
الحرية الاقتصادية بين الرأسمالية والإسلام
المقدمة
في عالمٍ تُرفَع فيه رايات "الحرية" على أنها ذروة التقدّم البشري، تغدو "الحرية الاقتصادية" واحدة من أكثر المفاهيم رواجًا وتأثيرًا في تشكيل حياة الإنسان المعاصر. لكنها، عند التأمّل العميق، ليست ذلك المفهوم البريء المحايد الذي يُسوَّق له في أدبيات النظام الرأسمالي، بل هي نتاج بنية فكرية تُقدّس الفرد، وتُعلّي من شأن السوق، وتُخضع كل القيم لمنطق الربح والخسارة.
لقد أقامت الرأسمالية الحديثة صرحها على أساس هذه الحرية المطلقة التي تحوّلت –بمرور الزمن– إلى ما يشبه "دينًا جديدًا"، تُمجّد فيه آلهة السوق، وتُقدّس فيه الملكية، ويُعبد فيه الربح. غير أن هذا التقديس أفضى إلى انحرافات خطيرة، ليس على مستوى العدالة الاجتماعية فحسب، بل على مستوى الإنسان ذاته قيمه، كرامته، علاقته بالطبيعة، ومكانته في العالم.
وفي المقابل، يقدّم الإسلام تصورًا مغايرًا – لا يقلّ حرصًا على حرية الإنسان، لكنه يُعيد ضبطها ضمن أُطر أخلاقية وتكافلية توازن بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والعدل، وبين الرغبة والمسؤولية.
هذا المقال يروم قراءة نقدية للحرية الاقتصادية في ظل الرأسمالية، من زاويتين: أيديولوجية وواقعية، ثم يقدم البديل الإسلامي بوصفه نموذجًا أخلاقيًا وإنسانيًا قادرًا على إعادة الاعتبار للإنسان في عالم طغى عليه منطق المال وتغوّل فيه السوق.
١. الحرية الاقتصادية: الفرد مركز الكون
تُعدّ الحرية الاقتصادية حجر الزاوية في بناء النظام الرأسمالي، وهي تعني – وفق المنظور الليبرالي –حق الفرد المطلق في التملك والعمل والبيع والشراء والإنتاج والاستهلاك دون تدخل الدولة.
لقد قدّس النظام الرأسمالي الفرد ورفعه إلى مصاف الإله الصغير الذي يُشرّع لنفسه وفق ما تمليه عليه "يد السوق الخفية"، وهو تعبير شهير استخدمه آدم سميث في كتابه ثروة الأمم حين قال:
"ليس من إحسان الجزار أو الخباز نحصل على طعامنا، بل من اهتمامهم بمصالحهم الخاصة".
هذه العبارة تختصر فلسفة السوق الرأسمالية: المصلحة الفردية هي المحرّك الأكبر لكل نشاط اقتصادي، والحرية المطلقة في السلوك الاقتصادي تؤدي، عفوًا، إلى التوازن العام والخير المشترك!
٢. الملكية الخاصة: التقديس الجديد للأرض
إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي إحدى أقدس "المحرّمات" في المعبد الرأسمالي، بل تكاد تكون وثنًا لا يجوز المساس به.
ففي هذا النظام، يتحوّل رأس المال من أداة إلى سيّد، ومن وسيلة إلى غاية، ويتحوّل الإنسان من كائن له كرامة أصيلة إلى عامل في آلة ضخمة يديرها المستثمر أو مالك رأس المال.
وقد عبّر الفيلسوف السياسي جون لوك – من منظّري الليبرالية الكلاسيكية – عن قداسة الملكية حين اعتبر أن:
"الملكية هي امتداد طبيعي لحرية الإنسان، والحق فيها سابق على نشوء الدولة ذاتها".
وفي هذا الجوهر تُختزل العلاقة بين الإنسان والعالم: مَن يملك أكثر، يقرر أكثر، ويحيا أكثر.
٣. قانون العرض والطلب: "الناموس" المقدّس
في غياب التخطيط المركزي، وفي ظل تقليص دور الدولة إلى أدنى حد، يحتكم النظام الرأسمالي إلى قانون العرض والطلب باعتباره الآلية الطبيعية لتنظيم السوق وتحديد الأسعار وتوجيه الموارد.
ولقد شبه بعض مفكري الرأسمالية هذه الآلية بــ "الناموس الكوني"، حيث يتحقق التوازن الاقتصادي كما تتوازن الكواكب في مداراتها. وفي ذلك نوع من التأليه الخفي للمنظومة، حيث تُختزل العدالة في "السعر العادل" الناتج عن التقاء العرض بالطلب دون تدخل خارجي.
٤. المنافسة: البقاء للأقوى
ترى الرأسمالية أن المنافسة الحرّة هي المحرك الأكبر للتقدّم والابتكار والفعالية الاقتصادية، وهي تجسيد عملي لما يسميه داروين بـ"الانتخاب الطبيعي" ولكن في ميدان المال لا في ميدان الأحياء.
من يتقن فن السوق، ويستغل الفرص، ويخفض التكاليف، ويسوّق بذكاء ينجو ويتفوّق، أما الضعفاء، فلا مكان لهم في عالم الربح والخسارة.
وهكذا تتحول المنافسة من وسيلة للنهوض إلى معركة للبقاء، حيث يتكدس رأس المال في يد القادرين على "اللعب بذكاء"، بينما يُقصى الآخرون إلى هامش الحياة.
الربح –في عرف الرأسمالية– ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو مبرّر وجود الشركات والمؤسسات والأسواق، بل هو معيار النجاح ومعنى الإنجاز.
فكل نشاط اقتصادي لا يدرّ ربحًا يُعدّ عبثًا، بل خيانة لمنطق السوق. ومن هنا، تنتشر روح "البراغماتية" التي تعبّر عنها المقولة الشهيرة المنسوبة لرجال الأعمال: "الربح هو أقدس الفضائل، والخسارة هي الخطيئة الوحيدة".
بهذا المعنى يتحول الربح إلى صنم معاصر، تُقدّم على مذبحه البيئة، والأخلاق، والعدالة الاجتماعية، ومشاعر الإنسان.
٦. الحد الأدنى من تدخل الدولة: الدولة الحارسة لا الراعية
لا تؤمن الرأسمالية الكلاسيكية إلا بدولة "حارسة"، تؤمّن الأمن وتحفظ النظام وتحمي العقود، لكنها لا تتدخل في تفاصيل الاقتصاد.
وهذا ما عبّر عنه الاقتصادي الفرنسي جان باتيست ساي بمقولته الشهيرة:
"دَعوا الأشياء تجري في طريقها ".
هذا المبدأ جعل من الدولة كيانًا تابعًا للأسواق لا حاكمًا لها، وهو ما أدّى، في فترات كثيرة، إلى اختلالات هائلة، وانتشار الفقر، وترك الطبقات الدنيا لمصيرها.
ومضة نقدية: حين يتحول السوق إلى دين
لقد تحوّلت الرأسمالية –في ضوء هذه الركائز– إلى نظام شمولي ناعم، يفرض سطوته لا بالقهر العسكري، بل بإغراء الاستهلاك وسحر الإعلان، ويعيد تشكيل الوجدان الإنساني على صورة السلعة.
فكما قال المفكر الفرنسيبودريار: "نحن لا نعيش في اقتصاد الإنتاج، بل في اقتصاد العلامات، حيث تُشترى الأشياء لا لحاجتها، بل لدلالتها الاجتماعية".
الإنسان في ظل الرأسمالية
أمام هذا المشهد، يحق لنا أن نسأل: هل الإنسان في ظل الرأسمالية سيّد المال، أم عبد له؟
هل السوق وُجدت لخدمة الإنسان، أم أن الإنسان أعيدت صياغته ليخدم السوق؟
وهل يمكن التوفيق بين الكرامة الإنسانية وعبادة الربح، بين القيم العليا ومنطق الصفقات؟
هذه الأسئلة تبقى معلّقة في الهواء، ما لم يُعاد تأصيل العلاقة بين الإنسان والقيمة، وبين الاقتصاد والأخلاق.
نقد الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي: قراءة أيديولوجية وواقعية
بعد ان استعرضنا حقيقة الحرية الاقتصادية في النظام الرأسمالي، نريد الان تقييم هذه الحرية المزيفة من عدة جوانب، فنقول:
في عالم يرفع شعار "الحرية" بكل أطيافها، تبرز الحرية الاقتصادية بوصفها إحدى الركائز المحورية للنظام الرأسمالي الحديث. لكنها –كما يكشف النظر الفاحص– ليست حرية نزيهة محايدة، بل تنتمي إلى بنية فكرية تحكمها أيديولوجيا معينة، وتُمارس ضمن شروط واقعية تشوبها التفاوتات والاستغلال.
هذه السطور تتناول الحرية الاقتصادية من منظورين متكاملين:
1.المنظور الإيديولوجي الذي يكشف الأسس الفلسفية التي قامت عليها.
2. المنظور الواقعي الذي يفضح التناقض بين النظرية والممارسة.
الحرية الاقتصادية في التصور الرأسمالي ليست مفهومًا عابرًا، بل هي ناتج لمزيج فلسفي ممتد من عصر التنوير إلى الليبرالية الحديثة. ويُمكن تناول الإشكالات الإيديولوجية فيها ضمن المحاور الآتية:
1. الحرية المزعومة والتفاوت البنيوي
الرأسمالية تفترض أن الأفراد متساوون في فرص السوق، لكن هذا افتراض مضلل، لأن البنية الاقتصادية والاجتماعية التي ينتج عنها التملك غير عادلة من الأصل.
فالفرد يدخل السوق وهو محمّل بإرث طبقي، وتفاوت تعليمي، وإرث ثقافي واجتماعي قد يضعه في موقع ضعف، ومع ذلك تُطالبه الرأسمالية بالمنافسة على قدم المساواة.
يقول جون رولز، أبرز فلاسفة العدالة في القرن العشرين:
"العدالة تقتضي ألا تُحكم النتائج بحكم المصادفة، ولا تُترك الحقوق رهينة التفاوتات الطبيعية والاجتماعية".
لكن الحرية الاقتصادية، كما تمارسها الرأسمالية، تُقنن التفاوت لا تُعالجه، وتُسبغ الشرعية على الاستغلال، بدعوى "الاستحقاق الفردي".
2. الفردانية المطلقة وتمزيق الجماعة
الحرية الاقتصادية تمجّد الفرد بوصفه الفاعل الوحيد في المعادلة الاقتصادية، بينما تتجاهل قيم التعاون والتكافل.
بهذا تُنتج "إنسان السوق" الذي يقيس كل شيء بمعيار النفع، ويُسقط من حسابه القيم الجمعية والمقاصد العليا.
وقد حذّر الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور من هذه النزعة قائلاً:
"الليبرالية الحديثة تُنبت أفرادًا بلا جذور، تحرّرهم من كل شيء، لكنها لا تمنحهم شيئًا".
وبذلك، تصبح الحرية الاقتصادية بوابة إلى الاغتراب الجماعي، والوحدة الثقافية، والانفصام الاجتماعي.
3. قلب مفهوم العدالة رأسًا على عقب
الرأسمالية تضع الحرية الفردية فوق العدالة الاجتماعية. فطالما أن الفرد حُرّ في البيع والشراء، فإن السوق عادل – بحسب منطقهم.
لكن الإسلام وغيره من الأنظمة الأخلاقية يعتبر أن العدالة مقدّمة على الحرية إذا تعارضتا، وأن الحرية ليست مطلقة، بل تُمارس ضمن ضوابط أخلاقية.
وصدق من قال: "العدل أساس يُقوَّم به الناس، وتُسدّ به الثغور، ويُستصلح به السلطان، وتُعمر به البلدان".
فالعدل –لا الحرية المجردة– هو المحور الذي تُقاس عليه شرعية النشاط الاقتصادي.
إذا تجاوزنا الأطر النظرية، ونظرنا في الواقع العالمي منذ انبثاق الرأسمالية إلى اليوم، نُفاجأ بعدد من الاختلالات البنيوية، تؤكد أن الحرية الاقتصادية قد تحوّلت إلى عبودية مقنّعة لطبقة المالكين.
1. الاحتكار المقنّع والتضخم الرأسمالي
رغم أن الرأسمالية تدّعي أنها تتيح المنافسة للجميع، إلا أن الواقع يُظهر عكس ذلك.
فمعظم الأسواق الكبرى اليوم تهيمن عليها شركات عملاقة تفرض أسعارها، وتُقصي منافسيها، وتتحكم في سلاسل التوريد والإنتاج والإعلام.
"إن ما نراه اليوم ليس سوقًا حرة، بل إمبراطوريات تحت قناع المنافسة"،
هكذا عبّر الاقتصادي ها-جون تشانغ في نقده للرأسمالية النيوليبرالية. فالحرية هنا هي حرية العملاق في سحق الصغير.
ملاحظة:
يشير تعبير «النيوليبرالية» إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، وتسعى النيوليبرالية لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد.
2. إعادة إنتاج الفقر بدل تقليصه
الرأسمالية تَعِدُ بالرخاء الشامل من خلال "تساقط الثروة من الأعلى" لكنها في الواقع ترفع الطبقات العليا وترمي بالفتات إلى السفلى.
ووفق تقرير Oxfam لسنة 2023، فإن:
"1٪ من أغنى سكان العالم يملكون أكثر من 50٪ من ثروات الأرض، في حين يكافح أكثر من 3 مليارات شخص من أجل البقاء اليومي".
فأين هي العدالة في سوق حرّ "يفتح الأبواب للجميع" لكن لا يدخل منها إلا من يملك الثمن؟
3. أزمات مالية متكررة
منذ الكساد الكبير (1929) إلى الأزمة المالية العالمية (2008)، مرورًا بأزمات العملات والديون والسيولة، تشير التجربة الواقعية إلى أن السوق الرأسمالي غير مستقر بطبيعته.
بل إن كثيرًا من هذه الأزمات نتاج مباشر للحرية الاقتصادية غير المنضبطة، وغياب الرقابة على المضاربات والتوسع الائتماني الجشع.
وفي هذا السياق قال المفكر الاقتصادي ستيجليتز الحائز على نوبل:
"الأسواق لا تصلح نفسها بنفسها، ومن يظن ذلك يُنكر كل دروس التاريخ".
4. الاستلاب البيئي وتدمير الطبيعة
تحت وهم الحرية الاقتصادية تستنزف الموارد الطبيعية، وتُشوّه الأنظمة البيئية، وتُلوث الأنهار والهواء والتربة، لأن الشركات لا ترى في الطبيعة إلا أرقامًا في جدول الأرباح.
وقد نبّه تقرير الأمم المتحدة عام 2022 إلى أن: "الاقتصاد الحر يُسهم بنسبة تزيد على 70٪ من الانبعاثات الكربونية عبر الصناعات الثقيلة والنقل والتسويق".
وهنا يظهر وجه جديد من الاستبداد الاقتصادي الذي لا يقهر الإنسان فحسب، بل يقهر الكوكب ذاته.
5. تحوّل الحرية إلى أداة سياسية للهيمنة
لم تَسلم "الحرية الاقتصادية" من التوظيف السياسي، إذ كثيرًا ما تُستخدم كغطاء للتدخلات الخارجية، وفرض السياسات النيوليبرالية على الدول النامية عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
فتُجبر تلك الدول على "تحرير أسواقها"، وخصخصة مرافقها العامة، ما يؤدي إلى تفكك الدولة الاجتماعية، وبيع ثروات الشعوب بأبخس الأثمان.
قال الخبير الاقتصادي الهنديأرجون أبادوراي: "الحرية الاقتصادية، حين تُفرض من الخارج، ليست حرية، بل استعمار جديد بقفازات ناعمة".
الحاجة إلى نموذج بديل
الحرية الاقتصادية –بمفهومها الرأسمالي– قد وصلت إلى مأزق أخلاقي وواقعي، فهي تُنتج الاستغلال بدل العدالة، والاحتكار بدل التنافس، والانفجار البيئي بدل الاستدامة.
والمطلوب اليوم ليس رفض مبدأ الحرية الاقتصادية من حيث هو، بل إعادة صياغته ضمن منظومة أخلاقية تحفظ للإنسان كرامته، وتقدّم العدالة على الجشع، وتُخضع الاقتصاد للمقاصد الكبرى.
وقد عبّر عن ذلك السيد محمد باقر الصدر بقوله:
"إن الإسلام لا يرفض الحوافز الذاتية، لكنه يوجّهها وجهة اجتماعية، ويضعها تحت سقف الأخلاق، فلا تتحول إلى أداة قهر أو استعلاء".
الاسلام هو البديل:
الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست انعكاسًا لليبرالية الغربية، ولا امتدادًا للهيمنة الرأسمالية، بل هي منظومة قيمية متكاملة تجعل من الإنسان خليفة في المال لا مالكًا مطلقًا، وتربط الاقتصاد بالأخلاق، والحرية بالعدالة، والربح بالمسؤولية.
وإليك هذا البيان المفصل:
الحرية الاقتصادية في الإسلام: حرية مقيدة بالعدل ومنضبطة بالقيم
تمهيد
إنّ الحديث عن الحرية الاقتصادية في الإسلام لا ينطلق من فرضية "السوق الحر" ولا من مبدأ "المصلحة الفردية المطلقة"، بل ينبع من التصور التوحيدي للإنسان والكون والمال؛ حيث المال ليس ملكًا ذاتيًا، بل هو أمانة ووسيلة للعمارة والإعمار والتكافل.
فالحرية الاقتصادية –في الرؤية الإسلامية– ليست حريةً مطلقة، بل هي حرية حقيقية بضوابط شرعية، تحفظ للفرد حقه، وتحمي المجتمع من طغيان رأس المال، وتُقوّم النشاط الاقتصادي على أساس العدالة والرحمة.
1.المال لله والإنسان مستخلف فيه
الركيزة الأساسية في التصور الإسلامي للاقتصاد هي أن المال ملك لله تعالى، والإنسان مجرد مستخلف فيه.
قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33]
وقال أيضًا: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]
فالفرد لا يملك المال على نحو الاستقلال التام، بل هو وكيل مأذون، تُقيد حريته الاقتصادية بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفس والنسل والعقل والمال والدين.
2. التوازن بين الفرد والمجتمع
الإسلام لا يُقصي الفرد كما تفعل الاشتراكية، ولا يُطلقه بلا ضابط كما تفعل الرأسمالية، بل يمنحه الحرية بضوابط تحقق التوازن بين مصلحته الخاصة والمصلحة العامة.
وقد بيّن الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر هذه القاعدة الذهبية بقوله:
«فإنهم – أي الرعية – صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».
وهذا يعني أن العمل الاقتصادي لا يُحكم بمنطق الربح المجرد، بل بمنطق الأخوة والمسؤولية والتكافل.
3. تحريم كل أداة تؤدي إلى الاستغلال
الإسلام حارب بصرامة كل السبل المؤدية إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت عنوان المعاملة أو التجارة أو العقد، فحرّم:
الربا: لأنه يُنتج المال من المال دون جهد، ويُضاعف الفقر.
الاحتكار: لأنه يمنع تداول السلع، ويرفع الأسعار ظلمًا.
الغش والخداع: لأنه يفرغ المعاملة من بعدها الأخلاقي.
التطفيف والمكيال الناقص: كما في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين: 1].
هذه كلها قيود شرعية أخلاقية لا تُقيد الحرية، بل تحرّرها من الانزلاق إلى الظلم.
1. حرية التملك والعمل
أقرّ الإسلام حق التملك الخاص والحق في العمل الحرّ، واعتبرهما من الحقوق الفطرية.
قال النبي صلى واله عليه واله: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار».
لكن الإسلام قيد هذه الحرية: بمنع مصادر الكسب المحرمة (الربا، الرشوة، القمار، الغرر).
بمنع التعدّي على حقوق الآخرين أو الإضرار بالمجتمع.
وبالتأكيد على أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله.
فلا وجود لحرية مطلقة في التملك ولا الاستثمار في الإسلام، بل هناك قيد دائم: ألا يكون المال سببًا للفتنة أو الطغيان، كما في قوله:
(إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق: 6–7].
2. حرية السوق بضوابط الشفافية والعدالة
الإسلام لا يمنع السوق، ولا يرفض البيع والشراء، بل حث عليه. لكنّه يمنع أن يتحوّل السوق إلى غابة بلا أخلاق.
نهى النبي صلى واله عليه واله عن التناجش والتدليس والاحتكار.
وفرض الرقابة على الأسعار إذا وقع ظلم أو فساد.
وكان يمرّ بنفسه على الأسواق ويقول: «من غشّنا فليس منّا».
وهكذا، فإن السوق في الإسلام فضاء حرّ، ولكن مُؤطّر بالأمانة والتقوى والرقابة المجتمعية.
3. حرية الاستثمار المنتج لا المضارب
الاستثمار في الإسلام ممدوح، لكن بشرط أن يكون حقيقيًا ومنتجًا لا مجرد مضاربة وهمية.
فالإسلام يحبّ الكسب من العمل لا من المراهنة. يقول النبي صلى واله عليه واله: «خير الكسب كسب الرجل من يده».
يُمنع بيع الدين بالدين.
ويُمنع بيع ما لا تملك.
ويُمنع بيع الغرر (المجهول والعشوائي).
كل هذا لأجل جعل الحرية الاقتصادية أداة للبناء لا للمقامرة.
4. تكافل اجتماعي إجباري لا اختياري
من أروع ما في النظام الاقتصادي الإسلامي أن الفقراء ليسوا عالة بل شركاء في المال العام، إذ شرّع الإسلام:
الزكاة الواجبة، والخمس، والصدقات المستحبة، وبيت المال، ومنع تراكم المال في أيدي قلة: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7]
فالحريّة هنا ليست فردية فقط، بل حرية مشروطة بإعادة توزيع الثروة وتحقيق الحد الأدنى من الكفاية والكرامة للجميع.
5. الرقابة الإلهية والضمير الديني
ما يُميّز النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره هو أن الرقابة فيه ذاتية قبل أن تكون قانونية.
فالمؤمن يعلم أنه مسؤول أمام الله عن كل درهم أنفقه أو كسبه.
قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92-93]
فلا يمكن أن تكون الحرية الاقتصادية في الإسلام ذريعة للطغيان، لأن التاجر التقي يرى في كل صفقة امتحانًا أخلاقيًا قبل أن تكون فرصة ربحية.
الحرية المقيدة هي الحرية الحقيقية
إن الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست شعارات براقة تبرر الاستغلال والاحتكار، بل هي نظام متكامل يوازن بين الفرد والمجتمع، بين الحق والواجب، بين السوق والأخلاق.
إنها حرية منضبطة لا مُطلقة، مشروطة لا عبثية، تلتزم بالعدل لا الجشع، وتحمل في جوهرها أسمى معاني الإنسانية والتكافل.
وكما افاد السيد الصدر في اقتصادنا:
"إن الحرية الاقتصادية في الإسلام ليست شبيهة بالحرية الرأسمالية، بل هي حرية الإنسان المسؤول، الذي يعلم أن المال ليس له وحده، وأن الآخرين شركاء في نعم الله، لا عبيدًا في سوق المال".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الميادين
منذ 4 ساعات
- الميادين
توغو: تنظيم "القاعدة" قتل عشرات المدنيين خلال العام الحالي
قال وزير خارجية توغو، روبرت دوسي، إن جماعة تابعة لتنظيم "القاعدة قتلت عشرات المدنيين وثمانية جنود حتى الآن هذا العام في البلاد". وأشار دوسي، في تصريح لوكالة "رويترز"، إلى أن ما يسمى "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين شنت 15 هجوماً في شمال توغو حتى الآن هذا العام"، لافتاً إلى أن "عدد القتلى المدنيين يقدّر بنحو 54 شخصاً". وأفاد دوسي بوجود "نحو 8 آلاف جندي توغولي في الشمال بين توغو وبوركينا فاسو المجاورة"، مشيراً إلى أن "تعاون توغو مع بوركينا فاسو كان جيداً للغاية". اليوم 20:48 اليوم 15:54 وقال إن "توغو تعمل كجسر بين المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، التي هي عضو فيها، واتحاد دول الساحل، الذي يتألف من بوركينا فاسو ومالي والنيجر". وشهدت توغو ارتفاعاً في الهجمات المسلحة في السنوات الأخيرة، مع انتشار الجماعات المرتبطة بتنظيم "داعش" في منطقة الساحل. ويقول محللون إن "الارتفاع الحاد في الهجمات خلال شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو كان أحد أكثر الفترات دموية في تاريخ منطقة الساحل الحديث، ما يسلّط الضوء على التهديد الذي تشكّله الجماعات المسلحة". ووفقاً لـ"رويترز" فإنّ جماعات مرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" سيطرت، منذ ذلك الحين، على أراضٍ بالرغم من الجهود العسكرية لمواجهتها.


شبكة النبأ
منذ 20 ساعات
- شبكة النبأ
السودان المقسّم ودحر الإسلام السياسي
من شأن تزايد نفوذ الإسلاميين داخل السودان أن يزيد من العداء مع الإمارات التي ساعدت الجيش وقوات الدعم السريع على الإطاحة بالبشير وتسعى إلى دحر الإسلام السياسي على الصعيد الدولي. وقطع الجيش العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات في وقت سابق من هذا العام، واتهمها بأنها أكبر داعم لقوات الدعم... قال قياديون بالحركة الإسلامية التي أطاحت بها انتفاضة شعبية في السودان عام 2019 إن الحركة قد تدعم بقاء الجيش طويلا في الحكم في وقت تتطلع فيه إلى عودة سياسية بعد مشاركتها بمقاتلين في الحرب التي تشهدها البلاد. وفي أول حديث لوسيلة إعلامية منذ سنوات، قال أحمد هارون رئيس حزب المؤتمر الوطني -الحزب الحاكم السابق- وأحد السودانيين الأربعة المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية لرويترز إنه يتوقع بقاء الجيش في الحكم بعد الحرب، وإن الانتخابات قد تتيح لحزبه والحركة الإسلامية المرتبطة به العودة إلى السلطة. لكن ائتلاف سوداني بقيادة قوات الدعم السريع أعلن أسماء أعضاء حكومة موازية في خطوة يرفضها الجيش، الخصم الرئيسي للقوات شبه العسكرية في الحرب المستمرة منذ 27 شهرا، مما يهدد بدفع البلاد نحو مزيد من التقسيم. ومن شأن تزايد نفوذ الإسلاميين داخل السودان أن يزيد من العداء مع الإمارات التي ساعدت الجيش وقوات الدعم السريع على الإطاحة بالبشير وتسعى إلى دحر الإسلام السياسي على الصعيد الدولي. وقطع الجيش العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات في وقت سابق من هذا العام، واتهمها بأنها أكبر داعم لقوات الدعم السريع. وتنفي الإمارات ذلك الاتهام. وأدت الحرب الدائرة منذ أكثر من عامين بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى موجات من القتل على أساس عرقي وانتشار المجاعة والنزوح الجماعي واستقطبت قوى أجنبية وتسببت في ما تصفها الأمم المتحدة بأكبر أزمة إنسانية في العالم. واندلعت الحرب بسبب خلافات بين الجيش وقوات الدعم السريع حول قواعد مرحلة انتقالية تهدف إلى تسليم السلطة للمدنيين، وتقول الأمم المتحدة إنها تسببت في نزوح أكثر من 12 مليون شخص ودفعت نصف السكان إلى الجوع الحاد. وعلى الرغم من إمساك قوات الدعم السريع بزمام الأمور في معقلها الغربي بدارفور ومناطق من الجنوب وعدم وجود مؤشرات على توقف القتال، فقد حقق الجيش تقدما كبيرا على جبهات عدة في الأشهر الماضية، وهي مكاسب يقول المشاركون من الإسلاميين إنهم ساهموا في تحقيقها. ويقلل قادة في الجيش وموالون للنظام السابق من شأن الحديث عن العلاقات بينهما، خوفا من تأثير السخط الشعبي على الرئيس المخلوع عمر البشير وحلفائه في حزب المؤتمر الوطني. لكن سبعة من أفراد الحركة وستة مصادر عسكرية وحكومية قالوا إن التقدم الذي حققه الجيش في الآونة الأخيرة أتاح للحركة الإسلامية التفكير في العودة للقيام بدور وطني. وتعود جذور حزب المؤتمر الوطني إلى الحركة الإسلامية السودانية التي كانت مهيمنة في أوائل عهد البشير خلال تسعينيات القرن العشرين عندما استضاف السودان أسامة بن لادن، لكنها تخلت منذ فترة طويلة عن الفكر المتشدد وصارت تركز على الاستئثار بالسلطة وتنفي أي صلات تنظيمية لها بمجموعات إسلامية خارج السودان. وقد يعزز صعود الحركة من جديد الردة عن الانتفاضة المطالبة بالديمقراطية التي بدأت في السودان في أواخر 2018، كما سيعقّد علاقاته مع الأطراف الإقليمية المتشككة في أي نفوذ إسلامي وسيزيد الشقاق مع دولة الإمارات. وفي إشارة إلى هذا الاتجاه، عُين عدد من الإسلاميين وحلفائهم منذ الشهر الماضي في حكومة كامل إدريس رئيس الوزراء التكنوقراطي الجديد الذي عينه الجيش في مايو أيار الماضي. وردا على طلب من رويترز للتعليق، قال ممثل لقيادة الجيش السوداني "قد يرغب بعض قادة الإسلاميين في استغلال الحرب للعودة إلى السلطة، لكننا نقول بشكل قاطع إن الجيش لا يتحالف أو ينسق مع أي حزب سياسي ولا يسمح لأي طرف بالتدخل". وفي حديثه لرويترز في ساعة متأخرة من الليل من مكان يختفي فيه عن الأنظار مع انقطاع خدمات الكهرباء في شمال السودان، قال هارون إن حزب المؤتمر الوطني يقترح هيكل حكم يمنح الجيش السيطرة علي الأمور السيادية "بالنظر لمهددات الأمن السوداني والتدخل الخارجي " على أن تأتي الانتخابات برئيس وزراء لإدارة الحكومة. وأضاف هارون، حليف البشير الذي خرج من السجن في بداية الصراع، في المقابلة التي أجريت معه في أواخر أبريل نيسان "اتخذنا قرارا استراتيجيا ألا نعود للسلطة إلا عبر صناديق الانتخابات بعد الحرب... لن نكون في أي حكومة انتقالية غير منتخبة بعد الحرب". وأضاف "النموذج الغربي لن يكون مناسبا للسودان. ولا بد من الوصول لصيغة عن دور الجيش في السياسة في ظل الهشاشة الأمنية والأطماع الخارجية، فهذه لن تكون الحرب الأولى ولا الأخيرة في البلد". وأشار ضابط كبير في الجيش إلى أن أي فترة انتقالية يديرها الجيش حصرا قبل الانتخابات "لن تكون قصيرة". واقترح هارون إجراء استفتاء شعبي على "من يقدمه الجيش للحكم". وهارون مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهم الضلوع في جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي تهم ينفي صحتها ويصفها بأن وراءها دوافع سياسية. وبدأت عودة الفصائل الإسلامية قبل اندلاع الحرب في أبريل نيسان 2023، وهي فترة أخذت تنحرف فيها عملية الانتقال نحو الحكم المدني عن مسارها المأمول. ورسخت هذه الفصائل وجودها داخل أجهزة الحكم وفي الجيش خلال فترة حكم البشير التي استمرت ثلاثة عقود. واستمد قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الذي أصبح رئيسا لمجلس السيادة الانتقالي بعد فترة وجيزة من الإطاحة بالبشير عام 2019، دعما منها عندما قاد انقلابا في أكتوبر تشرين الأول 2021 مع قوات الدعم السريع على الحكومة الانتقالية. وشاركت قوات الدعم السريع في الانقلاب، لكن كانت تساورها شكوك تجاه الإسلاميين. ومع تحرك قوات الدعم السريع والجيش لحماية مصالحهما قبل مرحلة انتقال أخرى مقررة، تحول التوتر بين الجيش والدعم السريع إلى حرب. وسرعان ما سيطرت قوات الدعم السريع على معظم مناطق العاصمة الخرطوم، وحققت تقدما على جبهات أخرى قبل أن يبدأ الجيش في استعادة السيطرة على الأراضي وتوسيع قبضته في شرق السودان ووسطه. مقاتلون للشبكات الإسلامية تظهر وثيقة لحزب المؤتمر الوطني حصلت عليها رويترز عبر مسؤول إسلامي كبير دورا رئيسيا للشبكات الإسلامية منذ بداية القتال. وفي الوثيقة، يبلغ عناصر من الإسلاميين قيادتهم بالمهام التي قاموا بها وتحدثوا عن دورهم في المساهمة المباشرة في المجهود العسكري للجيش بما يتراوح بين ألفي وثلاثة آلاف مقاتل خلال العام الأول من الصراع. وتحدثوا أيضا عن تدريب مئات الآلاف من المدنيين الذين استجابوا لدعوة الجيش للتعبئة العامة، والذين انضم أكثر من 70 ألفا منهم إلى العمليات. وقالت ثلاثة مصادر عسكرية من الجيش وفصائل متحالفة معه إن هذه الخطوة عززت صفوف القوات البرية المتناقصة. وقدّرت مصادر عسكرية عدد المقاتلين المرتبطين مباشرة بحزب المؤتمر الوطني بنحو خمسة آلاف، يخدمون بالأساس في وحدات "قوات العمل الخاص" التي حققت جانبا من أكبر مكاسب الجيش لا سيما في الخرطوم. وأفاد مقاتلون إسلاميون ومصادر عسكرية بأن مقاتلين آخرين دربهم إسلاميون يخدمون في لواء نخبة أعيد تشكيله ويتبع جهاز المخابرات العامة. وأوضحت مصادر في الجيش وهارون أن الفصائل الإسلامية ليس لديها أي سلطة على الجيش. وشكك هارون في صحة الوثيقة التي اطلعت عليها رويترز وفي الروايات التي تتحدث عن مشاركة آلاف المقاتلين المرتبطين بحزب المؤتمر الوطني في القتال إلى جانب الجيش، ورفض إعطاء أرقام عن عدد المقاتلين الإسلاميين الذين يساندون الجيش. لكنه أقر بأنه "ليس سرا أننا ندعم الجيش استجابة لدعوة القائد الأعلى للتعبئة العامة". وقال البرهان مرارا إنه لن يسمح لحزب المؤتمر الوطني المحظور بالعودة إلى السلطة، في وقت أتاح فيه عودة موظفين مدنيين إسلاميين لمناصب رفيعة في عدد من الإدارات الحكومية. وبينما يقلل الجيش من شأن العلاقات مع الإسلاميين، تعلو أصوات قوات الدعم السريع بالحديث عن الأمر. وقال محمد مختار مستشار قيادة قوات الدعم السريع "الإسلاميون هم من أشعلوا هذه الحرب سعيا للعودة إلى السلطة، وهم من يديرونها وهم يسيطرون على قرار الجيش". وقال ضابطان مطلعان بالجيش إن البرهان يعمل على تحقيق توازن بين حرصه على عدم التنازل عن أي نفوذ لأي شخصيات أو جهات سياسية وبين حاجته إلى الدعم العسكري والإداري والمالي من شبكات الإسلاميين. تقدم الحركة الإسلامية السودانية لعناصرها منذ فترة طويلة تدريبات عسكرية، عبر وسائل منها ما كان يعرف في عهد البشير باسم (قوات الدفاع الشعبي) الاحتياطية. وخلال الحرب، صعد نجم وحدات إسلامية شبه مستقلة أبرزها كتيبة البراء بن مالك. وقال أحد قادتها وهو المهندس أويس غانم (37 عاما) لرويترز إنه أصيب ثلاث مرات في أثناء مشاركته في معارك حاسمة لكسر الحصار عن قواعد للجيش في العاصمة في وقت سابق من العام الجاري. وأضاف أن أفراد الكتيبة يمكنهم الحصول على الأسلحة الخفيفة والمدفعية والطائرات المسيرة بموجب تعليمات الجيش ويتلقون الأوامر منه. وقال غانم "نحن لا نقاتل من أجل عودة الإسلاميين إلى السلطة، إنما نقاتل لصد عدوان قوات الدعم السريع... وبعد مشاركة الإسلاميين في الحرب، أتوقع عودتهم عبر الانتخابات". ويتهم مراقبون لحقوق الإنسان الكتيبة بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القضاء في المناطق التي استعادوا السيطرة عليها في الآونة الأخيرة في الخرطوم، وهي اتهامات نفاها غانم. ويقول قادة الجيش إن الكتيبة والمجموعات الأخرى ستُدمج في الجيش بعد الحرب، لتجنب تكرار ما حدث مع قوات الدعم السريع التي شكلتها الحكومة السودانية لمحاربة التمرد في دارفور في عهد البشير. وتقول مصادر عسكرية إن شخصيات إسلامية بارزة استغلت خلال الحرب علاقاتها القائمة منذ فترة طويلة مع دول مثل إيران وقطر وتركيا لمساعدة الجيش في توفير الأسلحة. وقال هارون "هذه تهمة لا ننفيها وشرف لا ندعيه". ومن شأن أي تعزيز للتحالف مع تلك الدول أو تزايد نفوذ الإسلاميين داخل السودان أن يقود لتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة ويزيد من العداء مع الإمارات التي ساعدت الجيش وقوات الدعم السريع على الإطاحة بالبشير وتسعى إلى دحر الإسلام السياسي على الصعيد الدولي. وقطع الجيش العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات في وقت سابق من هذا العام، واتهمها بأنها أكبر داعم لقوات الدعم السريع. وتنفي الإمارات ذلك الاتهام. وقالت وزارة الخارجية الإماراتية في بيان إن الإمارات ترفض بشدة مزاعم تزويدها لأي طرف بالأسلحة. وأضافت أن السودان يخاطر بأن "يصبح مرة أخرى" مرتعا للأيديولوجيات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، داعية إلى وقف دائم لإطلاق النار. ولم ترد وزارتا الخارجية الإيرانية والتركية ولا مكتب الإعلام الدولي القطري على طلبات للتعليق. تشكيل حكومة موازية وفي مقابل ذلك أعلن ائتلاف سوداني بقيادة قوات الدعم السريع يوم السبت أسماء أعضاء حكومة موازية في خطوة يرفضها الجيش، الخصم الرئيسي للقوات شبه العسكرية في الحرب المستمرة منذ 27 شهرا، مما يهدد بدفع البلاد نحو مزيد من التقسيم. وسيرأس قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف أيضا باسم حميدتي، المجلس الرئاسي في الحكومة الموازية، فيما سيكون عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال، نائبا له في المجلس المكون من 15 عضوا. وخلال مؤتمر صحفي في نيالا، كبرى مدن إقليم دارفور الذي تسيطر الدعم السريع على معظمه، جرى الإعلان عن تعيين محمد حسن التعايشي رئيسا للوزراء، إلى جانب الإعلان عن حكام للأقاليم. وتمكن الجيش السوداني من طرد القوات شبه العسكرية من وسط البلاد، في حين تحتدم الاشتباكات في إقليم كردفان بوسط غرب السودان وفي الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور. وفي فبراير شباط، اتفقت قوات الدعم السريع مع قادة جماعات متحالفة معها على تشكيل حكومة من أجل "سودان جديد" علماني في مسعى لتحدي شرعية الحكومة التي يقودها الجيش وتأمين واردات الأسلحة المُتطورة. وتضم الحكومة التي أُعلن عنها يوم السبت حكاما لمناطق يسيطر عليها الجيش. وندد الجيش بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بفكرة تشكيل قوات الدعم السريع حكومة مُوازية، وتعهد بمواصلة القتال لحين السيطرة على كامل السودان، الذي يُعاني منذ سنوات من صراعات وانقلابات وفقر وجوع. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على دقلو، وهو أحد أكبر أثرياء السودان، بعدما اتهمته بارتكاب إبادة جماعية في وقت سابق من هذا العام. وأعلنت الولايات المتحدة أيضا فرض عقوبات على البرهان في يناير كانون الثاني متهمة إياه بتفضيل الحرب على المفاوضات الرامية لإنهاء الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف. وسبق أن تقاسم دقلو السلطة مع البرهان بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019. إلا أن انقلابا عسكريا نفذه الطرفان عام 2021 أطاح بسياسيين مدنيين، مما أشعل فتيل حرب حول دمج القوتين خلال فترة انتقالية كانت تهدف لإرساء الديمقراطية. وعين الجيش قبل أسابيع رئيسا للوزراء وأعضاء دائمين في مجلس الوزراء لأول مرة منذ عام 2021. وأدى الصراع إلى تدمير السودان وخلف أزمة إنسانية غير مسبوقة في البلاد، حيث تقول الأمم المتحدة إن نصف السكان يواجهون جوعا ومجاعة. ووفقا لأرقام المنظمة الدولية للهجرة، فر أكثر من أربعة ملايين سوداني إلى البلدان المجاورة، بما في ذلك أكثر من 1.5 مليون إلى مصر، بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل نيسان 2023. وذكر تقرير للمنظمة الدولية للهجرة في وقت سابق من هذا الشهر أنه منذ بداية هذا العام عبر أكثر من 190 ألف شخص الحدود من مصر إلى السودان، وهو أكثر من خمسة أمثال عدد الذين عادوا في عام 2024 بأكمله. وقال سفير السودان لدى مصر عماد الدين عدوي، إن عودة المواطنين إلى السودان تمثل "مرحلة مهمة لإعادة الإعمار والاستقرار". وعلى الرغم من الهدوء النسبي في العاصمة، إلا أن القتال بين قوات الدعم السريع والجيش لا يزال محتدما في إقليم كردفان بوسط البلاد والفاشر في ولاية شمال دارفور غربا. واشتكى بعض السودانيين في مصر من صعوبة العثور على وظائف ومن التمييز، ورحلت مصر آلاف اللاجئين الذين قالت إنهم دخلوا بطريقة غير قانونية. وفرّ آلاف آخرون إلى ليبيا. ووفقا للسفير عدوي، فإن القطارات التي تنطلق أسبوعيا من القاهرة لمساعدة السودانيين على العودة إلى ديارهم طواعية يمولها رجال أعمال سودانيون. وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن معظم السودانيين الذين عادوا حتى الآن توجهوا إلى الخرطوم، وكذلك إلى ولايتي سنار والجزيرة إلى الجنوب من العاصمة.


شبكة النبأ
منذ 21 ساعات
- شبكة النبأ
ثورة الطف: خرائط عمل لمكافحة الفساد
يجب أن يتمسك العراقيون بخريطة مكافحة الفساد ونموذجها المستقى من مبادئ ومواقف الإمام الحسين عليه السلام، علينا كعراقيين نؤمن بالحسن عليه السلام وبما قام به من ثورة عملاقة ضد الفساد، أن نستثمر ذلك بقوة، وأن نبادر إلى استنهاض القيم الحسينية في مكافحة الفساد... الفساد ظاهرة عالمية عابرة للحدود والدول والقارات، فهي لا تستثني بلدا كبيرا كان أو صغيرا، بل تعصف بالجميع، ولكن هناك وعي نخبوي وجماهيري، لا يتوقف عن مكافحة الفساد بكل أنواعه، وكلما توفرت فرصة وخريطة عمل لهذا النوع من المكافحة، تأتي النتائج نوعية وذات قدرة عالية على فضح ومحاصرة هذه الظاهرة. ونحن في العراق يتوفر لدينا ركنان أساسيا لمكافحة الفساد وهذان الركنان هما: أولا: وجود خريطة العمل الفعالة لوأد الفساد هذا الركن غالبا ما تفتقر له الشعوب التي لا تمتلك تاريخا نضاليا مشهودا، على العكس من الأمم والشعوب التي تمتلك تاريخا يُشار له بالبنان، ونحن في العراق نعد من الشعوب ذات التاريخ العظيم، متعدد الأهداف، ويمتلك الجذور المبدئية الراسخة، كما نلاحظ ذلك في ملحمة الطف، والمواقف الشجاعة التي رشحت عنها والتي يمكن أن تنعكس على واقعنا الراهن في مجال الوقوف بوجه أرباب الفساد وصناع الأزمات. هذه الخريطة يمكن أن نستثمرها بالشكل الصحيح ونطلع عليها بضمير حي وقلب نظيف وإرادة لا تتراجع ولا تتردد، فنحن نأخذ من مواقف الإمام الحسين عليه السلام المبدئية الشجاعة مثال لمقارعة الفساد وأدواته، من دون أن نصاب باليأس أو القنوط، لأن أصحاب الفساد يسعون أولا وقبل كل شيء نحو صناعة اليأس في قلوب الثائرين، لهذا يجب استثمار الثبات الحسيني بوجه فساد يزيد وفجوره والجور والظلم الذي كان يقوم به ضد الناس. والسؤال الذي يتعلق بخريطة الطريق لمكافحة الفساد، كيف يمكن أن تنعكس صورة الفساد الأموي على ما يدور في عالم اليوم وتمدد وانتشار اخطبوط الفساد في كل أصقاع العالم، فهل هناك عدالة عالمية، وهل هناك إنصاف، وهل توجد قيم عالمية تصنع نوعا من الأدوات التي تكافح الفوارق الطبقية الهائلة بين الأمم والشعوب والأفراد. من خلال ما ذكرنا في أعلاه يجب أن يتمسك العراقيون بخريطة مكافحة الفساد ونموذجها المستقى من مبادئ ومواقف الإمام الحسين عليه السلام، علينا كعراقيين نؤمن بالحسن عليه السلام وبما قام به من ثورة عملاقة ضد الفساد، أن نستثمر ذلك بقوة، وأن نبادر إلى استنهاض القيم الحسينية في مكافحة الفساد، حتى نخلّص العراق ونخلص أنفسنا من أخطبوط الفساد الذي يعصف ببلدنا وبالعالم باسرهِ. ثانيا: وجود النموذج المحتذى به أما النموذج الذي نجعله دليلا لنا وطريقا نمشي فيه قُدُما نحو وأد بؤر الفساد، فهو بطل الإسلام والمسلمين وثائر الأمة الأعظم الإمام الحسين عليه السلام، الذي لم يتردد لحظة في مواجهة الفساد الأموي متمثلا بيزيد الذي حول الإسلام من طريق السداد إلى الانحراف، وأمر بنشر البدع والسفاهات، وحث المعنيين بتحريف الأحاديث بما يخدم مآربه الخبيثة، لكي يبرر خطوات الفساد الهائلة وغير المسبوقة التي كان يقوم بها. وطالما يوجد لدينا النموذج الذي يمكن أن نسير على هدى مسيرته الكبرى، فهذا يمنحنا نحن العراقيين فرصة الانقضاض على الفساد وعلى الذين يدعمونه ويقومون به سواء في دوائر ومرافق الحكومة أو فيما يتعلق بمفاصل الدولة، فالمهم هو أن تكون هناك خطط فرعية واستراتيجية رئيسة لمكافحة الفساد بأسلوب منظم ومخطط حتى نتخلص من هذا الوباء الخطير الذي ينتشر منذ عقود بيننا وعلى مرأى منا، ولا نحرك ساكنا. تحطيم مسببات الفساد وهذا الأمر يتطلب منا أن نستثمر ما نعيشه اليوم في شهري محرم وصفر، واقتراب زيارة الأربعين الحسيني، واستذكار المواقف المبدئية العظيمة ومواجهة الفساد والجور والفجور بثبات لا نظير له، وعلينا خصوصا الأشخاص والجهات المعنية بتوعية الناس، أن نتحرك بقوة في هذه الأيام استثمارا لها حتى نتكاتف بقوة لمواجهة الفساد والمفسدين في بلد يزخر بمواقف أئمة أهل البيت عليهم السلام. فلا يجوز البقاء على الحياد، وانتظار معجزة مكافحة الفساد أن تظهر لوحدها، هذا أمر لا يمكن أن يحدث لأن السعي والحركة والتخطيط والجدية ووضوح الأهداف هي التي تأتي بالنتائج المطلوبة، وهذا ما نحتاج له اليوم في استراتيجية مكافحة الفساد اعتماد على خريطة مكافحة الفساد (الحسينية)، واعتمادا كذلك على النموذج الذي قدمه لنا الإمام الحسين عليه السلام في مكافحة الفساد. خلاصة القول، نحن في العراق نمتلك الركنين المهمين في قضية مكافحة الفساد وهما (خريطة العمل، والنموذج لتطبيق مكافحة الفساد)، وما علينا سوى استثمارهما بالطريقة المثلى، وعلينا أن ننتهز الفرصة للانقضاض على الفساد والمفسدين بلا خوف ولا تردد حتى لو كان الثمن أغلى ما نملك، ومثالنا في هذا الأمر هو الثائر الأعظم سيد الشهداء الإمام الحسين وذويه وصحبه الأبرار الذين ضحوا بأغلى ما يملكون في مواجهة الفساد الأموي.