
سايكولوجيا الانفصام الديني في مذبحة كربلاء
نطرح في هذا المقال قراءة سيكولوجية تربوية في السادية الجماعية لجيش ابن زياد:
قال الامام الحسين عليه السلام: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون."
في واحدة من أفظع مشاهد التاريخ، لم يقف الجزارون غرباء على الحسين (عليه السلام)، بل كانوا أنفسهم من كتبوا إليه آلاف الرسائل، يدعونه ليكون إمامًا وقائدًا، وبايعوا سفيره مسلم بن عقيل، وذرفوا الدموع بين يديه.
ثم، في لحظة خاطفة، انقلبوا عليه كما تنقلب السباع الجائعة، وسلّموه بيدهم إلى الموت، بل اشتركوا في صناعته، فطوّقوه، وجوّعوه، وحرموه الماء، وذبحوا طفله الرضيع بين يديه، وسَبَوا بناته، ثم رفعوا رأسه ورؤوس أصحابه على الرماح.
فمن أين جاء هذا الجموح الإجرامي؟ وكيف استطاع هؤلاء أن يتحولوا إلى سيوفٍ بيد طاغية يُدعى عبيد الله بن زياد؟
وأين ذهبت رحمة الإسلام في صدور من يسمّون أنفسهم "مسلمين"؟
إنها ليست مسألة سياسية وحسب، بل هي ظاهرة نفسية وتربوية معقدة، تستحق التفكيك، والتأمل، بل والنحيب.
أولًا: التدين الشكلي والانفصال القيمي:
كان كثير من أفراد جيش ابن زياد يُصلّون، ويصومون، ويحفظون القرآن، بل يعرفون مكانة الحسين بانه سبط رسول الله وريحانته، لكنهم ما إن نودي فيهم: "يا خيل الله اركبي!" حتى تهافتوا إلى كربلاء كأنهم إلى نزهة دموية يتقرّبون بها إلى الله!
وهنا تتجلى أبشع صور الانفصام بين العقيدة والسلوك، حيث تحوّل الدين إلى قشرة، والشعائر إلى عادة، والإيمان إلى لقلقة لسان.
لقد تمّ اختزال الإسلام في الظاهر، وتفريغه من جوهره، فكان الرجل يُصلي ثم يطعن صدر الحسين بحربته، أو يُكبر ثم يذبح الطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد.
ثانيًا: الضمير المُخدَّر وسايكولوجيا الطاعة للجلاد:
عبيد الله بن زياد لم يكن نبيًا ولا مصلحًا، بل كان نموذجًا للطاغية الدموي السيكوباتي، ومع ذلك انقاد له عشرات الآلاف، وسلّموا له رقابهم وضمائرهم.
ذلك لأنهم نشأوا في بيئة تَعوّدَت الطاعة العمياء، وتربّت على الخوف لا على الوعي، وعلى التبرير لا على التفكير.
في علم النفس السياسي، يُعرف هذا بـ"الانصياع للسلطة القمعية"، حيث يُنتج القمع المستمر شخصيات مكسورة، تفضّل السلامة على الكرامة، وتؤثر البقاء تحت السوط على الموت في سبيل مبدأ.
هؤلاء لم يقتلوا الحسين لأنهم يكرهونه، بل لأنهم خافوا من الطاغية أكثر مما أحبوا الحق.
فالقلوب كانت مع الحسين، ولكن السيوف كانت عليه… وهذه هي قمة السقوط.
ثالثًا: الخوف المقدّس وإرهاب الدولة:
حين دخل عبيد الله الكوفة، نشر الرعب في كل زاوية، فقتل مسلمًا، وصلب هانياً، وقطع الألسن، وسفك الدماء في الأسواق، حتى لم يعد في المدينة قلب ينبض بالثبات، ولا لسان يجهر بالحق.
فكان الخيار واضحًا أمام الكوفيين:
"إما أن تُذبح مع الحسين، أو أن تحيا مع يزيد."
فاختار الأكثرون الحياة الذليلة، على الموت الشريف، واستبدلوا الجنة بلقمةٍ باردة، والخلود بخوفٍ زائل.
رابعًا: سادية الجماعة وتحوّل الإنسان إلى وحش:
في الأزمات الكبرى، يتحول الفرد الضعيف داخل الجماعة إلى كائن متوحّش، خاصة إذا شعر أنه غير مسؤول شخصيًا عن الجريمة، بل "ينفّذ الأوامر".
هكذا حدث في كربلاء.
فقد ذاب الضمير في الزحام، واستسلم الجميع للمنطق الجماعي الأعمى، فمارسوا القتل بلا إحساس، والرمي بلا شفقة، ثم راحوا يضحكون، ويغنمون، ويجرّون بنات رسول الله كما تُجرّ الإماء في أسواق النخاسة.
هذه هي "سادية الجماعة" حين تكتسب الوحشية شرعنة، ويُصبح المجرم بطلاً في أعين السلطة، ويتحول الصمت إلى تواطؤ.
خامسًا: الانقلاب على البيعة: لماذا غدر الكوفيون؟
المأساة ليست في مَن قاتل الحسين بلا معرفة، بل فيمن بايعه ثم خذله.
الكوفة لم تكن غريبة عن الحسين، بل كانت مهد التشيع وميدان ولاء علي، ومع ذلك تحولت في لحظة إلى منبر للخيانة.
وذلك يعود إلى جملة عوامل:
١- غياب التربية المبدئية: حيث كان الولاء عاطفيًا هشًا لا يقوم على وعي رسالي ثابت.
٢- تأثير الإرهاب والتضليل: فالناس خافوا من السيف، وتشككوا من دعوة الحسين بعد حملة التشويه.
٣- المصلحة الفردية فوق القيم: فقدّموا أمانهم الشخصي على بيعتهم، وراوغوا ضميرهم، كما راوغت ألسنتهم.
ولذا قال الإمام علي عنهم من قبل:
"يا أهل الكوفة... ما أنتم إلا كالمرأة الحامل، تدمي ثم تجهض!"
سادسًا: الإسلام لا يُصلح ما أفسده النفاق:
لا تسأل: "أين ذهب الإسلام من قلوبهم؟"
بل قل: "أي إسلام هذا الذي حملوه؟"
إنه الإسلام الأموي، الذي أُفرغ من محتواه، وحُوّل إلى سلطة، لا رحمة، وإلى عصا، لا هداية.
فأصبحوا يذبحون الحسين تقرّبًا إلى الله!
وتلك قمّة المسخ العقائدي والروحي، الذي يصنعه الاستبداد حين يتسلّط باسم الدين.
اخيرا أقول:
في كربلاء، لم يكن الحسين وحده هو المظلوم، بل كانت الأمة هي الضحية الأولى، يوم خانت قيمها، وسكتت عن الطغيان، وذابت في الجبن، ورفعت سيوفها في وجه مَن بعث الله نبيه لأجله.
كانت الدمعة في عيونهم، لكن السيوف في أيديهم…
وكان الندم في ضمائرهم، لكنه جاء بعد فوات الشهادة، وبعد أن كتبوا على جباههم لعنة أبدية: "قتلنا الحسين!"

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ ساعة واحدة
- شبكة النبأ
الحرية الاقتصادية بين الرأسمالية والإسلام
أقامت الرأسمالية الحديثة صرحها على أساس الحرية المطلقة التي تحوّلت إلى ما يشبه "دينًا جديدًا"، تُمجّد فيه آلهة السوق، وتُقدّس فيه الملكية، ويُعبد فيه الربح. أفضى إلى انحرافات خطيرة، ليس على مستوى العدالة الاجتماعية فحسب، بل على مستوى الإنسان ذاته قيمه، كرامته. وفي المقابل، يقدّم الإسلام تصورًا مغايرًا... المقدمة في عالمٍ تُرفَع فيه رايات "الحرية" على أنها ذروة التقدّم البشري، تغدو "الحرية الاقتصادية" واحدة من أكثر المفاهيم رواجًا وتأثيرًا في تشكيل حياة الإنسان المعاصر. لكنها، عند التأمّل العميق، ليست ذلك المفهوم البريء المحايد الذي يُسوَّق له في أدبيات النظام الرأسمالي، بل هي نتاج بنية فكرية تُقدّس الفرد، وتُعلّي من شأن السوق، وتُخضع كل القيم لمنطق الربح والخسارة. لقد أقامت الرأسمالية الحديثة صرحها على أساس هذه الحرية المطلقة التي تحوّلت –بمرور الزمن– إلى ما يشبه "دينًا جديدًا"، تُمجّد فيه آلهة السوق، وتُقدّس فيه الملكية، ويُعبد فيه الربح. غير أن هذا التقديس أفضى إلى انحرافات خطيرة، ليس على مستوى العدالة الاجتماعية فحسب، بل على مستوى الإنسان ذاته قيمه، كرامته، علاقته بالطبيعة، ومكانته في العالم. وفي المقابل، يقدّم الإسلام تصورًا مغايرًا – لا يقلّ حرصًا على حرية الإنسان، لكنه يُعيد ضبطها ضمن أُطر أخلاقية وتكافلية توازن بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والعدل، وبين الرغبة والمسؤولية. هذا المقال يروم قراءة نقدية للحرية الاقتصادية في ظل الرأسمالية، من زاويتين: أيديولوجية وواقعية، ثم يقدم البديل الإسلامي بوصفه نموذجًا أخلاقيًا وإنسانيًا قادرًا على إعادة الاعتبار للإنسان في عالم طغى عليه منطق المال وتغوّل فيه السوق. ١. الحرية الاقتصادية: الفرد مركز الكون تُعدّ الحرية الاقتصادية حجر الزاوية في بناء النظام الرأسمالي، وهي تعني – وفق المنظور الليبرالي –حق الفرد المطلق في التملك والعمل والبيع والشراء والإنتاج والاستهلاك دون تدخل الدولة. لقد قدّس النظام الرأسمالي الفرد ورفعه إلى مصاف الإله الصغير الذي يُشرّع لنفسه وفق ما تمليه عليه "يد السوق الخفية"، وهو تعبير شهير استخدمه آدم سميث في كتابه ثروة الأمم حين قال: "ليس من إحسان الجزار أو الخباز نحصل على طعامنا، بل من اهتمامهم بمصالحهم الخاصة". هذه العبارة تختصر فلسفة السوق الرأسمالية: المصلحة الفردية هي المحرّك الأكبر لكل نشاط اقتصادي، والحرية المطلقة في السلوك الاقتصادي تؤدي، عفوًا، إلى التوازن العام والخير المشترك! ٢. الملكية الخاصة: التقديس الجديد للأرض إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي إحدى أقدس "المحرّمات" في المعبد الرأسمالي، بل تكاد تكون وثنًا لا يجوز المساس به. ففي هذا النظام، يتحوّل رأس المال من أداة إلى سيّد، ومن وسيلة إلى غاية، ويتحوّل الإنسان من كائن له كرامة أصيلة إلى عامل في آلة ضخمة يديرها المستثمر أو مالك رأس المال. وقد عبّر الفيلسوف السياسي جون لوك – من منظّري الليبرالية الكلاسيكية – عن قداسة الملكية حين اعتبر أن: "الملكية هي امتداد طبيعي لحرية الإنسان، والحق فيها سابق على نشوء الدولة ذاتها". وفي هذا الجوهر تُختزل العلاقة بين الإنسان والعالم: مَن يملك أكثر، يقرر أكثر، ويحيا أكثر. ٣. قانون العرض والطلب: "الناموس" المقدّس في غياب التخطيط المركزي، وفي ظل تقليص دور الدولة إلى أدنى حد، يحتكم النظام الرأسمالي إلى قانون العرض والطلب باعتباره الآلية الطبيعية لتنظيم السوق وتحديد الأسعار وتوجيه الموارد. ولقد شبه بعض مفكري الرأسمالية هذه الآلية بــ "الناموس الكوني"، حيث يتحقق التوازن الاقتصادي كما تتوازن الكواكب في مداراتها. وفي ذلك نوع من التأليه الخفي للمنظومة، حيث تُختزل العدالة في "السعر العادل" الناتج عن التقاء العرض بالطلب دون تدخل خارجي. ٤. المنافسة: البقاء للأقوى ترى الرأسمالية أن المنافسة الحرّة هي المحرك الأكبر للتقدّم والابتكار والفعالية الاقتصادية، وهي تجسيد عملي لما يسميه داروين بـ"الانتخاب الطبيعي" ولكن في ميدان المال لا في ميدان الأحياء. من يتقن فن السوق، ويستغل الفرص، ويخفض التكاليف، ويسوّق بذكاء ينجو ويتفوّق، أما الضعفاء، فلا مكان لهم في عالم الربح والخسارة. وهكذا تتحول المنافسة من وسيلة للنهوض إلى معركة للبقاء، حيث يتكدس رأس المال في يد القادرين على "اللعب بذكاء"، بينما يُقصى الآخرون إلى هامش الحياة. الربح –في عرف الرأسمالية– ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو مبرّر وجود الشركات والمؤسسات والأسواق، بل هو معيار النجاح ومعنى الإنجاز. فكل نشاط اقتصادي لا يدرّ ربحًا يُعدّ عبثًا، بل خيانة لمنطق السوق. ومن هنا، تنتشر روح "البراغماتية" التي تعبّر عنها المقولة الشهيرة المنسوبة لرجال الأعمال: "الربح هو أقدس الفضائل، والخسارة هي الخطيئة الوحيدة". بهذا المعنى يتحول الربح إلى صنم معاصر، تُقدّم على مذبحه البيئة، والأخلاق، والعدالة الاجتماعية، ومشاعر الإنسان. ٦. الحد الأدنى من تدخل الدولة: الدولة الحارسة لا الراعية لا تؤمن الرأسمالية الكلاسيكية إلا بدولة "حارسة"، تؤمّن الأمن وتحفظ النظام وتحمي العقود، لكنها لا تتدخل في تفاصيل الاقتصاد. وهذا ما عبّر عنه الاقتصادي الفرنسي جان باتيست ساي بمقولته الشهيرة: "دَعوا الأشياء تجري في طريقها ". هذا المبدأ جعل من الدولة كيانًا تابعًا للأسواق لا حاكمًا لها، وهو ما أدّى، في فترات كثيرة، إلى اختلالات هائلة، وانتشار الفقر، وترك الطبقات الدنيا لمصيرها. ومضة نقدية: حين يتحول السوق إلى دين لقد تحوّلت الرأسمالية –في ضوء هذه الركائز– إلى نظام شمولي ناعم، يفرض سطوته لا بالقهر العسكري، بل بإغراء الاستهلاك وسحر الإعلان، ويعيد تشكيل الوجدان الإنساني على صورة السلعة. فكما قال المفكر الفرنسيبودريار: "نحن لا نعيش في اقتصاد الإنتاج، بل في اقتصاد العلامات، حيث تُشترى الأشياء لا لحاجتها، بل لدلالتها الاجتماعية". الإنسان في ظل الرأسمالية أمام هذا المشهد، يحق لنا أن نسأل: هل الإنسان في ظل الرأسمالية سيّد المال، أم عبد له؟ هل السوق وُجدت لخدمة الإنسان، أم أن الإنسان أعيدت صياغته ليخدم السوق؟ وهل يمكن التوفيق بين الكرامة الإنسانية وعبادة الربح، بين القيم العليا ومنطق الصفقات؟ هذه الأسئلة تبقى معلّقة في الهواء، ما لم يُعاد تأصيل العلاقة بين الإنسان والقيمة، وبين الاقتصاد والأخلاق. نقد الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي: قراءة أيديولوجية وواقعية بعد ان استعرضنا حقيقة الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي، نريد الان تقييم هذه الحرية المزيفة من عدة جوانب، فنقول: في عالم يرفع شعار "الحرية" بكل أطيافها، تبرز الحرية الاقتصادية بوصفها إحدى الركائز المحورية للنظام الرأسمالي الحديث. لكنها –كما يكشف النظر الفاحص– ليست حرية نزيهة محايدة، بل تنتمي إلى بنية فكرية تحكمها أيديولوجيا معينة، وتُمارس ضمن شروط واقعية تشوبها التفاوتات والاستغلال. هذه السطور تتناول الحرية الاقتصادية من منظورين متكاملين: 1.المنظور الإيديولوجي الذي يكشف الأسس الفلسفية التي قامت عليها. 2. المنظور الواقعي الذي يفضح التناقض بين النظرية والممارسة. الحرية الاقتصادية في التصور الرأسمالي ليست مفهومًا عابرًا، بل هي ناتج لمزيج فلسفي ممتد من عصر التنوير إلى الليبرالية الحديثة. ويُمكن تناول الإشكالات الإيديولوجية فيها ضمن المحاور الآتية: 1. الحرية المزعومة والتفاوت البنيوي الرأسمالية تفترض أن الأفراد متساوون في فرص السوق، لكن هذا افتراض مضلل، لأن البنية الاقتصادية والاجتماعية التي ينتج عنها التملك غير عادلة من الأصل. فالفرد يدخل السوق وهو محمّل بإرث طبقي، وتفاوت تعليمي، وإرث ثقافي واجتماعي قد يضعه في موقع ضعف، ومع ذلك تُطالبه الرأسمالية بالمنافسة على قدم المساواة. يقول جون رولز، أبرز فلاسفة العدالة في القرن العشرين: "العدالة تقتضي ألا تُحكم النتائج بحكم المصادفة، ولا تُترك الحقوق رهينة التفاوتات الطبيعية والاجتماعية". لكن الحرية الاقتصادية، كما تمارسها الرأسمالية، تُقنن التفاوت لا تُعالجه، وتُسبغ الشرعية على الاستغلال، بدعوى "الاستحقاق الفردي". 2. الفردانية المطلقة وتمزيق الجماعة الحرية الاقتصادية تمجّد الفرد بوصفه الفاعل الوحيد في المعادلة الاقتصادية، بينما تتجاهل قيم التعاون والتكافل. بهذا تُنتج "إنسان السوق" الذي يقيس كل شيء بمعيار النفع، ويُسقط من حسابه القيم الجمعية والمقاصد العليا. وقد حذّر الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور من هذه النزعة قائلاً: "الليبرالية الحديثة تُنبت أفرادًا بلا جذور، تحرّرهم من كل شيء، لكنها لا تمنحهم شيئًا". وبذلك، تصبح الحرية الاقتصادية بوابة إلى الاغتراب الجماعي، والوحدة الثقافية، والانفصام الاجتماعي. 3. قلب مفهوم العدالة رأسًا على عقب الرأسمالية تضع الحرية الفردية فوق العدالة الاجتماعية. فطالما أن الفرد حُرّ في البيع والشراء، فإن السوق عادل – بحسب منطقهم. لكن الإسلام وغيره من الأنظمة الأخلاقية يعتبر أن العدالة مقدّمة على الحرية إذا تعارضتا، وأن الحرية ليست مطلقة، بل تُمارس ضمن ضوابط أخلاقية. وصدق من قال: "العدل أساس يُقوَّم به الناس، وتُسدّ به الثغور، ويُستصلح به السلطان، وتُعمر به البلدان". فالعدل –لا الحرية المجردة– هو المحور الذي تُقاس عليه شرعية النشاط الاقتصادي. إذا تجاوزنا الأطر النظرية، ونظرنا في الواقع العالمي منذ انبثاق الرأسمالية إلى اليوم، نُفاجأ بعدد من الاختلالات البنيوية، تؤكد أن الحرية الاقتصادية قد تحوّلت إلى عبودية مقنّعة لطبقة المالكين. 1. الاحتكار المقنّع والتضخم الرأسمالي رغم أن الرأسمالية تدّعي أنها تتيح المنافسة للجميع، إلا أن الواقع يُظهر عكس ذلك. فمعظم الأسواق الكبرى اليوم تهيمن عليها شركات عملاقة تفرض أسعارها، وتُقصي منافسيها، وتتحكم في سلاسل التوريد والإنتاج والإعلام. "إن ما نراه اليوم ليس سوقًا حرة، بل إمبراطوريات تحت قناع المنافسة"، هكذا عبّر الاقتصادي ها-جون تشانغ في نقده للرأسمالية النيوليبرالية. فالحرية هنا هي حرية العملاق في سحق الصغير. ملاحظة: يشير تعبير «النيوليبرالية» إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، وتسعى النيوليبرالية لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد. 2. إعادة إنتاج الفقر بدل تقليصه الرأسمالية تَعِدُ بالرخاء الشامل من خلال "تساقط الثروة من الأعلى" لكنها في الواقع ترفع الطبقات العليا وترمي بالفتات إلى السفلى. ووفق تقرير Oxfam لسنة 2023، فإن: "1٪ من أغنى سكان العالم يملكون أكثر من 50٪ من ثروات الأرض، في حين يكافح أكثر من 3 مليارات شخص من أجل البقاء اليومي". فأين هي العدالة في سوق حرّ "يفتح الأبواب للجميع" لكن لا يدخل منها إلا من يملك الثمن؟ 3. أزمات مالية متكررة منذ الكساد الكبير (1929) إلى الأزمة المالية العالمية (2008)، مرورًا بأزمات العملات والديون والسيولة، تشير التجربة الواقعية إلى أن السوق الرأسمالي غير مستقر بطبيعته. بل إن كثيرًا من هذه الأزمات نتاج مباشر للحرية الاقتصادية غير المنضبطة، وغياب الرقابة على المضاربات والتوسع الائتماني الجشع. وفي هذا السياق قال المفكر الاقتصادي ستيجليتز الحائز على نوبل: "الأسواق لا تصلح نفسها بنفسها، ومن يظن ذلك يُنكر كل دروس التاريخ". 4. الاستلاب البيئي وتدمير الطبيعة تحت وهم الحرية الاقتصادية تستنزف الموارد الطبيعية، وتُشوّه الأنظمة البيئية، وتُلوث الأنهار والهواء والتربة، لأن الشركات لا ترى في الطبيعة إلا أرقامًا في جدول الأرباح. وقد نبّه تقرير الأمم المتحدة عام 2022 إلى أن: "الاقتصاد الحر يُسهم بنسبة تزيد على 70٪ من الانبعاثات الكربونية عبر الصناعات الثقيلة والنقل والتسويق". وهنا يظهر وجه جديد من الاستبداد الاقتصادي الذي لا يقهر الإنسان فحسب، بل يقهر الكوكب ذاته. 5. تحوّل الحرية إلى أداة سياسية للهيمنة لم تَسلم "الحرية الاقتصادية" من التوظيف السياسي، إذ كثيرًا ما تُستخدم كغطاء للتدخلات الخارجية، وفرض السياسات النيوليبرالية على الدول النامية عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فتُجبر تلك الدول على "تحرير أسواقها"، وخصخصة مرافقها العامة، ما يؤدي إلى تفكك الدولة الاجتماعية، وبيع ثروات الشعوب بأبخس الأثمان. قال الخبير الاقتصادي الهنديأرجون أبادوراي: "الحرية الاقتصادية، حين تُفرض من الخارج، ليست حرية، بل استعمار جديد بقفازات ناعمة". الحاجة إلى نموذج بديل الحرية الاقتصادية –بمفهومها الرأسمالي– قد وصلت إلى مأزق أخلاقي وواقعي، فهي تُنتج الاستغلال بدل العدالة، والاحتكار بدل التنافس، والانفجار البيئي بدل الاستدامة. والمطلوب اليوم ليس رفض مبدأ الحرية الاقتصادية من حيث هو، بل إعادة صياغته ضمن منظومة أخلاقية تحفظ للإنسان كرامته، وتقدّم العدالة على الجشع، وتُخضع الاقتصاد للمقاصد الكبرى. وقد عبّر عن ذلك السيد محمد باقر الصدر بقوله: "إن الإسلام لا يرفض الحوافز الذاتية، لكنه يوجّهها وجهة اجتماعية، ويضعها تحت سقف الأخلاق، فلا تتحول إلى أداة قهر أو استعلاء". الاسلام هو البديل: الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست انعكاسًا لليبرالية الغربية، ولا امتدادًا للهيمنة الرأسمالية، بل هي منظومة قيمية متكاملة تجعل من الإنسان خليفة في المال لا مالكًا مطلقًا، وتربط الاقتصاد بالأخلاق، والحرية بالعدالة، والربح بالمسؤولية. وإليك هذا البيان المفصل: الحرية الاقتصادية في الإسلام: حرية مقيدة بالعدل ومنضبطة بالقيم تمهيد إنّ الحديث عن الحرية الاقتصادية في الإسلام لا ينطلق من فرضية "السوق الحر" ولا من مبدأ "المصلحة الفردية المطلقة"، بل ينبع من التصور التوحيدي للإنسان والكون والمال؛ حيث المال ليس ملكًا ذاتيًا، بل هو أمانة ووسيلة للعمارة والإعمار والتكافل. فالحرية الاقتصادية –في الرؤية الإسلامية– ليست حريةً مطلقة، بل هي حرية حقيقية بضوابط شرعية، تحفظ للفرد حقه، وتحمي المجتمع من طغيان رأس المال، وتُقوّم النشاط الاقتصادي على أساس العدالة والرحمة. 1.المال لله والإنسان مستخلف فيه الركيزة الأساسية في التصور الإسلامي للاقتصاد هي أن المال ملك لله تعالى، والإنسان مجرد مستخلف فيه. قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33] وقال أيضًا: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7] فالفرد لا يملك المال على نحو الاستقلال التام، بل هو وكيل مأذون، تُقيد حريته الاقتصادية بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفس والنسل والعقل والمال والدين. 2. التوازن بين الفرد والمجتمع الإسلام لا يُقصي الفرد كما تفعل الاشتراكية، ولا يُطلقه بلا ضابط كما تفعل الرأسمالية، بل يمنحه الحرية بضوابط تحقق التوازن بين مصلحته الخاصة والمصلحة العامة. وقد بيّن الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر هذه القاعدة الذهبية بقوله: «فإنهم – أي الرعية – صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق». وهذا يعني أن العمل الاقتصادي لا يُحكم بمنطق الربح المجرد، بل بمنطق الأخوة والمسؤولية والتكافل. 3. تحريم كل أداة تؤدي إلى الاستغلال الإسلام حارب بصرامة كل السبل المؤدية إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت عنوان المعاملة أو التجارة أو العقد، فحرّم: الربا: لأنه يُنتج المال من المال دون جهد، ويُضاعف الفقر. الاحتكار: لأنه يمنع تداول السلع، ويرفع الأسعار ظلمًا. الغش والخداع: لأنه يفرغ المعاملة من بعدها الأخلاقي. التطفيف والمكيال الناقص: كما في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين: 1]. هذه كلها قيود شرعية أخلاقية لا تُقيد الحرية، بل تحرّرها من الانزلاق إلى الظلم. 1. حرية التملك والعمل أقرّ الإسلام حق التملك الخاص والحق في العمل الحرّ، واعتبرهما من الحقوق الفطرية. قال النبي صلى واله عليه واله: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار». لكن الإسلام قيد هذه الحرية: بمنع مصادر الكسب المحرمة (الربا، الرشوة، القمار، الغرر). بمنع التعدّي على حقوق الآخرين أو الإضرار بالمجتمع. وبالتأكيد على أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله. فلا وجود لحرية مطلقة في التملك ولا الاستثمار في الإسلام، بل هناك قيد دائم: ألا يكون المال سببًا للفتنة أو الطغيان، كما في قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق: 6–7]. 2. حرية السوق بضوابط الشفافية والعدالة الإسلام لا يمنع السوق، ولا يرفض البيع والشراء، بل حث عليه. لكنّه يمنع أن يتحوّل السوق إلى غابة بلا أخلاق. نهى النبي صلى واله عليه واله عن التناجش والتدليس والاحتكار. وفرض الرقابة على الأسعار إذا وقع ظلم أو فساد. وكان يمرّ بنفسه على الأسواق ويقول: «من غشّنا فليس منّا». وهكذا، فإن السوق في الإسلام فضاء حرّ، ولكن مُؤطّر بالأمانة والتقوى والرقابة المجتمعية. 3. حرية الاستثمار المنتج لا المضارب الاستثمار في الإسلام ممدوح، لكن بشرط أن يكون حقيقيًا ومنتجًا لا مجرد مضاربة وهمية. فالإسلام يحبّ الكسب من العمل لا من المراهنة. يقول النبي صلى واله عليه واله: «خير الكسب كسب الرجل من يده». يُمنع بيع الدين بالدين. ويُمنع بيع ما لا تملك. ويُمنع بيع الغرر (المجهول والعشوائي). كل هذا لأجل جعل الحرية الاقتصادية أداة للبناء لا للمقامرة. 4. تكافل اجتماعي إجباري لا اختياري من أروع ما في النظام الاقتصادي الإسلامي أن الفقراء ليسوا عالة بل شركاء في المال العام، إذ شرّع الإسلام: الزكاة الواجبة، والخمس، والصدقات المستحبة، وبيت المال، ومنع تراكم المال في أيدي قلة: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7] فالحريّة هنا ليست فردية فقط، بل حرية مشروطة بإعادة توزيع الثروة وتحقيق الحد الأدنى من الكفاية والكرامة للجميع. 5. الرقابة الإلهية والضمير الديني ما يُميّز النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره هو أن الرقابة فيه ذاتية قبل أن تكون قانونية. فالمؤمن يعلم أنه مسؤول أمام الله عن كل درهم أنفقه أو كسبه. قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92-93] فلا يمكن أن تكون الحرية الاقتصادية في الإسلام ذريعة للطغيان، لأن التاجر التقي يرى في كل صفقة امتحانًا أخلاقيًا قبل أن تكون فرصة ربحية. الحرية المقيدة هي الحرية الحقيقية إن الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست شعارات براقة تبرر الاستغلال والاحتكار، بل هي نظام متكامل يوازن بين الفرد والمجتمع، بين الحق والواجب، بين السوق والأخلاق. إنها حرية منضبطة لا مُطلقة، مشروطة لا عبثية، تلتزم بالعدل لا الجشع، وتحمل في جوهرها أسمى معاني الإنسانية والتكافل. وكما افاد السيد الصدر في اقتصادنا: "إن الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست شبيهة بالحرية الرأسمالية، بل هي حرية الإنسان المسؤول، الذي يعلم أن المال ليس له وحده، وأن الآخرين شركاء في نعم الله، لا عبيدًا في سوق المال".


شبكة النبأ
منذ ساعة واحدة
- شبكة النبأ
الحسين (ع)
فالإمام سيد الشهداء (ع) لم يستعمل في ثورته اسلوبا عنيفا ودمويا للتصعيد في ثورته سوى القاء الحجة والبرهان المنطقي، رغم انه (ع) كان يدرك ان القاء الحجج والبراهين امام معسكر لايتورع عن استخدام لغة السيف والترهيب وتجاوز اخلاق الحروب والعرف الاجتماعي والعسكري هو مضيعة للوقت معهم، فكانت معركة الطف... عاشوراء تكاد تنفرد عن مثيلاتها من الثورات المفصلية، التي غيّرت مجرى التاريخ الانساني بعدة سمات لاتتكرر في غيرها، فعاشوراء هي الثورة الوحيدة في التاريخ التي لم (تأكل) اولادها ان صحّ التعبير، فاغلب الثورات لم تسرْ وفق المنهج المرسوم لها فانحرفت مساراتها او شطّت عن الطريق الصحيح واخذت تناوئ بعض رموزها وجماهيرها كما حدث في الثورة الفرنسية الكبرى التي اطاحت برؤوس قادتها. الاّ ثورة الحسين (ع) فإنها بدأت ثورة متماسكة وناضجة وذات هدف واضح وايديولوجية ثورية معروفة للجميع فحظي ابطالها بامتياز الثوار وتقدير الشهادة والاكرام، معظم الثورات اصابتها الفوضى الخلاقة، فخسرت الكثير من الاتباع والجماهير الاّ ان هذه الثورة قد ازداد عديد رموزها وابطالها بانضمام رموز من المعسكر المعادي اليها كالحر الرياحي الذي كان من كبار قادة ذلك المعسكر، بعد سلسلة من الخُطب التوجيهية والتوعوية التي وجّهها الامام الشهيد (ع). لم تتجاوز الثورة الحسينية هدفها الستراتيجي المرسوم لها بقيادة الامام الشهيد (ع) وهو الاصلاح، فكان هدفا مركزيا للنهوض بالأمة (انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي) والذي اعلنه في بداية خروجه من المدينة المنورة، الى أن اناخ برحله على صعيد كربلاء حيث استشهاده المفجع ولم يكشف الامام الشهيد (ع) عن اي هدف اخر غير الإصلاح. كما تميزت ثورة الحسين بسلميتها، فالإمام الشهيد لم يفرض نفسه وايديولوجية على الجميع مهما كانوا وحتى مشروعه الاصلاحي واضح الاهداف لم يفرضه على احد، بدليل انه (ع) قد خيّر من التحق بأن يتركوه بدءا من المدينة وانتهاء بكربلاء ومرورا بالمحطات الـ(18) التي مر بها وخيّرهم بين البقاء معه او التخلي عنه وتكرر الامر عشية يوم عاشوراء، حين طلب منهم الذهاب في سبيلهم، رغم انه كان بحاجة شديدة وماسة للمقاتلين الذين كانوا بالعشرات مقابل الوف مؤلفة من الجيش النظامي بكامل عدده وعدته وكان الجميع يعلم بمن فيهم الامام الشهيد ان المعركة التي سيخوضونها خاسرة بالنسبة لهم كما لم تكن رابحة بالنسبة للمعسكر المناوئ لان الحقيقة (حقيقة الاصلاح) التي رفعها وطالب بها الامام الشهيد، لم تكن متوقفة على العدد والكثرة بقدر ما كانت متوقفة على المبادئ والقيم والرجال الذين يحملونها ويضحّون بأنفسهم من اجلها. فالإمام سيد الشهداء (ع) لم يستعمل في ثورته اسلوبا عنيفا ودمويا للتصعيد في ثورته سوى القاء الحجة والبرهان المنطقي، رغم انه (ع) كان يدرك ان القاء الحجج والبراهين امام معسكر لايتورع عن استخدام لغة السيف والترهيب وتجاوز اخلاق الحروب والعرف الاجتماعي والعسكري هو مضيعة للوقت معهم، فكانت معركة الطف هي اجلى مثل على انتهاك جميع الاعراف القتالية والاجتماعية وحتى الاعراف التي اعتاد عليها العرب في الجاهلية التي قضى عليها الرسول (ص) لم يراعوا فيها ابسط القواعد فيها، فلأول مرة اصبح قتل الاطفال وحرق الاخبية التي تأوي النساء، فضلا عن قتل النساء من صميم المعارك فصارت عرفا عسكريا بعد معركة الطف المروعة. فالإمام الشهيد لم يلجأ الى السيف بعد انتهاء مرحلة الهدنة ومحاولة نصح المعسكر المقابل من مغبّة خوض المعركة ضده كونه حفيد الرسول (ع) وقبيل احتدام المعركة الضروس وغير المتكافئة اصلا، فالتجأ الى القوة دفاعا عن النفس والعرض ولم يبدأهم بالقتال، فكان هذا الدفاع (وليس الهجوم) قمة في التصعيد الذي التجأ اليه، فهو لم يأت الى كربلاء مُرفقا معه ثلة من اصحابه الافياء واهل بيته وأسرته من اجل الحرب، بل من اجل الاصلاح، الذي أعلن عنه كمشروع سلمي منذ خروجه من المدينة. وكدليل على هذا المسعى السلمي انه عليه السلام وفي حالة نادرة في تاريخ الحروب والثورات، ربما لن تتكرر اطلاقا قيام قائد المعسكر المناوئ بسقاية جنود القوة العسكرية المعادية وهي ذات القوة التي كانت سببا في احتجازه في كربلاء ومنعه من الرجوع الى مأمنه من الارض، بل وكانت سببا في حدوث المأساة التي حدثت يوم عاشوراء. فكان هذا اليوم خرقا واضحا لكل الاعراف التي اعتادت عليها العرب وصار خرقا اسلاميا واضحا وكان هذا الخرق هو الثمن الذي دفعه الامام الشهيد(ع) في سبيل الحقيقة حقيقة الاصلاح الحسيني. وأوجز الجواهري الفكرة بقوله: تعاليتَ من فَلَكٍ قُطْرُهُ يَدُورُ على المِحْوَرِ الأوْسَعِ.


شبكة النبأ
منذ ساعة واحدة
- شبكة النبأ
الامام الحسين والعلاقة بين الإصلاح والصلاة
إقامة الصلاة بشكل طوعي مع الشوق والحب والالتزام الدائم، تخلق حالة من القوة الذاتية بإمكانية إنجاز أي عمل على أحسن وجه، لأن ثمة قدرة لا متناهية تكون مع المصلي والذي سيحظى بصلة مباشرة مع هذه القوة القاهرة عندما يسجل حضوره الدائم... "أشهد أنك قد أقمت الصلاة". من الزيارة السابعة للإمام الحسين، عليه السلام، (زيارة وارث) الفساد والانحراف والتضليل، مفاهيم لها وجود في الذهن، ثم تخرج الى الواقع الخارجي في تطبيقات عملية، فنراها متجسدة في أفراد، كما نجدها في جماعات، فاذا عقدت النية على مكافحة هذه المفاهيم السلبية والضارة علينا شحذ مفاهيم تقف بالضدّ منها لمحاربتها على الصعيد العملي، كما الحال في البكتريا النافعة التي تقمع نظيرتها الضارة في جسم الانسان، وهذا مثال للتقريب. ففي ساحة المعركة يوم العاشر من المحرم، كان جيش ابن سعد يرى في الامام الحسين مقاتلاً ضد النظام الأموي الجائر، ومعارضاً لشخص يزيد بأن يتولى منصب خلافة رسول الله، والتحكم بمصائر المسلمين، وأنه يرى نفسه الأجدر، فالقضية في كربلاء سياسية بأدوات عسكرية، ولم يدر في خلدهم لحظة واحدة أن الامام الحسين إنما يقاتل ويضحي بنفسه وبأهل بيته لأمر آخر أوسع بعداً مما يعيشونه في لحظتهم الراهنة، علماً أنه، عليه السلام، أعلنها جهاراً نهاراً بأني "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، ولكن؛ ربما لم تطرق اسماعهم هذه الكلمة، كما هي اليوم تدوي في الآفاق، أو سمعوها ولم يعوها، في كل الاحوال، غابت عنهم حقيقة أراد الامام الحسين تجسيدها في ميدان المعركة يوم عاشوراء، بأن الاسباب التي جعلتهم يفقدون كرامتهم وحريتهم، يمكن ازالتها ومعالجتها قبل فوات الأوان. رسالتين بعثها الامام الحسين، عليه السلام، لأهل الكوفة المتجحفلين تحت إمرة ابن سعد والشمر وأشباههما، هما: طلب تأجيل المعركة من ليلة العاشر من المحرم الى نهارها، فأرسل أخاه العباس، عليه السلام، "فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشية، لعلنا نصليّ لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار"، ولابد أن تناهى هذا الطلب الى أسماع بعض او جزء كبير من تلك الجحافل، بأن الامام يطلب تأجيل القتال ليصلي الى ربه ويتلو القرآن الكريم، والرسالة الثانية: أداء الصلاة وسط المعركة، فيما كانت السهام تنهال على معسكر الامام في لحظات لا توصف. التضحية من أجل الصلاة أم من أجل مكافحة الفساد؟! بما أن الغاية النهائية للحركة الحسينية المعارضة؛ الإصلاح في الأمة، وإعادة الروح الدينية الى كيانها من خلال "آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، فمن أرقى وأسمى معالم الدين وأكثر حيوية؛ الصلاة التي نعرف قيمتها من القرآن الكريم: {تنهى عن الفحشاء والمنكر}، ومن حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله: "الصلاة عمود الدين"، وأي قائد اليوم يعيش حالة مواجهة على الصعد كافة؛ سياسياً واقتصادياً، ومخابراتياً، وتكنولوجياً، يوظف كل طاقاته ووقته لتوجيه الضربة الناجحة للعدو، ولن يفكر بشيء اسمه: الصلاة، لسبب بسيط جداً؛ "بالإمكان الاتيان بها لاحقاً"، أو "ثمة وقت متاح للصلاة، بينما لا وقت أمام الخصم"، بينما يغيب عن ذهن البعض أن الفساد والانحراف والمحاصصة السياسية وغيرها من المساوئ في المجتمع والدولة، كلها ذات تنبع من مجانبة الدين وأحكامه ونظمه، كما كان الحال عليه في عهد الامام الحسين، وفي يوم عاشوراء، "فالامام الحسين قد أقام الصلاة بتضحياته الجسام، وباستقامته وصلابته في طريق الحق، وواجه المستبدين كافة، وإن كانوا قد تجسدوا في يزيد الذي كان يلعب بالقرود، ويشرب الخمور، ويحاول أن يحطم عُرى دين الله، عروةً عروة". (الامام الحسين وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، بما يعني أن صلاة الامام الحسين وسط ميدان المعركة، رسالة الى الأمة والى الأجيال بأن هذه الصلاة هي الجسر الوحيد المؤدي الى الإصلاح الحقيقي لكل ما تعانيه من أزمات ومشاكل ومحن، ومن لا يجد في نفسه القوة للتضحية من اجل الصلاة، بوقته –على أقل التقادير- كيف له الإدعاء بقدرته على محاربة الفساد والظلم، وهي مواجهة محتدمة بالحديد والنار؟ من هنا يعملنا الامام الصادق، عليه السلام، في زيارته لجدّه الامام الحسين، بأن نتذكر دائماً هذه القاعدة الاساس في عملية الإصلاح والتغيير عندما نشهد في قراءتنا للزيارة بأن "أشهد أنك قد أقمت الصلاة"، وقد بحث في هذه الجملة القصيرة، العديد من العلماء، المضامين والابعاد الواسعة لمسألة "الشهادة" من الزائرين على مر الزمن. والغريب حقاً أن نسمع هذه الايام بأن إقامة الصلاة في الدوائر الرسمية، او في الجامعات او في الاسواق، مدعاة لتضييع حقوق الناس! بدعوى أن البعض يتخد من وقت الصلاة فرصة للتهرّب من أداء مسؤوليته وأمانته في عمله، ثم يربطون بين هذا التصرف الشاذ، وبين الفساد! متناسين –ربما عن غير قصد- الاسباب المعروفة والمؤثرة بشكل مباشر في نشوء وانتشار هذا الداء الوبيل. وحسناً قال رئيس وزراء إحدى الدول الاسلامية في دعوته لإقامة الصلاة في الدوائر الرسمية، بأن "البعض يقول للصلاة عندي عمل، وأنا أقول للعمل عندي صلاة"! وهذا تجسيد لأحد أبرز قيم النهضة الحسينية في حياتنا اليومية لمن يريد تحقيق الإصلاح ومحاربة الفساد والتخلص منه الى الأبد. وهذا يعني تهديد مصالح الفاسدين في المجتمع والدولة، لذا نرى محاولات غير مباشرة عديدة للتقليل من أهمية الصلاة في المدرسة، والجامعة، والسوق، والدوائر الحكومية، فما الضير في أن يؤدي الناس صلاة الفريضة في أي دائرة حكومية عندما يحين وقتها، وهي لا تأخذ من الوقت سوى دقائق معدودة؟ إقامة الصلاة بشكل طوعي مع الشوق والحب والالتزام الدائم، تخلق حالة من القوة الذاتية بإمكانية إنجاز أي عمل على أحسن وجه، لأن ثمة قدرة لا متناهية تكون مع المصلي والذي سيحظى بصلة مباشرة مع هذه القوة القاهرة عندما يسجل حضوره الدائم، كما يسجل الكثير حضورهم الدائم في ديوان عشائري، او مكتب لشخصية مرموقة لها شأنها في انجاز معاملات وقضاء أعمال، او حتى الحصول على منافع مادية، فهل إن هؤلاء أكثر قوة وقدرة من الله –تعالى-؟! أم أن الغفلة بسبب دوامة الازمات والمشاكل هي التي تبعد الانسان عن حقائق واضحة في الحياة؟