logo
مديرة المعهد الفرنسي في لبنان لـ"النهار": الفرنكوفونية ليست قضية خاسرة

مديرة المعهد الفرنسي في لبنان لـ"النهار": الفرنكوفونية ليست قضية خاسرة

النهار١٣-٠٣-٢٠٢٥

في ظل التحولات الثقافية واللغوية التي يشهدها العالم، تثار تساؤلات حول موقع الفرنكوفونية اليوم، خاصةً في لبنان، حيث تتداخل العربية والفرنسية والإنكليزية في نسيج تعليمي ثقافي. وبينما يرى البعض أن الفرنسية تصيب تراجعاً لصالح الإنكليزية، يؤكد آخرون أن التعددية اللغوية رصيد لا غنى عنه.
في هذا الحوار، تتحدث سابين سكيورتينو، مديرة المعهد الفرنسي في لبنان، لـ"النهار" عن أهمية الحفاظ على اللغة الفرنسية، ودورها في التعددية الثقافية، إضافةً إلى الجهود المبذولة لتعزيزها بين الشباب، وعمّا إذا كانت "القوة الناعمة" الفرنسية لا تزال مؤثرة في عالم سريع التغيّر.
يرى البعض في الفرنكوفونية "قضية خاسرة" بمواجهة الإنكليزية. ما ردّكِ على ذلك؟
برأيي، لا ينبغي وضع اللغات في مواجهة بعضها البعض. فاللغة الإنكليزية اليوم هي لغة التواصل الدولي، وهذا واقع لا يمكن إنكاره. لقد أصبحت ضرورية، لا سيما في عالم الأعمال، ومن الطبيعي أن يزداد الإقبال على تعلمها.
لكن ما يصنع الفارق حقاً هو التعددية اللغوية. إتقان لغات عدّة يُعدّ ثروة حقيقية، إذ يمنح كلّ لسان منظوراً مختلفاً لفهم العالم والتفاعل معه. إنها نافذة على ثقافات أخرى وميزة حقيقية في سوق العمل. وهذه التعددية اللغوية تحديداً هي بصمة لبنان الفريدة، التي تميّزه عن باقي دول المنطقة.
بفضل خيار السلطات اللبنانية اعتماد نظام تعليمي ثنائي اللغة، لا تزال الفرنسية لغة حيّة وديناميكية، إلى جانب العربية والإنكليزية. إنها جزء لا يتجزأ من الهوية اللبنانية، وميزة أساسية ينبغي الحفاظ عليها.
في عالم يزداد عولمة، ما أبرز مقومات الفرنكوفونية، لا سيما من حيث التنوع الثقافي والتأثير الجيوسياسي والتعاون الدولي؟
الفرنسية اليوم هي خامس أكثر لغة تحدثاً في العالم، وهي منتشرة في القارات جميعها. ووفقاً لبيانات المنظمة الدولية للفرنكوفونية، يبلغ عدد الناطقين بالفرنسية 321 مليون شخص حول العالم. كما أنها اللغة الرسمية في 29 دولة، إلى جانب كونها معتمدة في العديد من المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي.
إضافة إلى ذلك، تحظى الفرنسية بحضور قوي في الهيئات القضائية الدولية، ما يجعلها بحقّ لغة عالمية بكل المقاييس.
هل ثمّة فكرة مغلوطة عن الفرنكوفونية في لبنان يجب تصحيحها؟
بدلًا من الحديث عن فكرة مغلوطة أو اعتقاد سائد، أودّ الإشارة إلى اختزال شائع يتمثل في الاعتقاد بأنّ الفرنكوفونية حكر على فرنسا. في الواقع، الفرنكوفونية هي مجتمع عالمي يجمع أفراداً يتقاسمون ليس فقط لغة مشتركة، بل أيضاً رؤية معينة للعالم وقيماً موحدة.
يعدّ لبنان فاعلاً رئيسياً في هذا الفضاء الفرنكوفوني، ليس فقط من خلال دوره الثقافي والتعليمي، بل أيضاً عبر انتشار جاليته في مختلف القارات، من أفريقيا إلى الأميركيتين وأوروبا. وتزخر الأدبيات اللبنانية الفرنكوفونية بغنى استثنائي، كما يتجلى في المكانة المرموقة التي يحتلها أمين معلوف، الذي عُيّن مؤخراً أميناً دائماً للأكاديمية الفرنسية. وهناك العديد من الأسماء البارزة الأخرى، مثل جورج شحادة وإيتيل عدنان، إلى جانب كتّاب معاصرين مثل شريف مجدلاني وزينة أبي راشد.
كما أنني معجبة بالابتكار اللغوي الذي يميّز الفرنسية المستخدمة في لبنان، والتي، بفعل تعدد المؤثرات، أفرزت مصطلحات وتعبيرات جديدة، مثل كلمة "بونجورين" (bonjoureïn) التي تعكس تفاعل اللغة مع البيئة الثقافية المحلية.
ما التحديات الرئيسية التي يواجهها المعهد الفرنسي في لبنان للحفاظ على الفرنكوفونية وتعزيزها؟
أحد التحديات الرئيسية يتعلق بالحفاظ على جودة اللغة الفرنسية. فمع الأزمة التي يمر بها البلد منذ أكثر من خمس سنوات، اختار العديد من المعلمين مغادرة لبنان. لذا، يصبح من الضروري التأكّد من أن الأجيال الجديدة من المعلمين ستكون مدربة بشكل جيد، سواء على المستوى اللغوي أو على مستوى الأساليب التربوية في تعليم الفرنسية التي تشهد تطوراً مستمراً.
لذلك، يعمل المعهد الفرنسي مع المركز الوطني للبحوث والإنماء التابع لوزارة التربية والتعليم العالي في هذه المواضيع. نحن نتبادل بشكل دوري مع العديد من كليات التربية وعلوم التعليم، خاصة في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف. كما نقوم بأنشطة تعاون مباشرة في المدارس الشريكة على الأرض.
لبنان يتمتع، على سبيل المثال، بأكبر شبكة مدارس معتمدة في العالم التي تطبق البرامج الدراسية الفرنسية، إذ يضمّ 64 مؤسسة تعليمية تضم نحو 63 ألف طالب. كما نتعاون مع أكثر من مئة مدرسة لبنانية ناطقة بالفرنسية أو مدارس لبنانية ناطقة بالإنكليزية ترغب في تعزيز اللغة الفرنسية، وقد منحناها شهادة تقدير تعترف بتميز التعليم باللغة الفرنسية. نحن نرافقهم في تعزيز مهارات المعلمين اللغوية وتطوير الأنشطة الثقافية باللغة الفرنسية لطلابهم.
ألا ينبغي أن تتطور الفرنكوفونية نحو رؤية أكثر تعددية - ثقافياً ولغوياً - لجذب الأجيال الشابة؟
لا يمكنني تصور الفرنكوفونية إلا ضمن إطار ثراء التعددية اللغوية وقوتها. لجذب الأجيال الشابة، يبقى الدافع هو العنصر الأهم. والسؤال الجوهري الذي يجب طرحه هو "لماذا نتعلم لغة أخرى في الأساس؟"، فاللغة ليست غاية بحدّ ذاتها، بل وسيلة يجب أن تمنح شعوراً بالرضا وتفتح آفاقاً جديدة.
العمل على تغيير التصورات أمر أساسي. أستشهد غالباً بمثال اللغة اليابانية أو الكورية، إذ يزداد عدد الشباب الراغبين في تعلمهما بسبب اهتمامهم بالـ"مانغا" أو موسيقى الـ" الكي بوب".
جعل اللغة الفرنسية جذابة للأجيال الجديدة يعني توفير منافذ إليها عبر قنوات أخرى غير التعلم التقليدي الذي قد يبدو جافاً بسبب القواعد النحوية المعقّدة. لهذا السبب، يعمل المعهد الفرنسي في لبنان على تطوير برامج مبتكرة متعددة، تشمل الموسيقى، والرياضة، والسينما، والتكنولوجيا الرقمية، وحتى المشاركة المدنية، حيث تُمارَس الفرنسية كلغة حية وملموسة، لا كمجرّد مفهوم نظري بحت.
هل لا يزال بإمكاننا الحديث عن "قوة ناعمة" فرنسية من خلال اللغة والثقافة؟
نحن محظوظون بامتلاكنا أكبر شبكة ثقافية في العالم، وهي منظومة فريدة تضم 137 جهازاً للتعاون والعمل الثقافي، و100 معهد فرنسي، و830 تحالفاً فرنسياً، إضافةً إلى أكبر شبكة تعليمية تتألف من 600 مؤسسة مدرسية تستقبل ما يقارب 398 ألف طالب في 139 دولة. لا يوجد أي نظير لهذه المنظومة على مستوى العالم!
من خلال هذه الشبكة، نلمس يومياً مدى الاهتمام الكبير باللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية. وأعتقد أنّ ذلك يعود إلى أهمية الفرنسية في المجال المهني، كما سبق أن أوضحت، وأيضاً إلى كون فرنسا لا تزال مرجعاً عالمياً في مجالات الفن، والأدب، والسينما، والموضة، وفن الطهو. وبالتالي، لا تزال "القوة الناعمة" الفرنسية حاضرة وبقوة.
كيف يمكن للفرنكوفونية أن تتكيف وتتطور في عالم يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي، خاصةً من حيث الحفاظ على اللغة والثقافة والتواصل؟
يشكل التطور السريع للذكاء الاصطناعي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي التوليدي، مصدر قلق كبير، إذ إنه يُحدث تحولات جذرية في حياتنا اليومية. ويعتبره البعض تهديداً للتنوع اللغوي بسبب هيمنة اللغة الإنكليزية.
لكن يمكن أيضاً تحويله إلى فرصة إذا استُخدم بشكل صحيح. ومن هنا تكمن أهمية العمل على تطوير الخوارزميات ونماذج الذكاء الاصطناعي لضمان عدم توليدها لتحيزات تؤثر على تمثيل اللغات والثقافات.
فالذكاء الاصطناعي المُتحكَّم به - وهو ما يتطلب تكوين الأفراد وتأهيلهم - يمكن أن يوسّع الآفاق من خلال تعزيز الإبداع، وتحسين الإنتاجية، وتسهيل الوصول إلى المحتوى، وإثرائه بشكل مستمر، بما في ذلك المحتوى الفرنكوفوني.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الثقافة اللبنانية تنتصر بالذاكرة لا بالرصاص
الثقافة اللبنانية تنتصر بالذاكرة لا بالرصاص

ليبانون 24

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • ليبانون 24

الثقافة اللبنانية تنتصر بالذاكرة لا بالرصاص

في خطوة تهدف إلى تعزيز الوعي الثقافي والتاريخي، فتحت المراكز التراثية في لبنان أبوابها مجانًا أمام الزوار بمناسبة يوم التراث العالمي، الذي يُحتفى به سنويًا في 18 نيسان. هذه المبادرة، التي أطلقتها وزارة الثقافة بالتعاون مع المديرية العامة للآثار، جاءت لتذكير اللبنانيين بأهمية الإرث المعماري والثقافي المتجذر في ربوع البلاد. وفي إطار مشاركة وزارة الثقافة- المديرية العامة للآثار في إحياء هذه المناسبة وتشجيعاً للتعرّف إلى الترات الثقافي اللبناني، تفتح المتاحف والمواقع الأثرية التابعة للوزارة في كل المناطق اللبنانية أمام الزوار مع إعفاء من رسم الدخول أيام الأربعاء والخميس والجمعة في 14-15-16 من الشهر الحالي، وذلك ضمن الدوام الرسمي. خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم تسلم المواقع الثقافية والتراثية من الاستهداف، في انتهاك صارخ لكل المعاهدات الدولية التي تضمن حماية التراث الإنساني. اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، لا بد من وقفة تأمل واستذكار لما جرى، ليس فقط لتوثيق الخسائر، بل للدعوة إلى تحرك محلي ودولي يحمي هذه الكنوز من أي تهديد مستقبلي. كما أن فتح أبواب هذه المواقع مجانًا أمام الجمهور، بعد ترميمها، يجب أن يكون جزءًا من عملية إعادة الاعتبار لها، وتأكيدًا على أن الثقافة أقوى من الحرب. ففي تصعيد غير مسبوق، لم تسلم المعالم الأثرية اللبنانية من الغارات الإسرائيلية التي طالت مدنًا وقرى عدّة، مقتربة بشكل خطير من مواقع مسجلة على لائحة التراث العالمي. من بعلبك إلى صور والنبطية، كانت تقف الحجارة الشاهدة على التاريخ مهدّدة بالاندثار تحت وقع القصف. في بعلبك، سقط صاروخ على مقربة من معبد جوبيتر الشهير، مستهدفًا "مبنى المنشية" العثماني، ما أثار مخاوف كبيرة من أضرار قد تصيب القلعة المُدرجة منذ 1984 ضمن التراث العالمي لليونسكو. هذا القصف دفع وزير الثقافة السابق محمد المرتضى إلى دعوة عاجلة للمنظمة الدولية للتدخل لحماية ما تبقّى من إرث حضاري مهدّد. اليونسكو، من جهتها، ذكّرت بواجب حماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلحة، وفق اتفاقيتي 1954 (لاهاي) و1972، وأعلنت عقد اجتماع طارئ لمناقشة تطورات الوضع في لبنان. رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي وصف يومها ما يحدث بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، فيما رفعت لجنة مهرجانات بعلبك الصوت في رسالة مفتوحة حذّرت فيها من أضرار لحقت بـ"ثكنة غورو"، أحد المعالم المحيطة بالقلعة، نتيجة القصف والدخان والاهتزازات التي تهدد الأحجار القديمة بالتصدع. علماء الاثار اكدوا أن القصف لم يطل مباشرة مواقع اثرية، لكنه يهددها من خلال الارتجاجات الأرضية الناتجة عن الانفجارات، مشيرين إلى أن "البناء الروماني مقاوم للزلازل، لكنه عاجز أمام غارات جوية بهذا الحجم". في مدينة صور، التي تشتهر بتاريخها الفينيقي والآثار الرومانية، تعرضت مناطق أثرية محمية لقصف قريب، يهدد آثارًا لا تزال مدفونة تحت الأرض ولم تُكتشف بعد، في وقت باتت المدينة خلال الحرب أشبه بمدينة أشباح، مع تدمير واسع ونزوح آلاف السكان. ولم تسلم الأسواق القديمة والمناطق التراثية الأخرى. في النبطية ، اندلعت حرائق في السوق التاريخي الذي كان يحتفظ بمعالم عمرانية مميزة، بينما طالت الغارات مواقع دينية تعود لمئات السنين، مثل مقام بنيامين في محيبيب، وعدد من المساجد والكنائس، في انتهاك واضح للمواثيق الدولية. وقالت الأمم المتحدة إن الهجمات تُعرض مواقع تراثية عمرها آلاف السنين للخطر، فيما يعكف فريق من الخبراء اللبنانيين على توثيق الأضرار عبر صور الأقمار الصناعية والمصادر الميدانية، رغم صعوبة الوصول إلى أماكن كثيرة. أكثر من رسالة لبنانية وصلت إلى اليونسكو، محذرة من أن الاعتداءات لا تدمّر المباني فقط، بل تمحو الذاكرة الثقافية لشعب بأكمله. وأشارت إلى استهداف واسع طال مناطق زراعية مرتبطة بثقافة الإنسان اللبناني، كحقول الزيتون والخروب والعنب، التي تشكّل جزءًا من المشهد الثقافي والتاريخي في الجنوب والبقاع. ومن أبرز ما كشفته الرسائل، احتلال الجيش الإسرائيلي لقلعة شمع، واصطحاب أحد علماء الآثار الإسرائيليين بهدف التلاعب بالرواية التاريخية للمنطقة. ويذكَر بأن لبنان قد وقّع على اتفاقية لاهاي وبروتوكولاتها، ويطالب بحماية "معززة" لـ34 موقعًا ثقافيًا. وسط هذه المعاناة، يتمسك لبنان بخيار القانون الدولي، ويسعى لتأمين حماية فاعلة لإرثه الثقافي، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية والذاكرة الإنسانية المشتركة.

ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق
ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق

شبكة النبأ

time٢٧-٠٤-٢٠٢٥

  • شبكة النبأ

ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق

في الماضي كان يمكننا الوصول إلى المياه الجوفية بحفر على عمق 50 مترا، أمّا الآن فيجب الحفر ربما حتى عمق 300 متر. الناس يحفرون الآبار ويعتقدون أن هذه الموارد أبدية، لكن هذا غير صحيح علميا. ويزداد الأمر خطورة في ظلّ غياب تقديرات رسمية حديثة لكمية المياه الجوفية المتوفرة... فيما تهبّ عاصفة رملية بحقول الحنطة في صحراء النجف بجنوب العراق، يتفقّد هادي صاحب السنابل التي يرويها بالمياه الجوفية، فيما يُقلق تزايد حفر الآبار الخبراء من خطر استغلالها المفرط في بلد يعاني موجات جفاف متكررة. ويعتمد الفلاحون في هذه الحقول البعيدة من نهرَي الفرات ودجلة، على أنظمة ريّ حديثة تعمل بالرشّ وتقلّل من هدر المياه بما يصل إلى 50% وباتت منتشرة في أوساط مزارعي العراق منذ بضع سنوات. وفي بلد يشهد تراجعا بنسبة المتساقطات وبتدفق الأنهار التي لطالما كانت تحرّك طواحين المياه وقنواتها بهدف الريّ، باتت السلطات تعوّل على المياه الجوفية. وتعتبر الأمم المتحدة أن العراق حيث يقيم اليوم أكثر من 46 مليون شخص، هو من الدول الخمس الأكثر تأثرا ببعض أوجه التغير المناخي. ويقول صاحب (46 عاما) مرتديا دشداشة بيضاء في حقله الواقع بجنوب غرب العراق 'في الماضي كنّا نستخدم مياه الأمطار في الزراعة'، وكانت أرضه الممتدة على عشرة دوانم تُنتج عشرة أطنان من القمح. لكن 'ازدياد الجفاف سنة بعد سنة' و'التصحّر القوي' دفعاه إلى اللجوء إلى تقنيات ري حديثة تدعم الحكومة العراقية أسعارها بهدف ضمان الأمن الغذائي. ووسّع كذلك مساحة الأرض التي يزرعها، لتصل إلى 200 دونم يستأجرها من الدولة بسعر رمزي يبلغ دولارا واحدا للدونم الواحد. وتُنتج هذه المساحة نحو 250 طنّا من الحنطة. ويتابع هذا الأب لاثني عشر ولدا 'يستحيل أن نستمرّ من دون المياه الجوفية (…) ونضوبها سيعني رجوعنا إلى العصور القديمة والاتكال على السقي بمياه الأمطار'. وعند رؤية الحقول من الجوّ، تظهر على شكل دوائر خضراء في وسط الصحراء تتحرك فيها هياكل حديدية ذات عجلات ومرشّات لريّ الزرع. ويحلّ موسم الحصاد في العادة مع تحوّلها إلى اللون الذهبي في أيار/مايو. وبحسب وزارة الزراعة، زُرعت هذا الشتاء في العراق 3,1 ملايين دونم من الأراضي بالاعتماد 'على أنظمة الري الحديثة باستخدام المياه الجوفية'، مقابل 'مليونَي دونم تعتمد على الريّ السطحي'. استراتيجي وبدأت تُستخدم تقنيات الري الحديثة في صحراء النجف منذ أكثر من عقد. وتدعم الحكومة العراقية أسعار أنظمة الريّ بالرشّ، مع تقسيطها على عشرة أعوام، كما تؤجر الأراضي للمزارعين وتشتري محاصيلهم بأسعار تفضيلية. وتحقّق زراعة الحنطة في الصحراء والتي نجحت بفضل أسمدة مخصصة وبذور أكثر مقاومة للظروف المناخية، 'غلّة أكبر من تلك التي تحققها الأراضي الطينية'، بحسب مدير زراعة محافظة النجف منعم شهيد. ويقول شهيد لوكالة فرانس برس إن ذلك يوفر 'مردودا اقتصاديا كبيرا للفلّاح والدولة' التي أعلنت العام الماضي تحقيق اكتفائها الذاتي بإنتاج ستة ملايين و400 ألف طنّ من هذا المحصول 'الاستراتيجي'. ويَتَوقع أن تنتج في هذا الموسم الحقول المرويّة بمياه الأنهار نحو 1,3 طنّ من القمح للدونم الواحد، مقابل '1,7 طنّ كحدّ أدنى' للدونم في الأراضي الصحراوية. وعادت زراعة الحنطة في النجف في موسم 2023-2024 بأرباح أكبر بثماني مرّات مما حققه الموسم السابق، وفق قوله. غير أن شهيد ينوّه إلى ضرورة 'أن نحافظ على كمية المياه الجوفية ونرشّد استخدامها'، مشيرا إلى أن السلطات 'ستشدّد الإجراءات لكي يكون حفر الآبار (…) مجازا ومسيطرا عليه بكمياته للاستخدامات الزراعية فقط'. وفي آذار/مارس، أكّد المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد الخزاعي لوكالة الأنباء العراقية أن السلطات تعمل على 'تحديد الآليات التي يتم بموجبها السماح بحفر الآبار في المناطق الصحراوية بحسب وفرة المياه الجوفية ضمانا لعدم هدرها'. كارثة للمستقبل وفي صحراء كربلاء، تدير مؤسسات دينية مثل العتبة الحسينية مشاريع زراعية ضخمة بينها حقول للحنطة منذ 2018. وزرعت العتبة هذا العام أربعة آلاف دونم من الحنطة، فيما تسعى على المدى البعيد إلى زيادة الزراعة حتى 15 ألفا، بحسب رئيس قسم التنمية الزراعية التابع للأمانة العامة للعتبة الحسينية قحطان عوز. وفي أعماق الصحراء الواقعة غرب العراق والممتدة حتى الحدود مع السعودية والكويت، خزّانا الدمام وأم الرضمة الجوفيان اللذان يُعدّان من منابع المياه الرئيسية في المنطقة ويتشاركهما العراق مع السعودية والكويت. وتشير الأمم المتحدة منذ 2013 إلى أن مسنوب المياه الجوفية في هذين الخزانين بدأ ينضب. وكانت السعودية في تسعينات القرن العشرين سادس أكبر مصدّر للقمح في العالم وذلك بفضل 'استخراج المياه الجوفية على نطاق واسع لأغراض الري'، وفقا لتقرير أممي نُشر في العام 2023. غير أن 'الاستخراج المفرط استنزف أكثر من 80% من طبقة المياه الجوفية بحسب التقديرات'، ما جعل الحكومة السعودية تضع حدّا لزراعة القمح بهذا الشكل بعد موسم حصاد 2016. ويقول الخبير العراقي في سياسات المياه والأمن المناخي سامح المقدادي لوكالة فرانس برس 'في الماضي كان يمكننا الوصول إلى المياه الجوفية بحفر على عمق 50 مترا، أمّا الآن فيجب الحفر ربما حتى عمق 300 متر'. ويشير إلى أن 'الناس يحفرون الآبار ويعتقدون أن هذه الموارد أبدية، لكن هذا غير صحيح علميا'. ويزداد الأمر خطورة في ظلّ غياب تقديرات رسمية حديثة لكمية المياه الجوفية المتوفرة في العراق الذي تغطّي الصحراء 40% من مساحته، إذ تعود التقديرات الأخيرة للسبعينات. ويضيف المقدادي 'لا يمكننا إدارة مورد لا نستطيع قياسه'، عازيا غياب التقديرات إلى افتقار للتقنيات اللازمة 'لإجراء مسح جيولوجي دقيق' وغياب 'الإرادة السياسية' في ظلّ 'سوء تنسيق بين مختلف السلطات' يؤدي إلى 'غياب التوعية'. ويشدّد على ضرورة 'استخدام المياه الجوفية فقط في الحالات الطارئة مثل مواسم الجفاف (…) وليس للتوسع التجاري للأراضي الزراعية'، محذرا من أن 'اعتبار المياه الجوفية بديلا للموارد المائية الأخرى' يعني 'كارثة للمستقبل'.

ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق
ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق

النهار

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • النهار

ريّ الحنطة يهدّد باستنزاف المياه الجوفية في صحراء العراق

فيما تهبّ عاصفة رملية بحقول الحنطة في صحراء النجف بجنوب العراق، يتفقّد هادي صاحب السنابل التي يرويها بالمياه الجوفية، فيما يُقلق تزايد حفر الآبار الخبراء من خطر استغلالها المفرط في بلد يعاني موجات جفاف متكررة. ويعتمد الفلاحون في هذه الحقول البعيدة من نهرَي الفرات ودجلة، على أنظمة ريّ حديثة تعمل بالرشّ وتقلّل من هدر المياه بما يصل إلى 50% وباتت منتشرة في أوساط مزارعي العراق منذ بضع سنوات. وفي بلد يشهد تراجعا بنسبة المتساقطات وبتدفق الأنهار التي لطالما كانت تحرّك طواحين المياه وقنواتها بهدف الريّ، باتت السلطات تعوّل على المياه الجوفية. وتعتبر الأمم المتحدة أن العراق حيث يقيم اليوم أكثر من 46 مليون شخص، هو من الدول الخمس الأكثر تأثرا ببعض أوجه التغير المناخي. ويقول صاحب (46 عاما) مرتديا دشداشة بيضاء في حقله الواقع بجنوب غرب العراق: "في الماضي كنّا نستخدم مياه الأمطار في الزراعة"، وكانت أرضه الممتدة على عشرة دوانم تُنتج عشرة أطنان من القمح. لكن "ازدياد الجفاف سنة بعد سنة" و"التصحّر القوي" دفعاه إلى اللجوء إلى تقنيات ري حديثة تدعم الحكومة العراقية أسعارها بهدف ضمان الأمن الغذائي. ووسّع كذلك مساحة الأرض التي يزرعها، لتصل إلى 200 دونم يستأجرها من الدولة بسعر رمزي يبلغ دولارا واحدا للدونم الواحد. وتُنتج هذه المساحة نحو 250 طنّا من الحنطة. ويتابع هذا الأب لاثني عشر ولدا: "يستحيل أن نستمرّ من دون المياه الجوفية (...) ونضوبها سيعني رجوعنا إلى العصور القديمة والاتكال على السقي بمياه الأمطار". وعند رؤية الحقول من الجوّ، تظهر على شكل دوائر خضراء في وسط الصحراء تتحرك فيها هياكل حديدية ذات عجلات ومرشّات لريّ الزرع. ويحلّ موسم الحصاد في العادة مع تحوّلها إلى اللون الذهبي في أيار/مايو. وبحسب وزارة الزراعة، زُرعت هذا الشتاء في العراق 3,1 ملايين دونم من الأراضي بالاعتماد "على أنظمة الري الحديثة باستخدام المياه الجوفية"، مقابل "مليونَي دونم تعتمد على الريّ السطحي". وبدأت تُستخدم تقنيات الري الحديثة في صحراء النجف منذ أكثر من عقد. وتدعم الحكومة العراقية أسعار أنظمة الريّ بالرشّ، مع تقسيطها على عشرة أعوام، كما تؤجر الأراضي للمزارعين وتشتري محاصيلهم بأسعار تفضيلية. وتحقّق زراعة الحنطة في الصحراء والتي نجحت بفضل أسمدة مخصصة وبذور أكثر مقاومة للظروف المناخية، "غلّة أكبر من تلك التي تحققها الأراضي الطينية"، بحسب مدير زراعة محافظة النجف منعم شهيد. ويقول شهيد لوكالة فرانس برس إن ذلك يوفر "مردودا اقتصاديا كبيرا للفلّاح والدولة" التي أعلنت العام الماضي تحقيق اكتفائها الذاتي بإنتاج ستة ملايين و400 ألف طنّ من هذا المحصول "الاستراتيجي". ويَتَوقع أن تنتج في هذا الموسم الحقول المرويّة بمياه الأنهار نحو 1,3 طنّ من القمح للدونم الواحد، مقابل "1,7 طنّ كحدّ أدنى" للدونم في الأراضي الصحراوية. وعادت زراعة الحنطة في النجف في موسم 2023-2024 بأرباح أكبر بثماني مرّات مما حققه الموسم السابق، وفق قوله. غير أن شهيد ينوّه إلى ضرورة "أن نحافظ على كمية المياه الجوفية ونرشّد استخدامها"، مشيرا إلى أن السلطات "ستشدّد الإجراءات لكي يكون حفر الآبار (...) مجازا ومسيطرا عليه بكمياته للاستخدامات الزراعية فقط". وفي آذار/مارس، أكّد المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد الخزاعي لوكالة الأنباء العراقية أن السلطات تعمل على "تحديد الآليات التي يتم بموجبها السماح بحفر الآبار في المناطق الصحراوية بحسب وفرة المياه الجوفية ضمانا لعدم هدرها". "كارثة للمستقبل" وفي صحراء كربلاء، تدير مؤسسات دينية مثل العتبة الحسينية مشاريع زراعية ضخمة بينها حقول للحنطة منذ 2018. وزرعت العتبة هذا العام أربعة آلاف دونم من الحنطة، فيما تسعى على المدى البعيد إلى زيادة الزراعة حتى 15 ألفا، بحسب رئيس قسم التنمية الزراعية التابع للأمانة العامة للعتبة الحسينية قحطان عوز. وفي أعماق الصحراء الواقعة غرب العراق والممتدة حتى الحدود مع السعودية والكويت، خزّانا الدمام وأم الرضمة الجوفيان اللذان يُعدّان من منابع المياه الرئيسية في المنطقة ويتشاركهما العراق مع السعودية والكويت. وتشير الأمم المتحدة منذ 2013 إلى أن مسنوب المياه الجوفية في هذين الخزانين بدأ ينضب. وكانت السعودية في تسعينات القرن العشرين سادس أكبر مصدّر للقمح في العالم وذلك بفضل "استخراج المياه الجوفية على نطاق واسع لأغراض الري"، وفقا لتقرير أممي نُشر في العام 2023. غير أن "الاستخراج المفرط استنزف أكثر من 80% من طبقة المياه الجوفية بحسب التقديرات"، ما جعل الحكومة السعودية تضع حدّا لزراعة القمح بهذا الشكل بعد موسم حصاد 2016. ويقول الخبير العراقي في سياسات المياه والأمن المناخي سامح المقدادي لوكالة فرانس برس: "في الماضي كان يمكننا الوصول إلى المياه الجوفية بحفر على عمق 50 مترا، أمّا الآن فيجب الحفر ربما حتى عمق 300 متر". ويشير إلى أن "الناس يحفرون الآبار ويعتقدون أن هذه الموارد أبدية، لكن هذا غير صحيح علميا". ويزداد الأمر خطورة في ظلّ غياب تقديرات رسمية حديثة لكمية المياه الجوفية المتوفرة في العراق الذي تغطّي الصحراء 40% من مساحته، إذ تعود التقديرات الأخيرة للسبعينات. ويضيف المقدادي: "لا يمكننا إدارة مورد لا نستطيع قياسه"، عازيا غياب التقديرات إلى افتقار للتقنيات اللازمة "لإجراء مسح جيولوجي دقيق" وغياب "الإرادة السياسية" في ظلّ "سوء تنسيق بين مختلف السلطات" يؤدي إلى "غياب التوعية". ويشدّد على ضرورة "استخدام المياه الجوفية فقط في الحالات الطارئة مثل مواسم الجفاف (...) وليس للتوسع التجاري للأراضي الزراعية"، محذرا من أن "اعتبار المياه الجوفية بديلا للموارد المائية الأخرى" يعني "كارثة للمستقبل".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store