بعد أن كان العائد السابق من الأرض لا يتجاوز بضعة آلاف فقط بسبب تأجيرها بعقود قديمة. كذلك، يُعد مشروع أبراج المحمودية في محافظة الإسكندرية نموذجًا آخر، حيث جرى تحويل أرض فضاء وقفية كانت مهملة منذ عقود إلى مشروع سكني وتجاري عبر آلية الشراكة التنموية. وقد أشادت به وزارة الإسكان باعتباره نموذجًا للتنمية الحضرية القائمة على الأصول غير المستغلة. وتمتلك الهيئة حصة من العائدات، فضلًا عن عقود تشغيل تضمن دخلاً مستدامًا. أما في قطاع الزراعة، فقد دخلت الهيئة شراكة مع مستثمرين محليين في استصلاح أراضٍ وقفية بمحافظة الفيوم، ضمن مشروع الاستثمار الزراعي الوقفي الذي بدأ تجريبيًا عام 2022، ويستهدف زراعة محاصيل استراتيجية بنظام الميكنة الحديثة، وهو ما مكّن من مضاعفة العائد من الفدان ثلاث مرات مقارنة بالنظام التقليدي السابق. وقد أشار تقرير صادر عن وزارة الزراعة في مارس/ آذار 2024 إلى أن المشروع يمكن أن يتحول إلى منصة لتوفير الأمن الغذائي إذا توسّع تدريجيًا. ورغم أن هذه النماذج أثبتت فاعليتها، إلا أن تعميمها يواجه تحديات كبيرة، أبرزها افتقار الهيئة إلى جهاز تنفيذي استثماري محترف، وعدم وجود هيكل مالي مستقل يسمح لها بإدارة العوائد والاستثمار مباشرة. كما أن معظم الشراكات الناجحة اعتمدت على تدخل مباشر من الحكومة لدفع المشروع، وليس على آلية مؤسسية دائمة. من ناحية أخرى، فإن معايير اختيار الشركاء في بعض هذه المشروعات تُثار حولها تساؤلات تتعلق بالشفافية والعدالة، وفقًا لما ورد في تقرير الرقابة المالية البرلمانية لعام 2023، والذي أوصى بضرورة وجود لائحة علنية لمعايير التعاقدات الوقفية تُعرض على البرلمان والمجتمع. اقتصاد عربي التحديثات الحية مصر: السيسي يستهدف ممتلكات الأوقاف لتمويل المشروعات من يعيد "المال المحبوس"؟ لم تكن أزمة أصول الأوقاف يومًا في نقص القيمة أو غموض الملكية، بل في نمط مزمن من الجمود الإداري، والقصور التشريعي، واللامسؤولية السياسية. فما يتجاوز ثلاثة تريليونات جنيه من الأراضي والعقارات الوقفية الموزعة على خريطة مصر لا تزال تُدار بعقلية "الدفتر والسجل الورقي"، بينما تُترك فرص الاستثمار والتشغيل لعقود مؤبدة بإيجار جنيهات، وتعديات لا تُرد. الوقائع التي تكشفها الوثائق الرسمية والتصريحات الحكومية وتقارير الرقابة تؤكد أن ملف الأوقاف ليس مجرّد ثروة معطلة، بل مرآة صريحة لعجز الدولة عن التحول من الحيازة إلى التمكين، ومن التجميد إلى الإنتاج. النماذج الناجحة موجودة، لكنها محاطة ببحر من الفشل المؤسسي، والبيروقراطية الجامدة، والمصالح المتشابكة التي تعيق أي إصلاح حقيقي. ليس المطلوب الآن خططا نظرية جديدة، بل قرارات سيادية جريئة تُنهي عهد الإهمال، تبدأ بتعديل جذري لقانون الوقف ليواكب بيئة الاقتصاد الحديث، وتنتهي بتأسيس كيان اقتصادي مستقل لإدارة الأصول، يُعامل كما تُعامل الصناديق السيادية، ويخضع لرقابة البرلمان والمجتمع، لا لوصاية بيروقراطية.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
"ترقيع أرقام" موازنة مصر... تدوير الديون وخفض الدعم
انتهت لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري من إعداد تقريرها النهائي حول مشروع قانون الخطة و الموازنة للعام المالي 2025/ 2026، الذي يبدأ في يوليو/ تموز المقبل. ويخطط البرلمان مناقشة الخطة بجلساته العامة على عجل، لمدة ثلاثة أسابيع مقبلة، وسط حالة من الغضب الشعبي دفعت بعض الأحزاب إلى تشكيل تحالف برلماني للإعلان عن رفضها مشروع قانون الموازنة برمته، قبل فتح باب المناقشة العامة في البرلمان. وتعلن الحكومة أن الموازنة ستكون الأكبر من نوعها عند حدود مصروفات بقيمة 4.6 تريليونات جنيه، وإيرادات بنحو 3.1 تريليونات جنيه. وتطلق الحكومة على الموازنة بأنها "موازنة النمو والاستقرار والشراكة مع مجتمع الأعمال، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين". بالرغم من الحملة التبشيرية الرسمية باعتماد أكبر موازنة تحقق زيادة في دخل العاملين في الدولة، والإنفاق على الخدمات العامة، يواجه مجلس الوزراء بحملة معارضة لواحدة من أكثر الموازنات جدلاً، إذ يسميها الخبراء بأنها "الموازنة العرجاء" وهناك من يصفها بـ"ترقيع الحسابات" و"هندسة البيانات" لتظهر النتائج جيدة أمام الناس والأجانب، بينما تكشف تفاصيلها عن تفاقم حاد في الديون المحلية والخارجية، وتآكل فعلي في قيمة الدعم الموجه للسلع الأساسية، وتزايد غير مسبوق في الأعباء الواقعة على كاهل الفئات الأفقر والطبقة المتوسطة. مصر تستهدف نمو بنسبة 4.5% يؤكد رئيس لجنة الخطة والموازنة فخري الفقي، في تصريح صحافي، التزام الموازنة بضمانات دستورية للإنفاق على الصحة والتعليم، وتجاوزها لأول مرة بنسب أعلى من الحد الأدنى المقرر في الدستور، والحد من معدلات التضخم ووضع حد للدين العام المتصاعد سنويا. وقالت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي رانيا المشاط إن الموازنة تستهدف تحقيق 4.5% نموا في الناتج المحلي، يمكن أن تتراجع إلى 4%، حال تفاقم التوترات الجيوسياسية والإقليمية وانعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط. اقتصاد عربي التحديثات الحية إحالة قيادات جمعية إسكان أسمنت حلوان المصرية للمحاكمة بتهم فساد في بيان لوزير المالية أحمد كوجك أمام البرلمان، ركز على زيادة علاوة الموظفين في الخدمة المدنية بنسبة 10% ولغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية 15% بحد أدنى 150 جنيها شهريا (الدولار = 49.8 جنيهاً)، اعتبارا من يوليو 2025. تخطط الحكومة لتعيين 75 ألف معلم وإنشاء 17.3 ألف فصل وتطوير 1851 مدرسة، واستكمال مبانٍ في 29 جامعة حكومية، و30 ألف طبيب و10 آلاف موظف بأجهزة تقدم خدمات عامة. تستهدف الحكومة زيادة عوائد الضرائب بنحو 800 مليار جنيه لتصل إلى 2.6 تريليون جنيه في مشروع الموازنة، ورفع الإيرادات العامة لتصل إلى 3.1 تريليونات جنيه، بنسبة 23%، لمواجهة زيادة متوقعة في المصروفات بنسبة 19.2%، بقيمة 4.6 تريليونات جنيه. خصصت الحكومة 160 مليار جنيه لدعم السلع التموينية و75 مليارا لدعم المنتجات البترولية و75 مليار جنيه لقطاع الكهرباء، و54 مليار جنيه للإنفاق على التضامن الاجتماعي، و45 مليار جنيه للأدوية والمستلزمات الطبية، و15 مليار جنيه لعلاج محدودي الدخل على نفقة الدولة و27 مليار جنيه لمشروعات الصرف الصحي والنظافة العامة و13.6 مليار لدعم الإسكان لمحدودي الدخل و5.2 مليارات جنيه للسكة الحديد. تتضمن الخطة خفض العجز الكلي بنسبة 7% وخفض معدل الدين للناتج المحلي إلى 81% والنزول بحجم الدين الخارجي لأجهزة الموازنة ما بين مليار وملياري دولار بنهاية يونيو 2026، وتحسين قدرة الاقتصاد على مواجهة الأزمات العالمية والتحديات الداخلية، والسقف المقرر للاستثمارات العامة. ديون تلتهم الموازنة يذكر الباحث الاقتصادي، ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إلهامي الميرغني أن موازنة مصر 2025/2026 تتلخص في ديون متصاعدة تلتهم الموازنة، ودعم يتآكل وأعباء تتراكم على الفقراء والطبقة الوسطى. يبين الميرغني في دراسة اقتصادية موسعة حول الموازنة الجديدة، حصلت "العربي الجديد على نسخة منها، أن الأرقام الرسمية تشير إلى أن إجمالي الدين العام (المحلي والخارجي) قفز من 3974.9 مليار جنيه في يونيو 2018 إلى 11.5 تريليون جنيه في يونيو 2024. هذا التصاعد الحاد في الديون انعكس بشكل مباشر على استخدامات الموازنة، ما يلزم الدولة خلال العام الجديد بسداد فوائد وأقساط ديون بقيمة 4382.6 مليار جنيه، وهو ما يمثل نحو 64.8% من إجمالي الاستخدامات، مقارنة بـ28.5% فقط قبل سنوات قليلة. اقتصاد عربي التحديثات الحية تعرف على أبرز الخلافات بين مصر وصندوق النقد هذا يعني أن أقل من 36% فقط من الموازنة سيُخصص للإنفاق على كل القطاعات والخدمات الأخرى. قال الميرغني في مقابلة مع "العربي الجديد" إن الأخطر في مشروع الموازنة التي ستمرر من البرلمان أن الدولة تقترض لتمويل سداد قروض سابقة، إذ يشكل الاقتراض نحو 52.9% من إجمالي موارد الموازنة، بزيادة واضحة عن السنوات السابقة، ما يشير إلى فشل السياسات الاقتصادية والمالية في كبح العجز وتقليل الاعتماد على الدَّين. يذكر الميرغني أنه رغم ارتفاع القيمة الإجمالية المعلنة لبند الدعم والمنح إلى 742.5 مليار جنيه، إلا أن تفاصيل هذا الرقم تكشف عن تراجع جوهري في الدعم الحقيقي للمواطنين. فدعم المواد البترولية انخفض من 154.5 مليار جنيه إلى 75 مليارا، لكن هذا الرقم يتضمن ما يُعرف بـ"الدعم المحاسبي" القائم على الفرق بين السعرين العالمي والمحلي للبترول، رغم أن المواطن لا يحصل على البترول بسعر عالمي، لافتا إلى أن الأمر نفسه ينطبق على دعم الكهرباء الذي كان معدوماً عدة سنوات، ثم عاد بقيمة مبالغ فيها هذا العام. يذكر الميرغني أن هناك بنودا لا علاقة لها بالدعم الاجتماعي الحقيقي – مثل سداد ديون صناديق المعاشات – تضاف لتضخيم قيمة الدعم، رغم أن دعم البطاقات التموينية ظل ثابتاً عند 50 جنيهاً للفرد منذ عام 2018، رغم التضخم الحاد وارتفاع الأسعار، بينما تراجع عدد المستفيدين من 71 مليون مواطن إلى نحو 60.8 مليونا، وانخفضت أيضا كمية الخبز المدعوم المستحق للمواطنين، ما يعكس نية واضحة لتقليص الدعم الفعلي بشكل تدريجي. العبء الأكبر يقع على الفقراء تظهر أرقام الموازنة الجديدة بوضوح أن العبء الأكبر يقع على الطبقة الوسطى والفقراء، سواء عبر تراجع الدعم أو من خلال هيكل الضرائب غير العادل، وفقا للميرغني الذي يبين أن ضرائب الدخل تُجبى بشكل رئيسي من الموظفين والعمال، بينما لا تتجاوز ضرائب المهن الحرة – مثل الأطباء والمهندسين والفنانين – 21.2 مليار جنيه. وبالمقارنة، فإن ضرائب شركات الأموال الكبرى، التي تجني أرباحاً ضخمة، لا تُحصّل منها ضرائب تناسب حجم أرباحها، وبينما ترفض الحكومة فرض ضرائب تصاعدية على الدخول أو الأرباح الرأسمالية، تواصل الاعتماد على الضرائب غير المباشرة – مثل القيمة المضافة – التي يتحملها الجميع بالتساوي، ما يزيد من حدة الظلم الضريبي. تبقي الموازنة الإنفاق هشا على التعليم والصحة، على الرغم من زيادة عدد السكان وارتفاع الحاجات التنموية، فهناك تراجعا في نسبة الإنفاق على التعليم والصحة من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات متدنية جداً، إذ لا يتجاوز الإنفاق على التعليم 1.5%، بينما ينخفض الإنفاق على الصحة إلى 1.7% فقط، مقارنة بـ3% التي ينص عليها الدستور. يتهم الميرغني الحكومة بإحداث تحولات خطيرة في فلسفة الدولة القائمة على رعاية الشعب وتوفير خدماته العامة بعدالة وتساوٍ بين المواطنين، مؤكدا أن الموازنة الجديدة تكرّس توجهات اقتصادية "نيوليبرالية صارمة"، تنزع فيها الدولة يدها عن دورها الاجتماعي. يصف خبير التمويل والاستثمار رشاد عبده مشروع الموازنة السنوية بأنها عبارة عن "ترقيع" للأرقام لكي تتمكن الحكومة من إخفاء العجز الكبير بها، وزيادة بند الرواتب والأجور، والمبالغة في توقع الإيرادات مقابل محدودية المصروفات، وهي تعلم أنها لن تستطيع الوفاء باحتياجاتها إلا بمزيد من القروض أو بيع الأصول العامة. في محادثة مع "العربي الجديد"، يشدد عبده "على ضرورة عمل مراجعة جادة لموازنة 2025/2026 التي تكرس نموذجاً لمعادلة مالية تعاني من اختلال دائم بسبب الديون المتزايدة ينعكس على أداء الخدمات العامة المتراجعة وتآكل الدعم واستمرار الاقتراض لتمويل سداد القروض، وتآكل الإنفاق الاجتماعي، مبينا أن الطبقات الوسطى والفقيرة تدفع تكلفة هذه السياسات. اقتصاد الناس التحديثات الحية السيسي يمدد مهلة إخلاء الوحدات السكنية القديمة في مصر يشير الخبير الاقتصادي أحمد خزيم إلى أن عدم وجود هوية واضحة للاقتصاد في الدستور يلزم الحكومة باتباع منهج اقتصادي يحدد الفئات التي يعمل على حمايتها، بدلا من النظام الحالي الذي يدعي أنه يحمي الفقراء بينما واقعيا يترك الأمور خربة، ويمنح كافة الامتيازات لنخبة من الأغنياء. يؤكد خزيم أن هندسة الأرقام التي تتبعها الحكومة عند تقديم الموازنة لصندوق النقد والجهات الدولية، التي تطلب بيانات واضحة حول معدلات الدين العام والعجز السنوي وأوجه الصرف والإيرادات بالموازنة، لا يمكنها أن تخفي ما حدث من تراجع في متوسط الدخل الحقيقي للمواطن، إذا ما احتسب ذلك بالعملة الصعبة وخاصة الدولار الذي يمثل 90% من حجم المعاملات المالية للدولة. يبين خزيم أنه خلال الفترة الماضية، شهد الجنيه المصري عدة موجات من التخفيض، آخرها في مارس/آذار 2024، حين حُرّر سعر الصرف بشكل شبه كامل، ما أدى إلى تراجع قيمته أمام الدولار إلى ما يزيد عن 50 جنيهاً للدولار الواحد (بالمقارنة مع نحو 15-16 جنيهاً قبل سنوات قليلة). وهذا يعني أن الأجر نفسه بالجنيه يساوي الآن دولارات أقل بكثير. تشير الأرقام إلى أنه رغم تزايد متوسط الأجر الشهري من 3500 جنيها إلى 5000 جنيها عام 2020/ 2021 وإلى 7000 جنيها عام 2023/ 2024 وإلى 8500 جنيها اعتبارا من يوليو المقبل، فإن العودة إلى سعر الدولار مقابل الجنيه سنجده ارتفع من 15.7 جنيها إلى 31 جنيها ثم 50 جنيها على التوالي، ما دفع قيمة الدخل إلى التراجع من 318 دولارا إلى 250 دولارا ليصل إلى 170 دولارا خلال الفترة الزمنية نفسها.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
أعيدوا الأوقاف المصرية لأصحابها
لو صحت التصريحات المنسوبة إلى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، نكون أمام عملية سطو رسمي على أموال الأوقاف المصرية غير المملوكة للحكومة أصلاً، بل أموال وأصول وممتلكات وأراض وعقارات خاصة تنازل عنها أصحابها لأجهزة الدولة للإنفاق من عوائدها على المحتاجين أمثال الفقراء واليتامى والأرامل والمطلقات وطلاب العلم وأوجه الخير المختلفة. وإذا كانت الحكومة تسابق الزمن لبيع أصول الدولة العامة من شركات وبنوك وأراض وعقارات وغيرها، وتخضع لإملاءات صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين في هذا الشأن، فإنه ليس من حقها بيع أملاك الأوقاف للقطاع الخاص والمستثمرين ورجال الأعمال الخليجيين والعرب والأجانب، الذين يتسابقون لشراء مزيد من الأصول المصرية وبرخص التراب بعد أن تآكلت العملة المحلية مقابل الدولار. قبل أيام، خرجت علينا صحف ومواقع مصرية تتحدث عن أن رئيس مجلس الوزراء أعطى أوامر لأجهزة الدولة بإجراء حصر شامل ومميكن لجميع أملاك هيئة الأوقاف المصرية، بما يشمل الأراضي والمباني السكنية والتجارية، ودراسة الفرص الاستثمارية المتاحة، تمهيداً لطرحها على القطاع الخاص، وأن مدبولي عقد اجتماعاً لمناقشة هذا الأمر حضره وزير الأوقاف أسامة الأزهري ورئيس هيئة الأوقاف خالد الطيب، تم خلاله مناقشة أهمية تعظيم العائد من أصول الأوقاف واستثمارها بشكل اقتصادي فعّال، وأن التوجيهات المتعلقة ببيع أصول الأوقاف تأتي ضمن خطة الدولة لتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص وزيادة كفاءة إدارة الأصول. اقتصاد عربي التحديثات الحية مصر: مخاوف من الاستيلاء على أموال صندوق الوقف الخيري ووفق بيان رسمي صادر عن رئاسة مجلس الوزراء، فإن رئيس الوزراء شدد خلال الاجتماع على أن الحصر لأموال الأوقاف يجب أن يشمل جميع الأراضي والمباني السكنية والتجارية التابعة للهيئة، وأن هناك دعماً حكومياً كاملاً لأي مشروع تنفذه هيئة الأوقاف بالشراكة مع القطاع الخاص، وذلك في إطار تحقيق الاستثمار الأمثل لأملاك الأوقاف. شخصياً، تمهلت في الكتابة عن قصة بيع أصول الأوقاف المصرية، قلت لعل وعسى يخرج علينا بيان من رئاسة الوزراء أو المتحدث باسمه ينفي توجه الحكومة نحو بيع تلك الأصول التي تزيد قيمتها عن تريليون جنيه، أي ما يزيد عن 20 مليار دولار، وفق تقديرات سابقة صادرة عن الهيئة، لكن هذا لم يحدث. ولذا تعاملت بجدية مع قصة البيع التي تطرح عشرات من علامات الاستفهام الغامضة، الأول: هل حصلت الحكومة على موافقة أصحاب تلك الأصول والأموال الأصليين قبل الإقدام على عملية البيع وتغيير الغرض المحدد لها، والثاني: أين ستؤول حصيلة البيع، هل لسد عجز الموازنة العامة وسداد أعباء الدين العام، أم لاستكمال منشآت العاصمة الإدارية وغيرها من المشروعات العملاقة المفتوحة والتي تبتلع مئات المليارات من الجنيهات، والثالث: إذا كانت الحكومة قد فشلت في استثمار تلك الأصول الضخمة بشكل ذي كفاءة وتنميتها لصالح الفقراء واليتامي والمحتاجين وأعمال الخير، فلماذا لا تتم إعادة تلك الأصول لأصحابها الأصليين ليتولوا إدارتها بشكل احترافي؟ اقتصاد عربي التحديثات الحية هيئة الأوقاف المصرية: أملاكنا تريليون و37 مليار جنيه والرابع: إذا كانت الحكومة لديها خطة لبيع تلك الأصول فمن حق أصحابها المطالبة باستعادتها وبيعها أو تحديد أسلوب توزيعها بالشكل الذي يحقق الغرض منها من وجهة نظرهم، لأن الحكومة أخلت باتفاق التنازل عن تلك الأصول، والخامس: هل عملية البيع التي تتحدث عنها الحكومة تمتد لكل أصول الأوقاف، أم تقتصر على أصول وممتلكات هيئة الأوقاف المصرية فقط والتي تضم 256 ألف فدان زراعي، و120 ألف وحدة عقارية ما بين سكني وإداري واستثماري، قدرت قيمتها رسمياً بتريليون و37 مليار جنيه في العام 2019، إضافة إلى قصور وممتلكات خديوية داخل مصر وخارجها، أشهرها سوق العتبة والميدان وشارع العتبة والأزهر ومنطقة الأزهر وشارع عبد العزيز، والغورية ومنطقة فاطمة النبوية وسوق السلاح والخيامية ووكالة الحج والكسوة رضوان بك وقصور الأمير محمد علي والملك فؤاد بكفر الشيخ، والمنطقة الأثرية بالمسلة، وقصور متعددة وأسبلة وأثريات لا تستغل، ومساجد أثرية، وخارج مصر تمتلك نحو 15 أثراً ومنشأة في جزيرتي تاثيوس وكيفالا باليونان. ببساطة، الحكومة المصرية تبيع ما لا تملك وتتصرف في أصول مؤتمنة فقط على إدارتها، وهذا يمثل اعتداء صارخاً على الملكية الخاصة ومواد الدستور التي تصون الملكية الخاصة والعامة معاً. وإذا كانت الحكومة قد فشلت في إدارة هذه الأوقاف، فعليها أن تتعلم من الهيئات والجامعات الأجنبية التي حققت نجاحات كبيرة في إدارة هذه النوعية من الأصول لصالح أصحابها والمستفيدين منها، بل وتحقيق عوائد توفق أصل تلك الأصول.